1 May 2011
الدرس الخامس: شرح المسائل الثلاث (2/2)
اقتباس:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(الثَّالِثَةُ: أَنَّ
مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لاَ يَجُوزُ لَهُ مُوَالاَةُ
مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ، وَالدَّلِيلُ
قَولُهُ تَعَالى: ﴿لاَ تَجدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ
باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَلَو كَانُوا آبَاءَهُمْ أَو أَبْنَآءَهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَو
عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبهِمُ الإيمَانَ وأَيَّدَهُمْ
برُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ
حِزْبُ اللهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22] ).
عناصر الدرس:
· بيان مناسبة المسألة الثالثة للمسألتين قبلها.
· أسباب البراءة من المشركين.
· مقاصد البراءة من الشرك وأهله.
· غاية البراءة من المشركين.
· ميزات البراءة من الشرك في الإسلام.
· معنى الموالاة.
· معنى اتخاذ الكفار أولياء.
· تفسير قول الله تعالى: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاة﴾
· درجات الكفار في أحكام المعاملة
· حكم موالاة الكفار.
· سد الذرائع المفضية إلى موالاة الكفار.
· أقسام المسلمين في البراءة من الكافرين.
· أحكام معاملة الكفار.
· حكم تهنئة الكفار بأعيادهم.
بيان مناسبة المسألة الثالثة للمسألتين قبلها
بسم الله الرحمن الرحيم
أسباب البراءة من المشركين
فالبراءة من الشرك وأهله لها أسباب ومقاصد وغاية تنتهي بانتهائها وأحكام تحكمها:
وهذه الأسباب على قسمين:
أسباب متعلقة بالمتبرئين وهم المؤمنون.
وأسباب متعلقة بالمتبرأ منهم وهم المشركون والكفار.
فأما أسبابها المتعلقة بالمتبرِّئين وهم المؤمنون فهي:
1:
موافقة الله تعالى فيما يحب ويبغض، وذلك أن هؤلاء الذين أمرنا بالبراءة
منهم قد أبغضهم الله عز وجل ، وكلما كان المؤمن أشد حباً لله كان أكثر
بغضاً لمن يبغضه الله مهما تزين ذلك المغضوبُ عليه، ومهما قال الناس فيه من
مدح وثناء، إذا تحقق المؤمن أن الله تعالى يبغضه فإن مقته يحل في قلبه ،
بل من شدة محبة المؤمن لربه يجد هذا الأمر ضرورياً في نفسه وشعوراً تلقائيا
تجاه كل من يبغضه الله، ولذلك قال الله تعالى: {لاَ تَجدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ..}
فأتى بها بصيغة الخبر، كأن الأمر مفروغ منه، وأنه من مقتضيات الإيمان الضرورية.
كما قال الله تعالى لما ذكر استئذان المنافقين عن الغزو : {لَا
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي
رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: 44-45]
فالله
تعالى يعلم حال عباده المؤمنين المتقين ويعلم ما في قلوبهم من محبته
واليقين بفضله وثوابه، وعظيم خشيتهم منه جل وعلا، وخوفهم من عقابه إن هم
عصوه ، ويعلم اشتياقهم لرؤيته وكرامته وأنهم يتمنون أن يموتوا في سبيله
فكيف يستأذنونه عن الجهاد في سبيله؟!!.
بل من
لم يجد منهم وسيلة للجهاد تجده يتحسر ويتألم، بل ربما فاضت عيناه وحزن
قلبه مما يجد في نفسه من الاشتياق للجهاد في سبيل الله وعدم قدرته على ذلك،
كما ذكر الله عن البكائين في سورة التوبة في قوله: {لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا
عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}
فالمؤمن بالله يجد من ضرورات الإيمان أن يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله، ويتبرؤ مما تبرأ الله منه.
وقد نبه الله على هذا السبب بقوله جل وعلا: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ
أَصْحَابِ الْقُبُورِ}[الممتحنة: 13]
السبب الثاني:
طاعة الله تعالى في أمره فإن الله تعالى أمر بالبراءة من الشرك وأهله ونهى
عن توليهم ، ومدح إبراهيم ومن معه على براءتهم من المشركين، وأمرنا أن
نأتسي بهم في هذه البراءة التي مدحها الله عز وجل في القرآن في أكثر من
موضع.
كما قال الله تعالى: {قَدْ
كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ}
وقال الله تعالى على لسان الخليل {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وقال {أَفَرَأَيْتُمْ
مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ *
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وقال {فَلَمَّا
أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
السبب الثالث:
الغضب لله جل وعلا والحميَّة له، فإن من صدق في محبة محبوب ووجد من يغضبه
أحس في قلبه بغضاً له، ولو أنك وجدت من يجتهد في أذية من تحبه ويحبك فلم
تبغضه فإنك لم تقم بواجب المحبة.
فكيف
بمن امتلأ قلبه من محبة الله تعالى وشهود مننه العظيمة وآلائه الكثيرة،
وعرف حقه العظيم، وثوابه الكريم، وثناءه على من يحبهم في الملأ الأعلى ،
وما أعد لهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم وجد من
يشرك بالله ويجتهد في إيذائه جل وعلا بالشرك وكفر النعم وفعل ما يبغضه
ويمقته جل وعلا من الأفعال المشينة وإيذاء أولياء الله، لا شك أن من شهد
هذا وجد في قلبه ضرورة ببغض من يفعل هذه الأفعال غضباً لله جل وعلا، في
الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: ((لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل، إنه يشرك به ويجعل له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم)).
فبين أن الشرك وادعاء الولد لله تعالى إيذاء لله يبغضه الله ، والمؤمن لا أحدَ أحب إليه من الله تعالى كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}
فمدحهم على ذلك، فإذا رأى من يؤذي من يحبه أعظم محبة لا شك أنه سيبغضه
ويمقته ويجد هذا ضرورياً في قلبه لأنه من لوازم الإيمان المتحتمة.
ومن
وجد هذا من نفسه فقد صح إيمانه بل هو علامة على وثوقه وكماله ففي مسند أبي
داوود الطيالسي من حديث معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال كنا
عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أتدرون أيَّ عرى الإيمان أوثق؟
قلنا: الصلاة.
قال: (( الصلاة حسنة وليست بذلك)).
قلنا: الصيام. فقال مثل ذلك حتى ذكرنا الجهاد فقال مثل ذلك ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( أوثق عرى الإيمان الحب في الله عز و جل والبغض في الله)).
وفي سنن أبي داوود وغيره من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من أحب لله و أبغض لله و أعطى لله و منع لله فقد استكمل الإيمان )) .
قال ابن القيم رحمه في إغاثة اللهفان شارحاً هذا الحديث: (فإن
الإيمان علم وعمل والعمل ثمرة العلم وهو نوعان : عمل القلب حبا وبغضا
ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلا وتركا وهما العطاء والمنع؛ فإذا كانت هذه
الأربعة لله تعالى كان صاحبُها مستكملَ الإيمان وما نقص منها فكان لغير
الله نقص من إيمانه بحسبه).
السبب الرابع:
إثبات أن محبة الله تعالى مقدمة على محبة غيره، وأن الله أحب إلى العبد
مما سواه ، وأن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين لنا هذا الدين
أحب إليه مما سواه من الخلق ، ومن كان هذا حاله وجد حلاوة الإيمان كما في
الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال: (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن
يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله،
وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في
النار))
وهذه الأمور الثلاثة يترتب بعضها على بعض.
فتلخص أن أسباب البراءة المتعلقة بالمتبرئين هي:
1: موافقة الله تعالى فيما يحب ويبغض.
2: امتثال أمر الله تعالى بالبراءة من الشرك وأهله.
3: الغضب لله جل وعلا.
4: إثبات تقديم محبة الله تعالى على محبة غيره.
وأما أسبابها المتعلقة بالمتبرأ منهم وهم المشركون والكفار فمنها:
1:
عداوتهم لله تعالى ، وبغضهم لما يحبه الله ، ومحبتهم لما يبغضه الله،
ومحادتهم لله ورسوله ، ومن كان هذا حاله فهو مستحق لأن يعادى ويتبرأ منه
مهما كانت قرابته، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
2:
أنهم أعداء للمؤمنين يجتهدون في إعناتهم والمشقة عليهم وإفساد أمورهم ما
استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، وإذا تمكنوا من المؤمنين ساموهم سوء العذاب من
العذاب النفسي والحسي، وما تخفي صدورهم من البغضاء أكبر مما أبدوه قال الله
تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ
أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}
وقال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا
يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ
مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
3:
سعيهم للصد عن سبيل الله عز وجل بأقوالهم وأعمالهم، وقولهم على الله بلا
علم وافترائهم الكذب على الله ليضلوا الناس بغير علم، وتمنيهم كفر المؤمنين
كما قال الله تعالى عنهم: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} وقال تعالى: {وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ
عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا
عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ
بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) }
فكان من أول الصفات التي وصف الله بها الظالمين أهل النار صدهم عن سبيل الله وذلك كما قال الله تعالى : {وَنَادَىٰ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا
قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ}
والصد
عن سبيل الله شأنه عظيم وهو ظلم مبين لأن فيه إغواء للناس عن سلوك الصراط
المستقيم المفضي إلى رضوان الله وجنات النعيم ، فمن صد الناس عن سبيل الله
فلا شك أنه ظالم معتدٍ مستحق للعذاب والبراءة منه ومن فعله.
4: حسدهم للمؤمنين وتمنيهم زوال الخير عنهم كما قال الله تعالى عنهم: {مَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ
أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
5: كفرهم بنعم الله جل وعلا ومقابلتها بالشرك والفسوق والعصيان {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ
الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ
قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}
فالبراءة
من الشرك وأهله أصل عظيم من أصول الدين، وحد من حدود الله، وله أسبابه
المبينة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
(ملخص الدرس الخامس)
بيان مناسبة المسألة الثالثة للمسألتين قبلها:
· قوله: (من أطاع الرسول) هذا هو مقتضى المسألة الأولى من المسائل الثلاث التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
- وقوله: (ووحد الله) هذا هو مقتضى المسألة الثانية.
· أي إذا أتيت بما وجب
عليك في المسألة الأولى التي سبق بيانها، وأتيت بما وجب عليك في المسألة
الثانية فاعلم أنه لا يجوز لك أن توالي من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب
قريب.
· هذه المسألة يخاطب
بها من أقرّ بالشهادتين، أما من لم يقر بهما فيبين له وجوبهما، وأن الإنسان
لا يدخل في الإسلام حتى يشهد الشهادتين، فإذا شهد الشهادتين عُرَِف بما
يجب عليه.
· من لوازم تحقيق الشهادتين البراءة من الشرك وأهله.
· قال الله تعالى: ﴿قَدْ
كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ﴾[الممتحنة: 4].
- التأسي بهم هنا يشمل: التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله، والكفر بهما، وإبداء العداوة والبغضاء لهم حتى يؤمنوا بالله وحده.
· البراءة من الشرك وأهله لها أسباب ومقاصد وغاية تنتهي بانتهائها وأحكام تحكمها.
أسباب البراءة من المشركين
· أسباب البراءة من
المشركين على قسمين: أسباب متعلقة بالمتبرِّئين وهم المؤمنون، وأسباب
متعلقة بالمتبرأ منهم وهم المشركون والكفار.
أما أسبابها المتعلقة بالمتبرِّئين وهم المؤمنون فهي:
· السبب الأول: موافقة الله تعالى فيما يحب ويبغض.
- كلما كان المؤمن أشد حباً لله كان أكثر بغضاً لمن يبغضه الله، ولذلك قال الله تعالى: ﴿لاَ تَجدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ..﴾ [المجادلة: 22]؛ فأتى بها بصيغة الخبر، كأن الأمر مفروغ منه، وأنه من مقتضيات الإيمان الضرورية.
- نبّه الله تعالى على هذا السبب بقوله: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ
أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾[الممتحنة: 13].
· السبب الثاني: طاعة الله تعالى في أمره؛ فإن الله تعالى أمر بالبراءة من الشرك وأهله ونهى عن توليهم.
- مدح إبراهيم ومن
معه على براءتهم من المشركين، وأمرنا أن نأتسي بهم في هذه البراءة التي
مدحها الله عز وجل في القرآن في أكثر من موضع.
· السبب الثالث: الغضب لله جل وعلا والحميَّة له، فإنَّ مَن صدق في محبة محبوب ووجد من يغضبه أحسَّ في قلبه بغضاً له.
- لا أحد أحبَّ إلى المؤمن من الله تعالى كما قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165] فمدحهم على ذلك.
- إذا رأى المؤمن من يُغضب إلهه الذي هو أحبّ شيء إليه وجد في قلبه بغضاً ومقتاً له.
- من وَجدَ هذا من
نفسه فقد صحّ إيمانه؛ بل هو علامة على وثوقه وكماله؛ ففي مسند أبي داوود
الطيالسي من حديث معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال: كنا عند
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( أتدرون أيَّ عرى الإيمان أوثق؟))
قلنا: الصلاة؛ قال:(( الصلاة حسنة وليست بذلك)).
قلنا: الصيام؛ فقال مثل ذلك، حتى ذكرنا الجهاد فقال: مثل ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أوثق عرى الإيمان الحب في الله عز وجل والبغض في الله)).
- وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)). رواه أبو داوود وغيره.
- قال ابن القيم رحمه في إغاثة اللهفان شارحاً هذا الحديث: (فإن
الإيمان علم وعمل والعمل ثمرة العلم وهو نوعان: عمل القلب حبا وبغضا
ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلا وتركا وهما العطاء والمنع؛ فإذا كانت هذه
الأربعة لله تعالى كان صاحبُها مستكملَ الإيمان وما نقص منها فكان لغير
الله نقص من إيمانه بحسبه)ا.هـ.
· السبب الرابع:
إثبات أن محبة الله تعالى مقدمة على محبة غيره، وأن الله أحب إلى العبد
مما سواه، وأن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين لنا هذا الدين
أحب إليه مما سواه من الخلق.
- من كان هذا حاله وجد حلاوة الإيمان كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((
ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما
سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد
أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))
- هذه الأمور الثلاثة يترتب بعضها على بعض.
وأما أسباب البراءة المتعلقة بالمتبرأ منهم وهم المشركون والكفار فمنها:
· 1: محادّتهم لله ورسوله، وبغضهم لما يحبه الله، ومحبتهم لما يبغضه الله، وسعيهم في محاربة دينه، ومن كان هذا حاله فهو مستحق لأن يعادَى ويتبرأ منه مهما كانت قرابته، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1].
· 2:
أنهم أعداء للمؤمنين يجتهدون في إعناتهم والمشقة عليهم وإفساد أمورهم ما
استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وإذا تمكنوا من المؤمنين ساموهم سوء العذاب.
- قال الله تعالى: ﴿إِنْ
يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة: 2]، وقال: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 118].
· 3:
سعيهم للصدّ عن سبيل الله عز وجل بأقوالهم وأعمالهم، وقولهم على الله بلا
علم وافترائهم الكذب على الله ليضلوا الناس بغير علم، وتمنيهم كفر
المؤمنين كما قال الله تعالى عنهم: ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون﴾ [الممتحنة: 2]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ
عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا
عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ
بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)﴾ [هود: 18، 19]؛ فكان من أول الصفات التي وصف الله بها الظالمين أهل النار صدهم عن سبيل الله.
- وذلك كما قال الله تعالى: ﴿وَنَادَى
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا
قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾ [الأعراف: 44، 45].
- الصد عن سبيل الله
شأنه عظيم وهو ظلم مبين لأن فيه إغواء للناس عن سلوك الصراط المستقيم
المفضي إلى رضوان الله وجنات النعيم، فمن صد الناس عن سبيل الله فلا شك أنه
ظالم معتدٍ مستحق للعذاب والبراءة منه ومن فعله.
· 4: حسدهم للمؤمنين وتمنيهم زوال الخير عنهم كما قال الله تعالى عنهم: ﴿مَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ
أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة: 15].
· 5: كفرهم بنعم الله جل وعلا ومقابلتها بالشرك والفسوق والعصيان ﴿أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ
الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ
قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ [إبراهيم: 28-30].
· البراءة من الشرك
وأهله أصل عظيم من أصول الدين، وحدّ من حدود الله، وله أسبابه المبيّنة في
كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
مقاصد البراءة من الشرك وأهله
· 1:
رعاية حدود الله عز وجل، وأعظم الحدود ما جعله الله من الحد الفاصل بين
الكفر والإيمان، وسمى الله المشركين محادين له ولرسوله، فهم في حد،
والمؤمنون في حد.
- البراءة من الشرك وأهله هي من القيام لله بما يحبّ، وهي واجب من واجبات الإيمان، وقد قال الله تعالى للمؤمنين: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ [المائدة: 8].
· 2:
إنكار المنكر العظيم الذي لا أعظم منه وهو الشرك بالله جل وعلا فهو أنكر
المنكرات وأكبر الكبائر وإنكاره من أوجب الواجبات وأعظم الحقوق.
· 3:
التنصّل من موافقة المشركين على دينهم وإقرارهم لما هم عليه من الشرك،
وقد علمنا ما توعد الله به أهل الشرك من العذاب المهين والغضب الشديد
والخلود في النار.
- إذا علم المؤمن
بعظيم مقت الله للكفار حرص على التنصل من موافقتهم على ما مقتهم الله عليه
أو إقرارِهم عليه؛ وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ
مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ [غافر: 10].
· 4:
رجاء أن يقلع المشرك عن شركه إذا وجد من المؤمنين بغضاً لما يفعله من
الشرك ومجانبة والامتناع عن بعض التعاملات معه فلا تؤكل ذبيحته ولا يشرب في
آنيته ولا يرث ولا يورث ولا يناكح ولا يوالى ولا يتشبه به في شيء مما
يختص به إلى غير ذلك من الأحكام.
- هذه المجانبة قد تحمل بعض الكفار على الإسلام، وقد أسلم لهذا السبب عدد منهم.
· 5:
الاعتزاز بدين الله تعالى والاستغناء به جل وعلا، فإن الله لما أمرنا
بالبراءة من الشرك وأهله علمنا أن الله تعالى قد أغنانا عنهم بفضله وأعزنا
بدينه، فإن الله أكمل لنا الدين، ومن إكماله أنه واف بما نحتاجه في جميع
شؤننا، وما يقع فيه بعض المسلمين من موالاة الكفار هو من مظاهر ضعف
اعتزازهم بدين الله عز وجل.
· 6: النصيحة للمسلمين وبيان الحق لهم فإن موالاة الكفار قد تغرّ بعض المسلمين فتفتنَهم عن دينهم.
غاية البراءة من المشركين
· الغاية التي تنتهي عندها هذه البراءة فهي إيمان من أمرنا بالبراءة منه فإذا آمن فهو من إخواننا نحبه ونواليه كما قال الله تعالى: ﴿قَدْ
كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4].
- إذا آمنوا بالله وحده لا شريك له وكفروا بما يعبد من دونه فهم من المؤمنين نحبهم ونواليهم، وقد قال الله تعالى عن المشركين: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11].
· من تأمّل مقاصد
البراءة الإيمانية عرف سموّها وجلالة قدرها، وعظيم حِلْمِ الله تعالى وسعة
مغفرته وأنه هو التواب الرحيم والعفو الحليم وأنه يقبل التوبة ممن تاب ولو
كان مشركاً.
ميزات البراءة من الشرك في الإسلام:
· 1: أنها متصلة بالله جل وعلا، فمدار الحب والبغض فيها على ما يحبه الله ويبغضه الله، ومن كان هذا حاله فقد أسلم قلبه لله.
· 2: أنها عبادة
ملازمة للمؤمنلا تخلو منها لحظة من لحظات حياته فهو وإن لم يستشعرها فهو
مستصحب لحكمها، وهذا البغض عبادة قلبية عظيمة.
· 3: أن هذه البراءة
مبنية على الفقه والهدى وعلى تحقيق المصالح الشرعية ودرء المفاسد فهي ليست
بغضاً أهوج، ولا عاطفة عمياء. بل لها أحكام سنوضحها إن شاء الله.
- فهذه البراءة تخلو من آثار البراءة الجاهلية العمياء.
· الولاء والبراء أمر فطري وما من شخص إلا وهو يوالي ويعادي.
· مَن جعل موالاته ومعاداته لله فقد استكمل الإيمان، ومن جعل موالاته ومعاداته على أمر جاهلي فهو امرؤ فيه جاهلية.
· جاء الإسلام بتهذيب
الولاء والبراء وتصحيح مساره، وتقويم منهجه، وبيان أحكامه، فصحح ما يعقد
عليه الولاء والبراء، وصحح معنى الولاء والبراء، وبين منهجه الذي ينتهجه
المؤمن بلا غلو ولا تفريط، وبين أحكامه وما يجوز فيه وما لا يجوز، وبين
الحقوق التي يجب حفظها ولا يجوز الاعتداء عليها حتى مع المخالفين.
· مما يجب أن يُعلم
أن هذا الولاء والبراء محكوم بأحكام الشريعة، ومن سار على ما بينه الله من
الهدى في هذا الباب العظيم لم يحصل منه ما يحصل من آثار الولاء والبراء
الجاهلي الذي يُعقد على عرق أو بلد أو حزب أو جماعة أو غيرها من الأسباب
الجاهلية التي يعقد عليها الولاء والبراء.
· البراء في الإسلام لا يخرج عن مقتضى العدل والإحسان، بل كل أحكام الشريعة لا تخرج عن مقتضى العدل والإحسان كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، وقال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًاً﴾ [البقرة: 83].
· نهى الله عن الاعتداء على الكفّار كما قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[البقرة: 190].
· اقتران النهي عن العدوان بالقتال في سبيل الله يدلك على الرسالة السَّامية للإسلام.
· إذا كان بيننا وبين
الكفار عهد وخفنا منهم الخيانة ونقض العهد وقامت قرائن وأمارات على ذلك لم
يجز أن نبدأهم بالقتال حتى نعلمهم بنبذ عهدهم إليهم كما قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58].
· لم يرض الله لأوليائه أن يكونوا خائنين، ولم يرض لأوليائه أن يكونوا معتدين، ولم يرض لأوليائه أن يكونوا ظالمين.
· المؤمنون وإن كانوا
يبغضون الكفار بغضاً شديداً ويعادونهم في الله إلا أنهم لا يحملهم ذلك على
ظلمهم والاعتداء عليهم كما أرشدنا الله تعالى بقوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].
· بل إن الله يحب
لأوليائه أن يكونوا محسنين مقسطين، وأن تكون معاملتهم للناس حسنة يزينها
الصدق والوفاء بالعهد وحسن القول والخلق كما قال الله تعالى: ﴿لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8، 9].
· المنهي عنه أن
نتولاهم فنناصرهم على المسلمين بأن ندلهم على عورة من عورات المسلمين، وأن
نعينهم على المسلمين بأي نوع من أنواع الإعانة.
· الإحسان إلى من ليس من أهل الحرب والقتال بما لا يعين على المسلمين ليس بمنهي عنه، بل هو من القسط الذي يحبه الله.
· ينبغي أن نفرق بين
حسن المعاملة والمحبة القلبية؛ فمودة الكفار ومحبتهم محرمة في دين الإسلام،
بل إن بغضهم من لوازم الإيمان، ونحن إنما نبغضهم لما أبغضهم الله عليه من
الكفر والفسوق والعصيان، لا نبغضهم لذواتهم وهيئاتهم وأنسابهم وأعراقهم
وبلدانهم، ولذلك فإنهم إن تابوا وأسلموا أحببناهم لزوال مقتضى البغض
والكراهية.
· أما معاملتهم فتكون
وفق أحكام الشريعة، وقد أمرنا الله تعالى بأن نقول للناس حسناً، وأن
نعاملهم بالحسنى، وألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، ويجب علينا أن
نفي بالعهد بيننا وبينهم، وإذا ائتمننا أحد منهم أدينا له الأمانة،
وندعوهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، ونبين لهم أخلاق أهل الإسلام، ودعوةَ
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى مكارم الأخلاق.
· كل ما سبق مطلوب،
ولا يقتضي محبتهم القلبية وهم مقيمون على الكفر والفسوق والعصيان، لأن
تعامل المؤمن نابع من إيمانه وامتثاله لأحكام الشريعة السمحة وأخلاق القرآن
العظيم.
· أما الكفار المحاربون والمعتدون الظالمون من الكفار والمنافقين فقد أُمرنا بالغلظة عليهم، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 73] فالذين يستحقون أن نجاهدهم أمرنا بالغلظة عليهم.
· هذه الغِلْظة لها حدودها الشرعية فلا يجوز أن تفضي بالمسلم إلى قول ما لا يجوز قوله ولا على العدوان والبغي.
· تبين مما سبق أن
البراءة في الإسلام لها مقاصد سامية، وآداب عالية، وأنها ليست كالبراءة
الجاهلية المبنية على الظلم والعدوان وقول الإثم والبهتان، وغصب الحقوق
والدعاوى الباطلة.
· وأن البغض الإيماني ليس حقداً عنصرياً ولا كرهاً أعمى، بل هو بغض إيماني له أسباب ومقاصد وغاية كما تقدم.
· ونحن مع بغضنا لهم
بسبب أعمالهم وكرهنا ومقتنا لكفرهم وفسوقهم وعصيانهم نود لهم الهداية ونسأل
الله أن يخرجهم من الظلمات إلى النور وندعوهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن،
رجاء أن يمن الله عليهم بالهداية فنواليهم بعد المعاداة ونحبهم بعد البغض
كما قال الله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً
وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة: 7].
معنى الموالاة
· الموالاة تطلق على معنيين بينهما تناسب وتلازم وهما التحاب والتناصر.
· تطلق الولاية في
اللغة على المحبة والنصرة وعلى ما ينشأ منهما؛ فالحليف ولي، والكفيل ولي،
والقيم على من تحته ولي كولي اليتيم وولي المرأة.
· لفظ"المولى" يُطلق في اللغة على معانٍ متعددة، ويجمعها أن لكل موالاة سبباً تنعقد عليه ومقتضى تقتضيه بحسب نوع تلك الولاية.
- الأسباب التي تنعقد
بها الولاية تختلف باختلاف نوع تلك الولاية؛ فالقريب وليّ لقريبه بسبب
القرابة، والقيّم على المرأة واليتيم وليّ لهما بسبب القوامة والرعاية،
والكفيل وليٌّ لمكفوله بسبب عقد الكفالة والضمان، والحليف وليٌّ لحليفه
بسبب الحِلْف، وولي الدم هو المطالب به من عصبة القتيل.
· السيّد وليٌّ لمملوكه بسبب استرقاقه له، ويبقى الولاء له بعد عتقه - إن أعتقه -ويرث بسببه، وكلاهما مولى للآخر.
· تطلق الولاية في اللغة على هذه المعاني وغيرها، ولها في كل مقام من هذه المقامات ما يناسبه، وما تقتضيه من الحقوق والواجبات.
· المعنى الجامع لما
تقتضيه الولاية من المولى هو النُّصْرَة، فالوليُّ نصير لمولاه، والنصرة
معنى جامع ينتظم جميع ما تقتضيه الولاية في كل مقام بحسبها؛ فتكون النصرة
بالمال والجاه والرعاية والمؤازرة وغيرها من المعاني اللائقة بكلّ نوع من
أنواع الموالاة، وكل هذه المعاني يصدق عليها في اللغة اسم النصرة.
· الولي هو الذي يقوم بما تقتضيه الولاية في كل موضع بحسبه من المحبة والموافقة والتأييد والسعي فيما يحبّه المولى.
· يكثر الاقتران بين الولاية والنصرة في القرآن الكريم قال الله تعالى عن نفسه المقدسة: ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير﴾[الأنفال: 40]، وقال: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُم وهُوَ خَيْر النَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 150]، وقال: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[الشورى: 46] وقال: ﴿مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾[الشورى: 8] وقال: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً﴾[النساء: 89] إلى غير ذلك من الآيات تدل على أن النصرة من مقتضيات الوَلاية وأنها هي مقصودها، وبدونها لا تصح الولاية.
- الولاية أصلها المحبة والموافقة، ومقتضاها النصرة والتأييد؛ فمن شأن الولي أنه ينصر مولاه.
· النصرة علامة على
صدق الولاية، فمن قام بواجب النصرة فقد أدى حق الولاية، ومن خذل مولاه ولم
ينصره فإنه لم يقم بواجب الولاية، وأما من سعى في مشاقته ومحاربته فهو عدو
له وليس بمولى، وإن تظاهر بالولاية.
· يستفاد من هذا أن
أولياء الله هم الذين ينصرون الله عز وجل فيقومون بما تقتضيه محبته جل وعلا
من تحقيق ما يحبه الله ويرضاه واجتناب ودفع ما يكرهه ويبغضه فيجاهدون في
سبيله لإعلاء كلمته بما أمكنهم من الوسائل المشروعة؛ فمن فعل ذلك فهو من
أولياء الله.
· ومن قام بضد ذلك بأن
والى أعداء الله فنصرهم وأيدهم على محاربة دين الله فليس من أولياء الله،
بل هو من أعداء الله، لأن هذه الأعمال تنافي محبة الله.
- لا تحصل هذه الخصلة
من المؤمنين وإنما تحصل من المنافقين النفاق الأكبر والعياذ بالله؛ فهم
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
معنى اتخاذ الكفار أولياء
· اتخاذ الكفار أولياء يطلق على معنيين:
- أحدهما: أن ينصر المنافقُ الكافر على المؤمنين وعلى محاربة دين الله عز وجل ومحادة الله ورسوله.
- والآخر: أن يستنصر به على ذلك.
· إذا حصل هذا أو هذا فقد اتخذه ولياً، وكلاهما ولي للآخر، بينهما رابط الولاية.
· هذا التعبير من
روائع التعبير القرآني لأن فيه اختصاراً بديعاً مع الدلالة على المعنى،
والتنبيه على العلة، وإلغاء الفارق في الوصف بين الحالتين، والإبقاء على
رونق اللفظ وحسن السبك.
· من صفات المنافقين الملازمة لهم وعلاماتهم الظاهرة وأعمالهم المتواترة أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
· جعل الله هذا الأمر من أول ما وصف به المنافقين، وأعظم ما مقتهم عليه، وتوعدهم بسببه العذاب الشديد.
· قال الله تعالى: ﴿بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
(139) ﴾ [النساء: 138، 139]
· إلى أن قال: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا
عَلِيمًا (147) ﴾ [النساء: 144-147].
· وقال تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(51) ﴾ [المائدة: 51] إلى قوله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (57)﴾ [المائدة: 57].
· لما ذكر الله الذين
كفروا من بني إسرائيل بين لنا أن من أعظم ما مقتهم عليه أنهم اتخذوا
الكافرين أولياء من دون المؤمنين فقال تعالى: ﴿تَرَى
كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي
الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) ﴾ [المائدة: 80، 81].
· اتخاذ المنافقين للكفار أولياء قد بين الله تعالى تفاصيله في كتابه الكريم إذ قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ
مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ
أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ
اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)﴾[الحشر: 11-13].
- هذه الآيات تبين لك بياناً جلياً معنى اتخاذ الكفار أولياء.
· إذا تأملت ما ذكره
الله من التحذير من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين تبيّن لك أن هذا
الأمر حدّ عظيم من حدود الله جل علا، وأنه فارق بين الكفر والإيمان، وأن
الله قد توعد من فعله وعيداً شديداً، وعدَّ من فعله عدواً له، ونفى عنه
الإيمان، وأوجب له الدرك الأسفل من النار، لما تضمنه هذا العمل من الخيانة
العظمى، والخديعة الكبرى، ومحاربة الله ورسوله وأوليائه.
· لذلك لا يفعله من في قلبه إيمان، وإنما هو من خصال المنافقين النفاق الأكبر والعياذ بالله.
· نزّه الله تعالى
عباده المؤمنين وبرأهم من هذه الخصلة الذميمة اللئيمة المبنية على الخداع
والمكر والكيد للمؤمنين ومؤازرة الكافرين؛ فقال الله تعالى: ﴿لَا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28].
· قال ابن جرير:
(ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على
دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم،
فإنه مَنْ يفعل ذلك ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ [آل عمران: 28] يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر).
· ﴿إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: 28] هذا استثناء منقطع، وفي معناه قولان للسلف:
· القول الأول: إلا أن
تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم؛ فتظهروا لهم الولاية وتضمروا لهم
العداوة ولا تشايعوهم على دينهم ولا تعينوهم على مسلم بشيء.
- هذا القول مروي عن جماعة من المفسرين منهم ابن عباس وأبو العالية الرياحي وجابر بن زيد، وقال به ابن جرير الطبري.
- دلّ هذا القول على
أنّ المؤمن إذا خشي من الكفار ضرراً لا يحتمله؛ فلا بأس أن يداريهم مداراة
يدفع بها شرهم مع انطواء القلب على بغضهم وبغض ما يفعلون من الكفر والفسوق
والعصيان.
- معنى كون الاستثناء منقطعاً يفيد أن هذه المداراة ليست موالاة للكفّار.
· القول الثاني: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: 28] أي إلا أن يكون بينكم وبين بعض الكفار رحم فتتقون قطيعتها فتصلونها من غير أن تتولوهم في دينهم. وهذا قول قتادة والحسن البصري.
- صحَّحَ ابن جرير هذا القول من جهة المعنى في نفسهن لكنه بين أن لفظ الآية لا يدل عليه.
· المعنى الذي ذكره قتادة والحسن يدل عليه نصّ قول الله تعالى في الأبوين الكافرين: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [لقمان: 15]. وقوله: ﴿لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8] وسبب نزولها في قصة أم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
درجات الكفار في أحكام المعاملة
· بيّن الله تعالى في
كتابه أن الكفار على ثلاث درجات: الأبوين الكافرين، والذين لم يقاتلوا
المؤمنين ولم يعينوا عليهم، والمحاربون والمعينون على قتال المؤمنين
والعدوان عليهم، وجعل لكل درجة حكماً.
· أما الأبوان الكافران فأمر الله بإحسان صحبتهما، وكذلك الأرحام الذين ليسوا من أصحاب الدرجة الثالثة، قال الله تعالى فيهما: ﴿وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ
وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾[لقمان: 14، 15].
· وأما أصحاب الدرجة الثانية فقال الله تعالى فيهم: ﴿لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرَّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) ﴾[الممتحنة: 8].
· وأما أصحاب الدرجة الثالثة فقال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ
تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) ﴾[الممتحنة: 9].
- ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ﴾ أي يتخذهم أولياء كما يفعل المنافقون.
- قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾[الممتحنة: 9] أيها المؤمنون ﴿عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الممتحنة: 9] من كفار أهل مكة ﴿وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾[الممتحنة: 9] يقول: وعاونوا من أخرجكم من دياركم على إخراجكم أن تولوهم، فتكونوا لهم أولياء ونصراء: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ﴾[الممتحنة: 9] يقول: ومن يجعلهم منكم أو من غيركم أولياء ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[الممتحنة: 9] يقول: فأولئك هم الذين تولوا غير الذي يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم في غير موضعها، وخالفوا أمر الله في ذلك).
حكم موالاة الكفار
· موالاة الكفار ردّة عن دين الله تعالى، وهي ناقض من نواقض الإسلام والعياذ بالله.
· الموالاة تشمل محبتهم لدينهم والرضى به ومناصرتهم على المسلمين وعلى محادة الله ومحاربة دينه فهذا ناقض من نواقض الإسلام.
· بعض علماء الدعوة
يفرقون بين الموالاة والتولي في الحكم، وهذا التفريق لا أعرفه عن السلف ولا
تقتضيه اللغة فالموالاة والتولي في اللغة وفي استعمال السلف واحد وكلاهما
يدل على اتخاذ الكفار أولياء.
· ما يذكره بعضهم في
تفسير الموالاة بمحبة بعض أهل الكفر على أمر دنيوي من غير اتخاذهم أولياء
فهذه ليست موالاة على الحقيقة، ولها أحكامها.
· يجب التفريق بين هذين القسمين من المسائل؛فالله تعالى قد جعل موالاة الكفار وتوليهم حداً من الحدود الفارقة بين الإسلام والكفر.
· الموالاة هي: التوافق والتناصر على محاربة الإسلام والمسلمين، فمن حالف الكفار لمحاربة المسلمين فقد اتخذهم أولياء وارتدّ بذلك عن دين الإسلام.
· وأما محبة بعض
الكفار على أمر دنيوي لا حرب فيه على المسلمين ومصاحبتهم ومعاشرتهم
ومعاملتهم فلها له أحكام أخرى؛ منها ما هو مشروع مأمور به بضوابطه الشرعية،
ومنها ما هو محرم لا يجوز، وهي ليست من موالاة الكفار.
· ما ذكره المفرّقون
بين الموالاة والتولّي من أمثلة الموالاة التي ليست بتولٍّ هي في حقيقتها
من مظاهر التساهل في التعامل مع الكفار أو من ذرائع الموالاة؛ فالخلاف هو
في تسمية تلك المظاهر موالاة.
· تولّي الكفار هو اتخاذهم أولياء، وكذلك هي موالاتهم، والعبرة بالمعنى الشرعي الذي علّق به الحكم.
· قال الله تعالى: ﴿تَرَى
كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي
الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) ﴾ [المائدة: 80، 81]؛ فاتخاذهم أولياء هو بمعنى توليهم.
· لا يجوز لمسلم أن
يتولى الكفار ولو كان من تولاه أحد أبويه أو من عشيرته فاتخاذهم أولياء
وإعانتهم على دعوة الإسلام وعلى المسلمين كفر وردة عن دين الله عز وجل.
· وأما مصاحبتهم ومعاشرتهم والإحسان إليهم من غير موالاة فليست من هذا الباب، وهي على درجات ولها أحكام.
- قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾[لقمان: 15] فهذه المصاحبة بالمعروف واجبة على المسلم الذي له والدان كافران، وليست هذه المصاحبة بالمعروف من الموالاة في شيء.
- وقال تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ
أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [التوبة: 23].
- أمر الله تعالى
بمصاحبتهم بالمعروف ونهى عن اتخاذهم أولياء وحذر من ذلك، ووصف من فعل ذلك
بأنه من الظالمين المتوعدين بالعذاب الشديد؛ فعلِمَ أن مصاحبتهم بالمعروف
ليست من الموالاة في شيء.
· قال ابن جرير رحمه
الله في تفسير آية التوبة: (يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: لا
تتخذوا آباءكم وإخوانكم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسرارَكم، وتطلعونهم على
عورة الإسلام وأهله، وتؤثرون المُكْثَ بين أظهرهم على الهجرة إلى دار
الإسلام ﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ﴾ [التوبة: 23]، يقول: إن اختاروا الكفر بالله، على التصديق به والإقرار).
· هذا التفسير من ابن
جرير هو الحق وهو الذي تقتضيه دلالة النصوص؛ فمناصرة الكفار على المسلمين
وموالاتهم كفر وردة عن دين الله عز وجل، ولو كان الذين والوهم آباءهم أو
أبناءهم أو عشيرتهم.
· من فقه مقاصد الشريعة فقها صحيحاً اتضحت له حدود الله عز وجل التي بينها في كتابه الكريم.
· إذا تبين هذا فكل ما
أذن الله به في معاملة الكفار من مصاحبة بالمعروف ومعاشرة الرجل لزوجته
الكتابية، والإحسان إلى من أذن الله بالإحسان إليهم من الكفار كل ذلك ليس
من موالاتهم في شيء.
· وكذلك الثناء على
بعض الخصال الحسنة لدى بعض الكفار ليس من موالاتهم بل هو جائز لا بأس به،
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بعض الخصال الحسنة لدى بعض الكفار، وقال
لأشج عبد القيس:(( إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة)).
- لكن ينبغي ألا يتخذ ذلك ذريعة لمحبة باطلهم أو الاغترار بما لدى بعضهم من خصال حسنة فيعتقد أنهم على الحق في دينهم.
سد الذرائع المفضية إلى موالاة الكفار
· جاءت الشريعة بسد الذرائع المفضية إلى موالاة الكفار، فنهى الله تعالى عن اتخاذهم بطانة؛ فقال الله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 118].
· اتخاذهم بطانة يؤنس
بهم ويستشارون أو يُطلعون محرم في دين الإسلام، لكنها ليست موالاة، وإنما
هي ذريعة إلى الموالاة، وفرق بين الأمرين، وقد خاطب الله المؤمنين الذين
نزلت فيهم هذه الآية باسم الإيمان.
· روى ابن إسحاق عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من
اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحِلْف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم،
ينهاهم عن مباطنتهم تخوُّف الفتنة عليهم منهم: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم﴾ [آل عمران: 118] إلى قوله: ﴿وتؤمنون بالكتاب كله﴾ [آل عمران: 119]).
· هؤلاء الذين نزلت
فيهم الآية ليسوا متولين للكفار ولا محبين لدينهم ولا مناصرين لهم على
المسلمين، وإنما كان ما فعلوه محرماً لأنهم قد يفضي بهم إلى موالاة الكفار،
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
· من أفضت به هذه
الخصلة إلى موالاة الكفار ومناصرتهم ارتدّ بسبب ذلك، ومن لم تُفْضِ به إلى
الموالاة فهو آثمٌ فاسقٌ بمعصيته ولا يحكم بكفره.
· من تودد إلى الكفار
المحاربين بغية تحقيق مصلحة دنيوية من غير أن ينطوي قلبه على محبة الكفار
ومحبة دينهم ولا أن يكون في ذلك مناصرة للكفار على المسلمين فهو فاسق
مخالف لهدى الله تعالى لكنه لا يكفر بمجرد ذلك.
· لا يسمى فعله موالاة وإنما هو ذريعة للموالاة جاءت الشريعة بسدها كما في قوله تعالى: ﴿تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل﴾ [الممتحنة: 1].
· وكذلك الثناء على
بعض الخصال المحرمة لدى بعض الكفار ومحبتها أمر محرم لا يجوز، كالثناء على
غناء المغنين منهم، وكذلك التعاون معهم على بعض المعاصي كالغناء وغيره من
الأعمال المحرمة هو حرام لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
· أمّا إذا أفضى هذا التعاون إلى اتخاذهم أولياء ومناصرتهم على المسلمين فهي ردة عن دين الإسلام.
· بعض الأعمال تكون
صورتها الظاهرة واحدة، ويختلف حكمها باختلاف الباعث عليها؛ فقد يفعلها
بعضهم ويكون آثماً فاسقاً ولا يحكم بكفره، ويفعلها بعضهم ويكون مرتداً عن
دين الإسلام.
· من كان قصده من
التعاون مع هؤلاء الكفار اتخاذهم أولياء ومحاربة دين الإسلام والمناصرة على
المسلمين وإفساد أخلاقهم لأجل أن ينتصر عليهم الكفار فهذه ردة عن دين
الإسلام.
· ومن لم يقصد ذلك
وإنما أراد ما دونه من اللهو المحرّم ونحوه من غير قصد مناوأة دين الله فقد
أتى منكراً عظيماً يُخشى عليه من مغبّته.
· استفصل النبي صلى
الله عليه وسلم من حاطب بن أبي بلتعة لما كان معروفاً بالإيمان والخير
ونصرة الله ورسوله، ولم يستفصل من المنافقين الذين والوا اليهود لعلمه
بحالهم.
· حاطب رضي الله عنه
أخبرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بقصده، وصدَقه فيما ذكر أنه لم يفعل ذلك
رضى بالكفر بعد الإسلام؛ فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بصدقه.
· في رواية أن
حاطباً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أما والله إني ناصحٌ لله ولرسوله،
ولكني كنت غريباً في أهل مكة، وكان أهلي بين ظهرانيهم، وخشيت عليهم؛
فكتبت كتاباً لا يضرّ الله ورسولَه شيئاً، وعسى أن يكون منفعةً لأهلي).
· دلّ سؤال النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً عما حمله على ما صنع على اعتبار القصد.
· ودلّ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بصدق حاطب فيما قال؛ على أن الحكم على من فعل مثل فعله بما يظهر من صدقه.
· بعض العلماء يُطلق
على بعض الأعمال بأن فيها نوع موالاة أي أنها ليست صريحة في الموالاة، وهذا
في حال الحكم على بعض الأعمال الظاهرة التي لا يتبيّن قصدُ فاعلها أو أن
فاعليها على مراتب فيها.
· التشبه بالكفار الأصل فيه التحريم، ومنه ما يصل بصاحبه إلى الكفر ومنه ما هو دون ذلك، وليس كل تشبه موالاة.
أقسام المسلمين في البراءة من الكافرين
· إذا تبين ما سبق عرفت أن المسلمين في البراءة من الكفار على ثلاثة أقسام:
- قسم غلوا في البراءة
وتعدوا حدود الله في ذلك فارتكبوا من الظلم والعدوان والتنفير عن دين
الله عز وجل ما لا يحل لهم، وهم مخطؤون في ذلك خطأ شنيعاً.
- وقسم فرطوا وتساهلوا
في ذلك حتى حصلت منهم مودة ومحبة للكفار في بعض شؤون دنياهم من غير أن
يتخذوهم أولياء، وإنما خالفوا هدى الله ففعلوا ما لم يأذن الله به.
- فأصحاب هذين القسمين مخالفون لهدى الله خاطؤون مذنبون.
- وقسم وسط اتبعوا هدى
الله وامتثلوا أحكامه فتبرؤوا من الكفر وأهله وعاملوهم بمقتضى شرع الله
فأحلوا ما أحله الله وحرموا ما حرمه الله ورعوا فيهم حدود الله.
فهؤلاء هم الموفقون الناجون.
أحكام معاملة الكفار
· بيّن الله تعالى في
كتابه الكريم أحكام معاملة الكفار وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن
أراد تفاصيل ذلك فليطلبه بتعلم هذه المسائل في كتب الفقه.
· حرّم الله مناكحة
المشركين الوثنيين وحرم ذبائحهم، وأباح نكاح الكتابيات وأباح طعام أهل
الكتاب، وحرم استعمال آنية الكفار، وحرم التشبه بهم، وبين أحكام التهادي
بين المؤمنين والكافرين وما يجوز منه وما لا يجوز، إلى غير ذلك من الأحكام
التي يحتاج طالب العلم إلى تعلمها، ولا سيما من يبتلى بمعاملة الكفار
كثيراً؛ فيعرف ما يحل له وما لا يحل له، مع انطواء قلبه على محبة الله ورسوله وبغض الشرك وأهله.
حكم تهنئة الكفار بأعيادهم
· لا تجوز تهنئة الكفار بأعيادهم، ويختلف حكم المهنّئ باختلاف قصده.
- من هنّأ الكفار بأعيادهم الكفرية رضا بما يصنعون فهو كافر مرتدّ عن دين الإسلام والعياذ بالله.
- ومن هنّأهم
بعبارات فيها مجاملة لا يريد بها التعبير عن الرضا بعقيدتهم فهو قد ارتكب
حراماً لكن لا يُحكم بكفره ما دام قلبه منكراً كفرهم.
- قال ابن القيم رحمه
الله: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن
يُهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد
ونحوه؛ فهذا إن سلِمَ قائله من الكفر فهو من المحرّمات، وهو بمنزلة أن
تُهنئة بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشدّ مَـقتاً من
التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
وكثير ممن لا قدر للدِّين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قُبْحَ ما فعل، فمن
هنّـأ عبد بمعصية أو بدعة أو كـُـفْرٍ فقد تعرّض لِمقت الله وسخطه)ا.هـ.
- وقال ابن عثيمين
رحمه الله: (يَحرم على المسلمين التّشبّه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه
المناسبة، أو تبادل الهدايا، أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل
الأعمال ونحو ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تشبّه بقوم فهو منهم)) )ا.هـ.
وأمّا من شاركهم ليطعَم معهم أو ليستمتع بفسقهم وغنائهم فقد أتى محرّماً عظيماً، ولا يحكم بكفره ما دام قلبه منكراً لكفرهم وشركهم.
مقاصد البراءة من الشرك وأهله
وأما مقاصد البراءة من الشرك وأهله فهي:
1:
رعاية حدود الله عز وجل ، وأعظم الحدود ما جعله الله من الحد الفاصل بين
الكفر والإيمان، وسمى الله المشركين محادين له ولرسوله، فهم في حد ،
والمؤمنون في حد. فالبراءة من الشرك وأهله هي من إقامة حدود الله ، وهي
واجب من واجبات الإيمان ، وقد قال الله تعالى للمؤمنين : {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ}.
2:
إنكار المنكر العظيم الذي لا أعظم منه وهو الشرك بالله جل وعلا فهو أنكر
المنكرات وأكبر الكبائر وإنكاره من أوجب الواجبات وأعظم الحقوق.
3:
التنصل من موافقة المشركين على دينهم أو محبتهم لما يفعلونه من الشرك أو
إقرارهم عليه ، وقد علمنا ما توعد الله به أهل الشرك من العذاب المهين
والغضب الشديد والمقت الكبير والخلود في النار
{إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ
مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}
فإذا علم المؤمن بعظيم مقت الله للكفار حرص على التنصل من موافقتهم على ما مقتهم الله عليه أو إقرارِهم عليه.
4:
رجاء أن يقلع المشرك عن شركه إذا وجد من المؤمنين بغضاً لما يفعله من
الشرك ومجانبة والامتناع عن بعض التعاملات معه فلا تؤكل ذبيحته ولا يشرب في
آنيته ولا يرث ولا يورث ولا يناكح ولا يوالى ولا يتشبه به في شيء مما
يختص به إلى غير ذلك من الأحكام فإن ذلك قد يحمله على الإسلام ، وقد أسلم
لهذا السبب عدد من المشركين.
5:
الاعتزاز بدين الله تعالى والاستغناء به جل وعلا، فإن الله لما أمرنا
بالبراءة من الشرك وأهله علمنا أن الله تعالى قد أغنانا عنهم بفضله وأعزنا
بدينه، فإن الله أكمل لنا الدين، ومن إكماله أنه واف بما نحتاجه في جميع
شؤننا.
وما يقع فيه بعض المسلمين من موالاة الكفار هو من مظاهر ضعف اعتزازهم بدين الله عز وجل.
6: النصيحة للمسلمين وبيان الحق لهم فإن موالاة الكفار قد تغر بعض المسلمين فتفتنَهم عن دينهم.
غاية البراءة من المشركين
وأما
الغاية التي تنتهي عندها هذه البراءة فهي إيمان من أمرنا بالبراءة منه
فإذا آمن فهو من إخواننا نحبه ونواليه كما قال الله تعالى: {قَدْ
كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ} فإذا آمنوا بالله وحده لا شريك له وكفروا بما يعبد من دونه فهم من المؤمنين نحبهم ونواليهم
وقد قال الله تعالى عن المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}
وهذا يعرفك بسمو مقاصد هذه
البراءة الإيمانية وعظيم حلم الله تعالى وسعة مغفرته وأنه هو التواب
الرحيم والعفو الحليم وأنه يقبل التوبة ممن تاب ولو كان مشركاً.
ميزات البراءة من الشرك في الإسلام
فالبراءة من الشرك في الإسلام لها ميزات منها:
1: أنها متصلة بالله جل وعلا ، فمدار الحب والبغض فيها على ما يحبه الله ويبغضه الله، ومن كان هذا حاله فقد أسلم قلبه لله.
2: أنها عبادة ملازمة للمؤمن لا تخلو منها لحظة من لحظات حياته فهو وإن لم يستشعرها فهو مستصحب لحكمها ، وهذا البغض عبادة قلبية عظيمة.
3: أن هذه البراءة مبنية على الفقه والهدى وعلى تحقيق المصالح الشرعية ودرء المفاسد فهي ليست بغضاً أهوج ، ولا عاطفة عمياء. بل لها أحكام سنوضحها إن شاء الله.
فهذه البراءة تخلو من آثار
البراءة الجاهلية العمياء فإنه ما من شخص إلا وهو يوالي ويعادي ، فمن جعل
موالاته ومعاداته لله فقد استكمل الإيمان، ومن جعل موالاته ومعاداته على
أمر جاهلي فهو امرؤ فيه جاهلية.
فالولاء والبراء أمر فطري
وما من شخص إلا وهو يوالي ويعادي، وقد جاء الإسلام بتهذيب الولاء والبراء
وتصحيح مساره، وتقويم منهجه، وبيان أحكامه، فصحح ما يعقد عليه الولاء
والبراء، وصحح معنى الولاء والبراء ، وبين منهجه الذي ينتهجه المؤمن بلا
غلو ولا تفريط، وبين أحكامه وما يجوز فيه وما لا يجوز، وبين الحقوق التي
يجب حفظها ولا يجوز الاعتداء عليها حتى مع المخالفين، وأن هذا الولاء
والبراء محكوم بأحكام الشريعة، ومن سار على ما بينه الله من الهدى في هذا
الباب العظيم لم يحصل منه ما يحصل من آثار الولاء والبراء الجاهلي الذي
يُعقد على عرق أو بلد أو حزب أو جماعة أو غيرها من الأسباب الجاهلية التي
يعقد عليها الولاء والبراء.
فالبراء في الإسلام لا يخرج عن مقتضى العدل والإحسان، بل كل أحكام الشريعة لا تخرج عن مقتضى العدل والإحسان كما قال الله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ
وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًاً} ،ونهى عن الاعتداء حتى على المشركين كما قال تعالى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
فقرَنَ النهي عن العدوان بالقتال في سبيل الله ، وهذا يدلك على الرسالة
السَّامية للإسلام حتى في القتال، ينهى فيه عن العدوان والخيانة ؛ حتى لو
كان بيننا وبين الكفار عهد وخفنا منهم الخيانة ونقض العهد وقامت قرائن
وأمارات على ذلك لم يجز أن نبدأهم بالقتال حتى نعلمهم بذلك وننبذ إليهم
عهدهم كما قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}
فلم يرض الله لأوليائه أن يكونوا خائنين، ولم يرض لأوليائه أن يكونوا معتدين، ولم يرض لأوليائه أن يكونوا ظالمين.
فالمؤمنون وإن كانوا
يبغضون الكفار بغضاً شديداً ويعادونهم في الله إلا أنهم لا يحملهم ذلك على
ظلمهم والاعتداء عليهم كما أرشدنا الله تعالى بقوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}.
وقال تعالى: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
بل إن الله يحب لأوليائه
أن يكونوا محسنين مقسطين ، وأن تكون معاملتهم للناس حسنة يزينها الصدق
والوفاء بالعهد وحسن القول والخلق كما قال الله تعالى: {لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
فالمنهي
عنه أن نتولاهم فنناصرهم على المسلمين بأن ندلهم على عورة من عورات
المسملين ، وأن نعينهم على المسلمين بأي نوع من أنواع الإعانة.
أما الإحسان إلى من ليس من أهل الحرب والقتال بما لا يعين على المسلمين فليس بمنهي عنه بل هو من القسط الذي يحبه الله.
فينبغي أن نفرق بين حسن
المعاملة والمحبة القلبية؛ فمودة الكفار ومحبتهم محرمة في دين الإسلام ، بل
إن بغضهم من لوازم الإيمان، فلأنهم أسخطوا الله تعالى وهو أعظم محبوب لنا
استحقوا أن نبغضهم، فبغض أعداء الله من لوازم الإيمان بالله ولوازم محبته
كما قال تعالى: {لاَ تَجدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ..} فالإيمان بالله ينفي وجود محبة الكفار، لأن محبة المؤمن لله تعالى تقتضي منه أن يبغض أعداء الله ، وأن يبغض من يبغضه الله.
ونحن إنما نبغضهم لكفرهم
وفسوقهم وعصيانهم لا نبغضهم لذواتهم وهيئاتهم وأنسابهم وأعراقهم وبلدانهم
إنما نبغضهم لما أبغضهم الله عليه، ولذلك فإنهم إن تابوا وأسلموا أحببناهم
لزوال مقتضى البغض والكراهية.
أما التعامل معهم فيكون
وفق أحكام الشريعة وقد أمرنا الله تعالى بأن نقول للناس حسناً، وأن نعاملهم
بالحسنى، وألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، ويجب علينا أن نفي
بالعهد بيننا وبينهم، وإذا ائتمننا أحد منهم أدينا له الأمانة، وندعوهم إلى
الإسلام بالتي هي أحسن، ونبين لهم أخلاق أهل الإسلام ، ودعوةَ الله ورسوله
صلى الله عليه وسلم إلى مكارم الأخلاق.
كل ذلك مطلوب، ولا يقتضي محبتهم القلبية وهم مقيمون على الكفر والفسوق والعصيان.
لأن تعامل المؤمن نابع من إيمانه وامتثاله لأحكام الشريعة السمحة وأخلاق القرآن العظيم.
أما الكفار المحاربون والمعتدون الظالمون من الكفار والمنافقين فقد أُمرنا بالغلظة عليهم، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}
فالذين يستحقون أن نجاهدهم أمرنا بالغلظة عليهم، وهذه الغلظة كما تقدم في
الدرس السابق لها حدودها الشرعية فلا يجوز أن تفضي بالمسلم إلى قول ما لا
يجوز قوله ولا على العدوان والبغي.
فتبين بذلك أن البراءة في
الإسلام لها مقاصد سامية، وآداب عالية، وأنها ليست كالبراءة الجاهلية
المبنية على الظلم والعدوان وقول الإثم والبهتان ، وغصب الحقوق والدعاوى
الباطلة .
وأن البغض الإيماني ليس حقداً عنصرياً ولا كرهاً أعمى، بل هو بغض إيماني له أسباب ومقاصد وغاية كما تقدم.
ونحن مع بغضنا لهم بسبب
أعمالهم وكرهنا ومقتنا لكفرهم وفسوقهم وعصيانهم نود لهم الهداية ونسأل الله
أن يخرجهم من الظلمات إلى النور وندعوهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، رجاء
أن يمن الله عليهم بالهداية فنواليهم بعد المعاداة ونحبهم بعد البغض كما
قال الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ
قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
معنى الموالاة نأتي الآن إلى بيان مسألة مهمة وهي حكم موالاة الكفار.
الموالاة تطلق على معنيين
بينهما تناسب وتلازم وهما التحاب والتناصر ، فالولاية تطلق على المحبة
والنصرة في اللغة وعلى ما ينشأ منهما؛ فالحليف ولي، والكفيل ولي، والقيم
على من تحته ولي كولي اليتيم وولي المرأة ، فالولي هو الذي يقوم بما تقتضيه
الولاية في كل موضع بحسبه من المحبة والموافقة والتأييد والسعي في تحقيق
مصالح المولى وحمايته مما يخافه عليه، ونحو ذلك من الأعمال، وهذه الأعمال
كلها يجمعها معنى النصرة في اللغة؛ فالنصرة معنى جامع ينتظم ما يحصل به
تحقيق ما يحبه المولى وينفعه ودفع ما يضره ويكرهه، ولذلك يكثر الاقتران بين
الولاية والنصرة في القرآن الكريم قال الله تعالى عن نفسه المقدسة: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير}، وقال: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُم وهُوَ خَيْر النَّاصِرِينَ} وقال: {وَمَا لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقال: {وَمَالَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} وقال : {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً}
إلى غير ذلك من الآيات تدل على أن النصرة من مقتضيات الوَلاية وأنها هي
مقصودها، وبدونها لا تصح الولاية، فالولاية أصلها المحبة والموافقة،
ومقتضاها النصرة والتأييد.
فمن شأن الولي أنه ينصر
مولاه، ولذلك فإن أولياء الله هم الذين ينصرون الله عز وجل فيقومون بما
تقتضيه محبته جل وعلا من تحقيق ما يحبه الله ويرضاه واجتناب ودفع ما يكرهه
ويبغضه فمن فعل ذلك فهو من أولياء الله.
ومن قام بضد ذلك بأن والى
أعداء الله فنصرهم وأيدهم على محاربة دين الله فليس من أولياء الله، بل هو
من أعداء الله ، لأن هذه الأعمال تنافي محبة الله ، ولا تحصل هذه الخصلة
من المؤمنين وإنما تحصل من المنافقين النفاق الأكبر والعياذ بالله؛ فهم
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
معنى اتخاذ الكفار أولياء
ومعنى اتخاذ الكفار أولياء يشمل معنيين:
المعنى الأول: أن ينصر المنافقُ الكافر على المؤمنين وعلى محاربة دين الله عز وجل ومحادة الله ورسوله.
والمعنى الثاني: أن يستنصر به على ذلك.
فإذا حصل هذا أو هذا فقد
اتخذه ولياً، وكلاهما ولي للآخر، بينهما رابط الولاية، فهذا التعبير من
روائع التعبير القرآني ففيه اختصار بديع مع الدلالة على المعنى، والتنبيه
على العلة، وإلغاء الفارق في الوصف بين الحالتين، والإبقاء على رونق اللفظ
وحسن السبك.
فإذا نصره أو استنصر به
فقد اتخذه ولياً ، وهذا الأمر هو من صفات المنافقين اللازمة لهم وهي من
علاماتهم الظاهرة وأعمالهم المتواترة التي يدأبون عليها ، ولذلك جعل الله
هذا الأمر من أول ما يصف به المنافقين ، وأعظم ما يمقتهم عليه، وتوعدهم
الوعيد الشديد بسببه فقال الله تعالى: {بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
(139) }
إلى
أن قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ
يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ
اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
وقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا
أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ
اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}
ولما ذكر الله الذين كفروا
من بني إسرائيل بين لنا أن من أعظم ما مقتهم عليه أنهم اتخذوا الكافرين
أولياء من دون المؤمنين فقال تعالى: { تَرَى
كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي
الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) }
واتخاذ المنافقين للكفار أولياء قد بين الله تعالى تفاصيله في كتابه الكريم إذ قال الله تعالى: {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ
قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
(11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ
لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ
اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) }
فهذه الآيات تبين لك
بياناً جلياً معنى اتخاذ الكفار أولياء، وأنت إذا تأملت هذه الآيات تبين لك
أن هذا الأمر حد عظيم من حدود الله جل علا ، وأنه فارق بين الكفر
والإيمان ، وأن الله قد توعد من فعله وعيداً شديداً، وعدَّ من فعله عدواً
له، وسماه مرتداً عن دين الإسلام وأوجب له الدرك الأسفل من النار، لما
تضمنه هذا العمل من الخيانة العظمى ، والخديعة الكبرى، ومحاربة الله
ورسوله وأوليائه.
ولذلك لا يفعله من في قلبه
إيمان، وإنما هو من خصال المنافقين النفاق الأكبر والعياذ بالله، وقد نزه
الله تعالى عباده المؤمنين وبرأهم من هذه الخصلة الذميمة اللئيمة المبنية
على الخداع والمكر والكيد للمؤمنين ومؤازرة الكافرين؛ فقال الله تعالى: {لَا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}
تأملوا هذا الوعيد والتحذير.
{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} هذا استثناء منقطع.
فبين الله أن للمسلم حالان حال اختيار وحال اضطرار
ففي حال الاختيار لا يتخذ المؤمن الكفار أولياء، قال الله : {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} ولم يقل : (ومن يفعل ذلك منهم) وهذا دليل على أن من صدر منه هذا الاتخاذ فليس بمؤمن، وليس من الله في شيء.
وقد تبرأ الله منه ، ومن تبرأ الله منه فهو من الخاسرين ، والعياذ بالله.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي فقد برئت منه ذمة الله، ليس له من ولاية الله نصيب، والعياذ بالله.
وأما في حال الاضطرار
بأن يخشى من الكفار ضرراً فلا بأس أن يداريهم مداراة يدفع بها شرهم مع
انطواء القلب على بغضهم وبغض ما يفعلون من الكفر والفسوق والعصيان.
قال ابن جرير: (ومعنى ذلك:
لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم،
وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه
مَنْ يفعل ذلك {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر).
تفسير قول الله تعالى: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاة﴾
وقوله تعالى : {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} فيه قولان مأثوران عن السلف رحمهم الله:
فالقول الأول: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}
إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية
وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على دينهم ولا تعينوهم على مسلم بشيء.
وهذا القول مروي عن جماعة من المفسرين منهم ابن عباس وأبو العالية الرياحي وجابر بن زيد ، وقال به ابن جرير الطبري.
القول الثاني: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إلا أن يكون بينكم وبين بعض الكفار رحم فتتقون قطيعتها فتصلونها من غير أن تتولوهم في دينهم. وهذا قول قتادة والحسن البصري.
وابن جرير – رحمه الله - صحح هذا القول من جهة المعنى في نفسه لكنه بين أن لفظ الآية لا يدل عليه.
وهذا المعنى الذي ذكره قتادة والحسن يدل عليه نص قول الله تعالى في الأبوين الكافرين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}. وقوله : {لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
وسبب نزولها في قصة أم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
درجات الكفار في أحكام المعاملة
فقد بين الله تعالى في كتابه أن الكفار على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الأبوين الكافرين.
الدرجة الثانية: الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يعينوا عليهم .
الدرجة الثالثة: المقاتلون والمعينون على قتال المؤمنين والعدوان عليهم.
وجعل لكل درجة حكماً
فأما الأبوان الكافران فقال الله تعالى فيهما: {وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ
وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}
فأمر الله بإحسان صحبتهما، وكذلك الأرحام الذين ليسوا من أصحاب الدرجة الثالثة.
وأما أصحاب الدرجة الثانية فقال الله تعالى فيهم: {لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرَّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}
وأما أصحاب الدرجة الثالثة فقال الله تعالى فيهم: {
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ
تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} أي يتخذهم أولياء كما يفعل المنافقون.
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} أيها المؤمنون {عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} من كفار أهل مكة {وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} يقول: وعاونوا من أخرجكم من دياركم على إخراجكم أن تولوهم، فتكونوا لهم أولياء ونصراء: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} يقول: ومن يجعلهم منكم أو من غيركم أولياء {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يقول: فأولئك هم الذين تولوا غير الذي يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم في غير موضعها، وخالفوا أمر الله في ذلك).
حكم موالاة الكفار
إذا نعود لبيان جواب السؤال : ما حكم موالاة الكفار؟
الجواب:
أن موالاة الكفار هي بمعنى اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين على ما وصف
الله في الآيات التي سبق ذكرها وهي ناقض من نواقض الإسلام والعياذ بالله.
وهذا يشمل محبتهم لدينهم والرضى به ومناصرتهم على المسلمين وعلى محادة الله ومحاربة دينه فهذا ناقض من نواقض الإسلام.
بعض علماء الدعوة يفرقون
بين الموالاة والتولي في الحكم، وهذا التفريق لا أعرفه عمن سبق من العلماء
ولا تقتضيه اللغة فالموالاة والتولي في اللغة وفي استعمال السلف واحد
وكلاهما يدل على اتخاذ الكفار أولياء.
وأما ما يذكرونه من محبة بعض أهل الكفر على أمر دنيوي من غير اتخاذهم أولياء فهذه ليست موالاة وسيأتي بيان أحكامها إن شاء الله.
الموالاة هي التوافق والتناصر على الإسلام والمسلمين، ولا تكون موالاة إلا إذا اتخذه ولياً .
-
أما محبة بعض الكفار على أمر دنيوي ، ومصاحبتهم ومعاشرتهم والتعامل معهم
فهذا له أحكام أخرى منها ما هو مشروع مأمور به بضوابطه الشرعية، ومنها ما
هو محرم لا يجوز ، وهي ليست من موالاة الكفار.
فيجب التفريق بين هذين القسمين من المسائل ، ولا تخلط مسائل هذا القسم بمسائل هذا.
فالله تعالى قد جعل موالاة
الكفار وتوليهم حداً من الحدود الفارقة بين الإسلام والكفر ، ولا يجوز
لمسلم أن يتولى الكفار ولو كان من تولاه أحد أبويه أو من عشيرته فاتخاذهم
أولياء وإعانتهم على دعوة الإسلام وعلى المسملين كفر وردة عن دين الله عز
وجل.
وأما مصاحبتهم ومعاشرتهم والإحسان إليهم من غير موالاة فليست من هذا الباب.
وهي على درجات ولها أحكام:
وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فهذه المصاحبة بالمعروف واجبة على المسلم الذي له والدان كافران ، وليست هذه المصاحبة بالمعروف من الموالاة في شيء.
وقال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ
أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
فأمر الله تعالى بمصاحبتهم
بالمعروف ونهى عن اتخاذهم أولياء وحذر من اتخاذهم أولياء ، ووصف من فعل
ذلك بأنه من الظالمين المتوعدين بالعذاب الشديد؛ فعلم أن مصاحبتهم بالمعروف
ليست من الموالاة في شيء.
قال ابن جرير رحمه الله في
تفسير آية التوبة: (يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: لا تتخذوا
آباءكم وإخوانكم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسرارَكم، وتطلعونهم على عورة
الإسلام وأهله، وتؤثرون المُكْثَ بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ}، يقول: إن اختاروا الكفر بالله، على التصديق به والإقرار).
وهذا التفسير من ابن جرير
هو الحق وهو الذي تقتضيه دلالة النصوص؛ فمناصرة الكفار على المسلمين
وموالاتهم كفر وردة عن دين الله عز وجل ، ولو كان الذين والوهم آباءهم أو
أبناءهم أو عشيرتهم.
- فموالاة الكفار حد فارق بين الإسلام والكفر ، بينه الله تعالى بياناً لا لبس فيه.
وأما مصاحبتهم بالمعروف
فمأمور بها ، وما أمر الله به فليس من الشرك في شيء، وأوامر الشريعة تتفق
ولا تختلف، ومن فقه مقاصد الشريعة فقها صحيحاً اتضحت له حدود الله عز وجل
التي بينها في كتابه الكريم.
-
إذا تبين هذا فكل ما أذن الله به في معاملة الكفار من مصاحبة بالمعروف
ومعاشرة الرجل لزوجته الكتابية، والإحسان إلى من أذن الله بالإحسان إليهم
من الكفار كل ذلك ليس من موالاتهم في شيء.
-
وكذلك الثناء على بعض الخصال الحسنة لدى بعض الكفار ليس من موالاتهم بل
هو جائز لا بأس به ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بعض الخصال الحسنة
لدى بعض الكفار، وقال لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة)).
لكن ينبغي ألا يتخذ ذلك ذريعة لمحبة باطلهم أو الاغترار بما لدى بعضهم من خصال حسنة فيعتقد أنهم على الحق في دينهم.
فهذه أمور مشروعة وليست من اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين.
سد الذرائع المفضية إلى موالاة الكفار
- وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع المفضية إلى موالاة الكفار ، فنهى الله تعالى عن اتخاذهم بطانة؛ فقال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
قال ابن جرير رحمه الله: ( {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}، يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم {مِنْ دُونِكُمْ} يقول: من دون أهل دينكم وملَّتكم، يعني من غير المؤمنين.
وإنما جعل"البطانة" مثلاً
لخليل الرجل، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه، لحلوله منه - في اطِّلاعه على
أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه- محلَّ ما وَلِيَ جَسده من
ثيابه.
فنهى الله المؤمنين به أن
يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من
الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم)
إلى أن قال: (هذه الآية
نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق
منهم، ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل
الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم).
فاتخاذهم بطانة ومصادقتهم محرم في دين الإسلام ، لكنها ليست من الموالاة ، وفرق بين الأمرين.
-
وكذلك الثناء على بعض الخصال المحرمة لدى بعض الكفار ومحبتها أمر محرم لا
يجوز، كالثناء على غناء المغنين منهم ، وكذلك التعاون معهم على بعض
المعاصي كالغناء وغيره من الأعمال المحرمة هو حرام لقول الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
لكن إذا أفضى هذا التعاون إلى اتخاذهم أولياء ومناصرتهم على المسلمين فهي ردة عن دين الإسلام.
ولذلك تجد بعض الأعمال
الظاهرة يفعلها بعض الناس وتكون محرمة وكبيرة من الكبائر، ويفعلها بعضهم
وتكون ردة عن دين الإسلام، والفارق في هذا هو النية والقصد ، فإذا كان قصده
من التعاون مع هؤلاء الكفار اتخاذهم أولياء ومحاربة دين الإسلام
والمناصرة على المسلمين وإفساد أخلاقهم لأجل أن ينتصر عليهم الكفار فهذه
ردة عن دين الإسلام.
وإن كان لم يقصد ذلك وإنما
قصد أمراً من الأمور المحرمة كالاستمتاع المحرم ببعض المعاصي والكسب
الحرام من غير أن يقصد مناوءة دين الله فهذا قد أتى كبيرة من الكبائر
ومنكراً عظيماً وهو على خطر عظيم يخشى عليه منه، وتجب مناصحته وتحذيره من
مغبة فعله.
أقسام المسلمين في البراءة من الكافرين
إذا تبين هذا تبين أن المسلمين في البراءة من الكفار على ثلاثة أقسام:
قسم: غلوا
في البراءة وتعدوا حدود الله في ذلك فارتكبوا من الظلم والعدوان والتنفير
عن دين الله عز وجل ما لا يحل لهم ، وهم مخطؤون في ذلك خطأ شنيعاً.
وقسم فرطوا
وتساهلوا في ذلك حتى حصلت منهم مودة ومحبة للكفار في بعض شؤون دنياهم من
غير أن يتخذوهم أولياء ، وإنما خالفوا هدى الله ففعلوا ما لم يأذن الله به.
فأصحاب هذين القسمين مخالفون لهدى الله خاطؤون مذنبون.
وقسم وسط
اتبعوا هدى الله وامتثلوا أحكامه فتبرؤوا من الكفر وأهله وعاملوهم بمقتضى
شرع الله فأحلوا ما أحله الله وحرموا ما حرمه الله ورعوا فيهم حدود الله .
فهؤلاء هم الموفقون الناجون .
وقد بين الله تعالى في
كتابه الكريم أحكام معاملة الكفار وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن
أراد تفاصيل ذلك فليطلبه بتعلم هذه المسائل في كتب الفقه.
فقد حرم الله مناكحة
المشركين الوثنيين وحرم ذبائحهم ، وأباح نكاح الكتابيات وأباح طعام أهل
الكتاب، وحرم استعمال آنية الكفار ، وحرم التشبه بهم ، وبين أحكام التهادي
بين المؤمنين والكافرين وما يجوز منه وما لا يجوز، إلى غير ذلك من الأحكام
التي يحتاج طالب العلم إلى تعلمها، ولا سيما من يبتلى بمعاملة الكفار
كثيراً.
فيعرف ما يحل له وما لا يحل له.
مع انطواء قلبه على محبة الله ورسوله وبغض الشرك وأهله.
أحكام معاملة الكفار
بيّن
الله تعالى في كتابه الكريم أحكام معاملة الكفار وبين ذلك النبي صلى الله
عليه وسلم، ومن أراد تفاصيل ذلك فليطلبه بتعلم هذه المسائل في كتب الفقه.
ومن ذلك أن الله تعالى حرّم مناكحة المشركين الوثنيين وحرم ذبائحهم، وأباح نكاح الكتابيات وأباح طعام أهل الكتاب.
- وحرم استعمال آنية الكفار.
- وحرم التشبه بهم.
- وبيَّن أحكام التهادي بين المؤمنين والكافرين، وما يجوز منه وما لا يجوز.
إلى غير ذلك من الأحكام التي يحتاج طالب العلم إلى تعلمها، ولا سيما من يبتلى بمعاملة الكفار كثيراً؛ فيعرف ما يحل له وما لا يحل له، مع انطواء قلبه على محبة الله ورسوله وبغض الشرك وأهله.
حكم تهنئة الكفار بأعيادهم لا تجوز تهنئة الكفار بأعيادهم، ويختلف حكم المهنّئ باختلاف قصده.
- فمن هنّأ الكفارَ بأعيادهم الكفرية رضا بما يصنعون من الشرك والكفر فهو كافر مرتدّ عن دين الإسلام والعياذ بالله.
- ومن هنّأهم
بعبارات فيها مجاملة لا يريد بها التعبير عن الرضا بعقيدتهم فهو قد ارتكب
حراماً لكن لا يُحكم بكفره ما دام قلبه منكراً كفرهم، وهو في ذلك ضالّ عن
سواء السبيل على شفا هلكة يُخشى عليه منها.
قال ابن القيم رحمه
الله: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن
يُهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد
ونحوه؛ فهذا إن سلِمَ قائله من الكفر فهو من المحرّمات، وهو بمنزلة أن
تُهنئة بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشدّ مَـقتاً من
التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
وكثير ممن لا قدر للدِّين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن
هنّـأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كـُـفْرٍ فقد تعرّض لِمقت الله وسخطه)ا.هـ.
وقال ابن عثيمين رحمه
الله: (يَحرم على المسلمين التّشبّه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه
المناسبة، أو تبادل الهدايا، أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل
الأعمال ونحو ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تشبّه بقوم فهو منهم)) )ا.هـ.
وأمّا من شارَكهم ليطعم معهم أو ليستمتع بفسقهم وغنائهم فقد أتى محرّماً عظيماً، ولا يحكم بكفره ما دام قلبه منكراً لكفرهم وشركهم.