الدروس
course cover
الدرس الثالث: شرح المسائل الأربع (2/2)
25 Apr 2011
25 Apr 2011

8731

0

0

course cover
شرح ثلاثة الأصول وأدلتها

القسم الأول

الدرس الثالث: شرح المسائل الأربع (2/2)
25 Apr 2011
25 Apr 2011

25 Apr 2011

8731

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الثالث: شرح المسائل الأربع (2/2)


قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

اقتباس:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أرْبَعِ مَسَائِلَ:
الأُولى: العِلْمُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ وَمَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ.
الثَّانِيَةُ: العَمَلُ بِهِ.
الثَّالِثَةُ: الدَّعْوَةُ إلَيْهِ.
الرَّابعةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ.
والدَّلِيلُ قَولُه تَعَالَى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر:1-3]
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالى: (هَذِهِ السُّورَةُ لَو مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هِيَ لَكَفَتْهُمْ).
وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: (بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ، والدَّليلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[محمد:19]، فَبَدَأَ بِالعِلْمِ قَبْلَ القَولِ وَالعَمَلِ).


عناصر الدرس:

· شرح المسألة الثالثة: وهي الدعوة إليه
- فضائل الدعوة إلى الله تعالى
- شروط الدعوة
- شروط الدعوة
- أنواع الدعوة
- وسائل الدعوة
- آداب الدعوة
- مقاصد الدعوة
- تفسير قول الله تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..[النحل: 125] الآية.
· شرح المسألة الرابعة وهي الصبر
- معنى الصبر
- منزلة الصبر
- أنواع الصبر
- حُكْم الصبر
- حاجة الداعية إلى الصبر
· تفسير سورة العصر
· شرح قول الشافعي رحمه الله: (هَذِهِ السُّورَةُ لَو مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هِيَ لَكَفَتْهُمْ).
· ترجمة الإمام الشافعي رحمه الله
· شرح قول البخاري رحمه الله: (بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ، والدَّليلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، فَبَدَأَ بِالعِلْمِ قَبْلَ القَولِ وَالعَمَلِ).
- ترجمة الإمام البخاري رحمه الله
- شرح قوله: (العلم قبل القول والعمل)

الملف الأول:
لتحميل الملف اضغط هنا

الملف الثاني:
لتحميل الملف اضغط هنا:

الملف الثالث:
لتحميل الملف اضغط هنا

الملف الرابع:
لتحميل الملف اضغط هنا

الملف الخامس:
لتحميل الملف اضغط هنا


الملف السادس والأخير
لتحميل الملف اضغط هنا



ألقي الدرس يوم الإثنين 21 جمادى الأولى 1432هـ*

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

25 Apr 2011

شرح المسألة الثالثة: وهي الدعوة إليه

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد:
فهذا هو الدرس الثاني من دروس شرح ثلاثة الأصول وأدلتها ألقيه يوم الإثنين الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى من السنة الثانية والثلاثين بعد الأربعمائة والألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .

وأبدؤها بشرح المسألة الثالثة: وهي الدعوة .
قال رحمه الله: (الثالثة : الدعوة إليه).
مرجع الضمير إلى العلم الذي عمل به.
أي إن مما يجب على العبد إذا علم وعمل أن يدعو إلى الهدى ودين الحق.

فضائل الدعوة إلى الله تعالى
والدعوة إلى الله هي مهمة الرسل والأنبياء، والدعاة إلى الله تعالى على بصيرة هم وارثون للأنبياء متبعٌون لسبيلهم كما قال الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ} وقال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}،
وقد حث الله المؤمنين أن تنتدب منهم طائفة للدعوة إلى الخير فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب الفلاح ، والفلاح يطلق في اللغة في الأصل على البقاء
ومنه قول الشاعر:


لكـل هـم مـن الهـمـوم سـعـة.......والمسـي والإصبـاح لا فـلاح معـه


أي لا بقاء معه.
ثم كثر إطلاق هذا اللفظ على معنيين مشهورين:
المعنى الأول: الفوز بالمطلوب.
والمعنى الثاني: النجاة من المرهوب.
وهذه المعاني الثلاثة تجتمع في حق المؤمنين المتبعين لهدى الله عز وجل فإنهم ينالون مطلوبهم من فضل الله ورحمته وعظيم ثوابه، وينجون مما يخافون من عذاب الله وأليم عقابه، وهم باقون في النعيم المقيم الذي لا ينفد.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
فجعل الله قول الداعي إليه أحسن القول.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي يوم خيبر: (( انْفُذْ على رِسْلِكَ، حتى تنزلَ بساحتِهِم ، ثُمَّ ادْعُهم إِلى الإِسلامِ ، وَأخبِرهم بما يجبُ عليهم مِن حق الله عز وجل فيهم، فواللهِ لأن يهديَ الله بكَ رجلا واحدا خير لكَ من حُمْر النَّعَم)). متفق عليه.
وحمر النعم هي الإبل الحُمْر ، وهي كرام الإبل عند العرب، وأنفسها وأغلاها ثمناً، وسميت حُمْراً على عادة العرب في التوسع في التسميات وإلا فهي ليست حمراء اللون خالصةً ، وإنما تقاربه.
كما يقولون الإبل الصفر للتي يميل لونها إلى السواد.
والمقصود أن اهتداء رجل واحد على يديه خير له من هذه الإبل الكرام النفيسة، وهذا يفيد الداعي أن يجعل همته لما هو خير له عند ربه وأنفع، وأن يقدم الثواب الباقي على العاجل ولو أمكن أن يحصل هذا الثواب العاجل بطريقة قد يتأول فيه من لا يفقه الدعوة على النهج الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتريث ولا يستعجل مبادرتهم بالقتال بل يدعوهم رجاء أن يهديهم الله، فإذا أجابوا فقد عصموا دماءهم وأموالهم ودخلوا في دين الله وحرم على المسلمين قتالهم وأخذ غنائمهم، وإذا كانت الهمة للدعوة لا لأخذ الغنيمة والتشفي بقتال العدو كان القصد صالحاً ، وكان القائم على هذه الدعوة متسماً بالفقه الصحيح، فإن أبى أولئك المدعوون إلا القتال جاز قتالهم وكان المؤمنون موعودين بالنصر عليهم.
فإن خالفوا الهدي واستعجلوا القتال كان ذلك سبباً قد تحصل به الهزيمة فإن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
وعن أَبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ )) رواه مسلم.
وهذا يدلك على عظيم ثواب الدعوة، فرب كلمة يقولها المرء لا يلقي لها بالاً ينتفع بها غيره فيمتثلها وتخرجه من الظلمات إلى النور فيكون للداعي بها مثل أجر من دعاهم وأرشدهم.
بل لو بلغ هذا المنتفع بدعوته غيره لكان للداعي الأول مثل أجره، وهكذا ما تسلسل به الأمر ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولهذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجر جميع من يعمل صالحاً من أمته لأنه هو الذي دلهم على هذه الأعمال الصالحة.
وكذلك رواة الأحاديث الصحيحة التي بلغونا إياهاً ورووها لنا يكون لهم مثل أجور من دعوهم إلى الهدى.
فانظروا إلى عظيم فضل الله لمن جعل نيته لله ، وقصد ثواب الله ، وابتغى وجه الله.
وانظروا ماذا خسر من أراد بدعوته الرياء والسمعة ولم يرد إلا الحياة الدنيا.نعوذ بالله من الخذلان.
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَه لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أجُورِهمْ شَيئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيئاً)) رواه مسلم.
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يقول: (( نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئاً ، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ )) . رواه الترمذي
قال أبو سليمان الخطابي: (قوله: ((نضر الله)) معناه الدعاء له بالنضارة وهي النَّعمة والبهجة).
ولذلك تجد الدعاة إلى الله من أشرح الناس صدراً، وأنضرهم ، وأبهجهم، فإنهم وإن ابتلوا ببعض ما يبتلي الله به عباده إلا أن قلوبهم في نعيم بمعرفة الله عز وجل والأنس به والاشتياق لرؤيته ونيل رضوانه الذي كتبه لأهل محبته وذكره، وهم في حياة طيبة ، قلوبهم مطمئنة بذكر الله، تغمرهم السكينة، ويجدون في قلوبهم حلاوة الإيمان، وبرد اليقين ، وعزة الطاعة ، فهم من أحسن الناس حياة على الحقيقة.
حتى إنه ليقولُ قائلهم: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ؟ محبةَ الله تعالى ومعرفَتَه وذكرَه)
والداعي الذي يدركُ هذه الفضائل أحسنَ إدراك إنما هو الذي يقوم بما تقتضيه من الشروط والواجبات والآداب، وهي أمور يسيرة لمن يسرها الله تعالى له.

شروط الدعوة:
فمن شروط الدعوة أن يكون الداعي على بصيرة فيما يدعو إليه ، وعلى بصيرة بصحة طريقة الدعوة ، وعلى بصيرة بحال المدعو فيدعوه بما يناسب حاله، فيأتسي بهدي النبي صل الله عليه وسلم في ذلك، ولا يحدث الناس بما لا تقبله أفهامهم من دقيق العلم، قال علي بن أبي طالب: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله).
وعلى الداعي أن يراعي المصلحة الشرعية في الدعوة إلى الله؛ فإذا خشي السآمة على المدعوين أمسك حتى لا يُمِلَّهم، وإذا ترتب على إنكار المنكر مفسدة أعظم فإن الحكمة تقتضي عدم الإنكار.
وهذا باب يتعلمه طالب العلم بتوسع فيما بعد في فقه الدعوة لكنني أحببت أن ألخص لكم أهم المسائل التي يذكرها أهل العلم في هذا الباب.
لأن طلاب العلم عموماً وطلاب علم العقيدة على وجه الخصوص يحتاجون كثيراً إلى فقه مسائل الدعوة إلى الله.


آداب الدعوة
من آداب الداعية في نفسه: أن يكون ممتثلاً ما يدعو إليه، ملتزماً تقوى الله تعالى ظاهراً وباطناً، متحلياً بمكارم الأخلاق مجتنباً مساوئها، فإن وقع في شيء من المعاصي والتقصير بادر إلى التوبة والاستغفار وإتباع السيئة الحسنة فإنها تمحوها.
فالداعية ليس بمعصوم بل قد يقع في الذنوب والمعاصي، لكن يجب عليه أن يتوب إلى الله إذا وقع في شيء من تلك المعاصي حتى لو كانت كبيرة من الكبائر، فالتوبة تجب ما قبلها، والله تعالى يفرح بتوبة عبده، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}.
فلا يمنعنه وقوعه في الذنب من مواصلة الدعوة.
وقد أنشد بعض الصالحين:


لو لم يعظ في الناس مـن هـو مذنـب.......فمن يعظ العاصين بعد محمد


قيل للحسن البصري: إن فلاناً لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق! ومن ذا الذي ليس فيه شيء.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
(فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها. والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه).ا.هـ.
وهو كلام صحيح مسدد، لأن الذي يتركُ المعروف ولا يأمر به عند وجوب الأمر به يكون قد ارتكب معصيتين، وكذلك الذي يفعل المنكر ولا ينكره قد وقع في معصيتين:
معصية فعل المنكر، ومعصية ترك الإنكار.
- لكنه إذا قام بالدعوة والإنكار كان ذلك سبباً معيناً له على امتثال ما يأمر به من المعروف وواجتناب ما ينهى عنه من المنكر، ولا سيما إذا تضرع لله تعالى أن ينجيه مما وقع فيه من المخالفة، وبذل أسباب الإقلاع عن الذنب، وأكثر من الاستغفار، فإنه يرجى له أن يوفق للتوبة النصوح.
- فالتقصير في العمل لا يبرر التقصير في الدعوة، وليس ذلك لأحد بعذر في ترك الدعوة إذا علم وجوبها عليه.
ومن آداب الداعية في دعوته: أن يبدأ بالأهم، وأن يحدث الناس بما يناسب أفهامهم، ويستعملَ الحكمة في جميع أموره فيلين في موضع اللين، ويغلظ حين يحسن أن يغلظ، وإذا وعظ أحسن الموعظة واقتصد فيها فلا يكثر فيملهم ولا يجفو فيطول عليهم الأمد فتقسو قلوبهم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا الموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا) متفق عليه.

والدعوة لها مراتب بعضها مقدم على بعض فمن كانت تجدي معه الموعظة الحسنة لا يحسن أن يجادَل ، لأنه مستجيب منقاد للحق ليس لديه شبهة تمنعه من الانقياد له فهذا يذكَّر فتنفعُه الذكرى إن شاء الله كما قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
- وأما من كانت لديه شبهة تصده عن الحق فهذا ينتقل معه إلى مرتبة المجادلة بالتي هي أحسن.
- وأما الظالمون المعتدون الذين لا يليق بهم إلا الغلظة والشدة فيغلظ عليهم .
وكذلك بعض من يرتكب المنكرات ويجاهر بها ولا يستجيب للنصح الرفيق فمثل هذا يغلظ عليه إذا كان أهل الحق في موقف قوة، لأن ذلك من حسن السياسة الشرعية، ولأن الإغلاظ في موضعه من وسائل التربية الصحيحة إذا قام به من هو أهل لذلك.
والمقصود أن الدعوة لها مراتب لكل حال مرتبة تناسبها كما تدل على ذلك أدلة الشريعة.
ولا يقتضي أن تكون على التدرج مطلقاً ، بل قد يقدم تلك المراتب على بعض لمصلحة شرعية تقتضيه ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فبدأ بالإنكار باليد وذلك حين يكون للإنسان ولاية أو وجاهة تخوله الإنكار باليد ولم يخش فتنة أكبر.
وهذا الإنكار يختلف حاله ، فأحياناً يناسب أن يكون باللين والرفق ، وأحياناً يناسب أن يكون بالغلظة والشدة بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية، وإن كان الغالب أن الرفق مقدم على الشدة، وهذا أصل أن الرفق مقدم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه). رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.
والمرجع في هذا هو اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أحياناً يحسن بالداعية أن يغلظ في الخطاب ليبين للمدعو شناعة ما أقدم عليه ، كما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر في قصة صحيفة أهل الكتاب ، وكما أنكر على أسامة بن زيد في شفاعته في حد من حدود الله ، وكما أنكر عليه أيضاً قتله من قال لا إله إلا الله في المعركة حتى تمنى أسامة أنه لم يسلم إلا ذلك اليوم .
وعامة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الغلظة في الإنكار تجده لبيان مراعاة حد من حدود الله ، وحرمة من حرماته ليزجر المدعو عن ذلك ويبين له عظم شان تلك القضية.
وغالب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هو استعمال الرفق واللين ولذلك فهو الأصل إلا حين تقتضي المصلحة الشرعية الغلظة والشدة، وهذا كما يجده الإنسان في تعامله مع أولاده ومن تحت يده من الصبيان ونحوهم فيجد أن بعض الأمور يناسب فيها الرفق واللين ، وبعض الأمور تقتضي الشدة والغلظة وعدم التهاون والتلطف معهم فيها ليميز أؤلئك الصبية أن بعض الأمور من الخطر عليهم اقترابها ، وليتربوا على مراعاة الحدود والحرمات.
لكن مما ينبغي التنبه له أن هذا الإغلاظ متضمن لمعنى الرحمة لأن سببه والداعي له نصحُ المنكر عليه وزجرُه عما يضرُّه في دينه، ولذلك لا يجوز أن يفضيَ به الإغلاظُ إلى السب والشتم وقولِ ما لا يجوز قوله، ولا يجوز له أن يكون قصده الإضرار بالمنكر عليه.
إلا في الإغلاظ للكفار والمنافقين كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
وهؤلاء إنما شرع الإغلاظ في حقهم لبغيهم طغيانهم ومشاقتهم لله ولرسوله، وإلا لو أنهم استجابوا لله ورسول لما جاز الإغلاظ عليهم كما قال الله تعالى في المنافقين: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.
وما أحسن ما قاله بعض أهل العلم:



ولو أن فرعون لما طغـى.......وقال على الله إفكاً وزورا
أناب إلـى الله مستغفـراً.......لما وجد الله إلا غفـورا


هذا خلاصة ما يتعلق بأحوال جواز الإغلاظ وهو مبني في أصله على الرحمة كما تقدم، وله تفصيل تدرسونه فيما بعد في فقه الدعوة إن شاء الله تعالى.

أنواع الدعوة:
والدعوة لها أنواع منها: دعوة الكافر إلى الإسلام، ودعوة المسلم إلى مزيد من الهداية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم الشرعي، والنصيحة لكل مسلم كل ذلك من أنواع الدعوة إلى الله تعالى.

وسائل الدعوة:
وينبغي للداعية أن يعتني بما ييسره الله له من وسائل الدعوة وهي كثيرة متنوعة ولله الحمد، وأوَّل ذلك أن يتمثل الداعية ما يدعو إليه فيكونَ إماماً يؤتم به ويقتدى به في الخير، ومن أكثر ما يؤثر في المتعلمين قيام المعلمين بما يقتضيه العلم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس عملاً وخير الناس دعوة كما كان أحسنهم علماً.
ومن وسائل الدعوة: إلقاء الخطب والدروس والمواعظ وكتابة المقالات والرسائل وتأليف الكتب النافعة واستخدام تقنيات العصر في الدعوة إلى الله كالإذاعات والفضائيات ومواقع الانترنت وغيرها.
وفي هذا المجال من أبواب الخير العظيم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، فليحرص المؤمن أن يأخذ منه بنصيب وافر.
ووسائل الدعوة كثيرة ومتيسرة ولله الحمد؛ فمن فتح له في وسيلة من الوسائل فليعتنِ بها لعلها تكون له سبباً موصلاً إلى رضوان الله تعالى وجنات النعيم.
وكم من عمل اجتهد المرء فيه فأتقنه ورعى أمانته وقام به حق القيام فكان سبباً في فوزه برضوان الله عز وجل ودخول جنته.
وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الدلائل بالإخبار عن بعض من كتب الله له دخول الجنة بسبب عَمَلٍ عَمِلَه ما يدلك على أهمية العناية بهذا الأمر.
وإنَّ أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ.

حكم الدعوة:
*وأما حكم الدعوة إلى الله تعالى فهو فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
هذا الحكم من حيث الأصل، وقد تتعين في أحوال:
- فمن رأى منكراً وجب عليه تغييره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه.
- ومن سئل عن علم وجب عليه بيانه وحرم عليه كتمانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)) رواه أبو داوود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- ومن استنصحه أخوه المسلم وجبت عليه نصيحته.
- وكذلك إذا دعت الحاجة إلى البيان لم يجز تأخيره.
فهذه مواضع تجب فيها الدعوة.

وما هو القدر الذي إذا أداه العبد يكون داعياً إلى الله ؟
- الجواب: إذا قام بالقدر الواجب من الدعوة فهو من الدعاة إلى الله؛ وكلما ازداد تقرباً إلى الله تعالى بالدعوة إليه زاد نصيبه من فضل الله والزلفى لديه.
- ومن وقع في شيء من التقصير فيما وجب عليه من الدعوة فتاب وأناب وأتبع السيئة الحسنة فهو من الدعاة إلى الله.
وينبغي للطالب أن يعتني بفقه مقاصد الدعوة ، وقد لخصها بعض أهل العلم في ثلاثة مقاصد:
المقصد الأول: إقامة حجة الله تعالى على خلقه كما قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
المقصد الثاني: براءة ذمة الداعية والإعذار إلى الله بامتثاله أمر الدعوة وقيامه بما وجب عليه كما دل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فقدموا المقصد الأول وهو الإعذار إلى الله تعالى، وبراءة ذمتهم.
المقصد الثالث: رجاء أن ينتفع المدعو بالدعوة فيستجيبَ لما ينجيه من العذاب ويوفق بسببه لنيل الثواب كما دل عليه قوله تعالى في الآية السابقة: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولعل حرف ترجي، والتقوى تكون بامتثال الأمر واجتناب ما نهي عنه.
وفقه مقاصدة الدعوة يفيد في الحكم على وسائل الدعوة المعاصرة فما كان منها يحقق هذه المقاصد فهو من الوسائل المشروعة.
وكل وسيلة تتضمن محذوراً في نفسها أو يترتب عليها مفسدة أعظم فإنها لا تحقق مقاصد الدعوة.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

25 Apr 2011

شرح المسألة الرابعة وهي الصبر

معنى الصبر
معنى الصبر معلوم مستقر في النفوس ، وقد تنوعت عبارات العلماء في التعبير عنه، ومن أجود هذه العبارات فيما أحسب .
- قال أبو عبيد: أصل الصَّبر الحَبْس وكل من حَبَسَ شيئا فقد صبره.
- قال أبو حيان: الصبر حبس النفس على المكروه.
- قال ابن تيمية: الصبر فيه جمع وإمساك ولهذا قيل: الصبر حبس النفس عن الجزع.
- قال ابن القيم: الصبر هو حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره.
- قال ابن حجر: أحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن المكروه وعقد اللسان عن الشكوى والمكابدة في تحمله وانتظار الفرج.

منزلة الصبر:
والصبر له فضائل عظيمة وقد ذكرالله الصبر في القرآن في مواضع كثيرة ، قال الإمام أحمد رحمه الله: (ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا).
وقد أحسن ابن القيم رحمه الله في كتابه عدة الصابرين في ذكر هذه المواضع وتصنيفها تصنيفاً حسناً فليراجعه من أراد الاستزادة.
قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} وقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}.
- وبين أن الصبر واليقين سبب لنيل الإمامة في الدين،فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والصبر ضياء) رواه مسلم.
- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)) متفق عليه.
- وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته وحطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها)) متفق عليه.
- وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال ((الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله)) رواه وكيع في الزهد موقوفاً بإسناد صحيح، وروي مرفوعاً بإسناد ضعيف.
وروى عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (خمسٌ احفظوهن، لو ركبتم الإبل لأنضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يخاف العبد إلا ذنبه، ولا يرجو إلا ربه، ولا يستحيي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، و لا إيمان لمن لا صبر له).

أنواع الصبر:
والصبر له أنواع ثلاثة:
1: الصبر على طاعة الله.
2: الصبر عن معصية الله.
3: الصبر على المصائب المقدرة
والمسلم مطالب بهذه الثلاث كلِّها،
فمثال الصبر على طاعة الله قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
وأما الصبر عن المعصية، فكل من أمسك عن معصية فقد صبر عنها، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين عشرة أسباب تعين على الصبر عن المعصية ألخصها لكم في كلمات ومن أراد الاستزادة فليراجعها وحبذا لو نقله أحدكم لينتفع به.
1: العلم بقبح الذنب وأنه شر في نفسه.
2: الحياء من الله.
3: قصد المحافظة على نعم الله، فإن المعاصي تزيل النعم.
4: خوف الله تعالى وخشية عقابه.
5: محبة الله تعالى فإن المحب الصادق لا يعصي من أحب.
6: المحافظة على شرف النفس وزكائها وطهارتها لأن المعصية تدنسها.
7: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها.
8: قصر الأمل واليقين بسرعة انقضاء الحياة.
9: مجانبة الفضول في الطعام والشراب والنوم والمخالطة وغيرها وترك ما لا يعني المرء.
10: قال : (هو الجامع لهذه الأسباب كلها ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم).
ومثال الصبر على المصائب المقدرة قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
وقد اجتمعت أنواع الصبر كلها في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فحكم الله تعالى إما كوني وإما شرعي.
فالحكم الكوني هو القضاء والقدر، والصبر عليه يراد به الصبر على المصائب المقدرة.
والحكم الشرعي هو الأمر والنهي: فامتثال الأمر هو فعل الطاعات، واجتناب النهي هو ترك المعاصي.
والصبر عن المعاصي أفضل من الصبر على المصائب، لأن المعاصي تكون باختيار العبد، والمصائب لا اختيار له فيها.

حكم الصبر:
ومعرفة أنواع الصبر تفيد في بيان حكمه ، فإن معرفة حكم الصبر ، وما يلحق العبد من الإثم بتركه وما لا يأثم فيه مبني على معرفة أنواع الصبر.
1: فالصبر على الطاعات الواجبة واجب، كالصبر على أداء الصلاة المفروضة {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، وأما الصبر على الطاعات المستحبة فهو مستحب، يثاب عليه فاعله، ولا يأثم تاركه.
2: والصبر عن فعل المعاصي واجب ، ويتأكد وجوبه في الصبر عن إتيان الكبائر، وأما الصبر عن المكروهات فهو مستحب، يثاب عليه فاعله، ولا يأثم تاركه.
3: وأما الصبر على المصائب المقدرة فهو واجب بحيث لا يجزع ولا يتسخط على الله، وأما الرضا بالمصيبة فهو مستحب على الصحيح، ولا يناله إلا أصحاب البصائر وأولوا الألباب لأنهم يدركون أن ما يقضيه الله تعالى للمؤمن خير له وأحسن عاقبة إذا اتقى الله واتبع رضوانه.
وحزن القلب ودمع العين والتأذي الطبيعي من المصيبة ليس من الجزع إذا كان القلب مؤمناً بقضاء الله مسلماً لأمره.
والقدر الواجب الذي ذكرته لكم من هذه الأمور متفق عليه بين أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا كان الصبر واجبا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات وترك المحظورات ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفس فيما نهى الله عنه).
وقال ابن القيم رحمه الله: (الصبر الواجب ثلاثة أنواع:
- أحدها: الصبر عن المحرمات.
- والثاني: الصبر على أداء الواجبات.
- والثالث: الصبر على المصائب التى لا صنع للعبد فيها كالأمراض والفقر وغيرها.
وأما الصبر المندوب فهو الصبر عن المكروهات والصبر على المستحبات والصبر على مقابلة الجانى بمثل فعله).
هذا تلخيص هذه المسألة ، ولها تفاصيل تدرسونها في مراحل لاحقة إن شاء الله تعالى.

حاجة الداعية إلى الصبر:
- ومن سنن الله تعالى أنه يجعل للدعاة إليه أعداءً من المجرمين يبتلي بهم صدق أولياءه ويقينهم قال الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.
فتكفل الله لهم بالهداية والنصر، وهذا يفيدك ببيان ما يحتاجه من يبتلى بعداوة المجرمين فهو يحتاج إلى الهداية التي يرشد بها ويوفق بها لسلوك سبيل النجاة ، ويحتاج إلى من ينصره على من ناصبه العداء واجتهد في الإضرار به، فتكفل الله له بهذين الأمرين العظيمين، ولم يوكل ذلك إلى أحد من خلقه بل تولاه بنفسه جل وعلا فقال: {وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} فإذا أيقن الداعي إلى الله بهذه الحقيقة الإيمانية لم يخش إلا الله، وكان وثوقه بهداية الله ونصره وتصديقه بوعده سبباً في طمأنينة قلبه ورباطة جأشه وثباته على الحق والهدى.
وتأمل تقديم الله تعالى للهداية على النصر فهو ترتيب أولوية فإن من عميت عليه سبيل الهداية كان احتياجه إلى الهداية أولى من احتياجه للنصرة المترتبة عليها.
فيجب على الداعية أن يصبر على ما يدعو إليه من الحق وأن يصبر على ما يصيبه منه المشقة والأذى، وقد وعد الله عباده المؤمنين بالنصر، ووعده حق لا يتخلف قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

25 Apr 2011

تفسير سورة العصر


ثم ذكر المؤلف الدليل على هذه المسائل الأربع وهو قول الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
وهذه السورة تدل على هذه المسائل الأربع ، فالإيمان لا يكون إلا بعلم ، إذ لا يتصور أن يؤمن الإنسان بشيء لا يعرفه.
وقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} نص على مسألة العمل بالعلم، والعمل لا يكون صالحاً إلا إذا كان خالصاً لله تعالى، وصواباً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والتواصي بالحق هو الدعوة إلى الله تعالى، وهي المسألة الثالثة.
والتواصي بالصبر نص في المسألة الرابعة.
فتضمنت هذه السورة الدلالة على وجوب هذه المسائل الأربع، لأن كون هذه المسائل سبباً للنجاة من الخسارة فيه دلالة على وجوبها، لأن من لم يأت بها فهو خاسر.
وقد سبق الحديث عن هذه المسائل بشيء من التفصيل المقتضب.
قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} الواو للقسم، والعصر فيه أقوال أشهرها قولان:
الأول: أنه الدهر ، وهذا القول ذكره البخاري في صحيحه عن الفراء، وهو قول أكثر المفسرين ورجحه ابن القيم.
والقول الثاني: أنه وقت العصر من اليوم، وهو مروي عن ابن عباس وقال به الحسن البصري وقتادة.
واختار ابن جرير أن الآية تشمل القولين لأن لفظ العصر يطلق على المعنيين إطلاقاً صحيحاً ولا دلالة على التخصيص.
والقول الأول له مناسبة وهو أن الدهر فيه الأعاجيب والعبر ، والقول الثاني له مناسبة أيضاً وهي أن العصر هو علامة بينة على انحسار النهار وقرب انقضائه فمناسبته لحال القسم ظاهرة.
والله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وليس للمخلوق أن يقسم بغير الله عز وجل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليصمت)) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر} هذا جواب القسم، والإنسان اسم جنس فيعم جميع الناس إلا من استثنى الله منهم في هذه السورة، والاستثناء دليل على إرادة الجنس، فالألف واللام لاستغراق الجنس أي إن كل إنسان لفي خسر إلا من استثناهم الله.
{لَفِي خُسْر} اللام موطئة لجواب القسم ، والتنكير هنا للتهويل والتفخيم، أي في خسارة عظيمة، وتأملوا هذا التعبير {لَفِي خُسْر} ، كأنه منغمس في الخسران، محيط به من جميع جوانبه.
والخسر هو الخسران ويعني: الهلاك والنقصان.
وأعظم الخسران خسران الإنسان نفسه وأهله يوم القيامة كما قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
فتبين أن من لم يأت بالإيمان فهو خاسر، وأن من لم يؤمن بالله فهو ظالم لنفسه، وقد قال تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخلُ أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة)).
فأيُّ خسران أعظمَ من خسران الكافر مقعده من الجنة في النعيم المقيم الخالد، فهو في العذاب المقيم، وأهل الجنة في الحبور والسرور مع أهليهم في النعيم المقيم.
{أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
إذا تبين ذلك فإن الإنسان لا ينجو من هذا الخسران إلا بهذه الأمور الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
وهذه الأمور الأربعة مترتبة بعضها على بعض فالإيمان أساس العمل الصالح ، فلا يصلح العمل إلا بالإيمان، والتواصي بالحق هو من الأعمال الصالحة، وخُص بالذكر لأهميته، والتواصي بالصبر هو أيضاً من هو من التواصي بالحق؛ لأن الصبر المأمور به إما واجب وإما مستحب، والتواصي تواص بفعل الواجب أو فعل المستحب
فصارت مرتبة الإيمان هي الأصل وينبني عليها العمل الصالح وينبي عليهما التواصي بالحق وينبي على ذلك كله التواصي بالصبر.
ولذلك جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما تقدم أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
فمن قام بهذه الأمور فقد سلم من الخسران وفاز فوزاً عظيماً.
ومن لم يقم بها فقد خسر خسراناً عظيماً.
ومن قصر في شيء من هذه الواجبات بما لا يخرجه من الإسلام ، بحيث يبقي معه أصل الإيمان وأصل العمل الصالح، مع ارتكابه من المعاصي والمحرمات ما يضعف الإيمان ويقدح في قيامه بالأعمال الصالحة فإنه يناله من الخسارة بقدر ما فرط فيه إلا أن يعفو الله عنه.
فصار الناس في تحقيق هذه الأمور الأربعة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هم الذين لا يأتون بها كلها، أو لا يأتون بأصلها وهو الإيمان، لأن ما بني على غير إيمان فهو غير مقبول، وهؤلاء هم الخاسرون الخسارة العظيمة ، وهم الكفار الذين لم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات، ويلتحق بهم كلُّ من أحبط عمله وخرج من الإيمان بارتكابه ناقضاً من نواقض الإسلام والعياذ بالله، كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وتوجيه الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن أمر الشرك لا يعفى عنه أبداً مهما بلغ صلاح العبد وكثرة عمله، إذا وقع في الشرك الأكبر حبط عمله وكان من الخاسرين، والعياذ بالله، فهذا الخطاب يقتلع جذور العجب والاغترار من القلب.
فإذا كان أحبُّ الناس إلى الله وأقربهم منه منزلة لا يعفى عنه في أمر الشرك بالله فغيره أولى ، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من الشرك، ولكنَّ هذا الأسلوب يفيد التأكيد الشديد على أنه لا يعفى عمن صدر منه الشرك مهما كان قدره ومنزلته وسابقة عمله، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) ، وحاشاها رضي الله عنها من السرقة.
والمقصود أن من لم يؤمن بالله فهو من الخاسرين.
وكذلك الذي تخف موازينهم من الأعمال الصالحة وعلى رأسها التوحيد فإنهم من الخاسرين كما قال الله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}.
أما من كان معه حسنة التوحيد فإن موازينه لا تخف كما تخف موازين الكفار.
والقسم الثاني: الذين يأتون بهذه الأمور الأربعة كما أوجب الله فهؤلاء هم المفلحون الناجون من الخسارة الفائزون بالثواب العظيم، ويزيد الله من فضله من يشاء.
فإن المؤمنين يتفاضلون تفاضلاً عظيماً في الإتيان بهذه المسائل.
والقسم الثالث: من كان معه أصل الإيمان وأصل العمل الصالح لكنه يرتكب من المحرمات ويترك من الواجبات ما يستحق به العذاب، فهذا القسم يناله من الخسارة بقدر ما فرط فيه إلا أن يعفو الله عنه.

فهذا بيان القسم الأول من أقسام الناس في الإتيان بهذه الأمور الأربعة.
قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} التواصي هو أن يوصي بعضهم بعضاً، وهذا كما يدل على وجوب الدعوة بإيصاء الآخرين بالحق، يدل على وجوب قبول الوصية بالحق إذا وجهت إليه.
لأن التواصي تفاعل بين اثنين، هذا يوصي أخاه وعلى أخيه قبول الوصية، وعلى أخيه أيضاً إذا أوصاه أخاه أن يقبل وصيته بالحق.
والحق هو امتثال ما أمر الله به ، وترك ما نهى الله عنه ، وتصديق خبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن قام بذلك فهو قائم بالحق.
والتواصي بالصبر يشمل التواصي بالصبر على فعل المأمور، والتواصي بالصبر على ترك المحظور، والتواصي بالصبر على المصائب المقدرة.
فيصبر ويُصبِّر إخوانه المسلمين.
فهذه السورة تضمنت على وجازتها الدلالة على الدين كله لأن مبنى الدين على الأمر والنهي والخبر والقدر
ففعل الأوامر وترك النواهي وتصديق الأخبار والإيمان بالقضاء والقدر هو الحق الذي يجب التواصي به والصبر على أدائه.
وإذا تأملت هذه السورة تأملاً حسناً علمت ما يحبه الله من عباده المؤمنين ؛ فهو يحب منهم الإيمان والقيام بالأعمال الصالحة وأن يتآلفوا ويتوادوا ويتواسوا ويحب بعضهم لبعض الخير ، فيتواصون بالحق وفعل ما يحبه الله ليكون بعضهم سبباً في ثواب بعض، ويتواصون بترك ما حرم الله فيكون بعضهم سبباً في نجاة بعض، ويتواصون على الصبر فيكونون متواسين متآلفين متحابين
ومن عرف ذلك حق المعرفة عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)). رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإذا رأيت من نفسك أنك تسر إذا رأيت من يطيعُ الله عز وجل وتبتهج لذلك ، وتحزن إذا رأيت من يعصيه وتتمنى ألا يقع في المعصية ؛ فإن ذلك دليل على صحة إيمانك وسلامة قلبك.
وإن من أقبح ما يكون من الحسد أن يحسد المرء أخاه على قيامه بطاعة الله ويتمنى منه أن يقع في المعاصي ويحرمَ فضل الله عز وجل؛ فإن هذا من إخوان الشياطين والعياذ بالله ، بل يخشى عليه أن يبتلى بما تمناه لأخيه المسلم.
إذا قامت الأمة بهذه الأمور الأربعة (الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر) كانت كما يحب الله عز وجل أن تكون، وكان الله لهم كما وعدهم والله لا يخلف الميعاد.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

25 Apr 2011

شرح قول الشافعي رحمه الله: (هَذِهِ السُّورَةُ لَو مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هِيَ لَكَفَتْهُمْ)


قوله: (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ الله تَعَالى-: (هَذِهِ السُّورَةُ لَو مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هِيَ لَكَفَتْهُمْ).
لا أعرف مصدر هذه العبارة بهذا النص في كتب الشافعي لكنها مشهورة عنه بألفاظ مقاربة؛ فقد قال النووي في المجموع عن الشافعي أنه قال: (الناس في غفلة عن هذه السورة {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ }).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم . وهو كما قال).
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (قال الشافعي، رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم).
وقالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله في مفتاح دار السعادة : (قولُه تعالى : {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} قالَ الشافعيُّ – رَضِيَ اللهُ عنه: لو فَكَّرِ الناسُ كلُّهم في هذه السورةِ لكَفَتْهُم.
وبيانُ ذلك أنَّ الْمَراتِبَ أربَعٌ، وباستكمالِها يَحْصُلُ للشخْصِ غايةُ كمالِه.
إحداها : معرفةُ الْحَقِّ،
الثانيةُ : عَمَلُه به،
الثالثةُ : تَعليمُه مَن لا يُحْسِنُه.
الرابعةُ : صَبْرُه على تَعَلُّمِه والعَمَلِ به وتعليمِه، فذَكَرَ – تعالى – الْمَراتِبَ الأرْبَعَ في هذه السورةِ).
وهذه السورة بينت للمسلم منهاج النجاة من الخسران، فمن أخذ بأسباب النجاة نجا، ومن تركها هلك وخسر، فهي حجة بينة كافية.
ولعظيم ما دلت عليه هذه السورة كان من فقه الصحابة رضي الله عنهم كثرةُ قرائتها في المجالس والتذكيرِ بها ففي معجم الطبراني وصحيح ابن حبان وشعب الإيمان للبيهقي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت البِناني عن أبي مدينة الدارمي رضي الله عنه وكانت له صحبة قال: (كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ...} ثم يسلم أحدهما على الآخر) . وقد صححه الألباني رحمه الله.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

25 Apr 2011

ترجمة الإمام الشافعي رحمه الله


الشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع وإليه نسبة الشافعي وهو من بني المطلب بن عبد مناف فهو قرشي مطلبي.
قال تلميذه الربيع بن سليمان المرادي: (ولد الشافعي يوم مات أبو حنيفة رحمهما الله تعالى).
وكان ذلك سنة 150 هـ.
وقد طلب العلم وهو صبي، حدث عنه تلميذه المزني أنه قال: (حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت " الموطأ " وأنا ابن عشر).
وكان يقول: جعلت لذتي في العلم.
وقال الحميدي: سمعت الشافعي يقول: كنت يتيما في حَجر أمي، ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب، وأخففُ عنه.
وقال: كنت أكتب في الأكتاف والعظام.
وحبب إليه طلب العلم والرمي حتى مهر فيهما.
وأجازه شيخه مسلم بن خالد الزنجي بالإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة.
والكلام في سيرته وماتضمنته من الدروس والأعاجيب والعبر يطول، وهو ذو شجون؛ فقد كان آية في الصبر على طلب العلم والتفقه في الدين، ولقد ابتلي بقلة الرزق فصبر ، ومن شعره:

لو كان بالحيل الغنى لوجدتني.......بنجوم أقطار السماء تعلقي

لكن مـن رزق الحجـى حـرم الغنـى.......ضــدان مفتـرقـان أي تـفــرق
وأحـق خلـق بالله بالـهـم امــرؤ ذو....... همـة يبـلـى بــرزق ضـيـق
ولربمـا عرضـت لنفسـي فـكـرة........فـأود منهـا أنـنـي لــم أخـلـق
لكـن مـن رزق اليسـار ولـم.......
ينـل أجراً ولا حمداً لغير موفـق


وله أشعار حسنة، وأقوال جليلة متينة ، ذكر النووي في مقدمة المجموع والذهبي في سير أعلام النبلاء طائفة حسنة من أقواله ينبغي لطالب العلم أن يتأملها، فإنها صادرة عن حكيم من حكماء الأمة، ولو جمع أحد أقواله ورقمها ورتبها وعزاها إلى مصادرها ونشرها لرجوت له في ذلك خيراً كثيراً.
من أقواله النيرة ما قاله في مقدمة كتابه الرسالة: (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدلالة على سبيل الهدى فيها).
وقال: (ضياع العالم أن يكون بلا إخوان، وضياع الجاهل قلة عقله، وأضيع منهما من واخى من لا عقل له).
وقال: (إذا خفت على عملك العُجب، فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب؛ فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله).
إلى غير ذلك من حكمه العجيبة.
وكان وافر العقل حاد الذكاء سريع الحفظ جليل القدر صاحب فراسة وكياسة ، وكان جميل الخلقة حتى قال المزني: لم أر أحسن وجهاً من الشافعي.
توفي رحمه الله سنة 204هـ.
وقد عده الإمام أحمد المجدد الثاني.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

25 Apr 2011

شرح قول البخاري رحمه الله: (بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ، والدَّليلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾، فَبَدَأَ بِالعِلْمِ قَبْلَ القَولِ وَالعَمَلِ).


ترجمة الإمام البخاري رحمه الله

البخاري: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن بردزبة وهي كلمة بخارية تعني الزَّرَّاع كما ذكر ذلك الذهبي في السير.
ولد سنة 194هـ، وكان والده ورعاً حريصاً على الكسب الطيب، ومات ومحمد صغير فنشأ يتيماً
قال محمد بن أبي حاتَم: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك ؟
قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب.
فقلت: كم كان سنك ؟
فقال: عشر سنين، أو أقل.
ثم خرجت من الكُتَّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره؛ فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم.
فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل.
فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام ؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، وقال: صدقت.
فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه ؟ قال ابن إحدى عشرة سنة.
قال: فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء – يعني أصحاب الرأي-
قال: ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها ! وتخلفت في طلب الحديث).
قال البخاري: (كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب)
يقصد صحيحه الذي هو أصح الكتب المصنفة.
قال ابن أبي حاتم سألته: هل من دواء يشربه الرجل، فينتفع به للحفظ ؟
فقال: لا أعلم، ثم أقبل علي، وقال: (لا أعلم شيئا أنفعَ للحفظ من نهمة الرجل، ومداومة النظر).
وكان صاحب ورع عظيم روي عنه أنه قال: (ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها).
وكان صاحب صلاة وتلاوة وتدبر إذا أقبل على التلاوة والصلاة فكأنه ذاهل عن غيرها .
قال بكر بن منير : كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة.
فلما قضى الصلاة، قال: انظروا أيش آذاني.
فلما كشفوا قميصه وجدوه قد أثر فيه جداً حتى ورم بعض جسده.
فقيل له: لِمَ لم تخرج من صلاتك أول ما أبرك، قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها.
ولقد أوذي رحمه الله في آخر حياته وطرد من بلده بسبب كيد حساده ، وجرت له محن ، وصبر على بلاء كبير.
قال عبد القدوس السمرقندي: جاء محمد إلى أقربائه بخرتنك، فسمعته يدعو ليلة إذ فرغ من ورده:
(اللهم إنه قد ضاقت علي الارض بما رحبت، فاقبضني إليك). فما تم الشهرُ حتى مات.
والكلام في سيرته وما فيها من الفوائد العلمية والتربوية يستدعي محاضرة بل محاضرات وقد كان رحمه الله حريصاً على اتباع السنة
قال النجم بن الفضيل: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، كأنه يمشي، ومحمد بن إسماعيل يمشي خلفه، فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه، وضع محمد بن إسماعيل قدمه في المكان الذي رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه).
وكان حريصاً على التثبت في العلم، قال رحمه :(إني ما أثبتُّ شيئا، بغير علم قط منذ عقلت).
مات رحمه لله سنة 256 هـ.


شرح قوله: (العلم قبل القول والعمل)

قوله: (العلم قبل القول والعمل) هذا باب في كتاب العلم من صحيحه، وهذا الكلام نقله الشيخ بالمعنى وزاده توضيحاً ولعله كتبه من حفظه.
ونص عبارة البخاري رحمه الله: (باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}؛ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ).
فاستدل له بقول الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) فلما بدأ بالعلم قبل القول والعمل كان ذلك دليلاً على تقديم العلم ، والاستغفار قول، وهو أيضاً عمل لأنه عمل صالح.
وتقديم العلم على العمل يدل عليه العقل أيضاً فإن العمل بلا علم عمل على غير هدى، وما كان على غير هدى فإنه لا يقبل، فكان تقديم العلم على العمل واجباً.
وتقرير هذا الأمر مهم في تفهيم الناس العقيدة الصحيحة، فإن بعض من يقع في الشرك في العبادة يعمل أعمالاً من الصلوات الصدقات والحج وغيرها فيرى أنه قد أدى ما عليه، ويستدل بقيامه بهذه الأعمال على أنه على الحق.
فأراد الشيخ أن يبين أن العلم بالهدى مقدم ، وأن الأعمال إذا لم تكن مبنية على الهدى فإنها باطلة مهما بلغت كثرتها وظن صاحبها أنها تنفعه.
فإن من كان يقوم بهذه الأعمال ويشرك في عبادة الله فيذبح لغير الله ويدعو غير الله ويقدم النذور لغير الله فهو مشرك كافر بالله عز وجل خارج من دين الإسلام وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم.
فإنه لا ينفع مع الشرك عمل لقول الله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
فلهذا أورد الشيخ رحمه الله قول البخاري .

هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

25 Apr 2011

(خلاصة الدرس الثالث)


شرح المسألة الثالثة: وهي الدعوة إليه
· مرجع الضمير في قوله: (الدعوة إليه) إلى العلم الذي عمل به.
فضائل الدعوة إلى الله تعالى
· هي عمل الرسل والأنبياء الذي شرّفهم الله به، والداعي إلى الله تعالى بعلم وارث للأنبياء متبع سبيلهم قال الله تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني [يوسف: 18]، وقال تعالى: ﴿وادع إلى ربك [الحج: 67]، وقال تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل: 125]، وقال تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير [آل عمران: 14]، وقال: ﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين [فصلت: 33].
· عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ يوم خيبر: (( انْفُذْ على رِسْلِكَ، حتى تنزلَ بساحتِهِم، ثُمَّ ادْعُهم إِلى الإِسلامِ، وَأخبِرهم بما يجبُ عليهم مِن حق الله عز وجل فيهم، فواللهِ لأن يهديَ الله بكَ رجلا واحدا خير لكَ من حُمْر النَّعَم)). متفق عليه.
· عن أَبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ )) رواه مسلم.
· عن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَه لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أجُورِهمْ شَيئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيئاً)) رواه مسلم.
· عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يقول: (( نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئاً، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ )). رواه الترمذي
- قال أبو سليمان الخطابي: (قوله: (( نضر الله)) معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة).
· تنبيه: إنما ينتفع بالدعوة إلى الله تعالى من ابتغى بدعوته وجه الله، وأما المرائي والذي لا يريد إلا الحياة الدنيا فسعيه باطل ﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود: 15، 16].
شروط الدعوة
· أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه، وعلى بصيرة بصحة طريقة الدعوة، وعلى بصيرة بحال المدعو فيدعوه بما يناسب حاله، قال علي بن أبي طالب: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) رواه البخاري؛ فلذلك تجب مراعاة المصلحة الشرعية في الدعوة إلى الله تعالى.

أنواع الدعوة
· من أنواع الدعوة: دعوة الكفار إلى الإسلام، ودعوة المسلم إلى مزيد من الهداية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم الشرعي، والنصيحة لكل مسلم كل ذلك من أنواع الدعوة إلى الله تعالى.

وسائل الدعوة
· ينبغي للداعية أن يعتني بما ييسره الله له من وسائل الدعوة وهي كثيرة متنوعة ولله الحمد، وأوَّل ذلك أن يتمثل الداعية ما يدعو إليه فيكونَ إماماً يؤتم به ويقتدى به في الخير، ومن أكثر ما يؤثر في المتعلمين قيام المعلمين بما يقتضيه العلم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس عملاً وخير الناس دعوة كما كان أحسنهم علماً.
· من وسائل الدعوة: إلقاء الخطب والدروس والمواعظ وكتابة المقالات والرسائل وتأليف الكتب النافعة واستخدام تقنيات العصر في الدعوة إلى الله كالإذاعات والفضائيات ومواقع الانترنت وغيرها.
· من فُتح له في وسيلة من الوسائل فليعتنِ بها لعلها تكون سبباً موصلاً له إلى رضوان الله تعالى وجنات النعيم، وأحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قلّ.

حكم الدعوة
· الدعوة إلى الله تعالى فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين لقوله تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير [آل عمران: 14]، وقوله: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [التوبة: 122].
· هذا الحكم من حيث الأصل، وقد تتعين في أحوال:
- فمن رأى منكراً وجب عليه تغييره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه.
- ومن سئل عن علم وجب عليه بيانه وحرم كتمانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)) رواه أبو داوود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- ومن استنصحه أخوه المسلم وجبت عليه نصيحته.
- وكذلك إذا دعت الحاجة إلى البيان لم يجز تأخيره.

آداب الدعوة
· من آداب الداعية في نفسه: أن يكون ممتثلاً ما يدعو إليه، ملتزماً تقوى الله تعالى ظاهراً وباطناً، متحلياً بمكارم الأخلاق مجتنباً مساوءها، فإن وقع في شيء من المعاصي والتقصير بادر إلى التوبة والاستغفار وإتباع السيئة الحسنة.
· من آداب الداعية في دعوته: أن يبدأ بالأهم، وأن يحدث الناس بما يناسب أفهامهم، ويستعمل الحكمة في جميع أموره فيلين في موضع اللين، ويغلظ حين يحسن أن يغلظ، وإذا وعظ أحسن الموعظة واقتصد فيها فلا يكثر فيملهم ولا يجفوا فيطول عليهم الأمد فتقسو قلوبهم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا الموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا) متفق عليه.
· الداعية عرضة للخطأ والتقصير وغير معصوم من الوقوع في الذنوب ومخالفة السنة، ولذلك يوصى بالاستغفار والتوبة ومحاسبة النفس وقبول النصيحة وأن لا يمنعه وقوعه في الذنب عن مواصلة الدعوة.
- قيل للحسن البصري: إن فلاناً لا يَعِظُ ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: (وأيّنا يفعل ما يقول، ودَّ الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر).
- وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى عن منكر).
- قال مالك: وصدق! ومن ذا الذي ليس فيه شيء.
- قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44]: (فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسّكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها. والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه).ا.هـ.

مقاصد الدعوة:
· المقصد الأول: إقامة حجة الله تعالى على خلقه كما قال الله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165].
· المقصد الثاني: براءة ذمة الداعية والإعذار إلى الله بامتثاله أمر الدعوة وقيامه بما وجب عليه كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164]؛ فقدموا المقصد الأول وهو الإعذار إلى الله تعالى وبراءة ذمتهم.
· المقصد الثالث: رجاء أن ينتفع المدعو بالدعوة فيستجيبَ لما ينجيه من العذاب ويوفق بسببه لنيل الثواب كما دل عليه قوله تعالى في الآية السابقة: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164].
· فقه مقاصد الدعوة يفيد في الحكم على وسائل الدعوة المعاصرة فما كان منها يحقق هذه المقاصد فهو من الوسائل المشروعة، وكل وسيلة تتضمن محذوراً في نفسها أو يترتب عليها مفسدة أعظم فإنها لا تحقق مقاصد الدعوة.

تفسير قول الله تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة...﴾ الآية
· للدعوة مراتب بعضها مقدم على بعض؛ فمن كانت تجدي معه الموعظة الحسنة فلا يحسن أن يجادَل، لأنه مستجيب منقاد للحق ليس لديه شبهة تمنعه من الانقياد له، وإنما يذكَّر لتنفعُه الذكرى.
· وأما من كانت لديه شبهة تصده عن الحق فهذا ينتقل معه إلى مرتبة المجادلة بالتي هي أحسن.
· وأما الظالمون المعتدون فيعاملون بما يزجرهم أو يخفف شرّهم مع القدرة ومراعاة الحكمة والمصلحة الشرعية المرجوة.
· الحكمة هي أصل مراتب الدعوة؛ فيستعمل في كل حال ما يناسبها كما تدل على ذلك أدلة الشريعة، ولا يقتضي أن تكون على التدرج مطلقاً، بل قد يقدّم الإنكار باليد على الإنكار باللسان إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك، ويُرفق مع من يصلح له الرفق، ويغلظ لمن لا يصلح له إلا الغلظة ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [التوبة: 73].
· الأصل هو استعمال الرفق في الدعوة، وعامة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الغلظة في الإنكار تجده لتعظيم حدّ من حدود الله، وحرمة من حرماته ليزجر المدعو عن ذلك ويبين له عظم شأن ما اقترف.
· الإغلاظ في الدعوة متضمّن معنى الرحمة لأن سببه والداعي له نصح المنكَر عليه وزجره عما يضرّه في دينه؛ فلذلك لا يجوز أن يفضي الإغلاظ إلى قول ما لا يجوز ولا أن يقصد الإضرار بمن لا يستحقّه.

شرح المسألة الرابعة وهي الصبر
معنى الصبر
· معنى الصبر معلوم مستقر في النفوس، وقد تنوعت عبارات العلماء في التعبير عنه.
...- قال أبو عبيد: أصل الصَّبر الحَبْس وكل من حَبَسَ شيئا فقد صبره.
- قال أبو حيان: الصبر حبس النفس على المكروه.
- قال ابن تيمية: الصبر فيه جمع وإمساك ولهذا قيل: الصبر حبس النفس عن الجزع.
- قال ابن القيم: الصبر هو حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره.
- قال ابن حجر: أحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى، والمكابدة في تحمّله، وانتظار الفرج.

منزلة الصبر
· عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والصبر ضياء) رواه مسلم.
· عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)) متفق عليه.
· عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته وحطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها)) متفق عليه.
· وعن ابن مسعود رضي الله عنه: (( الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله)) رواه وكيع في الزهد موقوفاً بإسناد صحيح، وروي مرفوعاً بإسناد ضعيف.
· وروى عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (خمسٌ احفظوهن، لو ركبتم الإبل لأنضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يخاف العبد إلا ذنبه، ولا يرجو إلا ربه، ولا يستحيي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، و لا إيمان لمن لا صبر له).
· بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، قال الله تعالى: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [السجدة: 24].

أنواع الصبر
· 1: الصبر على طاعة الله، ومثاله قول الله تعالى: ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [طه: 132]، وقوله: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [الكهف: 28].
· 2: الصبر عن معصية الله بالإمساك عنها، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في "طريق الهجرتين" عشرة أسباب تعين على الصبر عن المعصية، خلاصتها: (العلم بقبح الذنب وأنه شر في نفسه، والحياء من الله، وقصد المحافظة على نعم الله فإن المعاصي تزيل النعم، وخوف الله تعالى وخشية عقابه، ومحبة الله تعالى فإن المحب الصادق لا يعصي من أحب، والمحافظة على شرف النفس وزكائها وطهارتها لأن المعصية تدنسها، وقوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها، وقصر الأمل واليقين بسرعة انقضاء الحياة ومجانبة الفضول في الطعام والشراب والنوم والمخالطة وغيرها وترك ما لا يعني المرء، قال: والعاشر هو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر).
· 3: الصبر على المصائب المقدّرة، قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) [البقرة: 155-157].
· اجتمعت أنواع الصبر كلها في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] فحكم الله تعالى إما كوني وإما شرعي؛ فالحكم الكوني هو القضاء والقدر،والحكم الشرعي هو الأمر والنهي.
· الصبر عن المعاصي أفضل من الصبر على المصائب، لأن المعاصي تكون باختيار العبد، والمصائب لا اختيار له فيها.

حكم الصبر
· الصبرالواجب، وهو الصبر على أداء الواجبات، والصبر عن المحرمات.
· الصبر المستحب، وهو الصبر على فعل المستحبات، والصبر عن المكروهات.
· القدر الواجب من الصبر متفق عليه بين أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا كان الصبر واجبا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات وترك المحظورات ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفس فيما نهى الله عنه).
· قال ابن القيم رحمه الله: (الصبر الواجب ثلاثة أنواع:
- أحدها: الصبر عن المحرمات.
- والثاني: الصبر على أداء الواجبات.
- والثالث: الصبر على المصائب التى لا صنع للعبد فيها كالأمراض والفقر وغيرها.
وأما الصبر المندوب فهو الصبر عن المكروهات والصبر على المستحبات والصبر على مقابلة الجانى بمثل فعله)ا.هـ.
· الرضا بالمصيبة قدر زائد على الصبر؛ وقد اختلف في حكمه على قولين: واجب ومستحب.
· للرضا بعد القضاء سببان:
1: اليقين بأن الله مستحق للرضا في جميع الأحوال، وهذا رضا المحبة.
2: الرضا لعلم العبد بأن ما أصابه من قضاء الله هو خير له، وهذا رضا حسن الظن بالله والتصديق بوعده.
· من ثواب الرضا عن الله أن يرضي الله عبده، والله عليم بما يرضي عبده.

حاجة الداعية إلى الصبر
· من سنن الله تعالى أن يكون للدعاة إليه أعداء من المجرمين يبتلي بهم صدقهم ويقينهم قال الله تعالى: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً [الفرقان: 31].
· الداعية بحاجة إلى الهداية والنصر؛ فبالهداية يوفّق لسلوك سبيل الفلاح، وبالنصر يتغلّب على أعدائه.
· ﴿وكفى بربك هادياً ونصيراً [الفرقان: 31] فيه حقيقة إيمانية يطمئنّ بها قلب الداعية فلا يخشى إلا الله ولا يصيبه وهن ولا حزن ولا خوف لوثوقه بهداية الله ونصره ما دامت دعوته لله على بصيرة.
· يجب على الداعية أن يصبر على ما يدعوا إليه من الحق وأن يصبر على ما يصيبه منه المشقة والأذى.
· وعد الله عباده المؤمنين بالنصر ووعده حق لا يتخلف قال تعالى: ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر: 51]، وقال: ﴿وكان حقاً علينا نصر المؤمنين [الروم: 47].

تفسير سورة العصر
· العصر فيه قولان مشهوران:
- القول الأول: أنه الدهر،وقد ذكره البخاري في صحيحه عن الفراء وهو قول جمهور المفسرين.
- القول الثاني: أنه وقت العصر من اليوم، وهو مروي عن ابن عباس وقال به الحسن وقتادة.
- اختار ابن جرير أن الآية تشمل القولين لأن لفظ العصر يطلق على المعنيين إطلاقاً صحيحاً ولا دلالة على التخصيص، ولكل قول مناسبته الظاهرة.
· يقسم الله تعالى بما شاء من خلقه، والقسَم بالشيء دليل على تشريفه، وليس للمخلوق أن يقسم بغير الله تعالى.
· قوله تعالى: ﴿إن الإنسان لفي خسر [العصر: 2] هذا هو جواب القسم، ﴿الإنسان [العصر: 2] اسم جنس لجميع الإنس﴿لفي خسر [العصر: 2] كأنه منغمس فيه قد أحاط به الخسران من جميع جوانبه.
· أعظم الخسران أن يخسر الإنسان نفسه وأهله يوم القيامة ويخسر مقعده من الجنة، قال تعالى: ﴿قل الله أعبد مخلصاً له ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين [الزمر: 14، 15] وقال تعالى: ﴿ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين [المائدة: 5].
· في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا يدخلُ أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة)).
· لا ينجو الإنسان من هذا الخسران إلا بالأمور الأربعة المذكورة في السورة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
· هذه الأمور الأربعة مترتبة بعضها على بعض فالإيمان أساس العمل الصالح، فلا يصلح العمل إلا بالإيمان، والتواصي بالحق هو من الأعمال الصالحة، وخُص بالذكر لأهميته، والتواصي بالصبر هو أيضاً من هو من التواصي بالحق؛ لأن الصبر المأمور به إما واجب وإما مستحب، والتواصي تواص بفعل الواجب أو فعل المستحب
· فصارت مرتبة الإيمان هي الأصل وينبني عليها العمل الصالح وينبي عليهما التواصي بالحق وينبي على ذلك كله التواصي بالصبر.
· لذلك جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
· من قام بهذه الأمور الأربعة كما يجب فقد سلم من الخسران، ومن قصّر فيها بما لا يخرجه من الإسلام فقد عرّض نفسه لشيء من الخسران، ومن خرج من الإسلام أحاط به الخسران.
· الناس في تحقيق هذه الأمور الأربعة على ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: من لا يأتي بأصلها وهو الإيمان؛ وهم الكفار الخارجون عن دين الإسلام، وهؤلاء خسارتهم أعظم الخسارة، ويلتحق بهم من ارتدّ عن الدين بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66) [الزمر: 65، 66].
- القسم الثاني: من يأتي بهذه الأمور الأربعة كما أوجب الله؛ فهؤلاء هم المفلحون الناجون من الخسران، الفائزون بعظيم الثواب، وهم على درجات في تحقيقها بين محسن ومقتصد.
- القسم الثالث: من كان معه أصل الإيمان وأصل العمل الصالح لكنه يرتكب من المحرمات ويترك من الواجبات ما يستحق به العذاب، فهذا القسم يناله من الخسارة بقدر ما فرط فيه إلا أن يعفو الله عنه.
· قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر: 3] التواصي هو أن يوصي بعضهم بعضاً، وهذا كما يدل على وجوب الدعوة بإيصاء الآخرين بالحق، يدل على وجوب قبول الوصية بالحق إذا وجهت إليه.
· الحق هو امتثال ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وتصديق خبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن قام بذلك فهو قائم بالحق.
· التواصي بالصبر يشمل التواصي بالصبر على فعل المأمور، والتواصي بالصبر على ترك المحظور، والتواصي بالصبر على المصائب المقدرة؛ فيصبر ويُصبِّر إخوانه المسلمين.
· هذه السورة العظيمة تضمنت على وجازتها الدلالة على الدين كله لأن مبنى الدين على الأمر والنهي والخبر والقدَر؛ ففعل الأوامر وترك النواهي وتصديق الأخبار والإيمان بالقضاء والقدر هو الحق الذي يجب التواصي به والصبر على أدائه.
· إذا تأملت هذه السورة تأملاً حسناً علمت ما يحبه الله من عباده المؤمنين؛ فهو يحب منهم الإيمان والقيام بالأعمال الصالحة وأن يتآلفوا ويتوادوا ويتواسوا ويحب بعضهم لبعض الخير، فيتواصون بالحق وفعل ما يحبه الله ليكون بعضهم سبباً في ثواب بعض، ويتواصون بترك ما حرم الله فيكون بعضهم سبباً في نجاة بعض، ويتواصون على الصبر فيكونون متواسين متآلفين متحابين.
· من عرف ذلك حق المعرفة عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)). رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
· إذا رأيت من نفسك سرورها وابتهاجها إذا رأت من يطيعُ الله عز وجل، واستياءها إذا رأت من يعصيه وتمنيها له العافية من معصيته؛ فذلك من دلائل صحة إيمانك وسلامة قلبك.
· أقبح ما يكون من الحسد أن يحسد المرء أخاه على قيامه بطاعة الله وأن يتمنى منه أن يقع في المعاصي ويحرمَ فضل الله عز وجل؛ فإن هذا من إخوان الشياطين والعياذ بالله، بل يخشى عليه أن يبتلى بما تمناه لأخيه المسلم.
· إذا قامت الأمة بهذه الأمور الأربعة (الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر) كانت كما يحب الله تعالى أن تكون،وكان الله لهم كما وعدهم، والله لا يخلف الميعاد.
· دلت هذه السورة على المسائل الأربع؛ ﴿إلا الذين آمنوا [العصر: 3] الإيمان لا يكون إلا بعلم، ﴿وعملوا الصالحات [العصر: 3] نص في المسألة الثانية وهي العمل بالعلم، ﴿وتواصوا بالحق [العصر: 3] دلّ على المسألة الثالثة وهي الدعوة إليه، ﴿وتواصوا بالصبر [العصر: 3] نصّ في المسألة الرابعة.
· الإقسام على أن من لم يأت بهذه المسائل الأربع فهو خاسر دليل على وجوبها.

شرح قول الشافعي رحمه الله: (هَذِهِ السُّورَةُ لَو مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هِيَ لَكَفَتْهُمْ)
ترجمة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
· الشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع وإليه نسبة الشافعي وهو من بني المطلب بن عبد مناف فهو قرشي مُطَّلِبي.
· قال تلميذه الربيع بن سليمان المرادي: (ولد الشافعي يوم مات أبو حنيفة رحمهما الله تعالى)، وكان ذلك سنة 150هـ، وطلب العلم وهو صبي، روى عنه تلميذه المزني أنه قال:(حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت " الموطأ " وأنا ابن عشر)، وكان يقول: جعلت لذتي في العلم.
· كان وافر العقل، حادّ الذكاء، سريع الحفظ، جليل القدْر، صاحب فراسة وكياسة، وكان جميل الخِلقة؛ حتى قال المزني: لم أر أحسن وجهاً من الشافعي.
· توفي رحمه الله سنة 204هـ، وقد عدّه الإمام أحمد المجددَ الثاني.
· في سيرته عبر ودروس وأعاجيب؛ فقد كان آية في الصبر على طلب العلم والتفقه في الدين، ولقد ابتلي بقلة الرزق فصبر، وله أشعار حسنة، وحِكَم مأثورة وأقوال جليلة مشهورة، ذكر النووي في مقدمة المجموع والذهبي في سير أعلام النبلاء طائفة حسنة منها.
قوله: (هَذِهِ السُّورَةُ لَو مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هِيَ لَكَفَتْهُمْ).
· لا أعرف مصدر هذه العبارة بهذا النص في كتب الشافعي لكنها مشهورة عنه بألفاظ مقاربة؛ فقد قال النووي في المجموع عن الشافعي أنه قال: (الناس في غفلة عن هذه السورة ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) [العصر: 1، 2]).
· وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم. وهو كما قال).
· وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (قال الشافعي، رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم).
· وقالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله في مفتاح دار السعادة: (قالَ الشافعي رَضِيَ اللهُ عنه: لو فَكَّرِ الناسُ كلُّهم في هذه السورةِ لكَفَتْهُم).
· قال ابن القيم: (وبيانُ ذلك أنَّ الْمَراتِبَ أربَعٌ، وباستكمالِها يَحْصُلُ للشخْصِ غايةُ كمالِه: إحداها: معرفةُ الْحَقِّ، والثانيةُ: عَمَلُه به، والثالثةُ: تَعليمُه مَن لا يُحْسِنُه، والرابعةُ: صَبْرُه على تَعَلُّمِه والعَمَلِ به وتعليمِه، فذَكَرَ تعالى الْمَراتِبَ الأرْبَعَ في هذه السورةِ).
· وهذه السورة بينت للمسلم منهاج النجاة من الخسران، فمن أخذ بأسباب النجاة نجا، ومن تركها هلك وخسر، فهي حجة بينة كافية.
· لعظيم ما دلت عليه هذه السورة كان من فقه الصحابة رضي الله عنهم كثرةُ قرائتها في المجالس والتذكيرِ بها ففي معجم الطبراني وصحيح ابن حبان وشعب الإيمان للبيهقي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت البِناني عن أبي مدينة الدارمي رضي الله عنه وكانت له صحبة قال: (كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ.. [العصر: 1، 2] ثم يسلّم أحدهما على الآخر). وقد صححه الألباني رحمه الله.

شرح قول البخاري رحمه الله: (بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ، والدَّليلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾، فَبَدَأَ بِالعِلْمِ قَبْلَ القَولِ وَالعَمَلِ).
ترجمة الإمام البخاري رحمه الله
· البخاري: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن بَرْدِزْبَه وهي كلمة بخارية تعني الزَّرَّاع كما ذكر ذلك الذهبي في السير.
· ولد سنة 194هـ، وكان والده وَرِعاً حريصاً على الكسب الطيب، ومات ومحمد صغير فنشأ يتيماً، وقال عن نفسه: (ألهمتُ حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب). وقال: (فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، يعني أصحاب الرأي)
· قال البخاري: (كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب) يقصد صحيحه الذي هو أصح الكتب المصنفة.
· قال ابن أبي حاتم سألته: هل من دواء يشربه الرجل، فينتفع به للحفظ ؟ فقال: لا أعلم، ثم أقبل علي، وقال: (لا أعلم شيئا أنفعَ للحفظ من نهمة الرجل، ومداومة النظر).
· وكان صاحب ورع عظيم روي عنه أنه قال: (ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها).
· أوذي رحمه الله في آخر حياته وطرد من بلده بسبب كيد حسّاده، وجرت له محن، وصبر على بلاء كبير، قال عبد القدوس السمرقندي: جاء محمد إلى أقربائه بخرتنك، فسمعته يدعو ليلة إذ فرغ من ورده:(اللهم إنه قد ضاقت علي الارض بما رحبت، فاقبضني إليك). فما تم الشهرُ حتى مات، وكان ذلك سنة 256هـ.

قوله: (العلم قبل القول والعمل)
· هذا باب في كتاب العلم من صحيحه، وهذا الكلام نقله الشيخ بالمعنى وزاده توضيحاً ولعله كتبه من حفظه، ونص عبارة البخاري رحمه الله: (باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19]؛ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ).
· استدل بقول الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19]، فلما بدأ بالعلم قبل القول والعمل كان ذلك دليلاً على تقديم العلم، والاستغفار قول، وهو أيضاً عمل لأنه عمل صالح.
· تقديم العلم على العمل يدل عليه العقل أيضاً فإن العمل بلا علم عمل على غير هدى، وما كان على غير هدى فإنه لا يقبل، فكان تقديم العلم على العمل واجباً.
· تقرير هذا الأمر مهم في تفهيم الناس العقيدة الصحيحة، فإن بعض من يقع في الشرك في العبادة يعمل أعمالاً من الصلوات والصدقات والحج وغيرها فيرى أنه قد أدّى ما عليه، ويستدل بقيامه بهذه الأعمال على أنه على الحق؛ فأراد الشيخ أن يبين أن العلم بالهدى مقدّم، وأن الأعمال إذا لم تكن مبينة على الهدى فإنها باطلة مهما بلغت كثرتها وظن صاحبها أنها تنفعه.
· من يقوم بهذه الأعمال ويشرك في عبادة الله فيذبح لغير الله ويدعو غير الله ويقدم النذور لغير الله فهو مشرك كافر بالله تعالى خارج من دين الإسلام وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم.
· لا ينفع مع الشرك عمل لقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88]؛ فلهذا أورد الشيخ رحمه الله قول البخاري.

الفرق بين العالم الرباني وعالم السوء
- العالم الرباني يقول بما يدل عليه الدليل الصحيح ويقصد النصح للناس؛ فيبين الحق لهم كما دلّ عليه الدليل، ويعلمهم ما يحتاجون إليه من العلم والهدى.
- وعالم السوء يفتي بهواه، ويَلبس الحق بالباطل، ويدلِّس على الناس، ويسكت عن بيان الحق عند وجوب بيانه؛ فهو خطر وفتنة يجب الحذر منها.