الدروس
course cover
تفسير سورة الكوثر
24 Oct 2008
24 Oct 2008

5397

0

0

course cover
تفسير جزء عمّ

القسم الثامن

تفسير سورة الكوثر
24 Oct 2008
24 Oct 2008

24 Oct 2008

5397

0

0


0

0

0

0

0

سورةُ الكَوْثَر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)}

هيئة الإشراف

#2

24 Oct 2008

تفسيرِ سورةِ الكوثرِ


(1-3) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)}

يقولُ اللهُ تعالى لنبيهِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ممتنّاً عليهِ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: الخيرَ الكثيرَ، والفضلَ الغزيرَ، الذي من جملتهِ، ما يعطيهِ اللهُ لنبيهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ القيامةِ، منَ النهرِ الذي يقالُ لهُ (الكوثرُ) ومنَ الحوضِ.
طولهُ شهرٌ، وعرضهُ شهرٌ، ماؤهُ أشدُّ بياضاً منَ اللبنِ، وأحلى منَ العسلِ، آنيتهُ كنجومِ السماءِ في كثرتها واستنارتهَا، منْ شربَ منهُ شربةً لمْ يظمأ بعدهَا أبداً.
ولماَ ذكرَ منتهُ عليهِ، أمرهُ بشكرهَا فقالَ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} خصَّ هاتينِ العبادتينِ بالذكرِ، لأنهمَا منْ أفضلِ العباداتِ وأجلِّ القرباتِ.
ولأنَّ الصلاةَ تتضمنُ الخضوعَ القلبِ والجوارحِ للهِ، وتنقلهَا في أنواعِ العبوديةِ، وفي النحرِ تقربٌ إلى اللهِ بأفضلِ مَا عندَ العبدِ منَ النحائرِ، وإخراجٌ للمالِ الذي جبلتِ النفوسُ على محبتهِ والشحِّ بهِ.
{إِنَّ شَانِئَكَ}أي: مبغضكَ وذامّكَ ومنتقصكَ {هُوَ الأَبْتَرُ} أي: المقطوعُ منْ كلِّ خيرٍ، مقطوعُ العملِ، مقطوعُ الذكرِ.
وأمَّا محمدٌ، فهوَ الكاملُ حقّاً، الذي لهُ الكمالُ الممكنُ في حقِّ المخلوقِ، منْ رفعِ الذكرِ، وكثرةِ الأنصارِ والأتباعِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.

هيئة الإشراف

#3

24 Oct 2008

سُورَةُ الكَوْثَرِ

1- {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الكَوْثَرُ: نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ جَعَلَهُ اللَّهُ كَرَامَةً لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأُمَّتِهِ.
أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ منْ حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَا الكَوْثَرُ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((هُوَ نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ الْكَوَاكِبِ، يَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ)).
والكوثرُ فِي اللُّغَةِ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ البالغُ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى الْغَايَةِ.
وَقِيلَ: الكوثرُ: الْقُرْآنُ.
وَقِيلَ: هُوَ كَثْرَةُ الأصحابِ والأُمَّةِ.
2- {فَصَلِّ لِرَبِّكَ}:المأمورُ بِهِ إقامةُ الصلواتِ المفروضةِ.
{وَانْحَرْ}: كَانَ ناسٌ يُصَلُّونَ لغيرِ اللَّهِ وَيَنْحَرُونَ لغيرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ صَلاتُهُ وَنَحْرُهُ لَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمُرَادُ صَلاةُ العيدِ وَنَحْرُ الأُضْحِيَّةِ.
3- {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}؛ أَيْ: إِنَّ مُبْغِضَكَ هُوَ المُنْقَطِعُ عَنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَو الَّذِي لا يَبْقَى ذِكْرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، والأبترُ من الرِّجَالِ: الَّذِي لا وَلَدَ لَهُ.
لَمَّا مَاتَ ابْنٌ لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحَدُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُ أَبْتَرُ. فَنَزَلَتِ السُّورَةُ.

هيئة الإشراف

#4

24 Oct 2008

سورةُ الكَوْثَر

1-3قولُه تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)} يخبرُ ربُّنا تباركَ وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن هِبَتِه له ذلك النهر العظيم في الجنَّة، الذي اسمُه الكَوْثَر، وهو جزءٌ من الخيرِ الكثيرِ الذي أعطاه إيَّاه(1).

ثم أمرَهُ الله بأن يؤدِّي شُكْرَ هذهِ النعمة بأن تكونَ الصلاةُ والذبحُ له سبحانَه، لا كما يفعلُ المشركونَ الذين يذبحونَ للأصنام(2).
ثم أخبرَهُ أنَّ مُبْغِضَهُ هو المنقطِعُ عن كلِّ خير،بخلافِكَ أنتَ فيما أعطاكَ اللهُ من الخير(3).



الحاشية :
(1)الكَوْثَرُ على وزن فَوْعَل، مبالغةٌ في الكَثْرة، وقد حَمَلَ بعضُ السلفِ اللفظَ على عمومهِ، وحملَهُ بعضُهم على النهر الذي وعدَه الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم في الجنة، والحملُ على العموم لا يعارِضُ حملَه على نهر الكوثر؛ لأن نهرَ الكوثرِ يكونُ مِثالاً وجُزءاً للخير الكثيرِ الذي أعطاه الله لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وإليك أقوالهم في تفسير الكوثر:
الأول:نهرٌ في الجنة، وهو قول ابن عمر من طريق محارب بن دِثار، وعائشة من طريق أبي عبيدة وابن أبي نجيح، وابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق ابنه عبد الوهاب، وأبي العالية من طريق الربيع.
وهذا هو الذي وردت فيه الأحاديث، وله أوصافٌ مذكورة فيها، وهو أول ما يدخلُ في تفسير الآية بلا إشكال، والله أعلم.
الثاني:الكوثر، الشيء الكثير، وهو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، ورد ذلك عن سعيد بن جبير من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب وهلال، وعكرمة من طريق عمارة بن أبي حفصة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، ونسبه ابن كثير إلى ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحارب بن دثار والحسن البصري.
وقد ورد في رواياتِهم ما يُشْعِرُ بمعرفتِهم لكونِالكوثر النهر، ولكنهم حملوا على العموم، فعن أبي بشر قال: قلت لسعيد: إن أناساً يزعُمون أنه نهرٌ في الجنة، فقال سعيد: (النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه).وقال عكرمة: (الخير الكثير، والقرآن والحِكمة).وقال مجاهد: (الخير كله) وقال: (خير الدنيا والآخرة). ومن ثمَّ يكون سبب الاختلاف: أن أصحابَ القولِ الأول حملوا اللفظَ على مصطلحِه الشرعي، وأصحابَ القولِ الثاني حملوه على معناه اللغوي، وإن صحَّ تفسيره بالمعنى اللغوي، فإنَّ الاختلافَ يرجعُ إلى معنىً واحد، وهو معنى العمومِ الذي تكون الأقوالُ الأخرى (نهرٌ في الجنة، القرآن، الحِكمة) أمثلة له، والله أعلم.
(2)اختلفَ السلفُ في المراد بقوله تعالى: {وَانْحَرْ} على أقوال:
الأول:اذْبَحْ لله، ورد ذلك عن أنس بن مالك من طريق جابر، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعكرمة من طريق جابر وثابت بن أبي صفية، والربيع بن أنس من طريق أبي جعفر، وعطاء بن أبي رباح من طريق فطر بن خليفة، والحسن من طريق عوف وأبان بن خالد، وقتادة من طريق معمر وسعيد، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، ومحمد بن كعب القرظي من طريق أبي صخر، وسعيد بن جبير من طريق أبي معاوية البجلي، وابن زيد، وبينهم في المراد بما نزلت فيه الآية اختلافٌ:
فقيل:في ذبحِ يوم النحرِ.
وقيل:في عُموم الذبح.
وقيل:في ذبح الهَدْي يومَ الحُديبية.
وهذا الاختلاف لا يُخرِج معنى النَّحْرِ عن الذبح، والأَوْلى العموم، وأن تكونَ الأقوالُ الأخرى داخلةً فيه على سبيلِ الأمثلة لهذا العموم؛ لأنه مأمور أن تكونَ ذبيحتُه لله في كل حال، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
الثاني:ضَعْ يَدَكَ اليمين على الشمال، ثم ضعهُما على صدرِك في الصلاة، وهو قول علي بن أبي طالب من طريق عقبة بن ظبيان ويقال: ظهير، انظر: الجرح والتعديل) عن أبيه، قال عنه ابن كثير: (ولا يصح) وعن أبي القموص زيد بن علي من طريق عوف.
الثالث:ارفع يدكَ إلى نحرِك عند الدخول في الصلاة، ورد ذلك عن أبي جعفر الباقر من طريق جابر.
وقد ذكر الطبري قولاً لبعضِ أهلِ العربية، وهو الفراء، أن المعنى: (استقبِل القبلةَ بنَحْرِكَ) واستدلَّ الفراء بما سمِعَه من بعض العرب، يقول: (منازلهم متناحرة) أي: هذا بنحر هذا؛ أي: قُبالته، وببيتٍ من الشعر ذكَره.
والقولُ الأولُ هو الصحيح؛لأنه المشهور من معنى اللفظ، ومنه يومُ النَّحْرِ، ونَحْرُ البُدْنِ، وغيرُها، قال الطبري: (وأَوْلى هذه الأقوالِ عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: فاجعل صلاتَك كلَّها لربِّكَ خالصاً دون ما سواه من الأندادِ والآلهة، وكذلك نحركَ اجعله له دونَ الأوثان؛ شكراً له على ما أعطاك من الكرامةِ والخيرِ الذي لا كُفْءَ له، وخصَّكَ به من إعطائه إياكَ الكوثر.
وإنما قلت: ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك؛ لأن الله جلَّ ثناؤه أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بما أكرمَه به من عطِيَّتِه وكرامتِه وإنعامِه عليه بالكوثر، ثم أتبع ذلك قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} فكان معلوماً بذلك أنه خصَّه بالصلاة له والنحر على الشكرِ له على ما أعلمَه من النعمة التي أنعمَها عليه بإعطائه إياه الكوثر، فلم يكن لخصوصِ بعضِ الصلاة بذلك دون بعضٍ، وبعضِ النحر دون بعضٍ وجهٌ، إذ كان حثّاً على الشكر على النِّعَمِ.
فتأويل الكلام إذن:إنا أعطيناك يا محمد الكوثر، إنعاماً منَّا عليكَ به، وتكرِمةً منَّا لك، فأخلِص لربِّك العِبادة، وأَفْرِدْ له صلاتَك ونُسُكَك، خلافاً لما يفعله من كَفَرَ به، وعبدَ غيره ونحر للأوثان).
وقال ابن كثير عن الأقوال الأخرى: (كلُّ هذه الأقوال غريبة، والصحيح القول الأول، أن المراد بالنحر ذبح النسائك …).
(3)اختلف السلفُ في من نزلت هذه الآيات على أقوال:
الأول:نزلت في العاص بن وائل السَّهْمي، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وسعيد بن جبير من طريق هلال بن خباب، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد.
الثاني:نزلت في عقبة بن أبي مُعيط، ورد ذلك عن شمر بن عطية.
الثالث:نزلت في جماعة من قريش، ورد ذلك عن عكرمة.
قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذِكرُه أخبرَ أنَّ مُبْغِضَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هو الأقلُّ الأذلُّ المنقطِعُ عَقِبه، فذلك صفةُ كل من أبغضَه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخصٍ بعينه).
ومرادُ الإمام هنا أن العبرةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب،ويكون السببُ المذكور مثالاً لذلك العموم في اللفظ، وهذا هو الصواب، وهو حملُ هذه النزولاتِ المذكورة على التمثيل، وإبقاءُ اللفظِ على عمومِه، فيدخلُ فيه كلُّ من أبغضَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، والله أعلم.

هيئة الإشراف

#5

24 Oct 2008

القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)}
الشيخ:

هذه سورة الكوثر امتن الله -جل وعلا- فيها على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن أعطاه الكوثر، وهو: نهر في الجنة، كما فسره بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا النهر لما عرج به إلى السماء السابعة، وهذا النهر نهر في الجنة يصب على حوضه -صلى الله عليه وسلم- في عرصات القيامة بميزابين، كما قرر ذلك الحافظ ابن كثير في كتابه (النهاية) والحافظ ابن حجر؛ بمجموع النصوص الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحوض والكوثر، فامتن الله -جل وعلا- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن أعطاه هذا الكوثر، وأكد الله -جل وعلا- هذه العطية بعدة مؤكدات، منها: أنه أكده:

-بـ(إن) المشددة في استفتاح السورة.
-وبالفعل الماضي.

-وبدخول الألف واللام على الكوثر.
فلما أعطاه ربه -جل وعلا- الكوثر أمره -جل وعلا- أن يصلي له وينحر، وذلك دليل على أن العبد إذا أعطاه الله -جل وعلا- نعماً فإنه يزداد طاعةً، وتقرباً إلى الله جل وعلا؛ كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما قيل له وهو يصلى حتى تفطرت قدماه: سئل عن صنعه ذلك، فقال:
((أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً)).
فهذا من شكر نعمة الله جل وعلا، وهذا تعليم من الله -جل وعلا- لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولأمته من بعده أنهم إذا أُعطوا شيئاً فإنهم يزدادون طاعةً وتقرباً إلى الله جل وعلا، لا يزدادون به سوءاً، إذا ازداد العبد بنعم الله سوءاً كان كما تقدم معنا داخلاً في قوله -جل وعلا-: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} وإذا ازداد طاعةً وتقرباً إلى الله -جل وعلا- كان متبعاً لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فيما أرشده ربه إليه.
وقوله -جل وعلا-: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي: أخلص صلاتك ونحرك لله جل وعلا، والنحر: هو الذبح، وإن كان غالباً ما يطلق إلا على الإبل، لكن يطلق النحر على الذبح، يعني: أن يجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاته خالصةً لله، وذبحه خالصاً لله، لا كما كان المشركون يصنعون من صرفها لغير الله -جل وعلا-، أو إشراك غير الله مع الله جل وعلا، ولهذا قال الله -جل وعلا- في الآية الأخرى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
ثم إن الله -جل وعلا- نص في هذه السورة على عبادتين عظيمتين هما: الصلاة والذبح،ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- يحب هذه الصلاة، وجعلت قرة عينه في الصلاة، وما نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادة كما نقل عنه عليه الصلاة والسلام في شأن الصلاة، ولهذا رآه أصحاب كثيرون من أصحابه وهو يصلي، وصلى معه كثير من أصحابه، ونقلت صلاته -صلى الله عليه وسلم- في بيته وفي مسجده، ونقلت صلاته -صلى الله عليه وسلم- في حال صحته وحال مرضه؛ لأنه كان -صلى الله عليه وسلم- شديد الاهتمام بها.
وكذلك النحركان -صلى الله عليه وسلم- شديد الاهتمام به، فقد ذبح -صلى الله عليه وسلم- في حجته ثلاثاً وستين من الإبل بيده الشريفه.
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل من المنبر يوم الأضحى أول ما يباشر أن يذبح أضحيته لله جل وعلا، فاستدل بعض العلماء بفعله -صلى الله عليه وسلم- هذا على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- امتثل هذه الآية غاية الامتثال، وإن كان -صلى الله عليه وسلم- مطيعاً لله، إلا أنه في هاتين العبادتين كان حريصاً عليهما، شديد الاهتمام بهما؛ لأن الله -جل وعلا- أمره بهما أمراً عاماً، ثم أمره ربه -جل وعلا- بهما أمراً خاصاً في هذه السورة.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} يعني: أن مبغضك وكارهك هو المنقطع، والأبتر وإن كان في أصل اللغة يطلق على المنقطع الذي لا ولد له، إلا أن المراد به هاهنا: الانقطاع من كل خير، فينقطع الإنسان من عبادة الله -جل وعلا- وعمل الصالحات، وينقطع في الآخرة من أهله وماله؛ لأنه يخسرهما، وينقطع في الدنيا بعد موته لئلا يكون له ذكر في عباد الله المؤمنين، إلى أنواع كثيرة من الانقطاع.
ولهذا ذكر بعض العلماء أن الإنسان بحسب كراهيته لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون له حظ من هذا الانقطاع، فمستقل ومستكثر، ولهذا ذكر العلماء أن من تليت عليه آيات الله -جل وعلا- في الصفات، أو في التوحيد، أو في طاعة الوالدين، أو في صلة الأرحام، أو في الصلاة، أو في الزكاة، أو في غيرها، فاشمأز قلبه فله نصيب من هذا الانقطاع، بحسب ما عنده من البغض والكراهية، وأخبر الله -جل وعلا- أن مبغض النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدخل فيه المبغض لسنته -عليه الصلاة والسلام- هو: الأقطع، يعني: هو الأبتر، هو المنقطع من كل خير، عياذاً بالله جل وعلا.
وقوله -جل وعلا-: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} هذا وإن كان وارداً على سبب، اختلف النقلة فيه: وهو أن بعض المشركين - على اختلاف في أسمائهم - كانوا يسمون النبي -صلى الله عليه وسلم- الأبتر؛ لأنه لم يولد له ذكر، وأنه -عليه السلام- سينقطع ذكره، فرد الله -جل وعلا- عليهم بهذه الآية، إلا أنها تعم من جاء بعدهم، ومن كان مماثلاً لحالهم.

هيئة الإشراف

#6

12 Feb 2009

تفسير سورة الكوثر


تفسير قول الله تعالى : ( إنا أعطيناك الكوثر )
أقوال السلف في تفسير الكوثر
تفسير قول الله تعالى : ( فصل لربك وانحر )
أقوال السلف في المراد بقوله تعالى: (وَانْحَرْ)
تفسير قول الله تعالى : ( إن شانئك هو الأبتر )
أقوال السلف فيمن نزل فيه قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر)

هيئة الإشراف

#7

12 Feb 2009

الأسئلة

سورة الكوثر
س1: بين معاني الكلمات التالية: الكوثر، انحرْ، شانئك، الأبتر.
س2: فسر السورة تفسيراً إجمالياً.
س3: اذكر ما يستفاد من هذه السورة الكريمة.
س4: اختلف السلف في المراد بالكوثر على أقوال، اذكرها مع الترجيح، وما نوع هذا الاختلاف؟
س5: اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَانْحَرْ} على أقوال اذكرها مع الترجيح.
س6: اختلف المفسرون فيمن نزل قوله تعالى:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}على أقوال، اذكرها مع الترجيح.
س7: اذكر صفات الحوض.
س8: لِمَ خصَّ الله تعالى عبادةَ الصلاة والنحر بالذكر دون ما سواهما من العبادات؟
س9: ما الفرق بين السورة المكية، والسورة المدنية؟
س10: ما الفرق بين النحر والذبح ؟ولم خص الله تعالى النحر دون الذبح بالذكر؟

هيئة الإشراف

#8

10 Apr 2014

تفسير ابن كثير



قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة الكوثر وهي مدنيّةٌ، وقيل: مكّيّةٌ.

قال الإمام أحمد: حدّثنا محمد بن فضيلٍ، عن المختار بن فلفلٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: أغفى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إغفاءةً، فرفع رأسه متبسّماً؛ إمّا قال لهم، وإمّا قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إنّه أنزلت عليّ آنفاً سورةٌ))؛ فقرأ: ((بسم اللّه الرّحمن الرّحيم {إنّا أعطيناك الكوثر})). حتّى ختمها؛ فقال: ((هل تدرون ما الكوثر؟)).

قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: ((هو نهرٌ أعطانيه ربّي عزّ وجلّ في الجنّة، عليه خيرٌ كثيرٌ، ترد عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم فأقول: يا ربّ، إنّه من أمّتي. فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).

هكذا رواه الإمام أحمد بهذا الإسناد الثّلاثيّ وهذا السّياق، وقد ورد في صفة الحوض يوم القيامة أنّه يشخب فيه ميزابان من السماء من نهر الكوثر، وأنّ آنيته عدد نجوم السماء.

وقد روى هذا الحديث مسلمٌ وأبو داود والنّسائيّ من طريق محمد بن فضيلٍ وعليّ بن مسهرٍ، كلاهما عن المختار بن فلفلٍ، عن أنسٍ، ولفظ مسلمٍ: قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهرنا في المسجد؛ إذ أغفى إغفاءةً، ثمّ رفع رأسه متبسّماً، قلنا: ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال: ((لقد أنزلت عليّ آنفاً سورةٌ)) فقرأ: ((بسم اللّه الرّحمن الرّحيم {إنّا أعطيناك الكوثر فصلّ لربّك وانحر إنّ شانئك هو الأبتر})). ثمّ قال: ((أتدرون ما الكوثر؟)). قلنا: اللّه ورسوله أعلم. قال: ((فإنّه نهرٌ وعدنيه ربّي عزّ وجلّ، عليه خيرٌ كثيرٌ، وهو حوضٌ ترد عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد النّجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: ربّ، إنّه من أمّتي. فيقول: إنّك ما تدري ما أحدث بعدك)).

وقد استدلّ به كثيرٌ من القرّاء على أنّ هذه السّورة مدنيّةٌ، وكثيرٌ من الفقهاء على أنّ البسملة من السّورة، وأنّها منزّلةٌ معها، فأمّا قوله تعالى: {إنّا أعطيناك الكوثر}. فقد تقدّم في هذا الحديث أنّه نهرٌ في الجنّة.

وقد رواه الإمام أحمد من طريقٍ أخرى عن أنسٍ، فقال: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّادٌ، أخبرنا ثابتٌ، عن أنسٍ أنّه قرأ هذه الآية: {إنّا أعطيناك الكوثر}. قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أعطيت الكوثر، فإذا هو نهرٌ يجري، ولم يشقّ شقًّا، وإذا حافتاه قباب اللّؤلؤ، فضربت بيدي في تربته، فإذا مسكه ذفرةٌ، وإذا حصاه اللّؤلؤ)).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن أبي عديٍّ، عن حميدٍ، عن أنسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((دخلت الجنّة فإذا أنا بنهرٍ حافتاه خيام اللّؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء، فإذا مسكٌ أذفر، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الّذي أعطاكه اللّه عزّ وجلّ)).

ورواه البخاريّ في صحيحه ومسلمٌ من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ قال: لمّا عرج بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى السماء قال: ((أتيت على نهرٍ حافتاه قباب اللّؤلؤ المجوّفة. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر)). وهذا لفظ البخاريّ رحمه اللّه.

وقال ابن جريرٍ: حدّثنا الرّبيع، أخبرنا ابن وهبٍ، عن سليمان بن بلالٍ، عن شريك بن أبي نمرٍ، قال: سمعت أنس بن مالكٍ يحدّثنا، قال: لمّا أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مضى به جبريل في السماء الدّنيا، فإذا هو بنهرٍ عليه قصرٌ من لؤلؤٍ وزبرجدٍ، فذهب يشمّ ترابه، فإذا هو مسكٌ. قال: ((يا جبريل ما هذا النّهر؟)). قال: هو الكوثر الّذي خبّأ لك ربّك.

وقد تقدّم في حديث الإسراء في سورة (سبحان) من طريق شريكٍ، عن أنسٍ، وهو مخرّجٌ في الصحيحين.

وقال سعيدٌ: عن قتادة، عن أنسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((بينما أنا أسير في الجنّة إذ عرض لي نهرٌ، حافتاه قباب اللّؤلؤ مجوّفٍ)). فقال الملك الّذي معه: أتدري ما هذا؟ هذا الكوثر الّذي أعطاك اللّه، وضرب بيده إلى أرضه؛ فأخرج من طينه المسك. وكذا رواه سليمان بن طرخان ومعمرٌ وهمّامٌ وغيرهم، عن قتادة به.

وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن أبي سريجٍ، حدّثنا أبو أيّوب العبّاس، حدّثنا إبراهيم بن سعدٍ، حدّثني محمد بن عبد اللّه ابن أخي بن شهابٍ، عن أبيه، عن أنسٍ قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الكوثر؟ فقال: ((هو نهرٌ أعطانيه اللّه في الجنّة، ترابه مسكٌ أبيض من اللّبن، وأحلى من العسل، ترده طيرٌ أعناقها مثل أعناق الجزر)). فقال أبو بكرٍ: يا رسول اللّه، إنّها لناعمةٌ. قال: ((آكلها أنعم منها)).

وقال أحمد: حدّثنا أبو سلمة الخزاعيّ، حدّثنا اللّيث، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الوهّاب، عن عبد اللّه بن مسلم بن شهابٍ، عن أنسٍ، أنّ رجلاً قال: يا رسول اللّه، ما الكوثر؟ قال: ((نهرٌ في الجنّة أعطانيه ربّي لهو أشدّ بياضاً من اللّبن وأحلى من العسل، فيه طيورٌ أعناقها كأعناق الجزر)). قال عمر: يا رسول اللّه، إنّها لناعمةٌ. قال: ((آكلها أنعم منها يا عمر)).

ورواه ابن جريرٍ من حديث الزّهريّ، عن أخيه عبد اللّه، عن أنسٍ، أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الكوثر، فذكر مثله سواءً.

وقال البخاريّ: حدّثنا خالد بن يزيد الكاهليّ، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عائشة قال: سألتها عن قوله تعالى: {إنّا أعطيناك الكوثر}. قالت: نهرٌ أعطيه نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم، شاطئاه عليه درٌّ مجوّفٌ، آنيته كعدد النّجوم.

ثم قال البخاريّ: رواه زكريّا وأبو الأحوص ومطرّفٌ، عن أبي إسحاق، ورواه أحمد والنّسائيّ من طريق مطرّفٍ به.

وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عائشة قالت: الكوثر نهرٌ في الجنّة، شاطئاه درٌّ مجوّفٌ. وقال إسرائيل: نهرٌ في الجنّة عليه من الآنية عدد نجوم السماء.

وحدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا يعقوب القمّيّ، عن حفص بن حميدٍ، عن شمر بن عطيّة، عن شقيقٍ أو مسروقٍ قال: قلت لعائشة: يا أمّ المؤمنين، حدّثيني عن الكوثر. قالت: نهرٌ في بطنان الجنّة. قلت: وما بطنان الجنّة؟ قالت: وسطها، حافتاه قصور اللّؤلؤ والياقوت، ترابه المسك، وحصباؤه اللّؤلؤ والياقوت.

وحدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا وكيعٌ، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن عائشة قالت: من أحبّ أن يسمع خرير الكوثر فليجعل أصبعيه في أذنيه.

وهذا منقطعٌ بين أبي نجيحٍ وعائشة، وفي بعض الرّوايات: عن رجلٍ، عنها، ومعنى هذا: أنّه يسمع نظير ذلك؛ لا أنّه يسمعه نفسه، واللّه أعلم.

قال السّهيليّ: ورواه الدّارقطنيّ مرفوعاً من طريق مالك بن مغولٍ، عن الشّعبيّ، عن مسروقٍ، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.

ثم قال البخاريّ: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا هشيمٌ، أخبرنا أبو بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه اللّه إيّاه. قال أبو بشرٍ: قلت لسعيد بن جبيرٍ: فإنّ ناساً يزعمون أنّه نهرٌ في الجنّة. فقال سعيدٌ: النّهر الذي في الجنّة من الخير الذي أعطاه اللّه إيّاه.

ورواه أيضاً من حديث هشيمٍ، عن أبي بشرٍ وعطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: الكوثر: الخير الكثير. وقال الثّوريّ: عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: الكوثر: الخير الكثير. وهذا التفسير يعمّ النّهر وغيره؛ لأنّ الكوثر من الكثرة، وهو الخير الكثير، ومن ذلك النّهر.

كما قال ابن عبّاسٍ وعكرمة وسعيد بن جبيرٍ ومجاهدٌ ومحارب بن دثارٍ والحسن بن أبي الحسن البصريّ، حتى قال مجاهدٌ: هو الخير الكثير في الدّنيا والآخرة.

وقال عكرمة: هو النّبوّة والقرآن وثواب الآخرة. وقد صحّ عن ابن عبّاسٍ أنّه فسّره بالنّهر أيضاً، فقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا عمر بن عبيدٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: الكوثر: نهرٌ في الجنّة، حافتاه ذهبٌ وفضّةٌ، يجري على الياقوت والدّرّ، ماؤه أبيض من الثّلج وأحلى من العسل.

وروى العوفيّ عن ابن عبّاسٍ نحو ذلك.

وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا هشيمٌ، أخبرنا عطاء بن السّائب، عن محارب بن دثارٍ، عن ابن عمر، أنّه قال: الكوثر: نهرٌ في الجنّة، حافتاه ذهبٌ وفضّةٌ، يجري على الدّرّ والياقوت، ماؤه أشدّ بياضاً من اللّبن وأحلى من العسل.

وكذا رواه ابن جريرٍ عن ابن حميدٍ، عن جريرٍ، عن عطاء بن السّائب به مثله موقوفاً، وقد روي مرفوعاً.

فقال الإمام أحمد: حدّثنا عليّ بن حفصٍ، حدّثنا ورقاء قال: وقال عطاءٌ، عن محارب بن دثارٍ، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((الكوثر نهرٌ في الجنّة، حافتاه من ذهبٍ، والماء يجري على اللّؤلؤ، وماؤه أشدّ بياضاً من اللّبن وأحلى من العسل)).

هكذا رواه التّرمذيّ وابن ماجه وابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ من طريق محمد بن فضيلٍ، عن عطاء بن السّائب به مرفوعاً، وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.

وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، أخبرنا عطاء بن السّائب قال: قال لي محارب بن دثارٍ: ما قال سعيد بن جبيرٍ في الكوثر؟ قلت: حدّثنا عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: هو الخير الكثير. فقال: صدق واللّه، إنّه للخير الكثير، ولكن حدّثنا ابن عمر قال: لمّا نزلت: {إنّا أعطيناك الكوثر}؛ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((الكوثر نهرٌ في الجنّة حافتاه من ذهبٍ، يجري على الدّرّ والياقوت)).

وقال ابن جريرٍ: حدّثني ابن البرقيّ، حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا محمد بن جعفر بن أبي كثيرٍ، أخبرني حرام بن عثمان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أسامة بن زيدٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أتى حمزة بن عبد المطّلب يوماً، فلم يجده، فسأل امرأته عنه، وكانت من بني النّجّار، فقالت: خرج يا نبيّ اللّه آنفاً عامداً نحوك، فأظنّه أخطأك في بعض أزقّة بني النّجّار، أولا تدخل يا رسول اللّه؟ فدخل فقدّمت إليه حيساً، فأكل منه. فقالت: يا رسول اللّه، هنيئاً لك ومريئاً، لقد جئت وأنا أريد أن آتيك فأهنيك وأمريك، أخبرني أبو عمارة أنّك أعطيت نهراً في الجنّة يدعى الكوثر. فقال: ((أجل، وعرضه -يعني أرضه- ياقوتٌ ومرجانٌ وزبرجدٌ ولؤلؤٌ)).

حرام بن عثمان ضعيفٌ، ولكنّ هذا سياقٌ حسنٌ، وقد صحّ أصل ذلك، بل قد تواتر من طرقٍ تفيد القطع عند كثيرٍ من أئمّة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض.

وهكذا روي عن أنسٍ وأبي العالية ومجاهدٍ وغير واحدٍ من السلف أنّ الكوثر نهرٌ في الجنّة، وقال عطاءٌ: هو حوضٌ في الجنّة.

وقوله: {فصلّ لربّك وانحر}. أي: كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك النّهر الذي تقدّم صفته، فأخلص لربّك صلاتك المكتوبة والنّافلة ونحرك؛ فاعبده وحده لا شريك له، وانحر على اسمه وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين}.

قال ابن عبّاسٍ وعطاءٌ ومجاهدٌ وعكرمة والحسن: يعني بذلك نحر البدن ونحوها، وكذا قال قتادة ومحمد بن كعبٍ القرظيّ والضّحّاك والرّبيع وعطاءٌ الخراسانيّ والحكم وإسماعيل بن أبي خالدٍ وغير واحدٍ من السّلف، وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السّجود لغير اللّه والذّبح على غير اسمه، كما قال تعالى: {ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه وإنّه لفسقٌ} الآية.

وقيل: المراد بقوله: {وانحر}: وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى تحت النّحر. يروى هذا عن عليٍّ، ولا يصحّ، وعن الشّعبيّ مثله، وعن أبي جعفرٍ الباقر: {وانحر}. يعني: ارفع اليدين عند افتتاح الصلاة.

وقيل: {وانحر}. أي: استقبل بنحرك القبلة، ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جريرٍ، وقد روى ابن أبي حاتمٍ ههنا حديثاً منكراً جدًّا فقال:

حدّثنا وهب بن إبراهيم الفاميّ سنة خمسٍ وخمسين ومائتين، حدّثنا إسرائيل بن حاتمٍ المروزيّ، حدّثنا مقاتل بن حيّان، عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ بن أبي طالبٍ قال: لمّا نزلت هذه السورة على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم {إنّا أعطيناك الكوثر فصلّ لربّك وانحر}.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((ياجبريل ما هذه النّحيرة التي أمرني بها ربّي؟)).

فقال: ليست بنحيرةٍ، ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة ارفع يديك إذا كبّرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الرّكوع، وإذا سجدت؛ فإنّها صلاتنا وصلاة الملائكة الّذين في السّماوات السّبع، وإنّ لكلّ شيءٍ زينةً، وزينة الصّلاة رفع اليدين عند كلّ تكبيرةٍ)).

وهكذا رواه الحاكم في المستدرك من حديث إسرائيل بن حاتمٍ به.

وعن عطاءٍ الخراسانيّ: {وانحر}. أي: ارفع صلبك بعد الرّكوع، واعتدل وأبرز نحرك، يعني بعد الاعتدال، رواه ابن أبي حاتمٍ.

وكلّ هذه الأقوال غريبةٌ جدًّا، والصّحيح القول الأوّل، أنّ المراد بالنّحر: ذبح المناسك؛ ولهذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي العيد ثم ينحر نسكه ويقول: ((من صلّى صلاتنا ونسك نسكنا؛ فقد أصاب النّسك، ومن نسك قبل الصّلاة فلا نسك له)). فقام أبو بردة بن نيارٍ فقال: يا رسول اللّه، إنّي نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أنّ اليوم يومٌ يشتهى فيه اللّحم. قال: ((شاتك شاة لحمٍ)). قال: فإنّ عندي عناقاً، هي أحبّ إليّ من شاتين، أفتجزئ عنّي؟ قال: ((تجزئك، ولا تجزئ أحداً بعدك)).

قال أبو جعفر بن جريرٍ: والصواب قول من قال: إنّ معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلّها لربّك خالصةً دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان؛ شكراً له على ما أعطاك من الكرامة والخير، الذي لا كفاء له وخصّك به.

وهذا الذي قاله في غاية الحسن، وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعبٍ القرظيّ وعطاءٌ.

وقوله: {إنّ شانئك هو الأبتر}. أي: إنّ مبغضك يا محمّد، ومبغض ما جئت به من الهدى والحقّ والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقلّ الأذلّ المنقطع ذكره.

قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ وقتادة: نزلت في العاص بن وائلٍ.

وقال محمد بن إسحاق: عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائلٍ إذا ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: دعوه، فإنّه رجلٌ أبتر، لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره؛ فأنزل اللّه هذه السورة، وقال شمر بن عطيّة: نزلت في عقبة بن أبي معيطٍ.

وقال ابن عبّاسٍ أيضاً وعكرمة: نزلت في كعب بن الأشرف وجماعةٍ من كفّار قريشٍ.

وقال البزّار: حدّثنا زياد بن يحيى الحسّانيّ، حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: قدم كعب بن الأشرف مكّة، فقالت له قريشٌ: أنت سيّدهم، ألا ترى إلى هذا المصنبر المنبتر من قومه؟ يزعم أنّه خيرٌ منّا، ونحن أهل الحجيج وأهل السّدانة وأهل السّقاية، فقال: أنتم خيرٌ منه. قال: فنزلت: {إنّ شانئك هو الأبتر}.

هكذا رواه البزّار، وهو إسنادٌ صحيحٌ.

وعن عطاءٍ قال: نزلت في أبي لهبٍ، وذلك حين مات ابنٌ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فذهب أبو لهبٍ إلى المشركين، فقال: بتر محمدٌ اللّيلة؛ فأنزل اللّه في ذلك: {إنّ شانئك هو الأبتر}.

وعن ابن عبّاسٍ: نزلت في أبي جهلٍ، وعنه: {إنّ شانئك}. يعني: عدوّك، وهذا يعمّ جميع من اتّصف بذلك ممّن ذكر وغيرهم.

وقال عكرمة: الأبتر: الفرد. وقال السّدّيّ: كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا: بتر. فلمّا مات أبناء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا: بتر محمدٌ؛ فأنزل اللّه: {إنّ شانئك هو الأبتر}.

وهذا يرجع إلى ما قلناه، من أنّ الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره، فتوهّموا لجهلهم أنّه إذا مات بنوه ينقطع ذكره، وحاشا وكلاّ، بل قد أبقى اللّه ذكره على رؤوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رقاب العباد مستمرًّا على دوام الآباد إلى يوم الحشر والمعاد، صلوات اللّه وسلامه عليه دائماً إلى يوم التّناد.

آخر تفسير سورة الكوثر، وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/498-505]