24 Oct 2008
سورة الناس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)
مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ
النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}
تفسيرُ سورةِ الناسِ
وهذهِ السورةُ مشتملةٌ على الاستعاذةِ
بربِّ الناسِ ومالكهمْ وإلههمْ، مِنَ الشيطانِ الذي هوَ أصلُ الشرورِ
كلِّهَا ومادَّتُهَا، الذي من فتنتهِ وشرّهِ، أنَّهُ يوسوسُ في صدورِ
الناسِ، فيحسِّنُ [لهمُ] الشرَّ، ويريهمْ إياهُ في صورةٍ حسنةٍ، وينشِّطُ
إراداتهمْ لفعلهِ، ويقبِّحُ لهمُ الخيرَ ويثبِّطهمْ عنهُ، ويريهمْ إياهُ في
صورةٍ غيرِ صورتِهِ، وهوَ دائماً بهذهِ الحالِ يوسوسُ ويخنسُ أي: يتأخرُ
إذا ذكرَ العبدُ ربَّهُ واستعانَ بهِ على دفعهِ. وأنَّ الخلقَ كلهمْ داخلونَ تحتَ الربوبيةِ والملكِ، فكلُّ دابةٍ هوَ آخذٌ بناصيتهَا. وبألوهيتهِ
التي خلقهمْ لأجلها، فلا تتمُّ لهمْ إلاَّ بدفعِ شرِّ عدوهمُ الذي يريدُ
أنْ يقتطعهمْ عنهَا ويحولَ بينهمْ وبينهَا، ويريدُ أنْ يجعلهمْ منْ حزبهِ
ليكونوا منْ أصحابِ السعيرِ، والوسواسُ كمَا يكونُ منَ الجنِّ يكونُ منَ
الإنسِ، ولهذا قالَ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
(1-6){بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ
النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
(6)}
فينبغي لهُ أنْ [يستعينَ و] يستعيذَ ويعتصمَ بربوبيةِ اللهِ للناسِ كلّهمْ.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
ونسألهُ
تعالى أنْ يتمَّ نعمتهُ، وأنْ يعفوَ عنّا ذنوباً لنا حالتْ بيننا وبينَ
كثيرٍ من بركاتهِ، وخطايا وشهواتٍ ذهبتْ بقلوبنَا عنْ تدبرِ آياتهِ.
ونرجوهُ
ونأملُ منه أنْ لا يحرمنا خيرَ ما عندهُ بشرِّ ما عندنَا، فإنهُ لا ييأسُ
من روْحِ اللهِ إلاَّ القومُ الكافرونَ، ولا يقنطُ منْ رحمتهِ إلا القومُ
الضالونَ.وصلّى اللهُ وسلمَ على رسولهِ محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ، صلاةً وسلاماً دائمينِ متواصلينِ أبدَ الأوقاتِ، والحمدُ للهِ الذي بنعمتهِ تتمُّ الصالحاتُ.
سُورَةُ النَّاسِ
1- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} رَبُّ النَّاسِ هُوَ اللَّهُ خَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِمْ وَمُصْلِحُ أَحْوَالِهِمْ.
2- {مَلِكِ النَّاسِ}:لَهُ الْمُلْكُ الكَامِلُ وَالسلطانُ القاهِرُ.
3- {إِلَهِ النَّاسِ}؛
أَيْ: مَعْبُودِهِمْ؛ فَإِنَّ الْمَلِكَ قَدْ يَكُونُ إِلَهاً، وَقَدْ لا
يَكُونُ، فَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الإِلَهِ خَاصٌّ بِهِ، لا يُشَارِكُهُ
فِيهِ أَحَدٌ.
4- {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} الوَسْوَاسُ هُوَ الشَّيْطَانُ؛أَيْ: ذِي الوَسْوَسَةِ.
{الْخَنَّاسِ}:
كَثِيرِ الخَنْسِ، وَهُوَ التَّأَخُّرُ، إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ
الشَّيْطَانُ وَانْقَبَضَ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اللَّهُ انْبَسَطَ عَلَى
الْقَلْبِ.
5- {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}
وَسْوَسَتُهُ هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى طَاعَتِهِ بِكلامٍ خَفِيٍّ يَصِلُ
إِلَى الْقَلْبِ منْ غَيْرِ سَمَاعِ صَوْتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ
الَّذِي يُوَسْوِسُ بِأَنَّهُ ضَرْبَانِ: جِنِّيٌّ وَإِنْسِيٌّ، فَقَالَ:
6- {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}؛أَمَّا
شَيْطَانُ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي صُدورِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَأَمَّا شَيْطَانُ الإنسِ فَوَسْوَسَتُهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أَنَّهُ
يَرَى نَفْسَهُ كالناصحِ المُشْفِقِ، فَيُوقِعُ فِي الصَّدْرِ مِنْ كلامِهِ
الَّذِي أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ النَّصِيحَةِ مَا يُوقِعُ الشَّيْطَانُ
الجِنِّيُّ فِيهِ بِوَسْوَسَتِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ
يُوَسْوِسُ فِي صدورِ الْجِنِّ كَمَا يُوَسْوِسُ فِي صدورِ الإنسِ، عَن
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ عَلَى قَلْبِهِ
الْوَسْوَاسُ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ ".
نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِن كَيْدِهِ وَوَسْوَسَتِهِ.
المتن :
سورة الناس
4- 6 قولُه تعالى: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} أي: أستجيرُ به سبحانه من شرِّ الشيطان، الذي يُلقي في قلبِ العبد إذا غفلَ عن الذكرِ، يُلقي صوتَه الخفيِّ، الذي لا يُحَسُّ به، ويتأخَّر عن القلب فلا يوسوِسُ فيه إذا ذكرَ العبدُ ربَّه(1). الحاشية :
1- 3 قولُه تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ} أي: قلْ يا محمد: أستجيرُ بربِّ الناسِ، فخصَّهم بالذِّكرِ لأنهم المُسْتَعيذون، والربُّ: الذي
يسوسُهم ويرعاهُم ويدبِّرُ أمورَهم، وهو مَلِكُهُم الذي يتصرَّفُ فيهم
بالأمر والنهي، فهم تحتَ قُدرته، وهو إلههُم المستحِق للعبادة دون سواه.
وهذا الشيطانُ يوسوِسُ في محلِّ القلوب، وهي صدورُ الناس: جِنِّهم وإنسِهم، أو هذا الموسوسُ من الجنِّ والناس يوسوسُ في صدور الناس، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 112](2)، والله أعلم.
(1)قال ابن عباس من طريق سعيد بن جبير: (ما من مولود إلاَّ على قلبه الوَسواس، فإذا عقلَ، فذكر الله، خَنَسَ، وإذا غفلَ، وَسْوَسَ، قال: فذلك الوَسْواس الخنَّاس). وقد ورد هذا المعنى عن مجاهد من طريق عثمان بن الأسود وابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وابن زيد.
(2) في هذه الآية احتمالان:
الأول: أن يكون الموسوِسُ من الجِنَّةِ والناس، وهم يُوَسْوِسون في صدور الناس.
الثاني: أن يكون الموسْوِسُ من الشياطين، وهم يوسْوِسونَ في صدور الجِنَّة والناس، وهو اختيار الطبري، (وانظر في هذين الاحتمالين: تفسير ابن كثير).
ويكون فيه جوازُ إطلاقِ لفظ الناس على الجِنِّ، وقد ورد هذا الإطلاق عن ابن مسعود، قال: (كان ناسٌ من الإنس يعبدون ناساً من الجِنِّ …) رواه البخاري في الباب السابع من تفسير سورة الإسراء.
وقد حكى الطبري ذلك عن بعضِ العرب، وبهذا تزولُ الغرابةُ التي يدَّعيها بعضُهم في إطلاقِ لفظِ الناسِ على الجنِّ، والله أعلم.
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)
مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ
النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)}
هذه
السورة أمر الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يستعيذ به -جل
وعلا- بثلاثة من أسمائه، ومعنى ذلك: أن يلتجئ إلى الله -جل وعلا- ويعتصم
به؛ لأن الاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام. ثم إذا دخلت في قلب الإنسان جرت بعد ذلك منه مجرى الدم، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله -جل وعلا-:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يعني: أن هذا مرتبط بقوله -جل وعلا-: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}.
الشيخ:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}هذا
أمره أن يستعيذ به بوصف الربوبية، وخص الناس بالذكر هاهنا ـ وإن كان جل
وعلا ربَّ العالمين ـ لشرفهم من جهة؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم-
مخاطب بذلك، وهو داخل في الناس.
وقول الله -جل وعلا-: {مَلِكِ النَّاسِ} أي:
أن الله -جل وعلا- أمره أن يستعيذه أيضاً باسم من أسمائه، وهو أنه -جل
وعلا- ملك الناس، وهذا يدل على أنه يستعيذ بمن له الأمر والنهي؛ لأن الرب
هو المدبر الذي يخلق الأشياء، والملك من صفاته أنه يكون آمراً ناهياً، فالله -جل وعلا- يملك الأشياء، وهو الذي يأمر وينهى.
{إِلَهِ النَّاسِ}وهذا
اسمه الثالث -جل وعلا- أي معبودهم، فهم لا يلتجئون ولا يعتصمون إلا لمن
بيده تدبير السماوات والأرض، ولمن له الأمر والنهي، ولمن هو مستحق للعبادة
جل وعلا.
{مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}أي: يستعيذ بالله -جل وعلا- بأسمائه وصفاته من شر الوسواس الخناس، والوسواس: هو الموسوس.
وأصل الوسواس هو الصوت الخفي،ويطلق أيضاً على من لا صوت له كما في وسوسة الشيطان.
وأما وسوسة شياطين الإنس فإنها قد تكون بالصوت الخفي.
وقوله -جل وعلا-: {الْخَنَّاسِ} الخناس:هو الذي يظهر ويختفي، فالشيطان من صفته أنه يذهب ويختفي، ويوسوس على الإنسان، ولهذا ثبت عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- أن الشيطان إذا سمع النداء أو التثويب بالصلاة أدبر وله ضراط،
فإذا قضى الأذان رجع، فإذا ثُوِّب لإقامة الصلاة أدبر وله ضراط، ثم إذا قضى
التثويب رجع، حتى يلبس على الإنسان صلاته، فهو يخنس بمعنى أنه يظهر
ويختفي.
وكذلك
شياطين الإنس يظهرون ويختفون، إما بأقوالهم وإما بأفعالهم، وإما أنهم
يُظهرون الحُسن وهم يريدون ذلك؛ كما يصنع الشيطان الرجيم، كما ذكر الله -جل
وعلا- عنه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} أخبر الله -جل وعلا- في سورة الأعراف أنه قال للأبوين: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} فهو الشيطان سواء كان شيطان الإنس أو الجن، يخنس يذهب ويرجع بوساوسه على ابن آدم، ويذهب أيضاً ويعود بتسلطه.
قال -جل وعلا-: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} يعني: أن هذا الوسواس أو الموسوس يوسوس في صدور الناس، وعبر الله -جل وعلا- بالصدور دون القلوب؛ لأن الصدور هي مدخل إلى القلب وهي ساحة القلب؛ لأن الشيطان يلقيها في صدر الإنسان ثم بعد ذلك تتتابع إلى قلبه.
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يعني: أن
الموسوس من الجنة أو من الناس، وليس الموسوَس له، وإنما المراد به
الموسوِس؛ لأن الموسوِس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس، وهذا كما قال
الله -جل وعلا-: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}.
تفسير سورة الناس
تفسير قوله تعالى: ( قل أعوذ برب الناس )
تفسير قوله تعالى: ( ملك الناس)
تفسير قوله تعالى: ( إله الناس )
تفسير قوله تعالى: ( من شر الوسواس الخناس )
تفسير قوله تعالى: ( الذي يوسوس في صدور الناس )
تفسير قوله تعالى: ( من الجنة والناس )
وجهان في تفسير قوله تعالى: (الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس)
هل يصح إطلاق لفظ (الناس) على (الجِنِّ) ؟
الأسئلة
سورة الناس
س1: فسِّر السورة تفسيراً إجمالياً.
س2: ما موضوع السورة ؟
س3: بين معاني الكلمات التالية: الوسواس، الخنَّاس، الجنَّة
س4: اذكر ما يستفاد من هذه السورة العظيمة.
س5: وصف الله تعالى نفسه في هذه السورة بثلاث صفات عظيمة، اذكرها، وبين معانيها، وبين مناسبة ذكرها في هذه السورة العظيمة.
س6: (إذا لم تشغل نفسك بالطاعة شغلتك بالمعصية)، تحدث عن هذا الأصل، مبيناً ما يدل عليه من هذه السورة العظيمة.
س7: ما معنى: (مِن) في قوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}؟
س8: للمفسرين قولان في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} اذكرهما.
س9: تحدث باختصار عن العداوة بين الشيطان وبني آدم، وما يجب على المسلم تجاه هذه العداوة.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة الناس وهي مدنية.
هذه ثلاث صفاتٍ من صفات الربّ عزّ وجلّ: الرّبوبيّة، والملك، والإلهيّة، فهو ربّ كلّ شيءٍ ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقةٌ له مملوكةٌ عبيدٌ له، فأمر المستعيذ أن يتعوّذ بالمتّصف بهذه الصفات من شرّ الوسواس الخنّاس، وهو الشيطان الموكّل بالإنسان؛ فإنه ما من أحدٍ من بني آدم إلاّ وله قرينٌ يزيّن له الفواحش، ولا يألوه جهداً في الخبال. والمعصوم من عصمه اللّه.
وقد ثبت في الصحيح أنّه: ((ما منكم من أحدٍ إلاّ وقد وكّل به قرينه)). قالوا: وأنت يا رسول اللّه؟ قال: ((نعم، إلاّ أنّ اللّه أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلاّ بخيرٍ)).
وثبت في الصّحيح عن أنسٍ في قصّة زيارة صفيّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو معتكفٌ، وخروجه معها ليلاً ليردّها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار، فلمّا رأيا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أسرعا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((على رسلكما، إنّها صفيّة بنت حييٍّ)). فقالا: سبحان اللّه يا رسول اللّه! فقال: ((إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شرًّا)).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصليّ: حدّثنا محمد بن بحرٍ، حدّثنا عديّ بن أبي عمارة، حدّثنا زيادٌ النّميريّ، عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إنّ الشّيطان واضعٌ خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر خنس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس)). غريبٌ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن عاصمٍ: سمعت أبا تميمة يحدّث عن رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: عثر بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حماره، فقلت: تعس الشّيطان. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((لا تقل: تعس الشّيطان؛ فإنّك إذا قلت: تعس الشّيطان. تعاظم وقال: بقوّتي صرعته. وإذا قلت: بسم اللّه. تصاغر حتّى يصير مثل الذّباب)).
تفرّد به أحمد، وإسناده جيّدٌ قويٌّ، وفيه دلالةٌ على أنّ القلب متى ذكر اللّه تصاغر الشّيطان وغلب، وإن لم يذكر اللّه تعاظم وغلب. وقال الإمام أحمد:
حدّثنا أبو بكرٍ الحنفيّ، حدّثنا الضّحّاك بن عثمان، عن سعيدٍ المقبريّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إنّ أحدكم إذا كان في المسجد جاءه الشّيطان فأبسّ به كما يبسّ الرّجل بدابّته، فإذا سكن له زنقه أو ألجمه)).
قال أبو هريرة: وأنتم ترون ذلك، أما المزنوق فتراه ماثلاً -كذا- لا يذكر اللّه، وأمّا الملجم ففاتحٌ فاه، لا يذكر اللّه عزّ وجلّ. تفرّد به أحمد.
وقال سعيد بن جبيرٍ: عن ابن عبّاسٍ في قوله: {الوسواس الخنّاس}. قال: الشّيطان جاثمٌ على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر اللّه خنس، وكذا قال مجاهدٌ وقتادة.
وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه: ذكر لي أنّ الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر اللّه خنس.
وقال العوفيّ: عن ابن عبّاسٍ في قوله: {الوسواس}. قال: هو الشيطان يأمر، فإذا أطيع خنس.
وقوله: {الّذي يوسوس في صدور النّاس}. هل يختصّ هذا ببني آدم كما هو الظاهر؟ أو يعمّ بني آدم والجنّ؟ فيه قولان[؟؟]( ) ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليباً. وقال ابن جريرٍ: وقد استعمل فيهم {رجالٍ من الجنّ}. فلا بدع في إطلاق الناس عليهم.
وقوله: {من الجنّة والنّاس}. هل هو تفصيلٌ لقوله: {الّذي يوسوس في صدور النّاس}؟ ثمّ بيّنهم فقال: {من الجنّة والنّاس}.
وهذا يقوّي القول الثاني، وقيل: قوله: {من الجنّة والنّاس}. تفسيرٌ للذي يوسوس في صدور الناس من شياطين الإنس والجنّ، كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً}. وكما قال الإمام أحمد:
حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا المسعوديّ، حدّثنا أبو عمر الدّمشقيّ، حدّثنا عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذرٍّ قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في المسجد، فجلست فقال: ((يا أبا ذرٍّ، هل صلّيت؟)). قلت: لا. قال: ((قم فصلّ)).
قال: فقمت فصلّيت ثمّ جلست. فقال: ((يا أبا ذرٍّ، تعوّذ باللّه من شرّ شياطين الإنس والجنّ)). قال: فقلت: يا رسول اللّه، وللإنس شياطين؟! قال: ((نعم)).
قال: فقلت: يا رسول اللّه، الصّلاة؟ قال: ((خيرٌ موضوعٌ، من شاء أقلّ، ومن شاء أكثر)). قلت: يا رسول اللّه، فالصّوم؟ قال: ((فرضٌ مجزئٌ، وعند اللّه مزيدٌ)). قلت: يا رسول اللّه، فالصّدقة؟ قال: ((أضعافٌ مضاعفةٌ)). قلت: يا رسول اللّه، فأيّها أفضل؟ قال: ((جهدٌ من مقلٍّ أو سرٌّ إلى فقيرٍ)). قلت: يا رسول اللّه، أيّ الأنبياء كان أوّل؟ قال: ((آدم)).
قلت: يا رسول اللّه، ونبيًّا كان؟
قال: ((نعم، نبيٌّ مكلّمٌ)).
قلت: يا رسول اللّه، كم المرسلون؟
قال: ((ثلاثمائةٍ وبضعة عشر، جمًّا غفيراً)).
وقال مرّةً: ((خمسة عشر)).
قلت: يا رسول اللّه، أيّما أنزل عليك أعظم؟: قال: ((آية الكرسيّ: {اللّه لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم})).
ورواه النّسائيّ من حديث أبي عمر الدّمشقيّ، به.
وقد أخرج هذا الحديث مطوّلاً جدًّا أبو حاتم بن حبّان في صحيحه بطريقٍ آخر ولفظٍ آخر مطوّلٍ جدًّا، فاللّه أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن منصورٍ، عن ذرّ بن عبد اللّه الهمدانيّ، عن عبد اللّه بن شدّادٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللّه، إنّي أحدّث نفسي بالشيء، لأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أتكلّم به.
قال: فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((اللّه أكبر، اللّه أكبر، الحمد للّه الذي ردّ كيده إلى الوسوسة)).
ورواه أبو داود والنّسائيّ من حديث منصورٍ، زاد النّسائيّ: والأعمش، كلاهما عن ذرٍّ، به). [تفسير القرآن العظيم: 8/539-541]