24 Oct 2008
سورة الهُمَزَة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ
لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي
الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ
الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا
عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)}
تفسيرُ سورةِ الهمزةِ
{وَيْلٌ}أي: وعيدٌ، ووبالٌ، وشدّةُ عذابٍ {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الذي يهمزُ الناسَ بفعلهِ، ويلمزهمْ بقولهِ.
(1-9) {بسم
الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي
جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ
(5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ
(7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)}
فالهمّازُ: الذي يعيبُ الناسَ، ويطعنُ عليهم بالإشارةِ والفعلِ.
واللمَّازُ: الذي يعيبهمْ بقولهِ.
ومنْ صفةِ هذا الهمّازِ اللمّازِ أنَّهُ
لا هَمَّ لهُ سوى جمعِ المالِ وتعديدهِ والغبطةِ بهِ، وليسَ لهُ رغبةٌ في
إنفاقهِ في طرقِ الخيراتِ وصلةِ الأرحامِ، ونحوِ ذلكَ.
{يَحْسَبُ}بجهلهِ {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}في الدنيا، فلذلكَ
كانَ كدُّهُ وسعيهُ كلُّهُ في تنميةِ مالهِ، الذي يظنُّ أنَّهُ ينمي
عمرَهُ، ولمْ يدرِ أنَّ البخلَ يقصفُ الأعمارَ، ويخربُ الديارَ، وأنَّ
البرَّ يزيدُ في العمرِ.
{كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ}أي: ليطرحنَّ {فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}تعظيمٌ لهَا، وتهويلٌ لشأنهَا.
ثمَّ فسّرَهَا بقولهِ: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}التي وقودهَا الناسُ والحجارةُ {الَّتِي} منْ شدتهَا {تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} أي: تنفذُ منَ الأجسامِ إلى القلوبِ.
ومعَ هذهِ الحرارةِ البليغةِ همْ محبوسونَ فيهَا، قدْ أيسوا منَ الخروجِ منهَا، ولهذا قالَ: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُؤْصَدَةٌ} أي: مغلقةٌ{فِي عَمَدٍ}منْ خلفِ الأبوابِ {مُمَدَّدَةٍ}لئلاَّ يخرجوا منهَا{كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}.
سُورَةُ الهُمَزَةِ
1- {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}؛
أَيْ: خِزْيٌ أَوْ عَذَابٌ أَوْ هَلَكَةٌ للهُمَزَةِ، وَهُوَ: الَّذِي
يَغْتَابُ الرَّجُلَ فِي وَجْهِهِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَغْتَابُهُ منْ
خَلْفِهِ.
وَقِيلَ: الهُمَزَةُ:
الَّذِي يُؤْذِي جُلَسَاءَهُ بِسُوءِ اللَّفْظِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي
يَكْسِرُ عَيْنَهُ عَلَى جَلِيسِهِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ
أَوْ بِحَاجِبِهِ.
2- {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}
بَيَانٌ لِسَبَبِ هَمْزِهِ وَلَمْزِهِ، وَهُوَ إِعْجَابُهُ بِمَا جَمَعَ
من الْمَالِ، وَظَنُّهُ أَنَّ لَهُ بِهِ الفضلَ؛ فَلأَجْلِ ذَلِكَ
يَسْتَقْصِرُ غَيْرَهُ.
3- {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}؛
أَيْ: يَظُنُّ أَنَّ مَالَهُ يَتْرُكُهُ حَيًّا مُخَلَّداً لا
يَمُوتُ؛لِشِدَّةِ إعجابِهِ بِمَا يَجْمَعُهُ من الْمَالِ، فَلا يَعُودُ
يُفَكِّرُ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقِيلَ: هُوَ تَعْرِيضٌ بالعملِ الصالحِ، وَأَنَّهُ الَّذِي يُخَلِّدُ صَاحِبَهُ فِي الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، لا الْمَالُ.
4- {كَلاَّ}؛ أَيْ: لَيْسَ الأَمْرُ عَلَى مَا يَحْسَبُهُ، بَلْ {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}؛ أَيْ: لَيُطْرَحَنَّ هُوَ وَمَالُهُ فِي النَّارِ الَّتِي تَهْشِمُ كُلَّ مَا يُلْقَى فِيهَا وَتَحْطِمُهُ.
5- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}؛ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هِيَ؟ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا تُدْرِكُهُ العقولُ.
6- {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}؛ أَيْ: هِيَ نَارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
7- {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}؛ أَيْ: يَخْلُصُ حَرُّهَا إِلَى الْقُلُوبِ فَيَعْلُوهَا وَيَغْشَاهَا.
وَخَصَّ الأفئدةَ مَعَ
كَوْنِهَا تَغْشَى جَمِيعَ أَبْدَانِهِمْ؛ لأَنَّهَا مَحَلُّ تِلْكَ
المقاصدِ الزائغةِ وَالنِّيَّاتِ الخَبِيثَةِ وَسَيِّئِ الأَخْلاقِ من
الكِبْرِ وَاحْتِقَارِ أَهْلِ الفضلِ.
8- {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ}؛ أَيْ: مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُهَا جَمِيعاً، فَلا يَسْتَطِيعُونَ الخروجَ مِنْهَا.
{فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}؛
أَيْ: كَائِنِينَ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ مُوثَقِينَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
أُطْبِقَتِ الأبوابُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شُدَّتْ بِأَوْتَادٍ من حَدِيدٍ،
فَلا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَابٌ، وَلا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ رَوْحٌ.
المتن :
سورة الهُمَزَة
1- 3قولُه تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}يتوعَّدُ ربُّنا كلَّ من كان خُلُقُهُ أنه يغتابُ الناسَ ويطعنُ فيهم(1)،
الذي من صفتِه أنه حريصٌ على جمعِ المالِ والإكثار من عدِّهِ وحسابه؛
ولشدَّة وَلَعِه به، يظنُّ أنَّ مالَه سيُبقيه في هذه الدنيا. 4- 9قولُه تعالى: {كَلاَّ
لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ (7)
إِنَّهَا عَلَيْهِم مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} أي: ما ذلك كما يظنُّ هذا الهامِز اللاَّمِز، ليس ماله بمُخْلِدِه،
ثم أخبرَ تعالى أنه سيعاقبُه على أعمالِه التي عَمِلَها، فَذَكَر أنَّه
سيقذفُه ويُلقيه في الحُطَمَةِ التي تَحْطِمُهُ وتَدُقُّه وتكسره، ثم
استفهمَ عنها على سبيل التهويل، فقال: وما أعلمكَ ما هذه التي تَحْطِمُ ما
فيها؟ الحاشية : وورد أن الهُمَزة: باليد، واللُّمَزة، باللِّسان، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
ثُمَّ
بيَّن أن هذه الحُطَمة هي النارُ التي تشتعِلُ وتلتهِبُ من شدَّة الإيقاد،
هذه النارُ التي يبلغُ حَرُّها قلوبهم، وتحرقُ كل قلبٍ بحسب ذنبه، وهذه
النارُ مُطْبقَةٌ(2) على الكفَّار لا يستطيعونَ الخروج منها، وهم يعذَّبون فيها في أعمِدَةٍ طويلةٍ من النار(3)، والله أعلم.
وقال ابن زيد: (الهُمَزة: الذي يهمِزُ الناسَ ويضربهم بيده، واللُّمَزة: الذي يلمِزهم بلسانه ويعيبهم).
والهَمْز: هو عيبُ الناس بالإشارة، سواءٌ أكانت باليد، أم بغيرها، وسواءٌ أكان بحضرة المهْموز، أم بغَيْبته.
واللَّمْز: الطعنُ على الناس؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} ؛ أي: يَعيبون عليهم صَدَقَتَهم، والله أعلم.
وقد حُكي أنها نزلت في شخصٍ من الكفار:
فقيل: نزلت في جميل بن عامر الجُمَحي.
وقيل: في الأخْنَس بن شريق،
وهذا إن كان هو السبب المباشر، فإن الآية تعمُّ من كان بهذا الوصف نظراً
لعموم اللفظ، وإن كان المراد أنهم يدخلون في حُكم الآية، فذِكرُهم على سبيل
المثال لهامزٍ لامِزٍ، لا أنهما سبب النزول مباشرة، قال الطبري: (والصواب
من القول في ذلك أن يقال: إن الله عمَّ بالقول كلَّ هُمَزة لُمَزة، كل من
كان بالصِّفة التي وُصِفَ هذا الموصوف بها، سبيله سبيله، كائناً من كان من
الناس) والله أعلم.
(2)فسَّرها السلف بمُطْبقَة، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي مالك غزوان الغفاري والعوفي، وعطية العوفي من طريق فضيل بن مرزوق، والحسن من طريق أبي رجاء، والضحَّاك من طريق مضرِّس بن عبد الله، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد.
(3)وردَ التفسير عن ابن عباس من طريق العوفي قال: (أدخلَهم في عَمَدٍ، فمُدَّت عليهم بعِماد، وفي أعناقهم السلاسِل، فسدَّت بها الأبواب).
وقال ابن زيد: (في عَمَدٍ من حديدٍ مغلولين فيها، وتلك العَمَد من نار قد احترقت من النار، فهي من نارٍ مُمَدَّدة لهم).
وقال قتادة من طريق سعيد: (عَمُودٌ يعذَّبون به في النار).
قال الطبري: (وأولى
الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: معناه: أنهم يعذَّبون بعمَدٍ في
النار، والله أعلمُ كيف تعذيبُه إياهُم بها، ولم يأتِ خبرٌ تقومُ به الحجة
بصفةِ تعذيبِهم بها، ولا وضِعَ لنا دليلٌ فندرِكُ به صفةَ ذلك، فلا قولَ
فيه - غير الذي قلنا - يصحُّ عندنا).
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ
لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ
(4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ
(8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)} الشيخ:
قوله -جل وعلا-:{وَيْلٌ}تقدم لنا: أن هذا دعاء عليه بالهلاك، وأن الحديث الوارد في تفسير {وَيْلٌ} وأنه وادٍ في جهنم؛ أنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله -جل وعلا-: {لِكُلِّ هُمَزَةٍ}الهمزة: هو المغتاب؛ كما قال الله -جل وعلا-: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} فسر ابن عباس وقتادة الهماز: بأنه المغتاب.
وقوله:{هَمَّازٍ} هذه صيغة مبالغة، و{هُمَزَةٍ} هنا أيضاً صيغة مبالغة، فتدل على أنه كثير الاغتياب للناس.
وقوله -جل وعلا-: {لُمَزَةٍ} أي: أنه يعيب الناس في وجوههم، ويباشرهم بالعيب، فالأول:يذكرهم حال غيبتهم.
والوصف الثاني: يذكرهم حال الحضور، ويدل على ذلك -على تفسير اللمزة- قول الله -جل وعلا-: {الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ
اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هذه الآية نزلت في قومٍ لمزوا المتصدقين،
وذلك أنه لمّا نزلت آية الصدقة، صار المسلمون يحاملون على ظهورهم فيأتي
أحدهم بالشيء الكثير، ويأتي بعضهم بالشيء القليل، فقال بعض المنافقين إذا
رأى من جاء بالقليل قال: إن الله لغنيٌ عن صدقة هذا، وإذا رأوا آخر جاء
بالكثير قالوا: إن هذا لمرائي، فأنزل الله -جل وعلا- ذلك، وهذا ظاهرٌ في
أنهم كانوا يقولون هذا وهم يرون المؤمنين.
وقوله -جل وعلا-: {وَمِنْهُمْ
مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ
لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} هذه الآية يبين
معناها ما صنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قسم غنائم حُنين، فجاءه
رجلٌ فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اعدل، فقال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: ((ويلك من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله)) فقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}
هؤلاء مثل من صنع يوم حُنين، وهذا طعن في النبي -صلى الله عليه وسلم-، في
وجهه وفي حال حضرته، فدل ذلك على أن الهمزة هو الذي يغتاب الناس، وأن
اللمزة هو الذي يعيبهم في وجوههم.
قال الله -جل وعلا- في صفته أيضاً: {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} يعني: أنه يجمع المال ويحصيه ويضن به ويبخل، فهو يجمع ويمنع، ولهذا هو حريص على جمعه، حريص على إحصائه وعده.
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}أي:
يظن أن هذا المال يخلده في الدنيا، ولكنّ هذا المال لا يخلد أحداً؛ لأن
الله -جل وعلا- قضى بالهلاك على كل نفس على هذه البسيطة، كما قال الله -جل
وعلا-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}
فهذا المال لا يخلدُ أحداً، وهذه الآية فيها إشارة إلى ذم الذي يجمع هذا
المال من أجل أن ينفقه على أمور دنيوية، ليخلد به في الناس ذكراه؛ لأن بعض
الناس ينفق نفقات لا لوجه الله وإنما رياءً وسمعة، فهذه الآثار التي تبقى
بعده، وهو يقصد بها الرياء والسمعة وتخليد الذكرى، لا يقصد بها وجه الله،
يكون داخلاً في هذه الآية.
ثم قال الله -جل وعلا-: {كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} يعني: أن الله -جل وعلا- يزجره عن هذا الضن؛ لأنه لا أحد يخلد بماله، وأخبر -جل وعلا- وأقسم أن هذا الذي يصنع ذلك سيطرح في النار، وهي الحطمة، والحطمة:
اسم من أسماء النار سميت بذلك: لأنها يحطم بعضها بعضاً من شدتها، كما رآها
-صلى الله عليه وسلم- حين عرضت بين يديه صبيحة أن كسف بالشمس في عهده -صلى
الله عليه وسلم-، فإنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنه رأى النار يحطم بعضها
بعضاً، وكذلك هي حطمة: لأنها تحطمُ ما يلقى فيها، ولهذا تقول: هل من مزيد.
قال الله -جل وعلا-:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} هذا تفخيم لشأن النار حتى يحذرها العباد، ثم بيّن الله -جل وعلا- هذه الحطمة فقال:{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} يعني: نار الله التي أوقدها الله -جل وعلا- وجعلها موقدة، وقودها الناس والحجارة.
{الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}أي: أنها تصل إلى قلب العبد، وتدخل إليه في نار جهنم.
{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُؤْصَدَةٌ}أي: إن هذه النار على هؤلاء يوم القيامة مغلقة ومطبقة لا يخرجون منها، وزيادةً على هذا الإطباق يجعل الله -جل وعلا- أبوابها في{عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}
أي: أن هذه الأبواب تجعل في عمد، وهذه العمد تكون زيادة في إطباق النار
على الكفار، كما أن أبواب الدنيا يغلق الباب، ويوضع زيادة عليه مزلاج، يزيد
في قوته وفي إمساكه، كذلك النار يوم القيامة إذا أغلقت أبوابها عليهم
فإنها تكون في {عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} وتكون هذه العمد مؤكدةً لإطباق النار، زائدةً في الاستيثاق بأنهم لا يخرجون منها أبدا.
الأسئلة
سورة الهمزة
س1: بين معاني الكلمات التالية: ويل، هُمزة، لُمزة، عَدَّدَه، أخلده، لينبذنَّ، الحطمة، الموقدة، تطَّلع، مؤصدة، مُمدَّدة.
س2: فسر السورة تفسيراً إجمالياً مبيناً ما تضمنته من الفوائد السلوكية.
س3: تحدث باختصار عن موضوع السورة.
س4: ما الفرق بين الهمز واللمز؟
س5: ذمَّ الله عزَّ وجلَّ الاغترارَ بالمال والحرصَ عليه في القرآن الكريم، تحدث عن هذا الأمر في ضوء هذه السورة الكريمة.
س6: بين ما تفيده الصيغة الصرفية للفعل "عدَّده" في قوله تعالى: {جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}.
س7: ما معنى اللام في قوله تعالى: {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}؟
س8: ما نوع الاستفهام في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} ؟
س9: لِمَ أعيد الضمير بصيغة الجمع في قوله تعالى:{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُؤْصَدَةٌ}، ولم يقل "عليه" مع أن سياق الآيات السابقة للمفرد؟
س10: تحدث باختصار عن البلاغة التصويرية في القرآن الكريم من خلال دراستك لهذه السورة.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة ويل لكل همزة لمزةوهي مكّيّةٌ.
الهمّاز بالقول، واللمّاز بالفعل، يعني: يزدري الناس وينتقص بهم، وقد تقدّم بيان ذلك في قوله: {همّازٍ مشّاءٍ بنميمٍ}.
قال ابن عبّاسٍ: همزةٌ لمزةٌ: طعّانٌ معيابٌ. وقال الربيع بن أنسٍ: الهمزة يهمزه في وجهه، واللّمزة من خلفه. وقال قتادة: يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه، ويأكل لحوم الناس ويطعن عليهم.
وقال مجاهدٌ: الهمزة: باليد والعين، واللّمزة: باللسان، وهكذا قال ابن زيدٍ. وقال مالكٌ: عن زيد بن أسلم: همزه لحوم الناس. ثم قال بعضهم: المراد بذلك الأخنس بن شريقٍ. وقيل غيره. وقال مجاهدٌ: هي عامّةٌ.
وقوله: {الّذي جمع مالاً وعدّده} أي: جمعه بعضه على بعضٍ، وأحصى عدده،، كقوله: {وجمع فأوعى}. قاله السّدّيّ وابن جريرٍ.
وقال محمد بن كعبٍ في قوله: {جمع مالاً وعدّده}: ألهاه ماله بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنّه جيفةٌ.
وقوله: {يحسب أنّ ماله أخلده}. أي: يظنّ أنّ جمعه المال يخلّده في هذه الدار.
{كلاّ}. أي: ليس الأمر كما زعم ولا كما حسب.
ثم قال تعالى: {لينبذنّ في الحطمة}. أي: ليلقينّ هذا الذي جمع مالاً فعدّده في الحطمة، وهي اسمٌ من أسماء النار صفةٌ؛ لأنها تحطم من فيها.
ولهذا قال: {وما أدراك ما الحطمة نار اللّه الموقدة الّتي تطّلع على الأفئدة}.
قال ثابتٌ البنانيّ: تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياءٌ. ثم يقول: لقد بلغ منهم العذاب. ثمّ يبكي.
وقال محمد بن كعبٍ: تأكل كلّ شيءٍ من جسده، حتّى إذا بلغت فؤاده جدّد خلقه، فرجع على جسده.
وقوله: {إنّها عليهم مؤصدةٌ}. أي: مطبقةٌ، كما تقدّم تفسيره في سورة البلد.
وقال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن محمدٍ، حدّثنا عليّ بن سراجٍ، حدّثنا عثمان بن خرزاذ، حدّثنا شجاع بن أشرس، حدّثنا شريكٌ، عن عاصمٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {إنّها عليهم مؤصدةٌ}. قال: ((مطبقةٌ)).
وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة: عن عبد اللّه بن أسيدٍ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ قوله ولم يرفعه.
وقوله: {في عمدٍ ممدّدةٍ}. قال عطيّة العوفيّ: عمدٍ من حديدٍ.
وقال السّدّيّ: من نارٍ. وقال شبيب بن بشرٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {في عمدٍ ممدّدةٍ}. يعني: الأبواب هي الممدودة.
وقال قتادة: في قراءة عبد اللّه بن مسعودٍ: (إنّها عليهم مؤصدةٌ بعمدٍ ممدّدةٍ).
وقال العوفيّ: عن ابن عبّاسٍ: أدخلهم في عمدٍ فمدّت عليهم بعمادٍ، في أعناقهم السلاسل فسدّت بها الأبواب، وقال قتادة: كنّا نحدّث أنّهم يعذّبون بعمدٍ في النّار. واختاره ابن جريرٍ.
وقال أبو صالحٍ: {في عمدٍ ممدّدةٍ}. يعني: القيود الطّوال.
آخر تفسير سورة ويل لكل همزة لمزة). [تفسير القرآن العظيم: 8/481-482]