22 Oct 2008
سورةُ اللَّيل
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن
أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ
مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا
لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا
يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء
وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}
تفسيرُ سورةِ والليلِ
هذا قسمٌ منَ اللهِ بالزمانِ الذي تقعُ فيهِ أفعالُ العبادِ على تفاوتِ أحوالهمْ، فقالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} الخلقَ بظلامهِ، فيسكنُ كلٌّ إلى مأواهُ ومسكنهِ، ويستريحُ العبادُ منَ الكدِّ والتعبِ. {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} للخلقِ، فاستضاؤوا بنورهِ، وانتشروا في مصالحهم. {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} إن كانتْ {مَا} موصولةً، كانَ إقساماً بنفسهِ الكريمةِ الموصوفةِ بأنَّهُ خالقُ الذكورِ والإناثِ. -وإنْ كانتْ مصدريةً،
كانَ قسماً بخلقِهِ للذكرِ والأنثى، وكمالِ حكمتهِ في ذلكَ أن خلقَ منْ
كلِّ صنفٍ منَ الحيواناتِ التي يريدُ بقاءَهَا ذكراً وأنثى، ليبقى النوعُ
ولا يضمحلَّ، وقادَ كلاًّ منهما إلى الآخرِ بسلسلةِ الشهوةِ، وجعلَ كلاًّ
منهمَا مناسباً للآخرِ، فتباركَ اللهُ أحسنَ الخالقينَ. وقولهُ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} هذا المقسمُ عليهِ أي: إنَّ سعيَكمْ أيُّهَا المكلفونَ لمُتفاوِتٌ تفاوتاً كثيراً،
وذلكَ بحسبِ تفاوتِ نفسِ الأعمالِ ومقدارهَا والنشاطِ فيهَا، وبحسبِ
الغايةِ المقصودةِ بتلكَ الأعمالِ، هلْ هوَ وجهُ اللهِ الأعلى الباقي؟
فيبقى السعيُ لهُ ببقائهِ، وينتفعُ بهِ صاحبهُ، أمْ هيَ غايةٌ مضمحلةٌ
فانيةٌ، فيبطلُ السعيُ ببطلانِهَا، ويضمحلُّ باضمحلالِهَا؟ وهكذا كلُّ عملٍ يقصدُ بهِ غيرُ وجهِ اللهِ تعالَى، بهذا الوصفِ، ولهذا فصَّلَ اللهُ تعالَى العاملينَ، ووصفَ أعمالَهمْ، فقالَ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى}
ما أُمرَ بهِ مِنَ العباداتِ الماليةِ،كالزكواتِ، والكفاراتِ، والنفقاتِ،
والصدقاتِ، والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ، والعباداتِ البدنيةِ كالصلاةِ،
والصومِ وغيرهمَا، والمركّبةِ منهمَا، كالحجِّ والعمرةِ، {وَاتَّقَى}ما نهيَ عنهُ، مِنَ المحرماتِ والمعاصي، على اختلافِ أجناسِهَا. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}أي: صدّقَ بـ(لا إلهَ إلا اللهُ) وما دلّتْ عليهِ، مِنْ جميعِ العقائدِ الدينيةِ، ومَا ترتبَ عليهَا منَ الجزاءِ الأخرويِّ. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}أي: نسهلُ عليهِ أمرَهُ، ونجعلُهُ ميسراً لهُ كلُّ خيرٍ، ميسراً لهُ تركُ كلِّ شرٍّ، لأنَّهُ أتى بأسبابِ التيسيرِ، فيسرَ اللهُ لهُ ذلكَ. {وَأَمَّا مَن بَخِلَ} بمَا أُمرَ بهِ، فتركَ الإنفاقَ الواجبَ والمستحبَّ، ولمْ تسمحْ نفسهُ بأداءِ مَا وجبَ للهِ، {وَاسْتَغْنَى}عَنْ اللهِ، فتركَ
عبوديتهُ جانباً، ولم يَرَ نفسهُ مفتقرةً غايةَ الافتقارِ إلى ربِّهَا
الذي لا نجاةَ لهَا ولا فوزَ ولا فلاحَ إلاَّ بأنْ يكونَ هوَ محبوبُهَا
ومعبودهَا، الذي تقصدهُ وتتوجهُ إليهِ. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}أي: بمَا أوجبَ اللهُ على العبادِ التصديقَ بهِ مِنَ العقائدِ الحسنةِ. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي: للحالةِ العسرةِ، والخصالِ الذميمةِ، بأنْ يكونَ ميسراً للشر أينمَا كانَ، ومقيضاً لهُ أفعالُ المعاصي، نسألُ اللهَ العافيةَ. {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ}الذي أطغاهُ واستغنى بهِ، وبخلَ بهِ إذا هلكَ وماتَ، فإنَّهُ لا يصحبهُ إلاَّ عملُهُ الصالحُ. وأمَّا مالهُ فإنَّهُ يكونُ وبالاً عليهِ، إذْ لم يقدِّمْ منهُ لآخرتهِ شيئاً. {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}أي: إنَّ الهدى المستقيمَ طريقُهُ يوصلُ إلى اللهِ، ويدني منْ رضاهُ، وأمَّا الضلالُ فطرقٌ مسدودةٌ عنِ اللهِ، لا توصلُ صاحبهَا إلا للعذابِ الشديدِ. {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى} {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (16) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} بأنْ يكونَ قصدُهُ بهِ تزكيةَ نفسهِ،وتطهيرَهَا مِنَ الذنوبِ والعيوبِ، {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى}أي: ليَس لأحدٍ منْ الخلقِ على هذا الأتقى نعمةٌ تجزى إلاَّ وقدْ كافأهُ بهَا،
وربَّمَا بقيَ لهُ الفضلُ والمنةُ على الناسِ، فتمحَّضَ عبداً للهِ،
لأنَّهُ رقيقُ إحسانِهِ وحدَهُ، وأمَّا منْ بقيَ عليهِ نعمةٌ للناسِ لم
يجْزِهَا ويكافئْهَا، فإنَّهُ لا بدَّ أنْ يتركَ للناسِ، ويفعلَ لهمْ مَا
ينقصُ . وهذهِ الآيةُ،وإنْ كانتْ متناولةً لأبي بكرٍ الصديقِ رضيَ اللهُ عنهُ، بلْ قدْ قيلَ إنَّهَا نزلتْ في سببهِ،
فإنَّهُ - رضيَ اللهُ عنهُ - ما لأحدٍ عندهُ منْ نعمةٍ تجزى، حتى ولا
رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، إلا نعمةَ الرسولِ التي لا يمكنُ
جزاؤُهَا، وهيَ الدعوةِ إلى دينِ الإسلامِ، وتعليمِ الهدى ودينِ الحقِّ،
فإنَّ للهِ ورسولهِ المنةُ على كلِّ أحدٍ، منةٌ لا يمكنُ لهَا جزاءٌ ولا
مقابلةٌ، فإنَّهَا متناولةٌ لكلِّ منِ اتَّصفَ بهذا الوصفِ الفاضلِ، فلمْ
يبقَ لأحدٍ عليهِ منَ الخلقِ نعمةٌ تجزى، فبقيتْ أعمالهُ خالصةً لوجهِ
اللهِ تعالى. ولهذا قالَ: {إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} هذا الأتقى بمَا يعطيهِ اللهُ منْ أنواعِ الكراماتِ والمثوباتِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
(1-21){بسم
الله الرحمن الرحيم وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا
تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا
يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى
(12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا
تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ
وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19)
إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}
ملكاً وتصرفاً، ليسَ لهُ فيهمَا مشاركٌ، فليرغب الراغبونَ إليهِ في الطلبِ، ولينقطعْ رجاؤهمْ عنِ المخلوقينَ، {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} أي: تستعرُ وتتوقدُ، {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ} بالخبرِ {وَتَوَلَّى} عنِ الأمرِ.
قاصداً
بهِ وجهَ اللهِ تعالى، فدلَّ هذا على أنَّهُ إذا تضمنَ الإنفاقُ المستحبُّ
تركَ واجبٍ، كدينٍ ونفقةٍ ونحوهمَا، فإنَّهُ غيرُ مشروعٍ، بلْ تكونُ
عطيتُهُ مردودةً عندَ كثيرٍ منَ العلماءِ، لأنَّهُ لا يُتزكّى بفعلٍ
مستحبٍّ يفوِّتُ الواجبَ.
سُورَةُ اللَّيْلِ
1- {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}:يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِاللَّيْلِ عِنْدَمَا يُغَطِّي بِظُلْمَتِهِ مَا كَانَ مُضِيئاً.
2- {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} وَهَذَا مِنْهُ تَعَالَى قَسَمٌ بالنهارِ مَتَى ظَهَرَ وَانْكَشَفَ وَوَضَحَ؛لِزَوَالِ الظُّلْمَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي اللَّيْلِ.
3- {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وَهَذَا مِنْهُ تَعَالَى إِقْسَامٌ بِخَلْقِهِ لِجِنْسَيِ الذَّكَرِ والأُنْثَى مِن بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ.
4- {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}؛
أَيْ: إِنَّ عَمَلَكُمْ لَمُخْتَلِفٌ: فَمِنْهُ عَمَلٌ لِلْجَنَّةِ،
وَمِنْهُ عَمَلٌ لِلنَّارِ، فَسَاعٍ فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ، وَسَاعٍ فِي
عَطَبِهَا.
5- {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}؛ أَيْ: بَذَلَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَاتَّقَى مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا.
6- {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}؛ أَيْ: بالخَلَفِ من اللَّهِ؛أَيْ: صَدَّقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَهُ أَنْ يُثِيبَهُ عِوَضاً عَمَّا أَنْفَقَ.
7- {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}:
فَسَنُيَسِّرُ لَهُ الإنفاقَ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، والعملَ بالطاعةِ
لِلَّهِ. نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ؛ اشْتَرَى
سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا فِي أَيْدِي أَهْلِ مَكَّةَ،
يُعَذِّبُونَهُمْ فِي اللَّهِ، فَأَعْتَقَهُمْ.
8- {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ}؛ أَيْ: بَخِلَ بِمَالِهِ، فَلَمْ يَبْذُلْهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ، {وَاسْتَغْنَى}؛ أَيْ: زَهِدَ فِي الأَجْرِ والثَّوَابِ، وَاسْتَغْنَى بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ نَعِيمِ الآخِرَةِ.
9- {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}؛ أَيْ: بالخَلَفِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
10- {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}؛
أَيْ: فَسَنُهَيِّئُهُ للخَصْلَةِ العُسْرَى، وَنُسَهِّلُهَا لَهُ، حَتَّى
تَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ والصلاحِ، وَيَضْعُفَ عَنْ
فِعْلِهَا فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إِلَى النَّارِ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ)). فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: ((اعْمَلُوا؛
فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ)).ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إِلَى قَوْلِهِ: {لِلْعُسْرَى}.
11- {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ}؛ أَيْ: لا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئاً مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ، {إِذَا تَرَدَّى}؛
أَيْ: هَلَكَ وَسَقَطَ فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْمَالَ الَّذِي
يَتْرُكُهُ خَلْفَهُ لا أَجْرَ لَهُ فِيهِ مَا لَمْ يَتْرُكْهُ
لِذُرِّيَّةٍ يَحْتَاجُونَهُ، أَمَّا مَا قَدَّمَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ
الَّذِي يَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
12- {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}:
عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى منْ طَرِيقِ الضلالِ، وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ، يَقُولُ:
مَنْ أَرَادَ اللَّهَ فَاللَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، مَنْ أَرَادَهُ اهْتَدَى
إِلَيْهِ. وَهَذَا مَثَلٌ.
13- {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}؛ أَيْ: لَنَا كُلُّ مَا فِي الآخِرَةِ وَكُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا، نَتَصَرَّفُ بِهِ كَيْفَ نَشَاءُ.
14- {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى}: تَتَوَقَّدُ وَتَتَوَهَّجُ.
15- {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى}: هُوَ الْكَافِرُ،يَجِدُ صَلاَهَا،وَهُوَ حَرُّهَا.
16- {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}؛ أَيْ: كَذَّبَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأَعْرَضَ عَن الطاعةِ وَالإِيمَانِ.
17- {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى}:
سَيُبَاعَدُ عَنْهَا المُتَّقِي للكُفْرِ اتِّقَاءً بَالِغاً. قَالَ
الْوَاحِدِيُّ: الأَتْقَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ
الْمُفَسِّرِينَ؛ أَيْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَحُكْمُهَا
عَامٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
18- {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ}؛ أَيْ: يُعْطِيهِ وَيَصْرِفُهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، {يَتَزَكَّى}: يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ زَكِيًّا، لا يَطْلُبُ رِيَاءً وَلا سُمْعَةً.
19- {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}؛
أَيْ: لَيْسَ مِمَّنْ يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ لِيُجَازِيَ بِصَدَقِتِه
نِعْمَةً لأَحَدٍ من النَّاسِ عِنْدَهُ وَيُكَافِئَهُ عَلَيْهَا،
وَإِنَّمَا يَبْتَغِي بِصَدَقَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.
20- {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}؛ أَيْ: لا يُؤْتِي إِلاَّ لابْتِغَاءِ وَجْهِ رَبِّهِ، لا لِمُكَافَأَةِ نِعَمِهِ.
21- {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؛ أَيْ: وَتَاللهِ لَسَوْفَ يَرْضَى بِمَا نُعْطِيهِ من الكَرَامَةِ وَالْجَزَاءِ الْعَظِيمِ.
المتن :
سورةُ اللَّيل
1-2قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} يُقْسِمُ ربُّنا بالليلِ إذا غطَّى النهارَ بظلامِه، وبالنهار إذا هو أضاءَ فأنارَ الأرضَ، وظهرَ للأبصار. 3-قولُه تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} ويُقْسِمُ ربُّنا بمَنْ خلقَ الذَّكَرَ والأُنثى، أو بخَلْقِ الذَّكَرِ والأُنُثى(1).
4-قولُه تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}هذا جوابُ الأقسامِ الماضية(2)، والمعنى: إنَّ عملَكُم الذي تعمَلونَهُ لمختَلِفٌ، فمنكُم مَنْ يعملُ بالطاعة، ومنكم مَنْ يعملُ بالمعصية.
5- 7 قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} هذا تفصيلٌ لأهلِ السَّعْي وسعيِهم، والصِّنْفُ الأوَّل: مَنْ انفقَ من مالِه في سبيل الله، وتجنَّبَ محارِمَ الله فلم يُواقِعْها(3)، وصدَّقَ بموعودِ الله من الخَلَفِ على المنفق مالَه في سبيل الله(4)، وبالجنةِ التي هي الموعودُ الأكبرُ للمنفِق، فإنَّ الله يُيَسِّرُ له العمل بما يرضاهُ الله، ليصِلَ به إلى الجنة.
8-11قولُه تعالى: {وَأَمَّا
مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} هذا الصِّنْفُ الثاني من أهلِ السَّعْيِ، وهم من لم يُنْفِقْ مالَه في سبيلِ الله، بل قَبَضَهُ وبَخِلَ به، واستغنى بنفسِه ومالِه عن ربِّه وعبادتِه(5)، ولم يُصدِّق بموعود الله من الخلف مِنَ الله، ولا بالجنَّةِ(6)،
فهذا يسهِّلُ الله له عملَ الشرِّ والوقوعَ فيه، جزاءً له على استغنائه عن
ربِّه، وعدمِ إنفاقِ مالِه في الخير، وتكذيبِه بالحُسْنَى(7)، فمن كانَ من هذا الصِّنْفِ، فإنَّ مالَهُ الذي بَخِلَ به، ولم ينفِقْهُ في سبيلِ الله، لن يفيدَهُ إذا سَقَطَ وهوَى في جهنم(8).
12-13قولُه تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى} أي: إنَّ على الله البيان: بيانَ الحقِّ من الباطل، والطاعةِ من المعصية(9)،
وإنَّ الحياةَ الدنيا والحياةَ الآخِرةَ وما فيهِما مِلْكٌ لله، يُعطي من
يشاء ويَحْرِمُ من يشاء، ومِنْ ذلك أنه وفَّقَ من أحبَّ لطاعته، وخَذَلَ من
أبغضَ بمعصيتِه(10).
14-16 قولُه تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي: فَحَذَّرْتُكُم أيها الناسُ النارَ التي تتوهَّجُ وتَلْتَهِبُ من شِدَّةِ إيقادِها، تلكَ النارُ التي لا يدخلُها ويُشْوَى فيها إلاَّ الذي شَقِيَ في حياته فكذَّب بما جاءَ عن ربِّه، وأعرضَ عنه فلم يؤمِن به.
17-21 قولُه تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا
الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ
عِندَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ
الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي: وسيُبْعَدُ عن هذه النارِ الذي بلغَ الكمالَ في التقوى،الذي
من صفتِه أنه يُعطي مالَهُ في الدنيا للمُحتاجين، وينفِقُهُ في سبيل الله،
لأجل أن يتطهَّرَ بإعطائه هذا المالَ مِنَ الذنوبِ، وما أعطى هؤلاء
المحتاجينَ لأنَّ بينَهُ وبينهُم منفعةً أعطاهُ إياهم من أجلِها، ولكنْ
أعطاهُ إياهم لأجلِ أن يرضَى عنه ربه العالي على خَلْقِه، ولسوفَ يرضى هذا
المُعطي بما سيُخْلِفُه الله عليه في الآخرة من الثواب(11)
(1)قال الطبري: (وقولُه: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} يَحتملُ الوجهينِ الَّذَينِ وصفتُ في قوله: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} ، وهو أن يُجعَلَ (ما) بمعنى (من) فيكون ذلك قَسَماً من الله جلَّ ثناؤه بخالقِ الذكرِ والأنثى، وهو ذلك الخالق، وأن تُجعلَ (ما) مع ما بعدها بمعنى المصدر، ويكون قَسَماً بخلقه الذكر والأنثى).
وقد صحَّ عن أبي الدرداء وابن مسعود أنهما كانا يقرءان: {الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}وهذه القراءةُ لا يُقرأ بها، لمخالفتِها رسمَ المصحفِ الذي ثبتَ فيه لفظ {وَمَا خَلَقَ}وإنما هي منسوخة: قرأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم ثم نُسِخَتْ فيما نُسِخَ في العَرْضَةِ الأخيرة؛ لأنها لو كانت غير ذلك، لثبتَ رسمُها في أحدِ مصاحفِ عثمان، كما وردَ إثباتُ بعضِ الألفاظ في مصحفٍ، وحذفُها من مصحفٍ غيره، والله أعلم.(4)وردَ عن السلف في تفسير الحسنى أقوال:
1-صدَّق بالخلف من الله، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة وأبي صالح وشهر بن حوشب، وعكرمة من طريق قيس بن مسلم ونضر بن عربي، ومجاهد من طريق أبي هاشم المكي.
ووردَ عن قتادة من طريق معمر وسعيد: (صدَّقَ المؤمنُ بموعودِ الله الحَسَن).
ويحتمل أن يكونَ مراد قتادة بالموعود: الخَلَفُ من الله، فيكون كهذا القول، والله أعلم.
2-صدَّقَ بلا إله إلا الله، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وأبي عبد الرحمن من طريق أبي حصين، والضحاك من طريق عبيد.
3-وصدَّق بالجنة، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
قال الطبري: (وأشبهُ هذه الأقوال بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيل وأَوْلاها بالصواب عندي، قول من قال: عنى به التصديق بالخَلَفَ من الله على نَفَقَته.
وإنما قلت:
ذلك أَوْلى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن الله ذكرَ قبلَه منفِقاً طالباً
بنفقته الخَلَف منها، فكان أولى المعاني به أن يكون الذي عَقِيبه الخبر عن
تصديقه بوَعدِ الله إياه بالخلف، إذ كانت نفقته على الوجه الذي يرضاه، مع
الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك، ورد).
ثم ذكرَ الخبرَ، وهو: عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما
من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبها ملكان يناديان - يسمعه خلق الله كلهم
إلا الثقلين -: اللهم أعطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وأعطِ ممسكاً تلَفاً)) فأنزلَ الله في ذلك القرآن: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله: {لِلْعُسْرَى}).
والحُسنى وصفٌ لموصوفٍ، وهي الخَصْلَةُ الحُسنى،وما
ذكرهُ السلف محتملٌ في التفسير، وبين أقوالهم تلازم واضح، فمن صدَّق بلا
إله إلا الله، فهو مصدِّقٌ بالجنة، ومصدِّق بالخَلَفِ من الله، وكذا العكس،
والله أعلم.
غير أن السِّياقَ فيما يظهر مرتبطٌ بالإنفاق،ولذا ورد أن هذه الآيات نزلت في إنفاق أبي بكر الصديق، وكذا جاء بعد ذكرِ مَنْ بخلَ بماله قولُه تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} وما بعدَها من الآيات في الإنفاق، والله أعلم.
(5)قال قتادة من طريق سعيد: (وأما من بَخِلَ بحقِّ الله عليه، واستغنى بنفسِه عن ربِّه)، ووردَ عن ابن عباس من طريق العوفي: (من أغناه الله، فبخِلَ بالزكاة)
وهذا يعني أن الآية يدخلُ فيها مانع الزكاة من المسلمين، وهذا منَ التفسير
القياسي؛ أي: يقاسُ على هذا الفعل الذي هو من فعلِ الكفَّار كلُّ من
فعلَه، وإن كان من المسلمين، والله أعلم.
(6)وردَ عَن السلف الخِلاف السابق في {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}.
(7)وردَ في هذه الآيات حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال علي بن أبي طالب:(كُنَّا
في جنازةٍ في بقيع الغَرْقَدِ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فَقَعَدَ وقَعَدْنَا حولَه، ومعه مِخْصَرَة، فنكَسَ، فجعل ينكتُ
بمِخْصَرَتِه، ثم قال:((ما منكم من أحدٍ، وما من نفسٍ منفوسة، إلا كُتب مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتبَ شقية أو سعيدة))قال
رجل: يا رسول الله، أفلا نتكلُ على كتابنا وندعُ العمل، فمن كان منَّا من
أهلِ السعادةِ فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منَّا من أهلِ الشقاوةِ،
فسيصيرُ إلى عمل أهل الشَّقاوة؟ قال: ((أما أهل السعادة، فَيُيَسَّرونَ لعملِ أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)}الآية)) رواه البخاري في تفسير سورة الليل من صحيحه.
(8)ورد ذلك عن أبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، وقتادة من طريق معمر وورد عن مجاهد من طريق ليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح: (إذا مات).
قال الطبري: (وأَوْلى
القولين في ذلك بالصوابِ، قول من قال: معناه: إذا تردَّى في جهنم؛ لأن ذلك
هو المعروفُ من التردِّي، أما إذا أريدَ معنى الموتِ، فإنه يقال: رَدِيَ
فلان، قلَّما يقال: تردَّى).
وهذا يعني أن تفسيرَ أبي صالح وقتادة على المشهور في معنى اللفظ، أما تفسير مجاهد فهو على معنى قليلٍ في اللفظ، وهو معنىً صحيح، ولكن قدَّم الأول؛ لأنه المعنى الأشهر، والله أعلم.
(9) قال قتادة من طريق سعيد: (على الله البيان: بيانُ حلالِه وحرامِه وطاعتِه ومعصيته).
(10) قال الطبري: (وقوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى} يقول: وإن لنا مِلْكَ ما في الدنيا والآخرة، نُعطي منها من أرَدْنا من خلقنا، ونحرمه من شئنا.
وإنما
عنى بذلك - جل ثناؤه - أنه يوفِّقُ لطاعته من أحبَّ من خلقه، فيكرِمه بها
في الدنيا، ويهيء له الكرامةَ والثوابَ في الآخرة، ويخذلُ من يشاءُ
خِذْلانَه من خلقِه عن طاعته، فيُهينه بمعصيته في الدنيا، ويُخزيه بعقوبته
عليها في الآخرة).
(11) قيل: نزلت هذه الآيات في أبي بكر، وردَ ذلك عن عبد الله من طريق ابن عامر، وقتادة من طريق سعيد، قال ابن كثير: (وقد ذكرَ غيرُ واحدٍ من المفسرين أنَّ هذه الآياتِ نزلت في أبي بكرٍ الصديق رضي
الله عنه، حتى إنَّ بعضَهم حكى الإجماعَ من المفسِّرين على ذلك، ولا شكَّ
أنه داخلٌ فيها، وأَوْلى الأمة بعمومِها، فإن لفظها لفظُ العُموم، وهو قوله
تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى} ولكنه مقدَّمُ الأمةِ وسابقُهم في جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصافِ الحميدة …) .
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن
أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ
مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا
لَلآخِرَةَ وَالأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لا
يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
وَمَا لأَِحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ
رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}
الشيخ:
هذا قسم من الله -جل وعلا- بالليل إذا يغشى ومعنى ذلك أنه يغشى النهار بظلمته فتظلم الآفاق والنواحي.
{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}أي النهار إذا خرج بضوئه واتضح وأشرق، وهذا -تعاقب الليل والنهار- آية من آيات الله:
-{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}.
-{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً}.
-{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُِولِي الألْبَابِ}.
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى}
هذا
إقسام من الله -جل وعلا- بنفسه سبحانه وتعالى، يعني: والذي خلق الذكر
والأنثى، والذي خلق الذكر والأنثى هو الله -جل وعلا- كما قال الله -جل
وعلا- في آية النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى مِن نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} وقال -جل وعلا-: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى}.ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}
أي: أن سعي العباد وعملهم مختلف، فمنهم من يعمل بعمل أهل النار، ومنهم من
يعمل بعمل أهل الجنة، ولهذا بين الله -جل وعلا- كثيراً في كتابه انقسام
الناس إلى هذين الصنفين:
-{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}.
-{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}.
-وقال تعالى: {أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}.
إلى غيرها من الآيات التي تبين انقسام الناس إلى قسمين، وهذا الانقسام ناتج عن انقسام العمل في الدنيا.
ثم قال -جل وعلا-: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} هذا تفصيل لانقسام الناس {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} أكثر أهل التفسير: على أن المراد أن هذا العبد بذل وأنفق في سبيل الله جل وعلا، وامتثل أمر الله -جل وعلا- في الإنفاق {وَاتَّقَى}
اتقى محارم الله جل وعلا، سواء في الإنفاق أو في عموم أحواله؛ لأن اتقاء
الله -جل وعلا- في الإنفاق داخل في اتقاء الله تعالى، ولهذا إذا أنفق
الإنسان ماله فيما يغضب الله لم يكن متقياً لله، فقوله -جل وعلا-: {وَاتَّقَى} أي: اتقى محارم الله جل وعلا؛ ومن ذلك ألا ينفق المال إلا في وجهه الذي أذن له فيه شرعاً.
وقوله -جل وعلا-: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}الحسنى: قال بعض العلماء: هي كلمة التوحيد لا إله الله إلا الله، وهذا يعود إلى قوله -جل وعلا- في سورة البلد: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يعنى هنا: اتقى محارم الله وعمل بأوامر الله وصدق بلا إله إلا الله، والتصديق بلا إله إلا الله يقتضي العمل بها وبما دلت عليه.
وبعض العلماء فسر الحسنى: بالجنة
{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}المراد بها الجنة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} وقال جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. وقال بعض العلماء: الحسنى:المراد
به أن يكون واثقاً بوعد الله -جل وعلا- ومصدقاً به، وهذا الوعد هو وعد
الله الذي وعد أن يخلف به على عباده المنفقين كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
وهذه تفسيرات لا إختلاف بينها؛ لأن من صدق بلا إله إلا الله وبما دلت عليه
لا إله إلا الله كان جزاؤه الجنة، وأخلف الله -جل وعلا- عليه في الدنيا،
فالإنسان في الدنيا من أهل التوحيد إذا آمن بالله، وصدق بكلمة التوحيد،
وأيقن بها، وعمل بها.
فإن
هذه الكلمة مهما أنفق في الدنيا من نفقات فإن قلبه يكون مطمئناً بوعد
الله؛ لأن الإخلاف هذا ليس معناه أن الإنسان إذا أنفق ألفاً أنه من الضروري
أن يكسب أكثر من ذلك، الإخلاف هذا شيء عام، إما أن الله -جل وعلا- يزيد في
المال أو يبارك في المال، ولهذا بعض الناس يملك دراهم كثيرة ولكن لا يبارك
له في ماله فلا ينتفع به، وبعضهم يملك قليلاً من المال ولكن يبارك له فيه
بسبب نفقته فينتفع بهذا المال.
وكذلك من الإخلاف أن
الله -جل وعلا- يشرح صدر العبد ويجعله راضياً بما قضاه الله عليه وقدره،
وبما قسمه له من الرزق، ولهذا أهل الإنفاق إذا أنفق لله -جل وعلا- فإنه يرى
أنه في انشراح صدر، وأن باله مطمئن، وأنه يرى من نفسه ازدياد وثوق بوعد
الله -جل وعلا- لعباده، فالشاهد أن من قال: (لا إله إلا الله) بصدق، صدَّق بهذه الكلمة فإن مرده إلى الجنة، ومرده إلى أن يخلف الله -جل وعلا- عليه ما أنفقه.
قال الله -جل وعلا- عن جزائه: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
فهو إذا صدّق بالجنة وصدّق بلا إله إلا الله وصدق بوعد الله، يسره الله
-جل وعلا- للحالة اليسرى، وهذه الحالة اليسرى إذا يُسر لها العبد في الدنيا
يسره الله -جل وعلا- في الآخرة إلى جنات النعيم؛ لأن هناكَ ارتباطاً بين
الآخرة والدنيا، فمن كان على الصراط المستقيم في الدنيا هُدي يوم القيامة
إلى جنات النعيم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.
وهذه الآيات بينت أسباب نيل اليسرى وهي:
- الإعطاء، وهو الإنفاق في سبيل الله قاصداً العبد بذلك وجه الله جل وعلا.
والثاني: اتقاء الله جل وعلا،وذلك يقتضي الكف عن محارمه.
وثالثها: أن يصدق العبد بالحسنى.
فهذه ثلاثة أشياء إذا اجتمعت في العبد يسره الله -جل وعلا- لليسرى، وهذا يقتضي أن العبد له فعل، وأنه يفعل باختياره، ولكن التوفيق بيد الله -جل وعلا-، فقوله في هذه الآيات: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} هذه كلها كسب للعبد.
وقوله -جل وعلا-: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} هذه لله -جل وعلا-، هذه معنى قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
يلهم التقوى في الدنيا، ويجعل يسير على الطريق الذي ارتضاه الله ورسوله
-صلى الله عليه وسلم- في الدنيا، يلهم ذلك إلهاماً من الله لكن هذا له سبب
وهو الإعطاء والتصديق والاتقاء، كما دلت هذه الآيات على أن العبد إذا عمل
صالحاً وفقه الله -جل وعلا- وزاده من الصالحات؛ لأن العبد هنا لما عمل
صالحاً وُفق إلى الصالحات الأخرى، وهي المدلول عليها بقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وهذه كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}
يعنى: أن من بخل بماله فلم ينفقه في سبيل الله، واستغنى عن طاعة الله بحيث
انصرف عنها؛ واستغنى عن ما وعد الله جل وعلا به، واستغنى عن الأجر العظيم،
ووقع في المحارم، وكذب بالحسنى، وهي كلمة التوحيد، أو الجنة أو بوعد الله
بالإخلاف، فهذا يكون مرده إلى أن ييسر للعسرى، فَتلهم نفسه فجورها، ثم يكون
في الآخرة من أهل النار، فهذا عمل من العبد؛ وهو البخل والاستغناء
والتكذيب، ورتب الله -جل وعلا- عليه شيئاً آخر وهو التيسير للعسرى، فدل ذلك على أن للعبد كسباً،
ولكن الله -جل وعلا- هو الذي يوفق أو يخذل، فهذا لما عمل السيئات خذله
الله -جل وعلا- فلم يلهمه الله -جل وعلا- إلا الفجور، فيكون مرده في الآخرة
إلى النار.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} يعني: أن هذا العبد الذي بخل واستغنى إذا تردى وهلك، وهلاكه يكون إلى النار.
الله
-جل وعلا- عبر هنا بالتردي؛ لأن التردي يكون من أعلى إلى أسفل، وهؤلاء
يقذفون في النار؛ لأنهم كما أخبر الله يؤخذون بالنواصي والأقدام ثم بعد ذلك
يلقون في نار جهنم، فهو إذا تردى وهلك ومات إلى النار، مالُه الذي بخل به
لا يغني عنه شيئاً، كما قال الله -جل وعلا- عن أبي لهب: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}.
وقال الله -جل وعلا- في شأن الكافر يوم القيامة إذا أخذ كتابه بشماله أنه يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} وقال -جل وعلا-: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
فأخبر -جل وعلا- أن يوم القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون؛ لأن هذه إنما
تنفع العبد إن نفعته في الدنيا، وأما في الآخرة فينقطع عنه كل شيء إلا شيء
واحد وهو العمل الصالح.
ثم قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}
قال بعض السلف: يعنى إن الله -جل وعلا- عليه بيان طريق الهدى، وذلك ببعثة
الأنبياء والمرسلين، وإنزال الكتب، وإقامة الحجة على الخلق، وبيان الطريق
الموصل إليه جل وعلا.
وبيان الطريق الموصل إلى الله -جل وعلا- يتضمن أن
يحذر الله عباده عن طرق الغواية والضلالة؛ ولهذا ما ذكر الله -جل وعلا-
طريق الضلال؛ لأنه -جل وعلا- إذا بين طريق الهداية، وأرشد إليه؛ كان من
بيان طريق الهداية أن يُحذر العباد من طريق الضلالة والغواية، فاكتفى الله
-جل وعلا- بذكر ذلك.
وقال بعض العلماء: إن
معنى الآية أن الطريق الموصل إلى الله هو الهدى، وهذا الهدى هو الطريق
المستقيم الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال الله -جل
وعلا-: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} وقال -جل وعلا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}
وعلى كلٍ الله -جل وعلا- بيّن هذا وذاك، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن
طريق الهداية، وأخبر -جل وعلا- أن الطريق الموصل إليه هو طريق الهدى، وطريق
الهدى هو الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -جل وعلا-: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} هذا فيه تفرد الله -جل وعلا- بالملك في الدنيا والآخرة، فهو -جل وعلا- له الآخرة وله الأولى:
- كما قال -جل وعلا-: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}.
-وقال -جل وعلا-: {وللَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}.
-{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.
-وقال الله -جل وعلا-: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ}.
- وقال - جل وعلا -: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
إلى غيرها من الآيات التي تقدمت في سورة الانفطار.
ثم قال -جل وعلا-: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى}اللَّظَى: هو خالص اللهب،
يعني: أن هذه نار قد اشتدت وعظمت وخلص لهبها من شدة الإيقاد عليها؛ لأن
النار كلما يزاد الإيقاد عليها كلما يكون لهبها صافياً، وهذه النار التي
أعدها الله -جل وعلا- أعدها للأشقى.
والأشقى هذا وصفه الله -جل وعلا- وبينه قال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يعني: كذب بآيات الله، وبما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وتولى وأعرض عن ذلك، وهذه الآية في الكفار.
وقد أخطأت المرجئة فاستدلوا بهذه الآية على أن المسلم لا يدخل النار أبداً، وأن
النار إنما هي للكافرين، وهذا غلط ولا يحل لعبد أن يعتقده؛ لأن الله -جل
وعلا- بيّن أن فريقاً من المؤمنين يعذبون في النار؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
فهناك
أقوام يعذبون بالنار، ويخرجون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبشفاعة
الشافعين، ثم بعد ذلك يخرجون بفضل الله ورحمته، فلو قلنا: إن النار لا
يدخلها إلا الكافر؛ لكان في ذلك إبطال لآيات الكتاب وأحاديث النبي عليه
الصلاة والسلام، ولكن كما تقدم معنا أن قوله -جل وعلا-: {لا يَصْلاهَا} أن الصلي:
إنما هو خاص بالكفار، وأما المؤمن فتصيبه هذه النار ثم يموت، ثم يلقى في
نهر الحياة، ثم يدخل الجنة بعد ذلك بفضل الله ورحمته، ولهذا وصف الله -جل
وعلا- هذا الأشقى؛ قال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} أي: سيجنب هذه النار الأتقى، وهو الذي اتقى الله جل وعلا.
ثم بيّن الله - جل وعلا - صفته: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}
أي: ينفق ماله لأجل أن يتزكى، ويتطهر، ويقوى إيمانه ويزداد، لا يفعل ذلك
محبة في الشهرة، ولا طلباً لما عند البشر، ولا رياءً ولا سمعةً؛ إنما يفعل
ذلك من أجل التزكي، وهذا فيه إثبات كسب العبد.
ثم قال: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى}
أي: أنه وهو ينفق هذا المال ليس لأحد من الخلق عليه نعمة قد أسداها إليه؛
فيريد بإنفاقه هذا أن يكافئه على هذه النعمة، ولكنه يفعل ذلك ابتغاء وجه
الله جل وعلا، كما قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا
شُكُوراً}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}
أي: أنه يوم القيامة يرضى؛ لأن الله -جل وعلا- يكرمه غاية الإكرام، ويكون
الله -جل وعلا- راضياً عنه، فالعبد إذا وصف بالآخرة بأنه يرضى؛ فهذا دليل
على رضى الله -جل وعلا- عنه؛ لأنه إذا رضي في الآخرة فإن الله -جل وعلا- قد
أكرمه، وإذا أكرم الله عبده فهذا دليل على رضاه، فدل قوله -جل وعلا-: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي: أنه هو يرضى، والله -جل وعلا- قد رضي عنه وأرضاه.
وهذه الآية ذهب جمهور المفسرين أنها نزلت في أبي بكر الصديق
رضي الله عنه؛ لأنه أنفق في سبيل الله -جل وعلا- ولم يكن النبي صلى الله
وعليه وسلم له نعمة على أبي بكر إلا نعمة الإسلام، وأما قبل ذلك فليس للنبي
-صلى الله وعليه وسلم- نعمة على أبي بكر، وإنما فعل ذلك أبو بكر ابتغاء وجه الله جل وعلا، وهذه إحدى فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - وأرضاه، وما أكثر فضائله.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تفسير سورة الليل
تفسير قول الله تعالى : ( والليل إذا يغشى )
تفسير قول الله تعالى : ( والنهار إذا تجلى )
تفسير قول الله تعالى : ( وما خلق الذكر والأنثى )
القراءة المنسوخة في قوله تعالى: (وما خلق الذكر والأنثى)
بيان أسباب نيل اليسرى
تفسير قول الله تعالى : ( وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله إذا تردى )
تفسير قول الله تعالى : ( وإن لنا للآخرة والأولى )
تفسير قول الله تعالى : ( فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى )
تفسير قول الله تعالى : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى )
ذكر في من نزل قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى ..) الآيات
تفسير قول الله تعالى : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى )
الأسئلة
س1: بيِّن المقسم به والمقسم عليه في هذه السورة.
س2: بين معاني الكلمات التالية: يغشى، تجلَّى، سعيكم، شتَّى، الحسنى، تردَّى، يصلاها، يتزكى، تُجزى، ابتغاء.
س3: ذكر الله تعالى أوصاف الصنفين الشقي والسعيد، وجزاءهما في هذه السورة، اذكرهما مع الشرح المختصر.
س4: اذكر قولي العلماء في معنى: "ما" في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} .
س5: اذكر القراءتين في قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}.
س6: اذكر أقوال السلف في المراد بـ{الحسنى} مع الترجيح.
س7:
من أعظم ما يغر ابن آدم ويطغيه كثرة المال بغير علم، تحدث باختصار عن خطر
هذه القضية، ومعالجة القرآن الكريم لها في ضوء دراستك لهذه السورة.
س8: اذكر القولين في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}مع الترجيح.
س9: اذكر القولين في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}.
س10: اذكر أهم الفوائد السلوكية التي تستفيدها من قوله تعالى:{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى...} إلى آخر السورة.
س11: تحدث باختصار عن فضل الصدقة من خلال دراستك لهذه السورة.
س12: اذكر سبب نزول قول الله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة اللّيل وهي مكّيّةٌ.
تقدّم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذٍ: ((فهلاّ صلّيت بـ {سبّح اسم ربّك الأعلى} و {الشّمس وضحاها} و {اللّيل إذا يغشى}.
قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، أنه قدم الشام، فدخل مسجد دمشق فصلّى فيه ركعتين، وقال: اللّهمّ ارزقني جليساً صالحاً. قال: فجلس إلى أبي الدّرداء، فقال له أبو الدرداء: ممّن أنت؟ قال: من أهل الكوفة. قال: كيف سمعت ابن أمّ عبدٍ يقرأ: {واللّيل إذا يغشى والنّهار إذا تجلّى}؟ قال علقمة: (والذّكر والأنثى). فقال أبو الدّرداء: لقد سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما زال هؤلاء حتّى شكّكوني. ثمّ قال: ألم يكن فيكم صاحب الوساد، وصاحب السّرّ الذي لا يعلمه أحدٌ غيره، والذي أجير من الشيطان على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟.
وقد رواه البخاريّ ههنا، ومسلمٌ من طريق الأعمش، عن إبراهيم، قال: قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء، فطلبهم فوجدهم، فقال: أيّكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قالوا: كلّنا. قال: أيّكم أحفظ؟ فأشاروا إلى علقمة، فقال: كيف سمعته يقرأ: {واللّيل إذا يغشى}؟ قال: (والذّكر والأنثى). قال: أشهد أني سمعت رسول الله يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدون أن أقرأ: {وما خلق الذّكر والأنثى}. والله لا أتابعهم.
هذا لفظ البخاريّ. هكذا قرأ ذلك ابن مسعودٍ، وأبو الدرداء، ورفعه أبو الدرداء، وأمّا الجمهور فقرؤوا ذلك كما هو المثبت في المصحف الإمام العثمانيّ في سائر الآفاق: {وما خلق الذّكر والأنثى} فأقسم تعالى بالليل إذا يغشى، أي: إذا غشي الخليقة بظلامه {والنّهار إذا تجلّى} أي: بضيائه وإشراقه، {وما خلق الذّكر والأنثى} كقوله: {وخلقناكم أزواجاً} وكقوله: {ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين}.
ولمّا كان القسم بهذه الأشياء المتضادّة كان المقسم عليه أيضاً متضادًّا، ولهذا قال: {إنّ سعيكم لشتّى} أي: أعمال العباد التي اكتسبوها متضادّةٌ أيضاً، ومتخالفةٌ؛ فمن فاعلٍ خيراً، ومن فاعلٍ شرًّا.
قال الله تعالى: {فأمّا من أعطى واتّقى} أي: أعطى ما أمر بإخراجه، واتّقى الله في أموره.
{وصدّق بالحسنى} أي: بالمجازاة على ذلك. قاله قتادة.
وقال خصيفٌ: بالثّواب. وقال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وأبو صالحٍ، وزيد بن أسلم: {وصدّق بالحسنى} أي: بالخلف.
وقال أبو عبد الرحمن السّلميّ والضّحّاك: {وصدّق بالحسنى} أي: بلا إله إلاّ الله.
وفي روايةٍ عن عكرمة: {وصدّق بالحسنى} أي: بما أنعم الله عليه.
وفي روايةٍ عن زيد بن أسلم: {وصدّق بالحسنى} قال: الصلاة والزكاة والصوم. وقال مرّةً: وصدقة الفطر.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان بن صالحٍ الدّمشقيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، حدّثني من سمع أبا العالية الرّياحيّ يحدّث عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)) .
وقوله: {فسنيسّره لليسرى} قال ابن عبّاسٍ: يعني: للخير. وقال زيد بن أسلم: يعني: للجنّة. وقال بعض السّلف: من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيّئة السيّئة بعدها.
ولهذا قال تعالى: {وأمّا من بخل} أي: بما عنده {واستغنى} قال عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، أي: بخل بماله، واستغنى عن ربّه عزّ وجلّ. رواه ابن أبي حاتمٍ.
{وكذّب بالحسنى} أي: بالجزاء في الدار الآخرة.
{فسنيسّره للعسرى} أي: لطريق الشرّ، كما قال تعالى: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون}.
والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ دالّةٌ على أنّ الله عزّ وجلّ يجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشرّ بالخذلان، وكلّ ذلك بقدرٍ مقدّرٍ.
والأحاديث الدالّة على هذا المعنى كثيرةٌ:
رواية أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد:
حدّثنا عليّ بن عيّاشٍ، حدّثني العطّاف بن خالدٍ، حدّثني رجلٌ من أهل البصرة، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكرٍ الصدّيق، عن أبيه، قال: سمعت أبي يذكر أنّ أباه سمع أبا بكرٍ، وهو يقول: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أنعمل على ما فرغ منه، أو على أمرٍ مؤتنفٍ؟ قال: ((بل على أمرٍ قد فرغ منه)).
قال: ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: ((كلٌّ ميسّرٌ لما خلق له)).
رواية عليٍّ رضي الله عنه:
قال البخاريّ:
حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن سعيد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ، عن عليّ بن أبي طالبٍ، قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازةٍ، فقال: ((ما منكم من أحدٍ إلاّ وقد كتب مقعده من الجنّة ومقعده من النّار)). فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتّكل؟ فقال: ((اعملوا، فكلٌّ ميسّرٌ لما خلق له)). ثمّ قرأ: {فأمّا من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى} إلى قوله: {للعسرى}.
وكذا رواه من طريق شعبة ووكيعٍ، عن الأعمش بنحوه، ثمّ رواه عن عثمان بن أبي شيبة، عن جريرٍ، عن منصورٍ، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: كنّا في جنازةٍ في بقيع الغرقد، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرةٌ، فنكس فجعل ينكت بمخصرةٍ، ثمّ قال: ((ما منكم من أحدٍ - أو: ما من نفسٍ منفوسةٍ - إلاّ كتب مكانها من الجنّة والنّار، وإلاّ قد كتبت شقيّةً أو سعيدةً)).
فقال رجلٌ: يا رسول الله، أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منّا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منّا من أهل الشّقاء فسيصير إلى أهل الشقاء؟ فقال: ((أمّا أهل السّعادة فسييسّرون لعمل أهل السّعادة، وأمّا أهل الشّقاء فسييسّرون لعمل أهل الشّقاء)). ثمّ قرأ: {فأمّا من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى} الآية. وقد أخرجه بقيّة الجماعة من طرقٍ، عن سعيد بن عبيدة به.
رواية عبد الله بن عمر:
قال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، قال: سمعت سالم بن عبد الله يحدّث عن ابن عمر، قال: قال عمر: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل فيه، أفي أمرٍ قد فرغ أو مبتدأٍ أو مبتدعٍ؟ قال: ((فيما قد فرغ منه، فاعمل يا بن الخطّاب؛ فإنّ كلاًّ ميسّرٌ لما خلق له، أمّا من كان من أهل السّعادة فإنّه يعمل للسّعادة، وأمّا من كان من أهل الشّقاء فإنّه يعمل للشّقاء)).
ورواه التّرمذيّ في القدر، عن بندارٍ، عن ابن مهديٍّ به، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
حديثٌ آخر من رواية جابرٍ:
قال ابن جريرٍ:
حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزّبير، عن جابر بن عبد الله، أنه قال: يا رسول الله، أنعمل لأمرٍ قد فرغ منه، أو لأمرٍ نستأنفه؟ فقال: ((لأمرٍ قد فرغ منه)). فقال سراقة: ففيم العمل إذاً؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((كلّ عاملٍ ميسّرٌ لعمله)).
ورواه مسلمٌ، عن أبي الطّاهر، عن ابن وهبٍ به.
حديثٌ آخر:
قال ابن جريرٍ:
حدّثني يونس، حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن طلق بن حبيبٍ، عن بشير بن كعبٍ العدويّ، قال: سأل غلامان شابّان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله، أنعمل فيما جفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أو في شيءٍ يستأنف؟ فقال: ((بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير)) قالا: ففيم العمل إذاً؟ قال: ((اعملوا فكلّ عاملٍ ميسّرٌ لعمله الّذي خلق له)) قالا: فالآن نجدّ ونعمل.
رواية أبي الدّرداء:
قال الإمام أحمد: حدّثنا هيثم بن خارجة، حدّثنا أبو الرّبيع سليمان بن عتبة السّلميّ، عن يونس بن ميسرة بن حلبسٍ، عن أبي إدريس، عن أبي الدّرداء، قال: قالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل، أمرٌ قد فرغ منه، أم شيءٌ نستأنفه؟ قال: ((بل أمرٌ قد فرغ منه)). فقالوا: فكيف بالعمل يا رسول الله؟ قال: ((كلّ امرئٍ مهيّأٌ لما خلق له)).
تفرّد به أحمد من هذا الوجه.
حديثٌ آخر:
قال ابن جريرٍ:
حدّثني الحسن بن سلمة، عن أبي كبشة، حدّثنا عبد الملك بن عمرٍو، حدّثنا عبّاد بن راشدٍ، عن قتادة، حدّثني خليدٌ العصريّ، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من يومٍ غربت فيه شمسه إلاّ وبجنبتيها ملكان يناديان، يسمعه خلق الله كلّهم إلاّ الثّقلين: اللّهمّ أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً. وأنزل الله في ذلك قرآناً: {فأمّا من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى، وأمّا من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسّره للعسرى}.
ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبيه، عن أبي كبشة بإسناده مثله.
حديثٌ آخر: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثني أبو عبد الله الطّهرانيّ، حدّثنا حفص بن عمر العدنيّ، حدّثنا الحكم بن أبانٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، أن رجلاً كان له نخلٌ، ومنها نخلةٌ فرعها في دار رجلٍ صالحٍ فقيرٍ ذي عيالٍ. فإذا جاء الرجل فدخل داره فيأخذ الثمرة من نخلته فتسقط الثّمرة، فيأخذها صبيان الرجل الفقير، فينزل من نخلته فينزع الثمرة من أيديهم، وإن أدخل أحدهم التّمرة في فمه أدخل أصبعه في حلق الغلام، ونزع التّمرة من حلقه.
فشكا ذلك الرجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة، فقال له النبيّ: ((اذهب)). ولقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صاحب النخلة فقال له: ((أعطني نخلتك الّتي فرعها في دار فلانٍ، ولك بها نخلةٌ في الجنّة)). فقال له: لقد أعطيت، ولكن يعجبني ثمرها، وإنّ لي لنخلاً كثيراً، ما فيها نخلةٌ أعجب إليّ ثمرةً من ثمرها.
فذهب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فتبعه رجلٌ كان يسمع الكلام من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن صاحب النخلة، فقال الرجل: يا رسول الله، إن أنا أخذت النخلة فصارت لي النخلة فأعطيتكها، أتعطيني بها ما أعطيته بها؛ نخلةً في الجنّة؟ قال: ((نعم)).
ثمّ إنّ الرجل لقي صاحب النخلة، ولكلاهما نخلٌ، فقال له: أخبرك أن محمداً أعطاني بنخلتي المائلة في دار فلانٍ نخلةً في الجنة، فقلت له: قد أعطيت، ولكنّي يعجبني ثمرها. فسكت عنه الرجل فقال: أتراك إذا بعتها؟ قال: لا، إلاّ أن أعطى بها شيئاً، ولا أظنّني أعطاه. قال: وما مناك بها؟ قال: أربعون نخلةً. فقال الرجل: لقد جئت بأمرٍ عظيمٍ، نخلتك تطلب بها أربعين نخلةً؟!
ثمّ سكتا وأنشأ في كلامٍ آخر، ثمّ قال: فأنا أعطيك أربعين نخلةً. فقال: أشهد لي إن كنت صادقاً. فأمر بأناسٍ فدعاهم، فقال: اشهدوا أنّي قد أعطيته من نخلي أربعين نخلةً بنخلته التي فرعها في دار فلان بن فلانٍ.
ثمّ قال: ما تقول؟ فقال صاحب النخلة: قد رضيت.
ثمّ قال بعد: ليس بيني وبينك بيعٌ؛ لم نفترق.
فقال له: قد أقالك الله ولست بأحمق حين أعطيتك أربعين نخلةً بنخلتك المائلة.
فقال صاحب النخلة: قد رضيت على أن تعطيني الأربعين على ما أريد. قال: تعطينيها على ساقٍ. ثمّ مكث ساعةً، ثمّ قال: هي لك على ساقٍ.
وأوقف له شهوداً، وعدّ له أربعين نخلةً على ساقٍ، فتفرّقا.
فذهب الرجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنّ النخلة المائلة في دار فلانٍ قد صارت لي، فهي لك.
فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرجل صاحب الدار فقال له: ((النّخلة لك ولعيالك)).
قال عكرمة: قال ابن عبّاسٍ: فأنزل الله عزّ وجلّ: {واللّيل إذا يغشى} إلى قوله: {فأمّا من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى وأمّا من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسّره للعسرى} إلى آخر السورة.
وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، وهو حديثٌ غريبٌ جدًّا.
قال ابن جريرٍ: وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه:
حدّثني هارون بن إدريس الأصمّ، حدّثنا عبد الرحمن بن محمدٍ المحاربيّ، حدّثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكرٍ الصدّيق، عن عامر بن عبد الله بن الزّبير، قال: كان أبو بكرٍ رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكّة، فكان يعتق عجائز ونساءً إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بنيّ، أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنّك تعتق رجالاً جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك. فقال: أي أبت، إنما أريد - أظنّه قال - ما عند الله.
قال: فحدّثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه: {فأمّا من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى}.
وقوله: {وما يغني عنه ماله إذا تردّى} قال مجاهدٌ: أي: إذا مات. وقال أبو صالحٍ ومالكٌ، عن زيد بن أسلم: إذا تردّى في النار.
قال قتادة: {إنّ علينا للهدى} أي: نبيّن الحلال والحرام.
وقال غيره: من سلك طريق الهدى وصل إلى الله. وجعله كقوله تعالى: {وعلى الله قصد السّبيل}. حكاه ابن جريرٍ.
وقوله: {وإنّ لنا للآخرة والأولى} أي: الجميع ملكنا، وأنا المتصرّف فيهما.
وقوله: {فأنذرتكم ناراً تلظّى} قال مجاهدٌ: أي: توهّج.
قال الإمام أحمد: حدّثنا محمد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن سماك بن حربٍ: سمعت النّعمان بن بشيرٍ يخطب يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يقول: ((أنذرتكم النّار، أنذرتكم النّار، أنذرتكم النّار)) حتى لو أنّ رجلاً كان بالسّوق لسمعه من مقامي هذا. قال: حتى وقعت خميصةٌ كانت على عاتقه عند رجليه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمد بن جعفرٍ، حدّثني شعبة، حدّثني أبو إسحاق: سمعت النّعمان بن بشيرٍ يخطب ويقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((إنّ أهون أهل النّار عذاباً رجلٌ توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه)). رواه البخاريّ.
وقال مسلمٌ: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن النّعمان بن بشيرٍ، قال: قال رسول الله: ((إنّ أهون أهل النّار عذاباً من له نعلان وشراكان من نارٍ، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أنّ أحداً أشدّ منه عذاباً، وإنّه لأهونهم عذاباً)) .
وقوله: {لا يصلاها إلاّ الأشقى} أي: لا يدخلها دخولاً تحيط به من جميع جوانبه إلاّ الأشقى.
ثمّ فسّره فقال: {الّذي كذّب} أي: بقلبه {وتولّى} أي: عن العمل بجوارحه وأركانه.
قال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا عبد ربّه بن سعيدٍ، عن المقبريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا يدخل النّار إلاّ شقيٌّ)). قيل: ومن الشّقيّ؟ قال: ((الّذي لا يعمل بطاعةٍ، ولا يترك لله معصيةً)).
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يونس وسريجٌ، قالا: حدّثنا فليحٌ، عن هلال بن عليٍّ، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((كلّ أمّتي تدخل الجنّة يوم القيامة إلاّ من أبى)). قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى)).
ورواه البخاريّ، عن محمّد بن سنانٍ، عن فليحٍ به.
وقوله: {وسيجنّبها الأتقى} أي: وسيزحزح عن النار التّقيّ النّقيّ الأتقى.
ثمّ فسّره بقوله: {الّذي يؤتي ماله يتزكّى} أي: يصرف ماله في طاعة ربّه؛ ليزكّي نفسه وماله، وما وهبه الله من دينٍ ودنيا.
{وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى} أي: ليس بذله وماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً، فهو يعطي في مقابلة ذلك، وإنما دفعه ذلك.
{ابتغاء وجه ربّه الأعلى} أي: طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدّار الآخرة في روضات الجنّات.
قال الله تعالى: {ولسوف يرضى} أي: ولسوف يرضى من اتّصف بهذه الصفات.
وقد ذكر غير واحدٍ من المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في أبي بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه، حتى إنّ بعضهم حكى الإجماع من المفسّرين على ذلك، ولا شكّ أنه داخلٌ فيها، وأولى الأمّة بعمومها؛ فإنّ لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وسيجنّبها الأتقى الّذي يؤتي ماله يتزكّى وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى} ولكنّه مقدّم الأمّة، وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صدّيقاً تقيًّا كريماً، جواداً باذلاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فكم من درهمٍ ودينارٍ بذله ابتغاء وجه ربّه الكريم، ولم يكن لأحدٍ من الناس عنده منّةٌ يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السّادات والرّؤساء من سائر القبائل.
ولهذا قال له عروة بن مسعودٍ، وهو سيّد ثقيفٍ يوم صلح الحديبية: أما والله لولا يدٌ لك كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك. وكان الصّدّيق قد أغلظ له في المقالة.
فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف بمن عداهم؟
ولهذا قال: {وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى ولسوف يرضى}.
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنّة: يا عبد الله، هذا خيرٌ)). فقال أبو بكرٍ: يا رسول الله، ما على من يدعى منها ضرورةٌ، فهل يدعى منها كلّها أحدٌ؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) .
آخر تفسير سورة اللّيل، ولله الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/416-422]