24 Oct 2008
سورة المسد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ (5)}
تفسيرُ سورةِ تبَّت
(1-5){بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ
لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ
مِن مَسَدٍ (5)} أبو لهبٍ هوَ
عمُّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكانَ شديدَ العداوةِ [والأذيةِ]
للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فلا فيهِ دينٌ، ولا حميةٌ للقرابةِ -
قبَّحهُ اللهُ - فذمّهُ اللهُ بهذا الذَّمِّ العظيمِ، الذي هوَ خزيٌ عليهِ
إلى يومِ القيامةِ، فقالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: خسرتْ يداهُ، وشقيَ {وَتَبَّ}فلمْ يربحْ.
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ}الذي كانَ عندهُ وأطغاهُ، ولا مَا كسبهُ فلمْ يردَّ عنهُ شيئاً منْ عذابِ اللهِ إذ نزلَ بهِ.
{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}أي: ستحيطُ بهِ النارُ منْ كلِّ جانبٍ، هو {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وكانتْ
أيضاً شديدةَ الأذيةِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، تتعاونُ
هيَ وزوجُهَا على الإثمِ والعدوانِ، وتلقي الشرَّ، وتسعى غايةَ ما تقدرُ
عليهِ في أذيةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وتجمعُ على ظهرهَا منَ
الأوزارِ بمنزلةِ منْ يجمعُ حطباً، قدْ أعدَّ لهُ في عنقهِ حبلاً {مِنْ مَسَدٍ} أي: من ليفٍ.
أو أنَّهَا تحملُ في النارِ الحطبَ على زوجهَا، متقلدةً في عنقِهَا حبلاً من مسدٍ، وعلى كلٍّ، ففي هذهِ السورةِ، آيةٌ باهرةٌ منْ آياتِ اللهِ، فإنَّ اللهَ أنزل هذهِ السورةَ، وأبو لهبٍ
وامرأتهُ لمْ يهلكا، وأخبرَ أنهما سيعذبانِ في النارِ ولا بدَّ، ومنْ
لازمِ ذلكَ أنهما لا يسلمانِ، فوقعَ كمَا أخبرَ عالمُ الغيبِ والشهادةِ.
سُورَةُ الْمَسَدِ
1- {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}؛ أَيْ: هَلَكَتْ يَدَاهُ وَخَسِرَتْ وَخَابَتْ، {وَتَبَّ}؛
أَيْ: وَهَلَكَ هُوَ؛ أَيْ: قَدْ وَقَعَ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِ. وَأَبُو
لَهَبٍ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْمُهُ
عَبْدُ العُزَّى.
2- {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}؛
أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ مَا جَمَعَ من الْمَالِ, وَلا مَا كَسَبَ من
الأرباحِ وَالْجَاهِ ـ مَا حَلَّ بِهِ من التَّبَابِ، وَمَا نَزَلَ بِهِ
منْ عَذَابِ اللَّهِ.
3- {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}؛
أَيْ: سَوْفَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ المُلْتَهِبَةِ، تُحْرِقُ جِلْدَهُ،
وَهِيَ ذَاتُ اشْتِعَالٍ وَتَوَقُّدٍ، وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ.
4- {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}؛
أَيْ: وَتَصْلَى امْرَأَتُهُ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ، وَهِيَ أُمُّ جَمِيلٍ
بِنْتُ حَرْبٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ تَحْمِلُ الْغَضَى
وَالشَّوْكَ فَتَطْرَحُهُ بِاللَّيْلِ عَلَى طَرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5- {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}.
وَالْمَسَدُ: اللِّيفُ الَّذِي تُفْتَلُ مِنْهُ الحِبَالُ،كَانَتْ لَهَا
قِلادَةٌ فَاخِرَةٌ منْ جَوْهَرٍ فَقَالَتْ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى
لأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ. فَيَكُونُ ذَلِكَ عَذَاباً فِي
جَسَدِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
المتن :
سورة المسد
أخرج البخاري عن ابن عباس: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصَعِدَ الجبلَ فنادى: ((يا
صباحاه)) فاجتمعت قريش، فقال: ((أرأيتم إن حدَّثتكم أنَّ العدوَّ
مُصَبِّحُكم أو ممسيكم، أكنتم مصدِّقِيَّ))؟ قالوا: نعم، قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبَّاً لك، فأنزل الله:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}إلى آخرها). 1- 5 قولُه تعالى: {تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ
(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ(5)}. هذا
دعاء الهلاك والخسران على عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم المَكْنِيِّ
بأبي لهب، وقد حصل له هذا، ذلك جزاءَ قولِه للنبي صلى الله عليه وسلم:
(تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا(1) ؟). (3)اختلف السلف في تفسير {حمَالَةَ الْحَطَبِ} على أقوال:
ومـــَســَدٍ أُمـــــِرَّ مــــــن أَيَانِقِ = صُهْبٍ عِتَاقٍ ذاتِ مُخٍّ زَاهِقِ
ثمَّ أخبر اللهُ أنَّ
مالَ أبي لهب وولدَه لا ينفعونه ولا يَرُدُّون عنه عذابَ الله(2)، وأنه
سيدخل ناراً تتوقَّد تشويه بحرِّها، وأنه ستدخل معه زوجُه أمُّ جميلٍ التي
كانت تؤذي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحمل الحطبِ الذي فيه الشوكُ
فتلقيه في طريقه(3)، وقد جعل الله في عُنقها حبلاً مجدولاً ومفتولاً من ليف
أو غيره، يكون عليها كالقلادة التي توضع على العنق(4)، جزاء ما كانت تصنع في الدنيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
الحاشية :
(1)هذه الجملة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} دعاء على أبي لهب، وإسناد التباب لليدين، كإسناد العمل لهما في مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}والمراد: خَسِرَ أبو لهب بسبب عمله الذي عَمِله مع النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَسَبَ} وما ولد، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي الطفيل ورجل من بني مخزوم، ومجاهد من طريق ليث وابن أبي نجيح، ونسبه ابن كثير إلى عائشة وعطاء والحسن وابن سيرين.
الأول:أنها تحمل الشوك فتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ويزيد بن زيد الهمداني، وعطية الجدلي العوفي، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
الثاني:أنها كانت تمشي بالنميمة، وهو قول عكرمة من طريق محمد، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسفيان الثوري من طريق مهران.
وحكى الطبري: أنها كانت تَحْطِبُ، أي: تجمع الحَطَبَ، فعُيِّرت بذلك، ولم ينسبه، وهو مخالف لحال أمِّ جميل: غناها وشرفها، والله أعلم.
قال الطبري: (وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: كانت تحمل الشوك، فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك).
وفسَّر السلف الحطب بالشوك؛لأنها كانت تحمل أغصان الشوك، وهي الحطب، فتلقيها في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم لتُؤذيَه بها، والله أعلم.
وقد فسَّر ابن كثير الآية على أنه في الآخرة فقال: (… وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده، فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم، ولهذا قال:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ(5)}؛ يعني تحمل الحطب فتلقيه على زوجها، ليزداد على ما هو فيه، وهي مهيَّأة لذلك مستعدَّةٌ له).
وهذا الفهم لم يرد عن السلف، بل حملوا حَمْلَها الحَطَبَ على أنه وصفٌ لها في الدنيا، وليس هناك ما يدعو إلى هذا الفهم الذي فهمه ابن كثير، والله أعلم.
(4)ورد في تفسير المسد أقوال عن السلف:
الأول:حبال من الشجر تكون بمكة، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، والضحَّاك من طريق عبيد، وابن زيد، ويظهر أن المراد بهذه الحبال الليف.
الثاني:المسد: سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً، وهو قول عروة من طريق يزيد وسفيان الثوري وقال: (حبل في عنقها من النار، طوله سبعون ذراعاً).
وهذا التحديد يحتاج إلى قول المعصوم في خبره،وليس في هذه الآثار ما يدل على نقله عنه، وكون المَسَدِ يكون من الحديدِ صحيحٌ، أما هذا التحديد فيُتَوَقَّفُ فيه، والله أعلم.
الثالث:الحديد الذي يكون في البَكَرَةِ، ورد عن مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، من طريق الأعمش، لكن لم يذكر البَكَرَة، وعكرمة من طريق محمد.
الرابع:قلادة من وَدَعٍ في عنقها، ورد ذلك عن قتادة، ويحتمل أنه أراد أنه من صفتها في الدنيا؛ لأنه قال: (قلادة من ودع) ولم يحدد زمن لُبْسِها، والله أعلم.
قال الطبري: (وأولى
الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو حبل جُمِعَ من أنواع مختلفة،
ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا، ومما يدل على
صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز:
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ
(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ (5)}
الشيخ: هذه
السورة بيَّن الله -جل وعلا- فيها خسارة عدوٍ من أعداء الله -جل وعلا-،
وإن كان قريباً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن وحي الله -جل وعلا- الذي
أنزله على عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لا يكتمه نبينا -صلى الله عليه
وسلم- أبداً، ولو كتم شيئاً لكتم مثل هذه السورة؛ لأنها نازلة في عمه أخي
أبيه. فأبو لهب هذا هو عبد العزى بن عبد المطلب ونبينا -صلى الله عليه وسلم- محمد بن عبد الله بن عبد المطلب،
ثم إن هذه السورة تبين أن الهداية بيد الله جل وعلا، والإنسان دائماً يكون
حريصاً على أن يهتدي الأقربون منه، ومع ذلك الله -جل وعلا- لم يهدِ عمّ
نبينا -صلى الله عليه وسلم- بل هو من أهل النار.
قال الله -جل وعلا-: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} في أول السورة دعا الله -جل وعلا- عليه بالخسارة والهلاك، ثم أخبر جل وعلا أنه خسر وهلك، فالأولى وهي قوله: {تَبَّتْ} هذه دعاءٌ عليه، وقوله -جل وعلا-: {وَتَبَّ} هذا خبر عن حاله ومصيره، وأنه تحقق له الهلاك.
وورودها جاء على سبب:وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان في مكة خرج إلى البطحاء وصعد الجبل، وقال: ((يا صباحاه)) فاجتمعت إليه قريش، وكان منهم أبو لهب قبحه الله، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: ((لو حدثتكم أن عدواً مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقيِّ)).
قالوا: (نعم) فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد)) فقال أبو لهب: (ألهذا جمعتنا تباً لك).
فأنزل الله -جل وعلا- على نبيه هذه السورة التي تضمنت أن أبا لهبٍ
هذا وامرأته لن تنفع فيهم الدعوة، وأنهم يموتون على الكفر والضلال بما سبق
في علم الله -جل وعلا- أنهم لن يهتدوا، ولهذا كان هناك جمع من المشركين
يعادون نبينا -صلى الله عليه وسلم- ويؤذونه، ومع ذلك ما أنزل الله -جل
وعلا- فيهم مثل هذه السورة، لأن الله -جل وعلا- قد علم من حال بعضهم أنه
يموت على الإسلام.
قال الله -جل وعلا-: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي: أن أَبَا لَهَبٍ
هذا ما أغنى عنه ماله الذي كان يملكه، وما أغنى عنه ما كسبه من الجاه
والرئاسة والولد وغيرها من متاع الدنيا؛ لأنه لا يُغني عن عذاب الله -جل
وعلا- شيئاً؛ إلا ما جعله الله -جل وعلا- يقي الإنسان عذابه، وهو العمل
الصالح بعد فضل الله ورحمته:
-وهذا كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}.
-وقال الله -جل وعلا-: {وَإِذَا
عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُوا أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا
كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ}.
-وذكر الله -جل وعلا- عن أهل النار أن أحدهم يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} فماله وما كسبه لا يدفع عنه من عذاب الله شيئاً.
ثم قال الله -جل وعلا-:{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أي: أن أبا لهب سيصليه الله -جل وعلا- ناراً تضطرم وتتأجج، وهذا الصَّلي قد تقدم لنا أنه يكون في حق الكافرين، وذلك دليلٌ على أنه يموت على الكفر، أعاذنا الله منه.
قال الله -جل وعلا-: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: وامرأة أبي لهب؛ وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب
ستصلى ناراً ذات لهب مع زوجها، ويوم القيامة تحمل الحطب في نار جهنم؛
ليوقد به عليها وعلى زوجها، جزاء ما كانت تصنعه إعانةً لزوجها في عداوة
النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا، إذ كانت تلقي في طريقه -صلى الله
عليه وسلم- الأذى؛ لأنه دعا الناس إلى عبادة الله وحده.
وأخبر
-جل وعلا- أنها يكون في عنقها يوم القيامة حبلٌ مفتول من مسد، تعذب به في
نار جهنم، كما يعذب أهل النار بالسلاسل والأغلال، هي كذلك تعذب بهذا الحبل،
ولعله يكون (سِيما) لها في نار جهنم؛ لأنها وزوجها كانا يتبعان النبي -صلى
الله عليه وسلم- ويؤذيانه.
كان أبو لهب إذا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى نوادي المشركين ومواسمهم، يدعوهم إلى دين الله جل وعلا، وقال لهم: ((قولوا: لا إله إلا اللهتفلحوا)) قال:
(هذا صابئ كذاب) وامرأته كانت تعينه على ذلك بالقول والفعل، فعاقبهما الله
-جل وعلا- في نار جهنم بعقابٍ يشهده أهل النار، أعاذنا الله منها.
تفسير سورة المسد
بيان موضوع السورة
سبب نزول سورة المسد
تفسير قوله تعالى: ( تبت يدا أبي لهب وتب )
تفسير قوله تعالى: ( ما أغنى عنه ماله وما كسب )
تفسير قوله تعالى: ( سيصلى ناراً ذات لهب )
تفسير قوله تعالى: ( وامرأته حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (حمالة الحطب)
إطلاقات (المسد) في اللغة
أقوال السلف في معنى (المسد)
الأسئلة
سورة المسد
س1: فسر هذه السورة تفسيراً إجمالياً.
س2: اذكر ما يستفاد من هذه السورة.
س3: ما موضوع هذه السورة ؟
س4: بين معاني الكلمات التالية: تَبَّتْ، سيصلى، حمَّالة الحطب، جيدها، مسد
س5: بين سبب نزول هذه السورة.
س6:
من أعظم أسباب الخذلان تبكيت الداعي إلى الحق في الوقت الذي هو بحاجة إلى
من ينصره، تحدث عن خطر هذه القضية في ضوء دراستك لهذه السورة.
س7: ما فائدة إسناد التَّباب إلى اليدين؟
س8: ورد خلاف عن السلف في معنى قوله تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}، اذكره مع بيان القول الراجح.
س9: تحدث باختصار عن خطر الإعانة على المعصية.
س10: اذكر أقوال السلف في المراد بالمسَد، مع الترجيح.
س11: ما اسم أبي لهب؟ وما صلة قرابته بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وما اسم زوجة أبي لهب ؟
س12: في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ بَطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه))تحدث عن هذا الأصل بإيجاز مبيناً فائدته السلوكية.
س13: بين معنى: (ما) في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}، مع بيان معنى الآية.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة المسد وهي مكّيّةٌ.
قال البخاريّ: حدّثنا محمد بن سلاّمٍ، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى: ((ياصباحاه)).
فاجتمعت إليه قريشٌ، فقال: ((أرأيتم إن حدّثتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدّقوني؟)). قالوا: نعم. قال: ((فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ)). فقال أبو لهبٍ: ألهذا جمعتنا تبًّا لك؟! فأنزل اللّه: {تبّت يدا أبي لهبٍ وتبّ} إلى آخرها.
وفي روايةٍ فقام ينفض يديه وهو يقول: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فأنزل اللّه: {تبّت يدا أبي لهبٍ وتبّ}. الأوّل دعاءٌ عليه، والثاني خبرٌ عنه، فأبو لهبٍ هذا هو أحد أعمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، واسمه عبد العزّى ابن عبد المطّلب، وكنيته أبو عتبة، وإنّما سمّي أبا لهبٍ؛ لإشراق وجهه، وكان كثير الأذيّة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، والبغضة له، والازدراء به، والتّنقّص له ولدينه.
قال الإمام أحمد: حدّثنا إبراهيم بن أبي العبّاس، حدّثنا عبد الرحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه، قال: أخبرني رجلٌ يقال له: ربيعة بن عبّادٍ من بني الدّيل، وكان جاهليًّا فأسلم، قال: رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الجاهليّة في سوق ذي المجاز، وهو يقول: ((يا أيّها النّاس، قولوا: لا إله إلاّ اللّه؛ تفلحوا)). والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجلٌ وضيء الوجه أحول ذو غديرتين، يقول: إنّه صابئٌ كاذبٌ يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمّه أبو لهبٍ.
ثمّ رواه عن سريجٍ، عن ابن أبي الزّناد، عن أبيه، فذكره. قال أبو الزّناد: قلت لربيعة: كنت يومئذٍ صغيراً؟ قال: لا واللّه، إنّي يومئذٍ لأعقل أنّي أزفر القربة.
تفرّد به أحمد، وقال محمد بن إسحاق: حدّثني حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عبّاسٍ قال: سمعت ربيعة بن عبّادٍ الدّيليّ يقول: إنّي لمع أبي، رجلٌ شابٌّ، أنظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -يتّبع القبائل- ووراءه رجلٌ أحول وضيءٌ ذو جمّةٍ، يقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على القبيلة فيقول: ((يا بني فلانٍ، إنّي رسول اللّه إليكم، آمركم أن تعبدوا اللّه لا تشركوا به شيئاً، وأن تصدّقوني وتمنعوني؛ حتّى أنفّذ عن اللّه ما بعثني به)).
وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يابني فلانٍ، هذا يريد منكم أن تسلخوا اللاّت والعزّى وحلفاءكم من الجنّ من بني مالك بن أقيشٍ إلى ما جاء به من البدعة والضّلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتّبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمّه أبو لهبٍ. رواه أحمد أيضاً والطّبرانيّ بهذا اللفظ.
فقوله تعالى: {تبّت يدا أبي لهبٍ}. أي: خسرت وخابت، وضلّ عمله وسعيه، {وتبّ}. أي: وقد تبّ تحقّق خسارته وهلاكه.
وقوله: {ما أغنى عنه ماله وما كسب}. قال ابن عبّاسٍ وغيره: {وما كسب}. يعني: ولده، وروي عن عائشة ومجاهدٍ وعطاءٍ والحسن وابن سيرين مثله.
وذكر عن ابن مسعودٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا دعا قومه إلى الإيمان قال أبو لهبٍ: إن كان ما يقول ابن أخي حقًّا؛ فإنّي أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي. فأنزل اللّه: {ما أغنى عنه ماله وما كسب}.
وقوله: {سيصلى ناراً ذات لهبٍ}. أي: ذات شررٍ ولهيبٍ وإحراقٍ شديدٍ.
{وامرأته حمّالة الحطب}: وكانت زوجته من سادات نساء قريشٍ، وهي أمّ جميلٍ، واسمها أروى بنت حرب بن أميّة، وهي أخت أبي سفيان، وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده؛ فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنّم؛ ولهذا قال: {حمّالة الحطب في جيدها حبلٌ من مسدٍ}. يعني: تحمل الحطب فتلقي على زوجها؛ ليزداد على ما هو فيه، وهي مهيّأةٌ لذلك مستعدّةٌ له.
{في جيدها حبلٌ من مسدٍ}. قال مجاهدٌ وعروة: من مسد النار.
وعن مجاهدٍ وعكرمة والحسن وقتادة والثّوريّ والسّدّيّ: {حمّالة الحطب}: كانت تمشي بالنّميمة.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ، وعطيّة الجدليّ والضحّاك، وابن زيدٍ: كانت تضع الشّوك في طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، واختاره ابن جريرٍ.
قال ابن جريرٍ: وقيل: كانت تعيّر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالفقر، وكانت تحتطب فعيّرت بذلك.
كذا حكاه، ولم يعزه إلى أحدٍ، والصحيح الأول، واللّه أعلم.
قال سعيد بن المسيّب: كانت لها قلادةٌ فاخرةٌ، فقالت: لأنفقنّها في عداوة محمدٍ. يعني: فأعقبها اللّه بها حبلاً في جيدها من مسد النار.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا وكيعٌ، عن سليمٍ مولى الشّعبيّ، عن الشّعبيّ قال: المسد: اللّيف.
وقال عروة بن الزّبير: المسد: سلسلةٌ ذرعها سبعون ذراعاً.
وعن الثّوريّ: هي قلادةٌ من نارٍ، طولها سبعون ذراعاً. وقال الجوهريّ: المسد: اللّيف، والمسد أيضاً: حبلٌ من ليفٍ أو خوصٍ، وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها، ومسدت الحبل أمسده مسداً، إذا أجدت فتله.
وقال مجاهدٌ: {في جيدها حبلٌ من مسدٍ}. أي: طوقٌ من حديدٍ، ألا ترى أنّ العرب يسمّون البكرة مسداً.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي وأبوزرعة، قالا: حدّثنا عبد اللّه بن الزّبير الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا الوليد بن كثيرٍ، عن ابن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: لمّا نزلت: {تبّت يدا أبي لهبٍ}. أقبلت العوراء أمّ جميلٍ بنت حربٍ، ولها ولولةٌ، وفي يدها فهرٌ، وهي تقول:
مذمّماً أبينا * ودينه قلينا * وأمره عصينا
ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالسٌ في المسجد، ومعه أبو بكرٍ، فلمّا رآها أبو بكرٍ قال: يا رسول اللّه، قد أقبلت، وأنا أخاف عليك أن تراك. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إنّها لن تراني)). وقرأ قرآناً اعتصم به، كما قال تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الّذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً}.
فأقبلت حتّى وقفت على أبي بكرٍ، ولم تر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا أبا بكرٍ، إنّي أخبرت أنّ صاحبك هجاني. قال: لا، وربّ هذا البيت ما هجاك. فولّت وهي تقول: قد علمت قريشٌ أنّي ابنة سيّدها. قال: وقال الوليد في حديثه، أو غيره: فعثرت أمّ جميلٍ في مرطها وهي تطوف بالبيت، فقالت: تعس مذمّمٌ. فقالت أمّ حكيمٍ بنت عبد المطّلب: إنّي لحصانٌ فما أكلّم، وثقافٌ فما أعلّم، وكلّنا من بني العمّ، وقريشٌ بعد أعلم.
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا إبراهيم بن سعيدٍ، وأحمد بن إسحاق قالا: حدّثنا أبو أحمد، حدّثنا عبد السلام بن حربٍ، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت: {تبّت يدا أبي لهبٍ}. جاءت امرأة أبي لهبٍ ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالسٌ، ومعه أبو بكرٍ؛ فقال له أبو بكرٍ،: لو تنحّيت لا تؤذيك بشيءٍ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إنّه سيحال بيني وبينها)).
فأقبلت حتى وقفت على أبي بكرٍ فقالت: يا أبا بكرٍ، هجانا صاحبك. فقال أبو بكرٍ: لا، وربّ هذه البنيّة ما ينطق بالشّعر ولا يتفوّه به. فقالت: إنّك لمصدّقٌ. فلمّا ولّت قال أبو بكرٍ: ما رأتك؟! قال: ((لا، مازال ملكٌ يسترني حتّى ولّت)).
ثمّ قال البزّار: لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد، عن أبي بكرٍ رضي اللّه عنه.
وقال بعض أهل العلم في قوله تعالى: {في جيدها حبلٌ من مسدٍ}. أي: في عنقها حبلٌ من نارٍ، ترفع به إلى شفيرها، ثم يرمى بها إلى أسفلها، ثم كذلك دائماً.
قال أبو الخطّاب بن دحية في كتابه (التّنوير) وقد روى ذلك: وعبّر بالمسد عن حبل الدّلو، كما قال أبو حنيفة الدّينوريّ في كتاب (النّبات): كلّ مسدٍ رشاءٌ، وأنشد في ذلك:
وبكرةً ومحوراً صرّارا = ومسداً من أبقٍ مغارا
قال: والأبق: القنّب. وقال الآخر:
يامسد الحوض تعوّذ منّي = إن تك لدناً ليّناً فإنّي
ما شئت من أشمط مقسئنّ
قال العلماء: وفي هذه السورة معجزةٌ ظاهرةٌ ودليلٌ واضحٌ على النبوة؛ فإنّه منذ نزل قوله تعالى: {سيصلى ناراً ذات لهبٍ وامرأته حمّالة الحطب في جيدها حبلٌ من مسدٍ}. فأخبر عنهما بالشّقاء وعدم الإيمان، لم يقيّض لهما أن يؤمنا ولا واحدٌ منهما، لا ظاهراً ولا باطناً، لا مسرًّا ولا معلناً، فكان هذا من أقوى الأدلّة الباهرة على النّبوة الظاهرة.
آخر تفسير سورة {تبّت}، وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/514-517]