23 Oct 2008
سورةُ العاديات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ
الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا
بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ
رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)}
تفسيرُ سورةِ العادياتِ
أقسمَ اللهُ تباركَ وتعالى بالخيلِ، لمَا فيهَا منْ آياتِ اللهِ الباهرةِ، ونعمهِ الظاهرةِ، مَا هوَ معلومٌ للخلقِ. وأقسمَ بهَا في الحالِ التي لا يشاركُهَا غيرُهَا منْ أنواعِ الحيواناتِ، فقالَ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} أي: العادياتِ عدواً بليغاً قوياً، يصدرُ عنهُ الضبحُ، وهوَ صوتُ نفسِهَا في صدرِهَا عندَ اشتدادِ العدْوِ. {فَالْمُورِيَاتِ}بحوافرهنَّ مَا يطأْنَ عليهِ منَ الأحجارِ {قَدْحاً} أي: تقدحُ النارَ منْ صلابةِ حوافرهنَّ إذا عدون. {فَالْمُغِيرَاتِ}على الأعداءِ {صُبْحاً} وهذا أمرٌ أغلبيٌّ، أنَّ الغارةَ تكونُ صباحاً. {فَأَثَرْنَ بِهِ}أي: بعدوهنَّ وغارتهنَّ {نَقْعاً} أي: غباراً. {فَوَسَطْنَ بِهِ}أي: براكبهنَّ {جَمْعاً} أي: توسطنَ بهِ جموعَ الأعداءِ، الذينَ أغارَ عليهمْ. والمقسَمُ عليهِ قولُهُ: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي: لمنوعٌ للخيرِ الذي عليهِ لربهِ. فطبيعةُ
وجبلتهُ، أنَّ نفسَهُ لا تسمحُ بما عليهِ منَ الحقوقِ، فتؤديهَا كاملةً
موفرةً، بلْ طبيعتُهَا الكسلُ والمنعُ لمَا عليهِ منَ الحقوقِ الماليةِ
والبدنيةِ، إلاَّ مَنْ هداهُ اللهُ وخرجَ عنْ هذا الوصفِ إلى وصفِ السماحِ
بأداءِ الحقوقِ. {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}أي: إنَّ الإنسانَ على ما يعرفُ منْ نفسهِ منَ المنعِ والكندِ لشاهدٌ بذلكَ، لا يجحدهُ ولا ينكرهُ، لأنَّ ذلكَ أمرٌ بيِّنٌ واضحٌ. ويحتملُ
أنَّ الضميرَ عائدٌ إلى اللهِ تعالى أي: إنَّ العبدَ لربِّهِ لكنودٌ،
واللهُ شهيدٌ على ذلكَ، ففيهِ الوعيدُ، والتهديدُ الشديدُ، لمنْ هوَ لربهِ
كنودٌ، بأنَّ اللهَ عليهِ شهيدٌ. {وَإِنَّهُ}أي: الإنسانُ {لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي: المالِ {لشَّدِيدَ} أي: كثيرُ الحبِّ للمالِ،
وحبّهُ لذلكَ، هوَ الذي أوجبَ لهُ تركَ الحقوقِ الواجبةِ عليهِ، قدَّمَ
شهوةَ نفسهِ على حقِّ ربِّهِ، وكلُّ هذا لأنَّهُ قصرَ نظرهُ على هذهِ
الدارِ، وغفلَ عن الآخرةِ، ولهذا قالَ حاثّاً لهُ على خوفِ يومِ الوعيدِ: {أَفَلا يَعْلَمُ} أي: هلاَّ يعلمُ هذا المغترُّ {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} أي: أخرجَ اللهُ الأمواتَ منْ قبورهمْ، لحشرهمْ ونشورِهمْ. {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}أي: ظهرَ وبانَ ما استترَ في الصدورِ منْ كمائنِ الخيرِ والشرِّ، فصارَ السرُّ علانيةً، والباطنُ ظاهراً، وبانَ على وجوهِ الخلقِ نتيجةُ أعمالهمْ. {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}أي: مطلعٌ على أعمالهمُ الظاهرةِ والباطنةِ، الخفيةِ والجليةِ، ومجازيهمْ عليهَا. وخصَّ خُبره بذلكَ اليومِ،معَ أنَّهُ خبيرٌ بهمْ في كلِّ وقتٍ، لأنَّ المرادَ بذلكَ الجزاءُ بالأعمالِ، الناشئُ عنْ علمِ اللهِ واطلاعهِ.
(1-11){بسم
الله الرحمن الرحيم وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا
(2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ
بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ
عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي
الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)}
سُورَةُ الْعَادِيَاتِ
1- {وَالْعَادِيَاتِ}
الْمُرَادُ بِهِ الْخَيْلُ الَّتِي تَجْرِي وَتَعْدُو بِفُرْسَانِهَا
الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى الْعَدُوِّ مِنَ الْكُفَّارِ
الْمُشَاقِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقِيلَ: هِيَ الإِبِلُ تَعْدُو
بالحَجِيجِ مِن عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، فَيَجْتَمِعُونَ فِيهَا
جَمْعاً.وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ أَصَحُّ.
{ضَبْحاً}
الضَّبْحُ: نوعٌ من السيرِ، ونوعٌ من الْعَدْوِ، يُقَالُ: ضَبَحَ الفرسُ؛
إِذَا عَدَا بِشِدَّةٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّبْحُ: صَوْتُ أَنْفَاسِ
الْخَيْلِ إِذَا عَدَتْ.
2- {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً}:
هِيَ الْخَيْلُ حِينَ تُورِي النَّارَ، فَيَخْرُجُ الشَّرَرُ
بِحَوَافِرِهَا، إِذَا ضَرَبَتْ بِهَا الأَرْضَ الشَّدِيدَةَ
وَالْحِجَارَةَ؛ كَالقَدْحِ بِالزِّنَادِ.
3- {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً}؛ أَي: الَّتِي تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ وَقْتَ الصباحِ.
4- {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} النَّقْعُ: الغُبَارُ الَّذِي أَثَرْنَهُ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ عِنْدَ الغَزْوِ؛ أَيْ: فَأَظْهَرْنَ بِهِ غُبَاراً.
5- {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}:صِرْنَ بِعَدْوِهِنَّ وَسَطَ الأعداءِ قَدِ اجْتَمَعْنَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ جَمْعاً.
6- {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} الْكَنُودُ: الكَفُورُ للنِّعْمَةِ، كَثِيرُ الجَحْدِ لَهَا.
7- {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}؛
أَيْ: وَإِنَّ الإِنْسَانَ عَلَى كُنُودِهِ لَشَهِيدٌ يَشْهَدُ عَلَى
نَفْسِهِ بالجَحْدِ والكُفْرَانِ؛ لِظُهُورِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ.
8- {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} الْمَعْنَى: إنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ قَوِيٌّ، مُجِدٌّ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ، مُتَهَالِكٌ عَلَيْهِ.
9- {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}؛ أَيْ: نُثِرَ مَا فِي القُبُورِ مِنَ المَوْتَى، وَبُحِثَ عَنْهُمْ وَأُخْرِجُوا.
10- {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}؛ أَيْ: مُيِّزَ وَبُيِّنَ مَا فِيهَا من الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
11- {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}؛
أَيْ: إِنَّ رَبَّ الْمَبْعُوثِينَ بِهِمْ لَخَبِيرٌ، لاَ تَخْفَى
عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ،
وَلَكِنْ يُجَازِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ أَيْ: فَإِذَا عَلِمُوا
ذَلِكَ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَشْغَلَهُمْ حُبُّ الْمَالِ عَنْ شُكْرِ
رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ وَالعَمَلِ ليومِ النُّشُورِ.
المتن :
سورةُ العاديات
1- 5قولُه تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا(3)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}يقسِمُ ربُّنا بالخيلِ التي تجري وهي تُحَمْحِمُ؛ أي: يَصْدُرُ عنها صوتٌ يتردَّدُ في الحَنْجَرةِ من شدَّة الجري(1) ويتوقَّدُ شررُ النار من شدَّةِ احتكاك أقدامِها بالحَصَى (2)وهي تجري، فَتُغِيرُ وتدخلُ أرضَ العَدُوِّ في أول النهار(3)، فتُصْعِدُ الغبارَ من شدة الجري (4)، فتصيرُ هذه الخيلُ في وسطِ جمعِ العدو(5). 6- 8 قولُه تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}هذا جوابُ القَسَم، والمعنى: إنَّ الإنسانَ لكفورٌ لنعمةِ ربِّه، لا يشكرُها، ويمنعُها غيره، فَلا يعطيه(6)، وإن الإنسان يشهد على نفسه بكفرانه نعمة الله عليه(7)، وإنَّ هذا الإنسانَ الكنود محبٌّ للمالِ حُبَّاً شديداً، فهو يبخَلُ به، وذلك من كفرانه نعمةَ ربِّه. الرابع:الألسنة، ورد ذلك عن عكرمة من طريق سماك بن حرب. -وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياس، وهو الذي ينحُو إليه كثيرٌ من الصوفية وغيرهم، وهذا لا بأسَ به بأربعة شرائِط:
9- 11قولُه تعالى: {أَفَلا
يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي
الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}
أي: أفلا يدري هذا الإنسان الكَنودُ عن عقابه إذا أُثيرَ ما في القبور،
فأُخرِجَ منها الموتى، وجُمِعَ وأُبرِز ما في صدورِ الناس من خيرٍ وشرٍّ؟
فإن عَلِمَ ذلك، فليعلَم أنَّ ربَّه الذي سادَه وصرَّفَ أمرَه بربوبيَّتِه
له عالمٌ ببواطِن أعمالهم، وما أسرُّوه في صدورِهم وما أعلَنوه، لا يخفَى
عليه شيءٌ، وهو مُجازيهم عليها، والله أعلم.
الحاشية :
(1) اختلفَ السلفُ في المرادِ بهذا القَسَم، والملاحَظُ أن ما بعدَه معطوفٌ عليه، فيكونُ من جنسِه.
والقولُ الأول:أنها الخيل، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ومجاهد وعطاء، وعكرمة من طريق أبي رجاء، وعطاءِ بن أبي رباح من طريق ابن جريج وواصل، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وسالم من طريق سعيد بن أبي عروبة، والضحَّاك من طريق عبيد.
وإن كانت السورة مكية، ففيها الإشارةُ إلى الجهاد.
القول الثاني:أنه الإبل، ويكون التأويل: والإبل التي تَضْبَحُ بصوتها،وقيل: هي إبلُ الحُجَّاج، فَتُوري الشَّرَرَ بشدَّةِ جَرْيِها على الحَصَى، فتدفعُ مسرعةً في سيرها إلى مزدلِفة، فتثيرُ الغبار، فتتوسط مزدلفة، وهي جمع.
وقد فسَّرها بأنها الإبل: ابن مسعود من طريق إبراهيم النخعي ومجاهد، وعلي بن أبي طالب من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإبراهيم النخعي من طريق منصور، وعبيد بن عمير من طريق عمرو بن دينار.
وقد أنكرَ بعضهم أن تكونَ الإبل؛لأن
الضَّبْحَ إنما يكونُ من الخيل، وهذا فيه نظر؛ لأن ثبوت هذا التفسير عن
هؤلاء السلفِ يدل على صحَّة هذا الإطلاقِ في اللغة؛ لأنهم من أهلها، وهم
أعلمُ بها من المنكرين من المتأخرينَ عليهم.
وأما محاولةُ تخريجِ قولهم على أن مرادَهم تفسير الضبحِ بالضَّبْعِ، وهو مدُّ العُنق في السير، على أسلوبِ القَلبِ بين العين والحاء فيهما، فهي دعوى لا دليلَ عليها، ولم يُشر هؤلاء السلف العرب إلى هذا في تفسيرِهم، ومن ثمَّ فإن الصوابَ أن يُحكى هذا لغةً، والله أعلم. (2) اختلف السلفُ في تفسير الموريات، على أقوال:
الأول: الخيلُ تُوري النار بحوافِرِها، ورد ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء، والكلبي من طريق معمر، وعطاء من طريق واصل، والضحاك من طريق عبيد.
وورد عن قتادة من طريق معمر وسعيدتفسير الإيراء من الخيل بأنهن يهيِّجنَ الحربَ بينهم وبين عدوِّهم.
الثاني:المقاتِلون الذين يُورون النارَ بعد انصرافهم من الحرب، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير.
الخامس:الإبلُ تنسِفُ بمناسِفها الحصى، ورد ذلك عن ابن مسعود من طريق إبراهيم النخعي، وهو مقتضى تفسير علي.
قال الطبري:
(وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إنّ الله تعالى ذِكْرُه أقسمَ
بالمورِياتِ، التي توري النيران قَدْحاً، فالخيلُ توري بحوافِرها، والناسُ
يُورُونَها بالزَّنْد، واللسان - مثلاً - يُوري بالمنطِق، والرجالُ يورونَ
بالمَكر - مثلاً- وكذلك الخيل تهيجُ الحربَ بين أهلِها إذا التقت في الحرب،
ولم يضع الله دلالةً على أن المرادَ من ذلك بعضٌ دون بعضٍ، فكلُّ ما
أوْرَتِ النارَ قدحاً، فداخلة فيما أقسمَ به، لعمومِ ذلك بالظاهر).
وهذا الحملُ على العموم فيه نظر؛لوجودِ
الدلالة على أن المرادَ بالمورِيات عين المرادِ بالعاديات؛ للعطف بالفاء
الذي يدل على تفريعِ ما بعدها عن الذي قبلها، وتسبُّبِهِ عنه، وإذا كان ذلك
كذلك.
فإن الصحيحَ أن هذه الأوصاف في الخيل،وإن كانت المذكورات يشمَلُها وصفُ المورِيات - كما ذكر الطبري - فإنها ألصقُ بالخيلِ من الإبلِ وغيرِها، ذلك أن الضَّبْحَ في الخيل أشهر، وإيراء النار بحوافِرها أوضح، والله أعلم.
ويلاحَظُ أن
هذه الأقوال - غير القول بأنها الخيل أو الإبل - كأنها أخرجَت اللفظ عن
سِياقه، وحملتهُ على تأويلٍ لا يناسِبُ العطفَ بالفاء، وهذه مسألةٌ تحتاجُ
إلى بحثٍ ونظر؛ إذ يوجد في تفسير السلف من هذه الشاكلةِ أمثلَة، ويظهر أنها
تدخلُ في باب التفسير على القياس، أو حملِ اللفظ على عمومه دونَ النظرِ
إلى سياقه الواردِ فيه!
قال ابن
القيم عن هذه الأقوال: (وهذه الأقوال، إن أُريدَ أنَّ اللفظَ دلَّ عليها،
وأنها هي المرادُ فغلَطٌ، وإن أريدَ أنها أُخِذت من بابِ الإشارةِ والقياس،
فأمرُها قريب.
وتفسيرُ الناس يدور على ثلاثة أصول:
-تفسيرٌ على اللفظ، وهو الذي ينحُو إليه المتأخرون.
-ألا يناقضَ معنى الآية.
-وأن يكونَ معنى صحيحاً في نفسه.
-وأن يكون في اللفظِ إشعارٌ به.
-وأن يكونَ بينَهُ وبينَ معنى الآيةِ ارتباطٌ وتلازُم.
فإذا اجتمعت هذه الأمورُ الأربعةُ كان استنباطاً حسناً).
(التبيان في أقسام القرآن: 51، ونقلته بطوله للفائدة).
(3)ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وعكرمة من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وفي عبارته من طريق سعيد ما يشعِرُ بأنه أرادَ القوم المُغِيرين، قال: (أغار القومُ بعد ما أصبحوا على عدوِّهم).
وورد عن ابن مسعود من طريق إبراهيم أنها الإبلُ حين تدفع من مزدلفة إلى منى، وهو مقتضى قول علي بن أبي طالب.
(4)ورد هذا المعنى عن القائلين بأنها الخيل، قال ابن زيد: (أثارت الترابَ بحوافرِها) وهو قول عكرمة من طريق أبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وكذا ورد عن القائلين بأنها الإبل، قال علي بن أبي طالب: (الأرضُ حين تطؤها بأخفافِها وحوافِرها) وكذا قال ابن مسعود من طريق إبراهيم.
(5)كذا قال من فسَّرها بالخيل، وردَ ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء وسماك، وابن عباس من طريق العوفي، وعطاء من طريق واصل، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحَّاك من طريق عبيد.
وورد عن عبد الله بن مسعود من طريق إبراهيم النخعيأنها الإبل حين تتوسَّط مزدلفة، وهو مقتضى قول علي بن أبي طالب.
(6)وردَ عن السلف أنه الكَفور، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق مجاهد والعوفي، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، والربيع من طريق أبي جعفر، والحسن من طريق معمر، وقتادة من طريق سعيد، وسماك بن حرب من طريق شعبة، وابن زيد، وزاد الحسن من طريق سفيان الثوري في وصفه فقال: هو الكَفورُ الذي يعدُّ المصائب، وينسى نِعَمَ ربِّه، ورواه أيضاً من طريق سفيان عن هشام عنه.
(7)ورد هذا التفسير عن قتادة من طريق سعيد، وسفيان من طريق مهران، وفي رواية أخرى عن قتادة من طريق سعيد قال (في بعض القراءات: إن الله على ذلك لشهيد) وهذا تفسيرٌ للضمير في (إنه) على القراءة المعروفة، وقد وردَ عن محمد بن كعب القرظي أن الضميرَ للإنسان، والمعنى: (وإن هذا الكَفورَ شهيدٌ على نفسِه بكُفره؛ أي بلسانِ حاله) قاله ابن كثير.
وهذا القولُ ألْيَقُ باتساق الضمائر،وعودِها على الظاهر في أول الكلام من غير حاجةٍ إلى التقديم والتأخير؛ أي: إنَّ الإنسان، وإنه، وإنه، ولهذا جعل قتادة الكلام على التقديم والتأخير فقال: (هذا في مقاديمِ الكلام، قال: يقول الله: إن الله لشهيدٌ أنَّ الإنسانَ لحبِّ الخير لشديد).
والاختلاف هنا من قبيل اختلاف التنوّع،وهو يرجع إلى أكثر من معنى، وسببه الاختلاف في مفسَّر الضمير، والله أعلم.
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الإِنسَانَ
لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ
لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي
الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)}
الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله -جل وعلا-: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً}
هذا إقسام من الله -جل وعلا- بالخيل، فهذه الصفات صفات للخيل، ولكن الخيل
لم يذكرها الله -جل وعلا- هاهنا؛ لأن هذه الصفات تكون في الخيل معروفة عند
العرب كذلك.
فقوله -جل وعلا-: {وَالْعَادِيَاتِ} العاديات:جمع عادية، وهي التي تسرع في الجري.
وقوله -جل وعلا-: {ضَبْحاً}
هذا مأخوذ من الضبح، أو هذا مصدر يدل على أن هذه الخيل التي تعدو يخرج
منها نفس وصوت ليس بحمحمة ولا صهيل، فهذه الخيل إذا جرت جرياً شديداً يكون
لها صوت، فقوله -جل وعلا-: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} أي: والخيل العاديات التي يخرج منها صوت من صدرها ليس بصوتها المعتاد من صهيل أوحمحمة.
ثم قال -جل وعلا-: {فالْمُورِيَاتِ قَدْحاً}الموريات: جمع مورية، وهي أن الخيل إذا ضربت بحافرها على الحجارة خرج منها نار، وهو المراد بقوله -جل وعلا-: {فالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} يعني: تنقدح النار، إذا صكت رجلها في هذه الحجارة انقدحت النار.
ثم قال -جل وعلا-: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} يعني: أن هذه الخيل تغير في الصباح على العدو.
ثم قال -جل وعلا-: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} أي: أن هذه الخيل العادية المذكورة بالأوصاف السابقة تثير غباراً وهو النقع في وسط العدو.
وقوله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} أي: أنها تتوسط جموع العدو، ففي الأول ذكر الله -جل وعلا- ذلك بالاسم، ثم ذكره بعد ذلك بالفعل، قوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} والأُوَل كانت أسماء، قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- ذكر هاهنا الفعل: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} لأن
ما تقدم وسيلة إلى هذه، فالأول وسائل، الذي هو العدو والإيراء والإغارة
هذه كلها وسيلة، وسيلة إلى أن تتوسط هذه الخيل، وسط العدو وتثير النقع، وهو
التراب في وجوه الأعداء.
وهذا قسم من الله -جل وعلا- أقسم به على أن الإنسان لربه لكنود، ولذلك قال بعد ذلك: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي: إن الإنسان لربه لكفور جاحد، والمراد بذلك أن الإنسان يكفر نعمة الله -جل وعلا- عليه.
ثم قال -جل وعلا-: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}
أي: الإنسان على هذا الكنود شهيد، وهذا عند بعض أهل العلم أن الضمير عائد
إلى الإنسان؛ لأن الضمير قبله والضمير بعده يرجع إليه، وإذا قلنا: إنه عائد
إلى الإنسان، فقد يقول قائل: يشكل على هذا قول الله -جل وعلا-: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.
وقول الله -جل وعلا-: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} فهنا ذكر الله -جل وعلا- أن الإنسان الكافر وهو يفعل هذه الأفعال يحسب ويعتقد أنه مهتدي، وفي هذه الآية يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي: شاهد على كفره بنعمة الله -جل وعلا-.
وقد أجاب العلماء عن ذلك: بأن قوله -جل وعلا-: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}
أي: هو وإن لم يشهد بلسانه ويقل بلسانه إني كفور لنعمة الله، فأفعاله
وحاله شاهدة على ذلك، وإن لم ينطق بذلك، فقوله -جل وعلا- في الآية: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي: حاله شاهدة على كفره لربه -جل وعلا-.
وجمهورالعلماء يرون أن الضمير عائد إلى الله -جل وعلا-، وأن
الله -جل وعلا- (شهيد) على كفر هذا الإنسان لنعمة الله -جل وعلا- عليه،
وحينئذ لا يبقى إشكال بين هذه الآية وآيتي الأعراف والكهف. ثم قال -جل وعلا-: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (10) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}
يعني: أفلا يعلم هذا الكافر أن أهل القبور يبعثون، وأن ما في الصدور يُجمع
ويبرز ويظهر للعيان، قد جمع الله -جل وعلا- في هذه الآية بين القبور
والصدور؛ لأن القبر يواري الجسد، والصدر يخفي في باطنه أعمالاً لا تنكشف في
الدنيا، فلهذا إذا كان يوم القيامة أظهر الله -جل وعلا- الأجساد من
القبور، وأظهر ما تكنه الصدور، فكان الجميع بارزاً ظاهراً بين يدي الله -جل
وعلا. وخص الله -جل وعلا- الصدور هاهنا بالذكر؛لأن الصدر فيه
القلب، والقلب هو المحرك لهذه الجوارح، فإن لم يلتفت القلب إلا إلى الله
-جل وعلا- كانت الجوارح مسخرة في طاعة الله، وإن انحرف القلب انحرفت
الجوارح، فبحسب انحراف القلب تنحرف الجوارح، ولهذا ذكره الله -جل وعلا- في
هذه الآية.
ثم قال -جل وعلا-: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي: أن هذا الإنسان الذي كفر نعمة الله -عز وجل- هو حريص على المال يحبه ويجمعه، وهذا كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} فهو يجمع هذا المال ويحرص عليه ويحبه حباً شديداً، وهذا كما قال الله -جل وعلا-: {كَلاَّ
بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} أي:
أن الله -جل وعلا- يوم القيامة خبير بعباده، وليس معنى ذلك أن الله -جل
وعلا- حال الحياة الدنيا ليس بخبير بعباده، بل هو خبير -جل وعلا- بهم في
الدنيا والآخرة، ومحيط بهم، وعالم؛ كما دلت على ذلك نصوص الكتاب الكثيرة، ولكن قال العلماء: إن قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} نص الله -جل وعلا- على ذلك اليوم وأنه يخَبرُُ فيه عباده؛ لأن ذلك العلم من الله عز وجل يتبعه الجزاء، فقوله -جل وعلا-: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}
هذا فيه إيذان بجزاء الله -جل وعلا- لعباده؛ لأن الله -جل وعلا- يعلم ما
يصنعه عباده في الدنيا، ولكن الله -جل وعلا- ما جعل الدنيا دار جزاء، فلذلك
يؤخرهم إلى الآخرة، فإذا جاءت الآخرة كان الجزاء، وعندئذ نص الله -جل
وعلا- في هذه الآية على أنه خبير بهم، يعني أن الموجب لهذا العلم والإحاطة
التامة في تلك الساعة هو جزاء العباد.
تفسير سورة العاديات
تفسير قول الله تعالى : ( والعاديات ضبحاً )
أقوال السلف في تفسير " العاديات "
تفسير قول الله تعالى : ( فالموريات قدحاً )
أقوال السلف في تفسير " الموريات "
التفسير على ثلاثة معانٍ: (تفسير اللفظ، وتفسير المعنى، والتفسير بالقياس والإشارة)
شروط التفسير بالإشارة والقياس
تفسير قول الله تعالى : ( فالمغيرات صبحاً )
تفسير قول الله تعالى : ( فأثرن به نقعاً ، فوسطن به جمعاً )
تفسير قول الله تعالى : ( إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه على ذلك لشهيد )
تفسير قول الله تعالى : ( وإنه لحب الخير لشديد )
تفسير قول الله تعالى : ( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور )
تفسير قول الله تعالى : ( إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير )
الأسئلة
سورة العاديات
س1: بين المقسم به والمقسم عليه في هذه السورة.
س2: اذكر أقوال أهل العلم في المراد بالعاديات.
س3: بين معاني الكلمات التالية: ضَبْحاً، المورِيات، المُغيرات، أَثَرْنَ، نَقْعَا، وَسَطْنَ، جمعاً، كَنودٌ، بُعْثِر، حُصِّلَ.
س4: فسر السورة تفسيراً إجمالياً، مبيناً أهمَّ الفوائدِ السلوكية التي استفدتها من دراستك لهذه السورة؟
س5: اذكر أقوال المفسِّرين في معنى قوله تعالى: {الْمُورِيَاتِ}، واذكر تعليق ابن القيم-رحمه الله تعالى- على هذه الأقوال.
س6: اذكر قولي العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}.
س7: تحدث باختصار عن خطر فتنة المال.
س8:
من الطرق الناجعة في الوعظ: التذكير بالبعث والجزاء، ومراقبة الله تعالى،
تحدث باختصار عن أهمية هذه الأصول في الوعظ، مع بيان دلائلها من السورة.
س9: لماذا أعيد الضمير بصيغة الجمعِ في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}، ولَمْ يقل "به" مع أنَّ السياق يدل على أنَّ الخبر عن الإنسان وهو لفظ مفرد؟
س10: اذكر التناسب بين الآيتين في قوله تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة العاديات وهي مكّيّةٌ.
يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت، وهو الصّوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو.
{فالموريات قدحاً}. يعني اصطكاك نعلها بالصّخر، فتقدح منه النّار.
{فالمغيرات صبحاً}. يعني الإغارة وقت الصّباح، كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يغير صباحاً ويتسمّع الأذان، فإن سمع أذاناً وإلاّ أغار.
{فأثرن به نقعاً}. يعني: غباراً في مكان معترك الخيول.
{فوسطن به جمعاً}. أي: توسّطن ذلك المكان كلّهنّ جمع.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا عبدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد اللّه: {والعاديات ضبحاً}. قال: الإبل.
وقال عليٌّ: هي الإبل. وقال ابن عبّاسٍ: هي الخيل. فبلغ عليًّا قول ابن عبّاسٍ؛ فقال: ما كانت لنا خيلٌ يوم بدرٍ. قال ابن عبّاسٍ: إنّما كان ذلك في سريّةٍ بعثت.
قال ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ: حدّثنا يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني أبو صخرٍ، عن أبي معاوية البجليّ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ حدّثه، قال: بينا أنا في الحجر جالساً،، جاءني رجلٌ فسألني عن: {العاديات ضبحاً}. فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل اللّه ثمّ تأوي إلى اللّيل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم.
فانفتل عنّي فذهب إلى عليٍّ رضي اللّه عنه وهو عند سقاية زمزم، فسأله عن: {العاديات ضبحاً}. فقال: سألت عنها أحداً قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عبّاسٍ، فقال: الخيل حين تغير في سبيل اللّه. قال: اذهب فادعه لي.
فلمّا وقف على رأسه قال: أتفتي الناس بما لا علم لك، واللّه لئن كان أوّل غزوةٍ في الإسلام بدرٌ، وما كان معنا إلاّ فرسان: فرسٌ للزّبير، وفرسٌ للمقداد، فكيف تكون العاديات ضبحاً، إنّما العاديات ضبحاً من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منًى.
قال ابن عبّاسٍ: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال عليٌّ رضي اللّه عنه.
وبهذا الإسناد عن ابن عبّاسٍ قال: قال عليٌّ إنّما {العاديات ضبحاً}: من عرفة إلى المزدلفة، فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النّيران. وقال العوفيّ: عن ابن عبّاسٍ: هي الخيل.
وقد قال بقول عليٍّ: إنّها الإبل. جماعةٌ، منهم إبراهيم وعبيد بن عميرٍ. وبقول ابن عبّاسٍ آخرون،، منهم مجاهدٌ وعكرمة وعطاءٌ وقتادة والضّحّاك، واختاره ابن جريرٍ.
قال ابن عبّاسٍ وعطاءٌ: ما ضبحت دابّةٌ قطّ إلاّ فرسٌ أو كلبٌ. وقال ابن جريجٍ: عن عطاءٍ، سمعت ابن عبّاسٍ يصف الضّبح: أح أح.
قال أكثر هؤلاء في قوله: {فالموريات قدحاً}: يعني: بحوافرها.
وقيل: أسعرن الحرب بين ركبانهنّ. قاله قتادة.
وعن ابن عبّاسٍ ومجاهدٍ: {فالموريات قدحاً}. يعني: مكر الرّجال.
وقيل: هو إيقاد النّار إذا رجعوا إلى منازلهم من اللّيل.
وقيل: المراد بذلك نيران القبائل. وقال من فسّرها بالخيل: هو إيقاد النّار بالمزدلفة.
قال ابن جريرٍ: والصّواب الأوّل: أنّها الخيل حين تقدح بحوافرها.
وقوله: {فالمغيرات صبحاً}. قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وقتادة: يعني: إغارة الخيل صبحاً في سبيل اللّه. وقال من فسّرها بالإبل: هو الدّفع صبحاً من المزدلفة إلى منًى.
وقالوا كلّهم في قوله: {فأثرن به نقعاً}: هو المكان الذي حلّت فيه، أثارت به الغبار ؛؛ إمّا في حجٍّ أو غزوٍ.
وقوله: {فوسطن به جمعاً}. قال العوفيّ: عن ابن عبّاسٍ،، وعطاءٌ وعكرمة وقتادة والضّحّاك: يعني جمع الكفّار من العدوّ.
ويحتمل أن يكون: فوسطن بذلك المكان جميعهنّ، ويكون {جمعاً} منصوباً على الحال المؤكّدة، وقد روى أبو بكرٍ البزّار ههنا حديثاً:
فقال: حدّثنا أحمد بن عبدة، حدّثنا حفص بن جميعٍ، حدّثنا سماكٌ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خيلاً، فأشهرت شهراً لا يأتيه منها خبرٌ؛ فنزلت: {والعاديات ضبحاً}: ضبحت بأرجلها.
{فالموريات قدحاً}: قدحت بحوافرها الحجارة فأورت ناراً.
{فالمغيرات صبحاً}: صبّحت القوم بغارةٍ.
{فأثرن به نقعاً}. أثارت بحوافرها التّراب.
{فوسطن به جمعاً}. قال: صبّحت القوم جميعاً.
وقوله: {إنّ الإنسان لربّه لكنودٌ}. هذا هو المقسم عليه، بمعنى أنّه بنعم ربّه لجحودٌ كفورٌ.
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وإبراهيم النّخعيّ وأبو الجوزاء وأبو العالية وأبو الضّحى وسعيد بن جبيرٍ ومحمّد بن قيسٍ والضّحّاك والحسن وقتادة والرّبيع بن أنسٍ وابن زيدٍ: {الكنود}: الكفور. قال الحسن: هو الذي يعدّ المصائب وينسى نعم ربّه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا عبيد اللّه، عن إسرائيل، عن جعفر بن الزّبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (({إنّ الإنسان لربّه لكنودٌ})). قال: ((الكنود: الّذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده)).
رواه ابن أبي حاتمٍ من طريق جعفر بن الزّبير، وهو متروكٌ، فهذا إسنادٌ ضعيفٌ.
وقد رواه ابن جريرٍ أيضاً من حديث حريز بن عثمان، عن حمزة بن هانئٍ، عن أبي أمامة موقوفاً.
وقوله: {وإنّه على ذلك لشهيدٌ}. قال قتادة وسفيان الثّوريّ: وإنّ اللّه على ذلك لشهيدٌ.
ويحتمل أن يعود الضّمير على الإنسان، قاله محمد بن كعبٍ القرظيّ، فيكون تقديره: وإنّ الإنسان على كونه كنوداً لشهيدٌ، أي: بلسان حاله. أي: ظاهرٌ ذلك عليه في أقواله وأفعاله، كما قال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر}.
وقوله: {وإنّه لحبّ الخير لشديدٌ}. أي: وإنّه لحبّ الخير -وهو المال- لشديدٌ، وفيه مذهبان:
أحدهما: أنّ المعنى: وإنّه لشديد المحبّة للمال.
والثاني: وإنّه لحريصٌ بخيلٌ،، من محبّة المال. وكلاهما صحيحٌ.
ثمّ قال تعالى مزهّداً في الدّنيا ومرغّباً في الآخرة ومنبّهاً على ما هو كائنٌ بعد هذه الحال وما يستقبله الإنسان من الأهوال: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور}. أي: أخرج ما فيها من الأموات.
{وحصّل ما في الصّدور}. قال ابن عبّاسٍ وغيره: يعني: أبرز وأظهر ما كانوا يسرّون في نفوسهم.
{إنّ ربّهم بهم يومئذٍ لخبيرٌ}. أي: لعالمٌ بجميع ما كانوا يصنعون ويعملون، ومجازيهم عليه أوفر الجزاء، ولا يظلم مثقال ذرّةٍ.
آخر سورة العاديات، وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/465-467]