الدروس
course cover
تفسير سورة البينة
23 Oct 2008
23 Oct 2008

6296

0

0

course cover
تفسير جزء عمّ

القسم السابع

تفسير سورة البينة
23 Oct 2008
23 Oct 2008

23 Oct 2008

6296

0

0


0

0

0

0

0

سورة البيِّنة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}

هيئة الإشراف

#2

23 Oct 2008

تفسيرُ سورةِ لم يكنْ



(1-8){بسم الله الرحمن الرحيم لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}

يقولُ تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي: اليهودِ والنصارى {وَالْمُشْرِكِينَ} منْ سائرِ أصنافِ الأممِ {مُنْفَكِّينَ}عنْ كفرهمْ وضلالهمْ الذي همْ عليهِ أي: لا يزالونَ في غيهمْ وضلالهمْ، لا يزيدُهمْ مرورُ السنينِ إلا كفراً {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}الواضحةُ، والبرهانُ الساطعُ.
ثم فسَّرَ تلكَ البينةَ فقالَ:{رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أي: أرسلهُ اللهُ، يدعو الناسَ إلى الحقِّ، وأنزلَ عليهِ كتاباً يتلوهُ، ليعلمَ الناسَ الحكمةَ ويزكيهمْ، ويخرجهم منَ الظلماتِ إلى النورِ، ولهذا قالَ: {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} أي: محفوظةً عنْ قربانِ الشياطينِ، لا يمسها إلاَّ المطهرونَ، لأنَّهَا في أعلى مَا يكونُ منَ الكلامِ.
ولهذا قالَ عنهَا:{فِيهَا} أي: في تلكَ الصحفِ {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي: أخبارٌ صادقةٌ، وأوامرُ عادلةٌ تهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيمٍ، فإذا جاءتهمْ هذه البينةُ، فحينئذٍ يتبينُ طالبُ الحقِّ ممن ليسَ له مقصدٌ في طلبهِ، فيهلكُ مَنْ هلكَ عن بينةٍ، ويحيا مَنْ حيَّ عنْ بينةٍ.


وإذا لمْ يؤمنْ أهلُ الكتابِ لهذا الرسولِ وينقادوا لهُ، فليسَ ذلكَ ببدعٍ منْ ضلالهمْ وعنادهمْ، فإنَّهمْ ما تفرَّقوا واختلفوا وصاروا أحزاباً{إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} التي توجبُ لأهلهَا الاجتماعَ والاتفاقَ، ولكنَّهمْ لرداءتهمْ ونذالتهمْ، لم يزدهمْ الهدى إلا ضلالاً، ولا البصيرةُ إلا عمىً، معَ أنَّ الكتبَ كلَّهَا جاءتْ بأصلٍ واحدٍ ودينٍ واحدٍ، فمَا أمروا في سائرِ الشرائعِ إلاَّ أنْ يعبدوا {اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: قاصدينَ بجميعِ عباداتهمُ الظاهرةِ والباطنةِ وجهَ اللهِ، وطلبَ الزلفى لديهِ، {حُنَفَاءَ} أي: معرضينَ عنْ سائرِ الأديانِ المخالفةِ لدينِ التوحيدِ.

وخصَّ الصلاةَ والزكاةَ، معَ أنهما داخلانِ في قولهِ:

{لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} لفضلهما وشرفهما، وكونهما العبادتينِ اللتينِ مَنْ قامَ بهما قامَ بجميعِ شرائعِ الدينِ.

{وَذَلِكَ} أي: التوحيدُ والإخلاصُ في الدينِ، هوَ {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي: الدينُ المستقيمُ، الموصلُ إلى جناتِ النعيمِ، وما سواهُ فطرقٌ موصلةٌ إلى الجحيمِ.

ثمَّ ذكرَ جزاءَ الكافرينَ بعدما جاءتهمُ البينةُ، فقالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} قدْ أحاطَ بهمْ عذابُهَا، واشتدَّ عليهمْ عقابُهَا، {خَالِدِينَ فِيهَا} لا يفترُ عنهمُ العذابُ، وهمْ فيهَا مبلسونَ، {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} لأنَّهمْ عرفوا الحقَّ وتركوهُ، وخسروا الدنيا والآخرةَ.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}
لأنَّهمْ عبدوا اللهَ وعرفوهُ، وفازوا بنعيمِ الدنيا والآخرةِ.

{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}أي: جناتُ إقامةٍ، لا ظعنَ فيها ولا رحيلَ، ولا طلبَ لغايةٍ فوقها.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}
فرضيَ عنهمْ بمَا قاموا بهِ منْ مراضيهِ، ورضوا عنهُ، بمَا أعدَّ لهمْ منْ أنواعِ الكراماتِ وجزيلِ المثوباتِ {ذَلِكَ} الجزاءُ الحسنُ {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي: لمنْ خافَ اللهَ، فأحجمَ عنْ معاصيهِ، وقامَ بواجباتهِ.

هيئة الإشراف

#3

23 Oct 2008


سُورَةُ البَيِّنَةِ

1- {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، {وَ} الْمُرَادُ بِـ {الْمُشْرِكِينَ} مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَهُمْ عَبَدَةُ الأوثانِ.
{مُنْفَكِّينَ}: مُفَارِقِينَ لِكُفْرِهِمْ وَلا مُنْتَهِينَ عَنْهُ.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}. البَيِّنَةُ: كُلُّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْقُرْآنُ أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى الآيَةِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَن الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ لَنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَاخْتِلافِهِمْ فِي الدِّينِ، إِلَى أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَا يُبَيِّنُ لَهُم الْحَقَّ من الباطِلِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا ضَلُّوا فِيهِ وَابْتَعَدُوا عَن الصَّوَابِ؛ لِطُولِ الزمانِ وَبُعْدِ العَهدِ بالأنبياءِ، وَتَحْرِيفِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ.
وتلكَ البَيِّنَةُ هِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ من الْكِتَابِ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ ضَلالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ،وَدَعَاهُمْ إِلَى الإِيمَانِ.
2- {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ}: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً}؛ يَعْنِي: أَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُمْ مُرْسَلاً منْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ مَا تَضَمَّنَتْهُ الصُّحُفُ من المكتوبِ فِيهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، كَانَ يَتْلُوهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، لا عَنْ كِتَابٍ، وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ من الكَذِبِ وَالشُّبُهَاتِ وَالْكُفْرِ، بَلْ فِيهَا الْحَقُّ الصريحُ الَّذِي يُبَيِّنُ لأَهْلِ الْكِتَابِ والمُشْرِكِينَ كُلَّ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ منْ أُمُورِ الدِّينِ، فَلَيْسَ فِي تِلْكَ الصُّحُفِ تَحْرِيفٌ وَلا لَبْسٌ، بَلْ هِيَ كَلامُ اللَّهِ حَقًّا.
3- {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}؛ الْمُرَادُ: الآيَاتُ والأَحْكَامُ المكتوبةُ فِيهَا.
وَالقَيِّمَةُ: المُسْتَقِيمَةُ المُسْتَوِيَةُ المُحْكَمَةُ، لَيْسَ فِيهَا زَيْغٌ عَن الْحَقِّ، بَلْ كُلُّ مَا فِيهَا صَلاحٌ وَرَشَادٌ وَهُدًى وَحِكْمَةٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ...} وَمَنِ اتَّبَعَهَا كَانَ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ المُسْتَقِيمِ.
4- {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}؛ أَيْ: إِنَّ تَفَرُّقَهُمْ وَاخْتِلافَهُمْ لَمْ يَكُنْ لاشْتِبَاهِ الأَمْرِ، بَلْ كَانَ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وظهورِ الصَّوَابِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِ وَاخْتَلَفُوا، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَكَفَرَ آخَرُونَ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى طريقةٍ وَاحِدَةٍ، مِنَ اتِّبَاعِ دِينِ اللَّهِ، وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَهُمْ منْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ.
5- {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}؛ أَيْ: إِنَّمَا جَاءَهُم الْقُرْآنُ منْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لِيَلْتَزِمُوا بعبادةِ اللَّهِ، وَتَكُونَ عِبَادَتُهُمْ خَالِصَةً، لا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئاً، وَلِيَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ خالصةً لَهُ فِي الدِّينِ، {حُنَفَاءَ}: مَائِلِينَ عَن الأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الإِسْلامِ.
{وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}؛ أَيْ: يَفْعَلُوا الصَّلَوَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ فِي أَوْقَاتِهَا، وَيُعْطُوا الزَّكَاةَ عِنْدَ مَحَلِّهَا؛ أَيْ: وَهَذَا الَّذِي أُمِرُوا بِهِ يَقْتَضِي التَّوَحُّدَ والاتِّفاقَ، لا الشِّقَاقَ والافْتِرَاقَ؛ فَإِنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ الرُّسُلُ منْ ذَلِكَ، {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}؛ أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ الدِّينَ وَهُوَ إخلاصُ العبادةِ لِلَّهِ، وَتَرْكُ كُلِّ مَا يُعْبَدُ منْ دُونِهِ، وَأَدَاءُ الصَّلَوَاتِ لِلَّهِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَبَذْلُ الزَّكَاةِ للمُحْتَاجِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، هَذَا هُوَ دِينُ المِلَّةِ المُسْتَقِيمَةِ.
6- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: يَصِيرُونَ إِلَيْهَا، {خَالِدِينَ فِيهَا}: لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا، وَلا يَمُوتُونَ فِيهَا.
{أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}؛ أَيْ: شَرُّ الخَلِيقَةِ حَالاً؛لأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحَقَّ حَسَداً وَبَغْياً؛ وَلِذَلِكَ سَيَكُونُونَ شَرَّ الخليقةِ مَصِيراً.
7- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}: أَفْضَلُ الْخَلْقِ حَالاً وَمَآلاً.
8- {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} بمُقابلةِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ من الإِيمَانِ والعملِ الصالحِ.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}؛ أَيْ: مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا وَغُرَفِهَا.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَلا يَرْحَلُونَ عَنْهَا، وَلا يَمُوتُونَ، بَلْ هُمْ دَائِمُونَ فِي نَعِيمِهَا، مُسْتَمِرُّونَ فِي لَذَّاتِهَا أَبَدَ الآبِدِينَ، لا نهايةَ لِنَعِيمِهِمْ.
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} رِضْوَانُهُ عَنْهُمْ؛ لأَنَّهُمْ أَطَاعُوا أَمْرَهُ وَقَبِلُوا شَرَائِعَهُ، وَرِضَاهُمْ عَنْهُ حَيْثُ بَلَغُوا من المطالِبِ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}؛ أَيْ: ذَلِكَ الْجَزَاءُ والرِّضْوَانُ لِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ الخَشْيَةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَانْتَهَى عَنْ مَعَاصِيهِ بِسَبَبِ تِلْكَ الخَشْيَةِ.

هيئة الإشراف

#4

23 Oct 2008


سورة البيِّنة

1- 3قولُه تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} يقولُ الله تعالى: لم يكن هذان الصِّنْفانِ من الذين كَفروا، وهُم أهلُ الكتابِ من اليهودِ والنصارى، ومشرِكو العرب منفصلينَ عن كُفرِهم وتاركيه(1) حتى تأتيَهُم العلامةُ الواضحةُ من الله، وهي إرسالُ الرسولِ الخاتَم صلى الله عليه وسلم، الذي يقرأُ عن ظهرِ قلب ما في الصُّحُفِ المطهَّرة من المكتوبِ المستقيمِ فيها الذي لا خطأَ فيه، وهو القرآن.

وهذا حكايةٌ لحالِهم في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا ينتظرونَ بَعْثَ نَبِيِّ آخِر الزمان، ولكنهم لما بُعِثَ افترقوا فيه، كما سيأتي في قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}.
4-قولُه تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: لم يتفرَّق أهلُ الكتابِ(2)في أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ بعدَ أن جاءَهم وبُعِثَ إليهم، وهُم قد عرَفوه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ، فكفروا به جُحوداً، وآمنَ به بعضُهم، وقد كانوا قبلَ أن يُبعثَ غيرَ متفرِّقينَ فيه، فهم يعرفونَ صِفتَه.
5-قولُه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي: وما أمَرَ الله اليهودَ والنصارى في القرآنِ إلاَّ بما هو في كُتبهم: من عبادةِ الله وحدَهُ والمَيلِ عن الشِّرك، وإقامةِ الصلاة، وإخراجِ زكاةِ أموالهم، وذلك المأمورُ به هو الدينُ المستقيمُ الذي لا اعوِجاجَ فيه، وذلك مما يدلُّ على صِدقِ هذا الرسولِ المرسَلِ إليهم.
6-قولُه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أي: إنَّ هذين الفريقين من الذِين كفروا فجَحَدوا نبوَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم سيدخلونَ نارَ جهنَّمَ ويمكثونَ فيها أبدَ الآباد، لا يخرُجونَ منها، ولا يموتونَ فيها، ثُمَّ وصفَهَم بأنهم شَرُّ مَنْ بَرَأَهُ اللهُ وخَلَقَهُ.
7- 8 قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} لما ذكرَ الصِّنْفَ الأولَ من الذين تفرَّقوا في البيِّنة، وهم الذين لم يؤمنوا، أعقبَهُم بذكرِ الصِّنْفِ الثاني، وهم الذين آمنوا بالبيِّنة وعملوا الأعمال الصالحات التي تقرِّبهم إلى الله، وهؤلاء هُم خيرُ من بَرَأَهُ الله وخلَقَهُ، وسيكون ثوابهم منه تلك البساتين التي هي محلُّ إقامةٍ لاتَحَوُّلَ عنها، وهي التي تسمَّى جنَّاتِ عدن، التي تجري أنهارها على سطح أرضِها بدون أخاديد تحدُّها، وهؤلاء هُم الذين رضيَ الله عنهم بما أطاعوه في الدنيا، ورضوا عنه بما أعطاهُم من النعيم الذي لا يحصُلُ إلاَّ لمن خافَ ربَّه في الدنيا وأحبَّه وعظَّمه، والله أعلم.



الحاشية :
(1) قال ذلك مجاهدٌ من طريق ابن أبي نجيح وقتادة من طريق معمر وسعيد، وابن زيد.
ولكنهم لم يبيِّنوا أن ذلك الخبر كان حكاية لحالِ أولئك القوم، ولا بدَّ من تقدير ذلك وإلاَّ كان في الخبر تخلُّفٌ؛ لأنهم لم ينفكُّوا جميعهم عن الكفر، بل بقِيَ عليه كثير منهم بعد مجيء البينة. (انظر: التحرير والتنوير).
وقد ذكرَ شيخ الإِسلام ابن تيمية تأويلاً آخر، وهو أنَّ الله لا يخلِّيهم ولا يترُكهم سُدى، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً، وهذا كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} .
(انظر: (دقائق التفسير) 6/293).
واعلم أن هذه الآية من أصعبِ الآيات في التفسير، والله المستعان.

(2)لم يذكرِ المشركينَ لأنهم كانوا في هذه المسألة تبعاً لأهل الكتاب، فلم يكن عندَهم من خبرِه شيءٌ، وكانوا يتلقَّفونَ ذلك منهم، ومن ذلك ما كان يتهدَّدُ به يهودُ المدينَةِ الأنصار، فيقولون لهم: (إذا خرجَ نبي آخِر الزمان، قتلناكُم قتلَ عادٍ).
والله أعلم.

هيئة الإشراف

#5

23 Oct 2008

القارئ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
الشيخ:
قول الله -جل وعلا-: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} هذه الآية أشكلت على كثير من العلماء، وحصل في كلام كثير منهم اضطراب، وحصل فيه تفسير لهذه الآية بما قد يناقضها مما يأتي من الآيات بعدها، ولكن هدى الله -جل وعلا- لهذا الكتاب وبيانه من هداهم الله جل وعلا؛ فعلموا تأويل هذه الآية على وجهها الصحيح بإذن الله جل وعلا.


فقد ذهب طائفة من العلماء -وهو الذي شرحه وبيّنه وفصله أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن قول الله -جل وعلا-: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} معناه: أنه لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين متروكين حتى تأتيهم البينة، يعني: أن الله -جل وعلا- لن يترك أهل الكتاب الذين كفروا، ولن يترك المشركين هكذا، بل لابد أن يرسل إليهم رسولاً يبيّن لهم آيات الله جل وعلا، ويدعوهم إلى الإسلام، وهذا يوافق قول الله -جل وعلا-: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}، ويماثله قول الله -جل وعلا-: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ}، يعني: لما كنتم قوماً مسرفين؛ نعرض عنكم ولا نرسل إليكم ذكرى، هذا لا يكون؛ لأن الله -جل وعلا- خلق الخلق لحكمة وهي عبادته، ولا يعرف الخلق الطريق إليها إلا بالأنبياء والمرسلين:

-كما قال الله -جل وعلا-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}.

-{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}.

-{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} فالله -جل وعلا- خلق الخلق لعبادته؛ وإذا خلقهم لعبادته فلن يتركهم -جل وعلا- هملاً لا يعرفون شيئاً، بل لا بد أن يرسل إليهم رسلاً، ويقيم عليهم الحجة، فالله -جل وعلا- ذكر في هذه الآية أنه لن يترك المشركين ولا الكافرين من أهل الكتاب حتى تأتيهم البينة، وهذه البينة بيّنها الله -جل وعلا- قال: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} أي يتلو هذا القرآن العظيم الذي هو منزل من عند الله مطهر؛ ولهذا لا يمسه إلا المطهرون.
{فِيهَا كُتبٌ قَيِّمَةٌ}أي: في هذه الصحف أحكام قيمة؛ لأن قوله -جل وعلا: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} قال بعض العلماء: الكتب هنا جمع كتاب بمعنى حكم؛ لأن مادة كتب تأتي بمعنى حكم، كما قال الله -جل وعلا-: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}.
وبعض العلماء يقول: إن قوله -جل وعلا-: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي: أن هذا القرآن مشتمل على كتب سابقة من الكتب التي لم تنسخ ولم تحرف، فذكر الله جل وعلا فيها - أو من تلك الكتب - أحكاماً وافق القرآن تلك الكتب عليها؛ كما تقدم في قوله -جل وعلا-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}.
فقوله -جل وعلا-:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} الخ، هذا مما ذُكر في صحف إبراهيم وموسى.
وقوله -جل وعلا-: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى آخر الآية، هذا مكتوب في التوراة، وفي دين الله -جل وعلا- في هذا القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وقال الله -جل وعلا-: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} ففي صحف موسى وإبراهيم مذكور أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وفي كتاب الله -جل وعلا- في آيات كثيرة قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
فدل ذلك على أن قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي: أن هذا القرآن مشتمل على شيء من الكتب السابقة مما لم ينسخ أو يغير، والقرآن قد وافق تلك الكتب عليه، وهذا معنى ليس ببعيد وإن كان الأكثرون على الأول.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أهل الكتاب لما جاءتهم البينة من عند الله تفرقوا، فاليهود منهم من آمن بموسى ومنهم من كفر، والنصارى منهم من آمن بعيسى ومنهم من كفر، ومنهم من قال: (إنه هو الله) ومنهم من قال: (إنه ابن الله) ومنهم من قال: (إنه ثالث ثلاثة) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.


ولما جاءتهم البينة وهو نبينا -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا، فمنهم من آمن به، ومنهم من أعرض عنه، سواء من اليهود أو من النصارى أو من المشركين، فتفرقوا في هذا النبي مع وضوح البينة ومع ذلك تفرقوا.

قال بعض العلماء:


إن الله -جل وعلا- ذكر هذه الآية إعلاماً لهذه الأمة بألا تتفرق كما تفرق اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا الكتاب، وتفرق المشركون، وفيها توبيخ لمن تفرق بعد أن جاءته آيات الله جل وعلا.
فدلت هذه الآية على التحذير من الفرقة والاختلاف، وأن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يجب أن تكون أمة واحدة؛ كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، وفي الآية الأخرى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
ولهذا نهانا الله -جل وعلا- عن ذلك: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يعني: إذا حصل النزاع فشلوا، وهذا الفشل عام في أمور الدين والدنيا، وتذهب الريح، تذهب القوة، ويتسلط الأعداء، وقال -جل وعلا-: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فإذا تفرق الناس بعد هدي الله الذي بعث به نبيه -صلى الله عليه وسلم- لهم عذاب عظيم، وكيف لا يكون ذلك وقد امتنّ الله -جل وعلا- على هذه الأمة بأن ألَّف قلوب أهلها بعد أن كانوا أعداء متناحرين:
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}، ولهذا أخبر الله -جل وعلا- أن رحمته إنما تكون لغير المختلفين، وأما المختلفون فلا تنالهم رحمة الله، قال الله -جل وعلا-: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فمن رَحِمَ الله لا يختلفون، فدلت هذه الآية على أنه يجب على المسلمين أن يتفقوا ولا يفترقوا، وألا يختلفوا، وألا يفعلوا ما يوجب الفرقة، ولكن هذا الاتفاق يكون على دين الله وشرعه وليس على الأهواء، ولا على مالا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون الاجتماع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان السلف الصالح يقولون: (الاجتماع رحمة، والفرقة والاختلاف شر ونقمة) لكنهم يريدون بهذا الاستمساك بحبل الله المتين الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال الله -جل وعلا-: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي: أن الله -جل وعلا- أمر عباده ما أمرهم إلا ليعبدوا الله -جل وعلا- مخلصين له، بمعنى: أنهم يعبدونه عبادة يصرفونها له خالية من شوائب الشرك والرياء، بل تكون مخلصة لله جل وعلا، لا يشركون فيها مخلوقاً، ولا يلتمسون بها حظاً من حظوظ الدنيا، وقد أمر الله -جل وعلا- بذلك:

-كما قال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.

-{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
-وقال جل وعلا: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.
وقال تعالى: {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} يعني: أنهم يخلصون لله ويكونون حنفاء، والحنيف: هو المائل عن الشرك إلى التوحيد قصداً، ولهذا سمى الله -جل وعلا- خليله إبراهيم حنيفاً: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} وقال -جل وعلا- لنبيه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}فالحنيف: هو المائل إلى هذا الدين عن قصد.
{وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} خص الله -جل وعلا- هاتين العبادتين؛ لأنهما الركنان الثاني والثالث بعد الشهادتين، ولهذا كان بعض العلماء من أهل السنة والجماعة يرى أن من ترك الصلاة أو الزكاة فهو كافر؛ لأن الله -جل وعلا- قرنهما كثيراً، ورتب -جل وعلا- عدم قتال الكفار على فعلهما، وجعل الأخوة مرتبطة بفعلهما: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} فخص الله -جل وعلا- هاتين الآيتين بالذكر مع دخولهما في الدين؛ لأنهما من أعظم أركان الدين.
قال -جل وعلا-:{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي: وذلك دين الملة القيمة المستقيمة التي تعبَّد اللهَ -جل وعلا- خلقه بها.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} يعني: أن المشركين في نار جهنم، وقد بيّنا ذلك فيما سبق، وأنهم خالدون فيها لا يخرجون منها أبداً، وقد تقدم بيان ذلك، وزاد الله -جل وعلا- في هذه الآية: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} البرية بمعنى: الخليقة، يعني: أن الكفار هم شر الخلق، فهم أشر من البهائم والدواب؛ لأن هذه البهائم والدواب إذا كان يوم القيامة يجري بينها القصاص لكن ليس عليها حساب ولا عذاب، يقتص الله -جل وعلا- لكل واحدة من الأخرى، ثم يقال لها كوني تراباً، فتكون تراباً؛ لأن الله -جل وعلا- لم يخلق فيها عقولاً لتدرك شرعه وحكمه، وأما بنو آدم فخلق الله -جل وعلا- لهم عقولاً؛ ليدركوا بها هذا الشرع، وما بعثت به الأنبياء والمرسلون، فوقع الحساب عليهم جزاءاً على أعمالهم، وعدلاً منه -جل وعلا-، ولهذا كان بنو آدم هم الذين كلفهم الله -جل وعلا- بأن يحملوا تكاليف الشرع: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}، فلما حملها فإنه يحاسب عليها يوم القيامة.
وأما تلك البهائم فليس لها عقول فلهذا لم تحمّل هذا الشرع، ولهذا وصف الله -جل وعلا- هؤلاء الكفار بأنهم شرُ من الدواب:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (‌22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وقال -جل وعلا-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فلهذا يكونون هم شر الخليقة.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} قد سبق لنا أن الله -جل وعلا- دائماً في كتابه الكريم يقرن بين الجزائين، ويبين حال الفريقين، وهنا لما ذكر الله -جل وعلا- حال الكفار والمشركين وما أعده لهم، ذكر -جل وعلا- بعد ذلك حال عباد الله المؤمنين في الآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}والبرية: عند أكثر العلماء معناها: الخليقة.
وبعض العلماء يقول: إن البرية تحتمل أن تكون من البراء وهو التراب، ويكون على ذلك أولئك هم خير من خلق من تراب، والمخلوق من التراب إما مؤمن وإما كافر، لكن أكثر أهل العلم على أن قوله -جل وعلا-: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أي: أولئك هم خير الخليقة.
ومن هذه الآية استنبط بعض العلماء أن صالحي البشر أفضل من الملائكة؛لأن الله -جل وعلا- قال: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} يعني: خير الخليقة، فدل على أن صالحي البشر أفضل من الملائكة، وهذه مسألة قد تكلم فيها العلماء كثيراً، فمنهم من يرى أن الملائكة أفضل، ومنهم من يرى أن صالحي البشر أفضل، مع اتفاق العلماء على أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو أفضل الخلق من البشر والملائكة والجن وغيرهم.
قال الله -جل وعلا-:{جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} يعني: أن هؤلاء يكونون في جنة عدن، وجنة عَدْن هي جنة الإقامة؛ لأن كلمة عدن معناها مقيم، فهم في دار الإقامة لا يخرجون عنها أبداً.
-كما قال الله -جل وعلا- عنهم إذا دخلوا الجنة: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}.
-وقال -جل وعلا-: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} يعني: لا يبغون عنها منقلباً ولا تحولاً.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} تأكيد للإقامة في جنات عدن، وأنهم لا يخرجون منها أبداً.
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} أي: أن الله -جل وعلا- قد رضي عنهم، وهم قد رضوا عن الله -جل وعلا-؛ لأن الله -جل وعلا- أعطاهم ما وعدهم،ولأن الله -جل وعلا- هداهم ووفقهم للطاعة، ويوم القيامة يرضون ويرضيهم الله -جل وعلا-، وقد قدمنا أن الله -جل وعلا- لا يرضى إلا عن القوم المؤمنين، وإذا رضي عنهم ربهم -جل وعلا- فإنه -جل وعلا- يكرمهم وينعمهم.
ثم قال -جل وعلا-: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي: أن هذا الأجر لمن خشي الله -جل وعلا- خشيةً في قلبه ظهرت آثارها على جوارحه فعمل بطاعة الله -جل وعلا-، والعبد إذا خشى ربه -جل وعلا- بقلبه ظهرت آثار ذلك على جوارحه، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}.

هيئة الإشراف

#6

11 Feb 2009

تفسير سورة البينة


تفسير قول الله تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ...) الآية
تفسير قول الله تعالى : ( رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة ، فيها كتب قيمة )
تفسير قول الله تعالى : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة )
دلالة الآية السابقة على التحذير من الفرقة والاختلاف
تفسير قول الله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ...) الآية
تفسير قول الله تعالى : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم ...) الآية
تفسير قول الله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، جزاؤهم عند ربهم ...)الآية

هيئة الإشراف

#7

11 Feb 2009

الأسئلة

سورة البينة

س1: اذكر قولي العلماء في تفسير قول الله تعالى:

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}.
س2: ما المراد بأهل الكتاب؟
س3: ما المراد بالبينة؟
س4: ما معنى قوله تعالى: {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً}؟
س5: ما معنى قوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}؟
س6: قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} اذكر ما تعرفه من تفسير هذه الآية.
س7: هل العلم وحده موجب للاجتماع والسعادة؟ دعّم إجابتك بالدليل.
س8: ما هو دين القيِّمة؟
س9: يكرر الله تعالى في القرآن الكريم ذكرَ مآلِ الفريقين الشقي والسعيد، تحدَّث عن أهمية هذا الأمر في ضوء ما درست.
س10: بين معاني الكلمات التالية: منفكِّين، البينة، حنفاء، شر البرية، عَدْن.
س11: اذكر أهم الفوائد التي استفدتها أثناء دراستك لتفسير هذه السورة.

هيئة الإشراف

#8

10 Apr 2014

تفسير ابن كثير



قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة البيّنة وهي مدنيّةٌ.

قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّادٌ - هو ابن سلمة - أخبرنا عليٌّ - هو ابن زيدٍ - عن عمّار بن أبي عمّارٍ، قال: سمعت أبا حبّة البدريّ - وهو مالك بن عمرو بن ثابتٍ الأنصاريّ - قال: لمّا نزلت: {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب} إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله، إنّ ربّك يأمرك أن تقرئها أبيًّا. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبيٍّ: ((إنّ جبريل أمرني أن أقرئك هذه السّورة)). قال أبيٌّ: وقد ذكرت ثمّ يا رسول الله؟ قال: ((نعم)). قال: فبكى أبيٌّ.

حديثٌ آخر:

وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة: سمعت قتادة يحدّث عن أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبيّ بن كعبٍ: ((إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الّذين كفروا})). قال: وسمّاني لك؟ قال: ((نعم)). فبكى. ورواه البخاريّ، ومسلمٌ، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من حديث شعبة به.

حديثٌ آخر:

قال الإمام أحمد: حدّثنا مؤمّلٌ، حدّثنا سفيان، حدّثنا أسلم المنقريّ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّي أمرت أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا)). قلت: يا رسول الله، وقد ذكرت هناك؟ قال: ((نعم)). فقلت له: يا أبا المنذر، فرحت بذلك؟ قال: وما يمنعني، والله يقول: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعون}. قال مؤمّلٌ: قلت لسفيان: القراءة في الحديث؟ قال: نعم. تفرّد به من هذا الوجه.

طريقٌ أخرى:

قال أحمد: حدّثنا محمد بن جعفرٍ وحجّاجٌ قالا: حدّثنا شعبة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيشٍ، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لي: ((إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)). قال: فقرأ: {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب}. قال: فقرأ فيها: ((ولو أنّ ابن آدم سأل وادياً من مالٍ فأعطيه لسأل ثانياً، ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التّراب، ويتوب الله على من تاب، وإنّ ذلك الدّين عند الله الحنيفيّة غير المشركة، ولا اليهوديّة، ولا النّصرانيّة، ومن يفعل خيراً فلن يكفره)).

ورواه التّرمذيّ من حديث أبي داود الطّيالسيّ، عن شعبة به، وقال: حسنٌ صحيحٌ.

طريقٌ أخرى:

قال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا أحمد بن خليدٍ الحلبيّ، حدّثنا محمد بن عيسى = الطباع، حدّثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبيّ بن كعبٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((يا أبا المنذر، إنّي أمرت أن أعرض عليك القرآن)). قال: بالله آمنت، وعلى يدك أسلمت، ومنك تعلّمت.

قال: فردّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم القول. فقال: يا رسول الله، أذكرت هناك؟ قال: ((نعم، باسمك ونسبك في الملأ الأعلى)). قال: فاقرأ إذاً يا رسول الله.

هذا غريبٌ من هذا الوجه، والثابت ما تقدّم، وإنما قرأ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذه السورة تثبيتاً له، وزيادةً لإيمانه؛ فإنه كما رواه أحمد والنّسائيّ من طريق أنسٍ عنه، ورواه أحمد وأبو داود من حديث سليمان بن صرد عنه.

ورواه أحمد، عن عفّان، عن حمّادٍ، عن حميدٍ، عن أنسٍ، عن عبادة بن الصّامت عنه.

ورواه أحمد ومسلمٌ وأبو داود والنّسائيّ من حديث إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه، كان قد أنكر على إنسانٍ - وهو عبد الله بن مسعودٍ - قراءة شيءٍ من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فاستقرأهما، وقال لكلٍّ منهما: ((أصبت)). قال أبيٌّ: فأخذني من الشّكّ، ولا إذ كنت في الجاهليّة، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صدره، قال أبيٌّ: ففضت عرقاً، وكأنّما أنظر إلى الله فرقاً.

وأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أن جبريل أتاه فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرئ أمّتك القرآن على حرفٍ، فقلت: ((أسأل الله معافاته ومغفرته)). فقال: على حرفين. فلم يزل حتى قال: إنّ الله يأمرك أن تقرئ أمّتك القرآن على سبعة أحرفٍ، كما قدّمنا ذكر هذا الحديث بطرقه وألفاظه في أوّل التفسير، فلمّا نزلت هذه السورة الكريمة، وفيها {رسولٌ من الله يتلو صحفاً مطهّرةً فيها كتبٌ قيّمةٌ} قرأها عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قراءة إبلاغٍ وتثبيتٍ وإنذارٍ، لا قراءة تعلّمٍ واستذكارٍ. والله أعلم.

وهذا كما أنّ عمر بن الخطّاب لمّا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة، وكان فيما قال: أو لم تكن تخبرنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: ((بلى، أفأخبرتك أنّك تأتيه عامك هذا؟)) قال: لا. قال: ((فإنّك آتيه ومطوّفٌ به)).

فلمّا رجعوا من الحديبية وأنزل الله على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سورة الفتح دعا عمر بن الخطّاب فقرأها عليه، وفيها قوله: {لقد صدق الله رسوله الرّؤيا بالحقّ لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} الآية، كما تقدّم.

وروى الحافظ أبو نعيمٍ في كتابه (أسماء الصحابة) من طريق محمد بن إسماعيل الجعفريّ المدنيّ: حدّثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم، عن ابن شهابٍ، عن إسماعيل بن أبي حكيمٍ المدنيّ، حدّثني فضيلٌ: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((إنّ الله ليسمع قراءة: {لم يكن الّذين كفروا} فيقول: أبشر عبدي، فوعزّتي لأمكّننّ لك في الجنّة حتّى ترضى)).

حديثٌ غريبٌ جدًّا، وقد رواه الحافظ أبو موسى المدينيّ، وابن الأثير من طريق الزّهريّ، عن إسماعيل بن أبي حكيمٍ، عن نظيرٍ المزنيّ أو المدنيّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ الله ليسمع قراءة: {لم يكن الّذين كفروا} ويقول: أبشر عبدي، فوعزّتي لا أنساك على حالٍ من أحوال الدّنيا والآخرة، ولأمكّننّ لك في الجنّة حتّى ترضى)).

أمّا أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، والمشركون عبدة الأوثان والنّيران، من العرب ومن العجم، وقال مجاهدٌ: لم يكونوا {منفكّين} يعني: منتهين حتى يتبيّن لهم الحقّ. وكذا قال قتادة: {حتّى تأتيهم البيّنة} أي: هذا القرآن، ولهذا قال تعالى: {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتّى تأتيهم البيّنة}.

ثمّ فسّر البيّنة بقوله: {رسولٌ من الله يتلو صحفاً مطهّرةً} يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلّم، وما يتلوه من القرآن العظيم، الذي هو مكتتبٌ في الملأ الأعلى في صحفٍ مطهّرةٍ، كقوله: {في صحفٍ مكرّمةٍ مرفوعةٍ مطهّرةٍ بأيدي سفرةٍ كرامٍ بررةٍ}.

وقوله: {فيها كتبٌ قيّمةٌ} قال ابن جريرٍ: أي: في الصحف المطهّرة كتبٌ من الله قيّمةٌ: عادلةٌ مستقيمةٌ، ليس فيها خطأٌ؛ لأنها من عند الله عزّ وجلّ.

قال قتادة: {رسولٌ من الله يتلو صحفاً مطهّرةً} يذكر القرآن بأحسن الذّكر، ويثني عليه بأحسن الثّناء.

وقال ابن زيدٍ: {فيها كتبٌ قيّمةٌ} مستقيمةٌ معتدلةٌ.

وقوله: {وما تفرّق الّذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة} كقوله: {ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذابٌ عظيمٌ} يعني بذلك أهل الكتب المنزّلة على الأمم قبلنا، بعدما أقام الله عليهم الحجج والبيّنات تفرّقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم، واختلفوا اختلافاً كثيراً.

كما جاء في الحديث المرويّ من طرقٍ: ((إنّ اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقةً، وإنّ النّصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقةً، وستفترق هذه الأمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلّها في النّار إلاّ واحدةً)). قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)).

وقوله: {وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدّين} كقوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلاّ نوحي إليه أنّه لا إله إلاّ أنا فاعبدون}، ولهذا قال: {حنفاء} أي: متحنّفين عن الشّرك إلى التوحيد، كقوله: {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطّاغوت}. وقد تقدّم تقرير الحنيف في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته ههنا.

{ويقيموا الصّلاة} وهي أشرف عبادات البدن {ويؤتوا الزّكاة} وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج {وذلك دين القيّمة} أي: الملّة القائمة العادلة، أو الأمّة المستقيمة المعتدلة.

وقد استدلّ كثيرٌ من الأئمّة كالزّهريّ والشافعيّ بهذه الآية الكريمة على أنّ الأعمال داخلةٌ في الإيمان.

ولهذا قال: {وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة وذلك دين القيّمة}.

{إنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم خالدين فيها أولئك هم شرّ البريّة * إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك هم خير البريّة * جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربّه}

يخبر تعالى عن مآل الفجّار من كفرة أهل الكتاب والمشركين المخالفين لكتب الله المنزّلة، وأنبياء الله المرسلة، أنهم يوم القيامة في نار جهنّم خالدين فيها، أي: ماكثين، لا يحوّلون عنها، ولا يزولون {أولئك هم شرّ البريّة} أي: شرّ الخليقة التي برأها الله وذرأها.

ثمّ أخبر تعالى عن حال الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بأبدانهم، بأنّهم خير البريّة، وقد استدلّ بهذه الآية أبو هريرة وطائفةٌ من العلماء على تفضيل المؤمنين من البريّة على الملائكة؛ لقوله: {أولئك هم خير البريّة}.

ثمّ قال تعالى: {جزاؤهم عند ربّهم} أي: يوم القيامة {جنّات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً} أي: بلا انفصالٍ ولا انقضاءٍ ولا فراغٍ {رضي الله عنهم ورضوا عنه} ومقام رضاه عنهم أعلى ممّا أوتوه من النعيم المقيم {ورضوا عنه} فيما منحهم من الفضل العميم.

وقوله: {ذلك لمن خشي ربّه} أي: هذا الجزاء حاصلٌ لمن خشي الله واتّقاه حقّ تقواه، وعبده كأنّه يراه، وعلم أنه إن لم يره فإنّه يراه.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسحاق بن عيسى، حدّثنا أبو معشرٍ، عن أبي وهبٍ - مولى أبي هريرة - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ألا أخبركم بخير البريّة؟)). قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((رجلٌ أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلّما كانت هيعةٌ استوى عليه. ألا أخبركم بخير البريّة؟)). قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((رجلٌ في ثلّةٍ من غنمه يقيم الصّلاة ويؤتي الزّكاة. ألا أخبركم بشرّ البريّة؟)). قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((الّذي يسأل بالله ولا يعطي به)).

آخر تفسير سورة البيّنة، ولله الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/454-458]