22 Oct 2008
سورةُ الشَّمس
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا
جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا
بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ
اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ
عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ
عُقْبَاهَا (15)}
تفسير سورة والشمس وضحاها
أقسمَ اللهُ تعالى بهذهِ الآياتِ العظيمةِ، على النفسِ المفلحةِ، وغيرِهَا منَ النفوسِ الفاجرةِ، فقالَ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أي: نورهَا ونفعهَا الصادرِ منهَا. {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}أي: تبعهَا في المنازلِ والنورِ. {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا}أي: جلّى ما علَى وجهِ الأرضِ وأوضحهُ. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}أي: يغشى وجهَ الأرضِ، فيكونُ ما عليهَا مظلماً. فتعاقبُ الظلمةِ والضياءِ،والشمسِ
والقمرِ على هذا العالمِ بانتظامٍ وإتقانٍ، وقيامٍ لمصالحِ العبادِ، أكبرُ
دليلٍ على أنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّهُ
المعبودُ وحدهُ، الذي كلُّ معبودٍ سواهُ فباطلُ. {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} يحتملُأنَّ {مَا}موصولةٌ، فيكونُ الإقسامُ بالسماءِ وبانيهَا، الذي هوَ الله تباركَ وتعالَى. ويحتملُ أنَّهَا مصدريةٌ،فيكونُ الإقسامُ بالسماءِ وبنيانِهَا، الذي هوَ غايةُ ما يقدّرُ مِنْ الإحكامِ والإتقانِ والإحسانِ، ونحوُ ذلكَ. قولهُ: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي: مدَّهَا ووسّعهَا، فتمكنَ الخلقُ حينئذٍ منَ الانتفاعِ بهَا، بجميعِ وجوهِ الانتفاعِ. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} يحتملُ أنَّ المرادَ: نفسُ سائرِ المخلوقاتِ الحيوانيةِ، كمَا يؤيدُ هذا العمومُ. ويحتملُ أنَّ المرادَ: وعلَى
كُلٍّ، فالنفسُ آيةٌ كبيرةٌ منْ آياتهِ التي حقيقةٌ بالإقسامِ بهَا،
فإنَّهَا في غايةِ اللطفِ والخفةِ، سريعةِ التنقلِ والتغيرِ والتأثرِ
والانفعالاتِ النفسيةِ، منَ الهمِّ، والإرادةِ، والقصدِ، والحبِّ، والبغضِ،
وهيَ التي لولاهَا لكانَ البدنُ مجردَ تمثالٍ لا فائدةَ فيهِ، وتسويتهَا
على هذا الوجهِ آيةٌ منْ آياتِ اللهِ العظيمةِ. وقولهُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} أي: طهرَ نفسهُ منَ الذنوبِ، ونقاهَا منَ العيوبِ، ورقَّاهَا بطاعةِ اللهِ، وعلاّهَا بالعلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ. {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}أي:
أخفى نفسهُ الكريمةَ، التي ليستْ حقيقةً بقمعهَا وإخفائهَا، بالتدنسِ
بالرذائلِ، والدنوِّ منَ العيوبِ والاقترافِ للذنوبِ، وتركِ مَا يكملهَا
وينميهَا، واستعمالِ ما يشينُهَا، ويدسيهَا. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}أي: بسببِ طغيانهَا وترفعهَا عن الحقِّ، وعتوِّهَا على رسلِ اللهِ. {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا}أي: أشقى القبيلةِ، (قدار بن سالف) لعقرهَا حينَ اتفقوا على ذلكَ، وأمروهُ فأتمرَ لهمْ. {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ}صالحُ عليهِ السلامُ محذراً: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}
أي: احذروا عقرَ ناقةِ اللهِ، التي جعلهَا لكمْ آيةً عظيمةً، ولا تقابلوا
نعمةَ اللهِ عليكمْ بسقيِ لبنهَا أنْ تعقروهَا، فكذبوا نبيهمْ صالحاً{فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ}
أي: دمَّرَ عليهمْ وعمَّهمْ بعقابهِ، وأرسلَ عليهمُ الصيحةَ منْ فوقهمْ،
والرجفةَ منْ تحتهمْ، فأصبحوا جاثمينَ على ركبهمْ، لا تجدُ منهمْ داعياً
ولا مجيباً. {فَسَوَّاهَا}عليهمْ أي: سوى بينهمْ بالعقوبةِ {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي: تبِعَتَهَا. وكيفَ يخافُ مَنْ هوَ قاهرٌ، لا يخرجُ عنْ قهرهِ وتصرفهِ مخلوقٌ، الحكيمُ في كلِّ مَا قضاهُ وشرعهُ؟ تمتْ وللهِ الحمدُ.
(1-15){بسم
الله الرحمن الرحيم وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا
تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا
(6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ
فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}
الإقسامُ بنفسِ الإنسانِ المكلفِ، بدليلِ ما يأتي بعدَهُ.
سُورَةُ الشَّمْسِ
1- {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} الضُّحَى: وَقْتُ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِهَا إِذَا تَمَّ ضِيَاؤُهَا.
2- {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا}؛
أَيْ: تَبِعَهَا، وَذَلِكَ فِي اللَّيَالِي البِيضِ، وَهِيَ لَيْلَةُ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَسِتَّ عَشْرَةَ، يَطْلُعُ فِيهَا
القَمَرُ من المَشْرِقِ مُمْتَلِئاً بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
3- {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا}؛ أَيْ: جَلَّى الشَّمْسَ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ انْبِسَاطِ النَّهَارِ تَنْجَلِي تَمَامَ الانجلاءِ.
4- {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}؛ أَيْ: يَغْشَى الشَّمْسَ، فَيَذْهَبُ بِضَوْئِهَا، فَتَغِيبُ وَتُظْلِمُ الآفَاقَ.
5- {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}؛ أَيْ: وَالسماءِ وَبِنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا.
6- {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}؛ أَيْ: بَسَطَهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
7- {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}:
أَنْشَأهَا وَسَوَّى أَعْضَاءَهَا، وَرَكَّبَ فِيهَا الرُّوحَ، وَجَعَلَ
فِيهَا الْقُوَى النَّفْسِيَّةَ الهَائِلَةَ، وَالإِدْرَاكَاتِ
العَجِيبَةَ، وَجَعَلَهَا مُسْتَقِيمَةً عَلَى الفِطْرَةِ، كَمَا فِي
الْحَدِيثِ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ)).
8- {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}؛ أَيْ: عَرَّفَها وَأَفْهَمَهَا حَالَهُمَا، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْحُسْنِ وَالقُبْحِ.
9- {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}؛
أَيْ: مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَأَنْمَاهَا وَأَعْلاهَا بالتَّقْوَى فَازَ
بِكُلِّ مَطْلُوبٍ وَظَفِرَ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا
فَقَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن مَضْجَعِهِ،
فَلَمَسَتْهُ بِيَدِهَا، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَهُوَ
يَقُولُ: ((رَبِّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا)).
10- {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}؛ أَيْ: خَسِرَ مَنْ أَضَّلَهَا وَأَغْوَاهَا وَأَخْمَلَهَا، وَلَمْ يشهرها ([1]) بالطاعةِ والعَمَلِ الصالحِ.
11- {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}؛ أَيْ: بِسَبَبِ الطُّغْيَانِ، حَمَلَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالطُّغْيَانِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْمَعَاصِي.
12- {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}؛
أَيْ: حِينَ قَامَ أَشْقَى ثَمْودَ، أَوْ أَشْقَى البَرِيَّةِ وَهُوَ
قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، فَعَقَرَ النَّاقَةَ، وَمَعْنَى انْبَعَثَ:
انْتُدِبَ لِذَلِكَ وَقَامَ بِهِ.
13- {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} يَعْنِي صَالِحاً: {نَاقَةَ اللَّهِ}؛ أَيْ: ذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ. حَذَّرَهُمْ إِيَّاها، {وَسُقْيَاهَا}: شُرْبَهَا مِنَ الْمَاءِ، فَلا تَتَعَرَّضُوا لَهَا يَوْمَ شُرْبِهَا.
14- {فَكَذَّبُوهُ} بِتَحْذِيرِهِ إِيَّاهُمْ، {فَعَقَرُوهَا}؛ أَيْ: عَقَرَهَا الأَشْقَى، وَالجميعُ رَضُوا بِمَا فَعَلَهُ، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ}؛ أَيْ: أَهْلَكَهُمْ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِم الْعَذَابَ، {فَسَوَّاهَا}؛
أَيْ: فَسَوَّى الدَّمْدَمَةَ عَلَيْهِمْ وَعَمَّهُمْ بِهَا، فَاسْتَوَتْ
عَلَى صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، وَقِيلَ: فَسَوَّى الأَرْضَ عَلَيْهِمْ
فَجَعَلَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ.
15- {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا}؛ أَيْ: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ غَيْرَ خَائِفٍ منْ عَاقِبَةٍ وَلا تَبِعَةٍ.
ـــــــــــ
[1] لعلها : ولم يَشْغَلْها.
المتن :
سورةُ الشَّمس
1-قولُه تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}يقسِمُ ربُّنا بالشمس وبضوئِها الذي يكونُ أوَّلَ النهار(1). 2-قولُه تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}ويقسِمُ ربُّنا بالقمرِ إذا تَبعَ الشمسَ بخروجِه(2). الحاشية : وكذا فسَّرَ الفراءُ في (معاني القرآن)والمعروف من الضُّحى في اللغة: أنه أولُ النهار، ومنه صلاةُ الضحى، وهي تكونُ بعد ارتفاعِ الشمسِ قِيْدَ رُمْحٍ إلى قُبيل الزوال. (4)أورد الطبري الروايةَ عن قتادة من طريق سعيد، قال: (إذا غشاها الليل). -وأعلَمَ. وفسَّروا الفجورَ والتقوى بالخير والشرِّ، أو المعصية والطاعة،وهما سواء، والله أعلم.
3-قولُه تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا}ويقسِمُ ربُّنا بالنهارِ إذا أظهرَ الشمسَ وضوءها(3).
4-قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}ويقسِمُ ربُّنا باللَّيلِ إذا يغطِّي الشمسَ حتى تغيبَ، فتُظلِمُ الآفاق(4).
5-قولُه تعالى: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا}ويقسِمُ ربُّنا بالسماءِ وبمَنْ بناها، أو وببنائِها(5).
6-قولُه تعالى: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}ويقسِمُ ربُّنا بالأرضِ وبمَنْ بَسَطها، أو ببسْطِها(6).
7-قولُه تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}ويقسِمُ ربُّنا بنفسِ الإنسانِ التي خلَقَها، وبمَنْ خلقَها سوِيَّةً، معتدِلةً غير متفاوِتَة، أو بتَسْوِيَتِها.
8-قولُه تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي: خلقَ النفسَ مستويةً، فألقى فيها عِلْماً من غيرِ تعليمٍ، ألقى فيها ما ينبغي لها أن تأتي من خيرٍ وتَدَعَ من شرٍّ(7).
9- 10- قولُه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} هذا جوابُ الأقسام الماضية(8)، والمعنى: قد نالَ الظَفَرَ والفوزَ من طَهَّرَ نفسَهُ
من المعاصي، وأصلَحَها بالأعمالِ الصالحة(9)، وقد خَسِرَ وفاتَه الفوزُ من دسَّ نفسَهُ فأخفاها وأخمَلَها بفعلِ المعاصي، وتركِ الطاعات(10).
11- قولُه تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} هذا مثالٌ لقومٍ خابوا بتَدْسِيَتِهم أنفسَهُم، وهم ثمود قوم صالح عليه السلام، الذين بانَ لهم الحقُّ وظهرَ
كظهورِ الشمسِ المُقْسَمِ بها في أول السورة، والمعنى: كذَّبت ثمودُ نبيَّها صالحاً عليه السلام بسببِ تجاوُزِها الحدَّ فيما أحلَّ الله، وارتكابِها ما حرَّمَ الله(11).
12- قولُه تعالى: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} أي: الوقتُ الذي ظهرَ فيه شِدَّةُ طُغيان ثمود هو وقتُ انتدابِ أشقى ثمود لقتلِ الناقة، وأشقاها هو قُدار بن سالف(12).
13- قولُه تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} أي: فقال لهم نبيُّهم صالح
عليه السلام: احْذَروا ناقةَ الله، احْذَروا سُقيا الناقة الذي اتفقتُ
معكم على أنه يكونُ لها يومٌ تشربُ فيه من الماء، ولكم شِرْبُ يومٍ آخَر،
احذروا أن تعتَدوا عليهما(13).
14-15 قولُه تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي: فكذبت ثمود صالحاً عليه السلام في أمر
الناقةِ، ولم يصدِّقوه، ولم يأخذوا بتحذيره، فقتَلَ أشقاها الناقةَ، ورضُوا بذلك فكانوا مشارِكينَ له في القَتْلِ(14)، فأطبقَ اللهُ عليهم عذابَهُ، وهو الصَّيْحَةُ
والرَّجْفَةُ التي أُهْلِكُوا بها، وذلك بسبب ما فعلوهُ من تكذيبِ صالحٍ عليه السلام، وعَقْرِ الناقةِ، فَجَعَلَ هذه الدَّمْدَمَة نازلةً عليهم على السواء، فلم يفلِت
منهم أحد(15)،
ولا يخافُ اللهُ عاقبةَ تعذيبِه لهؤلاء من أن يسألَه أحدٌ عن فعلِه، فهو
الفعَّالُ لما يُريد، لا يُسأل عمَّا يَفْعَلُ، وهم يُسألون(16)، والله أعلم.
قال ابن جرير: (والصوابُ من القولِ في ذلك أن يقال: أقسَم جلَّ ثناؤه بالشمس ونهارِها، لأنَّ ضوءَ الشمسِ الظاهرَ هو النهار).
فجعل ابن جرير الطبري معنى الضُّحى في اللغة: النهارَ كلَّه، وكذا فسَّره في قوله تعالى: {وَالضُّحَى} .
وهذا - فيما يظهر - هو المقسَمُ به؛ لأنَّ القسَمَ بالنهار سيجيء بعدها بآية، ومن ثمَّ يكون تفسير قتادة وغيره بأنه النهار أعمَّ من تفسير اللفظِ في عُرْفِ اللغة، أو يكون معنى آخر للضحى، ومن ثمَّ يكون الخلافُ بسببِ الاشتراكِ اللغوي في هذه اللفظة، والله أعلم.
(2)فسَّر السلف معنى تلاها: بتبِعَها، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق قيس بن سعد وابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وذَكَرَ أن ذلك يكون صبيحةَ الهلال، وابن زيد، وذكر أنه يتلوها في النصف الأول من الشهر، وهو يكون أمامها في النصف الآخر.
(3)فسَّرقتادة من طريق سعيد: (إذا غَشِيَها) وهذا تفسير على المعنى؛ لأن معنى التَّجْلية: الإظهار والإبراز، فإذا ظهرَ النهارُ وبرزَ ضوؤه، فكأنه غَشِيَها، والله أعلم.
وقد ذكر الطبريُّ عن الفرَّاء وجهاً آخر في التفسير فقال: (وكان
بعضُ أهلِ العربية يتأوَّلُ ذلك بمعنى: والنهار إذا جلا الظُّلمة، ويجعل
الهاء والألف من جلاَّها كنايةً عن الظلمة، ويقول: إنما جازَ الكناية عنها،
ولم يجرِ لها ذكرٌ قبلُ؛ لأن معناها معروف، كما يُعرف قول من قال: أصبحت
باردةً، وأمْسَت باردةً، وهبَّت شمالاً، فكنَّى عن مؤنَّثات لم يجر لها ذكر
إذ كُنَّ معروفاً معناهُنَّ.
والصواب
عندنا في ذلك ما قاله أهلُ العلم الذين حكينا قولَهم؛ لأنهم أعلم بذلك،
وإن كان للذي قاله مَنْ ذكرنا قولَه من أهل العربية، وجهٌ).
يُلاحظُ في هذا المثالِ أن الطبريَّ لم يذكر في معنى الآية غيرَ قولِ قتادة،
فاعتمدَ فهمَهُ في الآية، وهو كذلك يفعل في اعتمادِ قولِ الواحدِ من مفسري
السلف إن لم يجد غيرَ قولِه، ولم يقبل قولَ ذلك اللغوي - وهو الفراء (انظر: (معاني القرآن): 3/266) - لأنه مخالِف في المعنى لما ذكره عن قتادة الذي وصفه بأنه أعلمُ بذلك من الفراء،
وهذه قاعدتُه رحمه الله في أقوال اللغويين التي تخالِف ما ورد عن السلف،
فإنه يردّها ولا يقبلها، وقد أشار إلى قاعدتِه هذه في أول تفسيره (1/41)
فقال في بيان وجوهِ تأويلِ القرآن:
(5)ورد عن قتادة من طريق سعيد: (وبناؤها: خَلْقُها) وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: قال: (الله بنى السماء) وعلى هذا فإن (ما) يُحتمل أن تكون مصدَرية، وعليه تفسير قتادة، أو تكون موصولة، وعليه تفسير مجاهد.
قال الطبري: (وقيل: {وَمَا بَنَاهَا} هو جلَّ ثناؤه بانيها، فوضع (ما) موضِعَ (من)، كما قال: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فوضع (ما) موضِعَ (من) ومعناها: ومن ولد؛ لأنه قَسَمٌ أُقْسِمَ بآدم وولده (أي: على من قال بهذا، وإلا فالإمام اختار العموم في هذه الآية) وكذلك: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ، وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} ، وإنما هو: فانكحوا من طاب لكم، وجائز توجيه ذلك إلى معنى المصدر؛ كأنه قال: والسماء وبنائها، ووالد وولادته).
والكلامُ في (ما) في الآياتِ اللاحقةِ نظير الكلام عليها هنا، والله أعلم.
(6)طَحَاها: بَسَطَها، هذا هو المشهور، وقد ورد عن مجاهد وابن زيد، ونسبه ابن كثير إلى مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والثوري وأبي صالح وابن زيد، ثم قال: (وهذا أشهرُ الأقوال، وعليه أكثرُ المفسِّرين، وهو المعروف عند أهل اللغة)، قال الجوهري: (طَحَوْتُه، مثل: دَحَوْتُه؛ أي: بَسَطْتُه).
وقد ورد عن ابن عباس من طريق العوفي: (ما خلق فيها)، ومن طريق ابن أبي طلحة: (قسمها).
ورواية العوفي أعمُّ من المعنى المعروف في اللغة، ولستُ أدري مُرادَهُ في رواية ابن أبي طلحة، والله أعلم.
(7) الإلهام يُطلقُ إطلاقاً خاصّاً على حدوثِ علمِ النفسِ بدونِ تعليم ولا تجربةٍ ولا تفكير،فهو علمٌ يحصلُ من غيرِ دليل، قال الراغب: الإلهام: إيقاعُ الشيء في الرُّوْعِ، ويختصُّ ذلك بما كان من جهةِ الله تعالى وجِهَةِ الملأ الأعلى اهـ.
ولذلك،
فهذا اللفظ إنْ لم يكن من مبتكراتِ القرآن، فهو مما أحْيَاهُ القرآن؛ لأنه
اسمٌ دقيقُ الدلالةِ على المعاني النفسية، وقليلٌ رواجُ أمثالِ ذلك في
اللغة قبلَ الإسلام، لقلَّةِ خطورِ مثل تلك المعاني في مخاطَبات عامَّة
العرب. (انظر: (التحرير والتنوير) بتصرف)
وقد عبَّر السلفُ عن معاني الإلهام بمعانٍ متقاربةٍ، وهي:
وقد ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، والضحَّاك من طريق عبيد، وسفيان الثوري من طريق مهران.
(8)قال قتادة من طريق سعيد: (قد وقع القسَمُ ها هنا {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)}).
(9) ورد ذلك التفسير عن:
مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة من طريق خصيف، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، ويشهد لهذا التفسير أن طريقةَ القرآنِ تعليق الفلاحِ على فعلِ العبدِ واختيارِه، وهذا نظيرُ قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} .
وَوَرَدَ عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعن ابن زيد: (قد أفلحَ من زكَّى اللهُ نفسَه) ويشهدُ لهذا التفسير ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها)).
وسببُ الاختلاف مفسِّرُ الضمير، فهو يحتمل أن يعودَ على العبد، وعلى الربِّ سبحانه، وهو من قبيل المتواطئ.
والخلاف من قبيل اختلافِ التنوع الذي
يرجعُ إلى أكثر من قولٍ، وبين هذين القولين تلازمٌ من جهة، وذلك أن من
زكَّى نفسَهُ زكَّاهُ الله، ومن زكَّاهُ الله، فقد زَكت نفسُهُ، والله
أعلم.
(10)وردَ في مفسِّر الضمير الخلاف السابق في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)}.
(11)ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد وابن زيد، واختاره ابن كثير.
وورد عن ابن عباس من طريق عطاءالخُراساني، قال: (اسمُ العذابِ الذي جاءها الطَّغْوَى، فقال: كذبت ثمودُ بعذابها) ويشهدُ لهذا التفسيرِ قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} وبه فسَّر الطبري.
ووردَ عن محمد بن كعب القرظي من طريق محمد بن رفاعة القرظي، قال: (بأجمعها) ولا أدري ما وجهُ هذا التفسير! والله أعلم.
(12)قال صلى الله عليه وسلم: ((انبعثَ لها رجلٌ عزيزٌ عارِمٌ منيعٌ في رهطه، مثل أبي زمعة)) أخرجَه البخاري في تفسيرِ سورة الشمسِ من كتاب التفسير في (صحيحه).
(13)قال قتادة من طريق سعيد في تفسير سُقياها: (قَسْمُ الله الذي قَسَم لها من هذا الماء).
(14)قال الطبري: (وقوله:{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}يقول:
فكذَّبوا صالحاً في خبرِهِ الذي أخبرهم به من أنَّ اللهَ الذي جعل شربَ
الناقةِ يوماً، ولهم شربُ يومٍ معلوم، وأنَّ اللهَ يحلُّ بهم نقمتَهُ إن هم
عَقَرُوها، كما وصفَهم - جل ثناؤه - فقال:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} .
وقد يَحتمل أن يكون التكذيب بالعَقْر،وإذا
كان ذلكَ كذلك، جازَ تقديمُ التكذيبِ قبلَ العَقْرِ، والعقر قبلَ التكذيب،
وذلك أنَّ كلَّ فعلٍ وقعَ عن سبب حَسُنَ ابتداؤه قبل السببِ وبعدَه؛ كقول
القائل: أَعطيتَ فأَحسنتَ، وأَحسنتَ فأعطيتَ؛ لأن الإعطاءَ هو الإحسانُ،
ومن الإحسانِ الإعطاءُ.
وكذلك لو
كان العقْرُ هو سببُ التكذيبِ جازَ تقديم أيِّ ذلك شاءَ المتكلِّم … وقد
كان القومُ قبلَ قتلِها مُسَلِّمِينَ لها بشِرْبِ يوم، ولهم شِرْبُ يومٍ
آخر.
قيل: وجاء
في الخبرِ أنهم بعد تسلِيمهم ذلك، أجمعوا على منعِها الشِّرْبَ، ورضوا
بقتلِها، وعن رضا جميعهم قَتَلَها قاتلُها، وعَقَرَها من عَقَرَها، ولذلك
نُسِبَ التكذيبُ والعَقْرُ إلى جميعِهم، فقال جلَّ ثناؤه: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}).
(15)قال قتادة من طريق سعيد: (ذكر
لنا أن أُحيمرَ ثمود أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرُهم وكبيرُهم، وذكَرُهم
وأنثاهم، فلما اشتركَ القومُ في عقرِها، دَمْدَمَ اللهُ عليهِم بذنبِهم
فسوَّاها).
(16)وردَ هذا التفسيرعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، والحسن من طريق عمر بن مرثد وعمر بن منبِّه وأبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وبكر بن عبد الله المزني.
وورد عن الضحَّاك من طريق أبي روق، والسدي من طريق سفيان: (لم يخَفِ الذي عقرَها عُقباها)
أي: عُقبى فِعْلَتِه، وهذا الاختلاف يرجع إلى معنيين صحيحين محتَمَلين،
وسببه الاختلاف في مفسَّر الضمير، واحتماله للمرجعين على سبيل التواطؤ، وإن
كان الأول أَولى لأنه قولُ الأكثر، ولقراءةِ عامةِ قُرَّاء الحجازِ
والشام: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}والفاء تدل على تفريعِ ما بعدَها عن ما قبلَها،
وما قبلَها حكايةٌ عن فعلِ الله بهم، فتكون هذه الجملةُ متفرعةً عنها في
حكايةِ انتفاءِ خوفِ الله منهم، مع ما لهم من القوة، وفي هذا تهديدٌ
للأقوامِ الآخَرينَ بقوةِ الله وأنه الفعَّالُ لما يُريد، والله أعلم.
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا
(3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5)
وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ
خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ
انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ
وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ
رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} الشيخ:
هذه السورة أقسم الله -جل وعلا- فيها بالشمس وضحاها، والمراد: بالشمس وضيائها وإشراقها؛ لأن الشمس إذا خرجت أحدثت ضياءً وإشراقاً في الأرض وهو النهار، فمن فسرها: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} بأن المراد النهار، أو أن المراد الضياء، أو الإشراق، فكلها معانٍ صحيحة كلها تدل على شيء واحد، فقوله -جل وعلا-: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} هذا إقسام من الله -جل وعلا- بالشمس وإشراقها وضيائها ونورها ونهارها.
{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} يعني:
هذا أيضاً قسم آخر بالقمر إذا تلا الشمس؛ لأن الشمس إذا غربت طلع القمر
وأعظم ما يكون ذلك عند الهلال؛ لأن الهلال - هلال الشهر - يكون بانفصال
الشمس عن القمر، فبمجرد انفصال الشمس عن القمر شيئاً يسيراً يبرز الهلال
ويخرج، ففي هذا الوقت يكون القمر تالياً للشمس مباشرة، لكن في بعض أوقات
الشهر قد يتأخر خروج القمر لكنه هو الذي يتلو الشمس.
ثم قال -جل وعلا-: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا}
يقسم الرب -جل وعلا- بالنهار إذا جلا الشمس؛ لأن الشمس إذا خرجت ورآها
الناس في النهار؛ رأوها رؤيةً جليةً واضحةً قد تجلت لهم الشمس.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}يعني: والليل إذا غشي الشمس؛ لأن الليل إذا جاء على الشمس غشاها وأبعد نورها فكان الظلام، وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا-: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} هذا إقسام بالسماء والذي بناها وهو الله جل وعلا، وقد تقدم لنا ذلك كثيراً؛ كما في قوله تعالى: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى غيرها من الآيات.
فهذا إقسام من الله -جل وعلا- بالمخلوق وهو السماء وبالخالق وهو الله جل وعلا.
{وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}وهذا إقسام بالأرض وبالذي طحاها، وهو الله جل وعلا، ومعنى طحاها: هو معنى دحاها الذي تقدم لنا في سورة النازعات، وذكرنا هناك أن الله -جل وعلا- بين ذلك بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} فطحاها ودحاها بمعنى واحد.
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}هذا إقسام من الله -جل وعلا- بالنفس، وبالذي خلق النفس، وهو الله جل وعلا، وتقدم لنا معنى التسوية في سورة الإنفطار.
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} هذا
فيه أن الله -جل وعلا- يخلق أفعال العباد وأن هداية العباد، أو ضلالهم أو
توفيقهم أو خذلانهم إنما مرده إلى إرادة الله جل وعلا؛ لأن الله -جل وعلا-
هو الذي يلقن النفوس ذلك، ففي هذا إثبات لقدرة الله جل وعلا، كما أن للعبد
قدرة وإرادة وكسب، الذي بينه الله -جل وعلا- بعد هذا في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} أي: قد أفلح بمعنى: فاز وظفر ونجى؛ من زكى نفسه بمعنى طهرها من الأدناس والأنجاس، ونماها بالإيمان والعمل الصالح.
{وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} يعني: خاب وخسر من دنس نفسه بالكفر بالله ومعصيته جل وعلا، فهذا قوله -جل وعلا-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}
هذا فيه إثبات كسب العبد، وأن العبد له في فعله اختيار، وأنه يفعل هذه
الأفعال باختياره، ولكن هذا الاختيار لا يقع إلا بعد إرادة الله ومشيئته،
فقد يعمل العبد عملاً صالحاً ولكن الله -جل وعلا- يريد له غير ذلك، فيختم
الله -جل وعلا- له بخاتمة السوء؛ لأن الله -جل وعلا- لا يقع في ملكه إلا ما
يريد.
فالعبد له كسب واختيار، ولكن
كسبه واختياره لا يكون إلا بإرادة الله -جل وعلا- ومشيئته، ولا يزكو قلبه
ولا يتطهر ولاتكون نفسه ملهمة للتقوى إلا إذا أراد الله -جل وعلا- ذلك؛ لأن
ذلك بيده، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في الصحيح من
دعائه: ((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)).
وأحسن ما يشرح هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح؛ حديث عمران بن حصين الذي رواه الإمام مسلم:
أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلان من مزينة، فسألا النبي -صلى
الله عليه وسلم- عن العمل، فيما مضى وقُدّر، أو فيما يكون ويستقبل مما جاء
به النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن العمل يقع على ما قضي وقدر)) ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((وذلك قوله تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}))
فدل ذلك على أن هناك قدراً سابقاً، وهو الذي علمه الله -جل وعلا- قبل خلق
السماوات والأرض، ولكن العبد مأمور بالكسب والسعي فيما ينفعه، ولهذا لما
سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ففيم العمل يا رسول الله؟ قال:((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) فإن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وإن كان من عمل أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة.
فدلت هذه الآيات على ضلال الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على هذه الأعمال، وهذه الأفعال بغير اختياره، وأنه كالريشة في مهب الريح.
كما دلت على
بطلان القدرية الذين يقولون: إن هذه الأفعال تقع من العباد بغير إرادة
الله، فهدى الله -جل وعلا- أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق
بإذنه، فهداهم إلى ما أرشدهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن
للعبد مشيئةً واختياراً، وأنه يعمل باختياره، وأن له كسباً، ولكنه لا يقع
إلا بإرادة الله ومشيئته وتوفيقه.
فالمخذول من خذله الله، والموفق من وفقه الله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} تقدم لنا الحديث عن ثمود، فقوله -جل وعلا-: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} يعني: أنهم كذبوا بسبب طغيانهم؛ لأن الله -جل وعلا- وصفهم بالطغيان؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ}
فكذبوا بسبب طغيانهم وليس بسبب أن الله -جل وعلا- لم يرشدهم، ولم يدلهم
على الطريق الأقوم؛ بل الله -جل وعلا- أظهر لهم آية ومعجزة كما طلبوا وهي
الناقة، بعثها الله -جل وعلا- من الصخرة آية ومعجزة، فرأوها فقامت عليهم
الحجة، فما كان لهم من حجة في دفع ما جاء به نبي الله صالح أبداً، ولهذا قال الله -جل وعلا-: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} قال -جل وعلا-: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} فالحجة التي أقيمت عليهم من أعظم حجج الأنبياء التي أقيمت على أقوامهم، ومع ذلك بسبب طغيانهم كذبوا بهذه الناقة وكفروا بـصالح ولم يؤمنوا.
ثم قال -جل وعلا-: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} كذبوا حين انبعث الأشقى، وأشقاهم كما تقدم أن المؤرخين والمفسرين يقولون هو قدار بن سالف.
وقد
ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الرجل الذي انبعث أشقى ثمود أنه
كان عزيزاً في قومه منيعاً، فهو من أشراف قومه ورؤسائهم، ولكن اسمه لم يأت
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما ذكره المؤرخون، وهذا لا يضر في تفسير
الآية، ولكن الذي انبعث قطعاً هو الأشقى الذي أخبر به النبي صلى الله عليه
وسلم.
فقوله -جل وعلا-: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا}
يعني: أشقى القبيلة؛ لأن ثمود قبيلة فانبعث أشقاهم، فدلت هذه الآية على
أنهم كانوا أشقياء، ولهذا عاقبهم الله -جل وعلا- جميعاً، إلا من اتبع صالحا وهم قلة.
{إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}
يعني: قال لهم رسول الله صالح عليه السلام: اتركوا ناقة الله، واحذروا أن يصيبكم العذاب بسبب اعتدائكم عليها، قال لهم: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} يعني:
ذروا ناقة الله، وذروا سقياها، وهي اليوم الذي كانت تشرب الناقة فيه من
البئر، لأنهم اتفقوا على أن لهذه الناقة يوماً تشرب فيه ولهم يوماً يشربون
فيه، فلما طال عليهم الأمد قتلوا هذه الناقة، وأخلفوا ما وعدوا به صالحاً عليه السلام.
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} العقر:
في أصله هو ضرب قوائم الفرس بالسيف، فهؤلاء القوم عقروا هذه الناقة
وقتلوها، والذي قتلها واحد أو بضعة أشخاص، ولكن الله -جل وعلا- عمم الآية
عليهم وقال: {فَعَقَرُوهَا} فشملت
الجميع؛ لأنهم تمالؤوا وإن لم يباشروا قتل الناقة بأنفسهم إلا أنهم تمالؤوا
على قتلها ورضوا بهذا، فجعلهم الله -جل وعلا- جميعاً عاقرين لهذه الناقة.
ثم بين الله -جل وعلا- جزاءهم فقال: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ}
أي: أن الله -جل وعلا- أطبق عليهم العذاب بسبب ذنبهم، وهذا دليل على أن
الله -جل وعلا- إنما يعاقب العباد بأفعالهم لا بأفعال غيرهم، وإنما يعاقبون
بأفعالهم، فهؤلاء عوقبوا بسبب ذنوبهم.
وأما من جاءه العذاب مع قوم قد أنكر عليهم ما هم فيه فإنه يبعث على نيته بسنة
نبينا صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء بسبب ذنوبهم عاقبهم الله جل وعلا، وأطبق
عليهم العذاب جميعاً، وسوّى عليهم العذاب على الصغير والكبير والذكر
والأنثى.
{وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} يعني:
أن الله -جل وعلا- فعل ذلك ولم يخف من عاقبة ما صنع جل وعلا؛ لأنه -جل
وعلا- هو الذي يدبر السماوات والأرض، وهو القاهر لكل شيء.
القائد
في الدنيا أو السلطان أو الرئيس أو غيرهم إذا صنع صنعاً؛ ولو كان صنعه
بشيء ضعيف فإنه يفكر في عواقبه، ولكن الله -جل وعلا- لا يخشى شيئاً من
العواقب، فلذا أهلكهم -جل وعلا- بسبب ذنوبهم، وإلا لو كانت أفعالهم هذه لم
تقع باختيارهم لكان الله -جل وعلا- ظالماً لهم، والله -جل وعلا- قد نزه
نفسه عن الظلم.
ثم إن بعض العلماء التمس حكمة في إيراد الله -جل وعلا- لثمود دون الأمم، ما ذكر قوم لوط ولا قوم هود ولا قوم شعيب، ولم يذكر أقواما آخرين.
وإنما
ذكر ثمود، وثمود هذه ذكرت هاهنا؛ لأن الحجة قد قامت عليهم، ورأوا الآية
مبصرة، ودُلوا على طريق الهدى بأكمل دلالة وأبينها، ولكنهم انسلخوا منها،
فلم يهتدوا، فهذا فيه إثبات ما دلت عليه الآيات من أن الله -جل وعلا- إذا
لم يرد بعبده خيراً كان قلبه فاجراً، وإذا أراد به خيراً ألهمه تقواه.
هؤلاء
جاءتهم الآية مبصرة ولكن الله -جل وعلا- ما أراد بهم خيراً فلهذا لم
يهتدوا؛ فدل على أن الهداية بيد الله ولكن الإنسان يسعى، كما أن الله -جل
وعلا- ذكر ثمود؛ لأنهم كانوا من أقرب الأمم المهلكة إلى العرب، فنبيهم صالح
كان عربياً، وهم كانوا في طريق قريش إلى الشام؛ لأنهم كانوا بين الحجاز
وتبوك، فكانوا يمرون على ديارهم في رحلتهم إلى الشام، وكانت آثارهم باقية
بعدهم تُشاهد بالأعيان إلى يومنا الحاضر.
وهذا فيه آية وعبرة لكفار قريش؛لأنهم جاءتهم آيات مبصرة من عند الله -جل وعلا- وأعظمها هذا القرآن
الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، فكأن فيه تحذيراً لأولئك أنهم
إن لم يؤمنوا بهذا القرآن مع وضوحه ومجيء الآية مبصرة وظاهرة؛ بل جاءتهم
آيات أخرى ومعجزات باهرة له صلى الله وعليه وسلم؛ ومع ذلك كفروا فهم حريون
بأن يُحل الله -جل وعلا- بهم عذابه كما أحله بـثمود، وإذا صنع الله -جل وعلا- بهم ذلك فإنه يكون بعدله جل وعلا.
تفسير سورة الشمس
تفسير قول الله تعالى : ( والنهار إذا جلاها )
تفسير قول الله تعالى : ( والشمس وضحاها )
تفسير قول الله تعالى : ( والقمر إذا تلاها )
تفسير قول الله تعالى : ( والليل إذا يغشاها )
تفسير قول الله تعالى : ( والسماء وما بناها )
تفسير قول الله تعالى : ( والأرض وما طحاها )
تفسير قول الله تعالى : ( ونفس وما سواها )
تفسير قول الله تعالى : ( فألهمها فجورها وتقواها )
الإطلاق الخاص للإلهام
أقوال السلف في معنى (الإلهام)
تضمن هذه الآية الرد على الجبرية والقدرية
تفسير قول الله تعالى : ( قد أفلح من زكاها )
تفسير قول الله تعالى : ( وقد خاب من دساها )
تفسير قول الله تعالى : ( كذبت ثمود بطغواها )
الحكمة من ذكر قصة قوم ثمود دون غيرها من الأمم في هذه السورة
تفسير قول الله تعالى : ( إذ انبعث أشقاها ، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها )
تفسير قول الله تعالى : ( فكذبوه فعقروها ، فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ، ولا يخاف عقباها )
سبب نسبة التكذيب والعقر إلى جميعهم في قوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) مع أن الذي عقرها أحدهم
قاعدة للطبري رحمه الله في أقوال اللغويين التي تخالِف ما ورد عن السلف
الأسئلة
س1: بيِّن دلالة الآيات الكونية على سعة علم الله عز وجل، وقدرته، واستحقاقه للعبادة وحده دون ما سواه، في ضوء دراستك لهذه السورة.
س2: اذكر قولي العلماء في تفسير قول الله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، مع بيان القول الراجح.
س3: فسر السورة تفسيراً إجمالياً.
س4: بين معاني الكلمات التالية: تلاها، جلاَّها، يغشاها، طحاها، سواها، ألهمها، دسَّاها، انبعث، سقياها، عقروها، دَمْدَمَ، عقباها.
س5: اذكر مع التمثيل منهج الإمام الطبري إذا اختلفت أقوال اللغويين وأقوال مفسري السلف.
س6: اذكر قولي العلماء في بيان مرجع الضمير في قوله تعالى: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا}.
س7: بين جواب القسم في السورة.
س8: اذكر قولي العلماء في بيان مرجع الضمير في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} .
س9: ما معنى الباء في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}؟.
س10: كيف تجمع بين قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} وقوله جل وعلا: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}؟.
س11: تحدث بإيجاز عن خطر مخالفة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
س12: اذكر ما يفيده قوله تعالى:{وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} من الانزجار عن المعاصي.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة الشّمس وهي مكّيّةٌ.
تقدّم حديث جابرٍ الذي في الصحيحين، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذٍ: ((هلاّ صلّيت بـ {سبّح اسم ربّك الأعلى} و {الشّمس وضحاها} و {اللّيل إذا يغشى})) .
قال مجاهدٌ: {والشّمس وضحاها} أي: وضوئها.
وقال قتادة: {وضحاها} النهار كلّه.
قال ابن جريرٍ: والصواب أن يقال: أقسم الله بالشمس ونهارها؛ لأنّ ضوء الشمس الظاهر النهار.
{والقمر إذا تلاها} قال مجاهدٌ: تبعها.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {والقمر إذا تلاها} قال: يتلو النهار.
وقال قتادة: {إذا تلاها} ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال.
وقال ابن زيدٍ: هو يتلوها في النصف الأوّل من الشهر، ثمّ هي تتلوه، وهو يتقدّمها في النصف الأخير من الشهر.
وقال مالكٌ، عن زيد بن أسلم: {إذا تلاها} ليلة القدر.
وقوله: {والنّهار إذا جلاّها} قال مجاهدٌ: أضاء.
وقال قتادة: {والنّهار إذا جلاّها}: إذا غشيها النهار.
وقال ابن جريرٍ: وكان بعض أهل العربيّة يتأوّل ذلك بمعنى: والنّهار إذا جلّى الظّلمة؛ لدلالة الكلام عليها.
قلت: ولو أنّ هذا القائل تأوّل ذلك بمعنى: {والنّهار إذا جلاّها} أي: البسيطة، لكان أولى، ولصحّ تأويله في قوله: {واللّيل إذا يغشاها} فكان أجود وأقوى. والله أعلم.
ولهذا قال مجاهدٌ: {والنّهار إذا جلاّها}: إنه كقوله: {والنّهار إذا تجلّى}.
وأمّا ابن جريرٍ فاختار عود الضمير في ذلك كلّه على الشمس؛ لجريان ذكرها.
وقالوا في قوله: {واللّيل إذا يغشاها} يعني: إذا يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق.
وقال بقيّة بن الوليد، عن صفوان: حدّثني يزيد بن ذي حمامة، قال: إذا جاء الليل قال الربّ جلّ جلاله: غشي عبادي خلقي العظيم، فالليل يهابه، والذي خلقه أحقّ أن يهاب. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقوله: {والسّماء وما بناها} يحتمل أن تكون (ما) ههنا مصدريّةً بمعنى: والسماء وبنائها. وهو قول قتادة، ويحتمل أن تكون بمعنى (من)، يعني: والسماء وبانيها. وهو قول مجاهدٍ، وكلاهما متلازمٌ، والبناء هو الرفع، كقوله: {والسّماء بنيناها بأيدٍ} أي: بقوّةٍ {وإنّا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون}.
وهكذا قوله: {والأرض وما طحاها} قال مجاهدٌ: و {طحاها}: دحاها.
قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {وما طحاها} أي: خلق فيها.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {طحاها} قسّمها.
وقال مجاهدٌ، وقتادة، والضحّاك، والسّدّيّ، والثّوريّ، وأبو صالحٍ، وابن زيدٍ: {طحاها}: بسطها، وهذا أشهر الأقوال، وعليه الأكثر من المفسّرين، وهو المعروف عند أهل اللّغة، قال الجوهريّ: طحوته مثل دحوته، أي: بسطته.
وقوله: {ونفسٍ وما سوّاها} أي: خلقها سويّةً مستقيمةً على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدّين حنيفاً فطرة الله الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق الله}.
وقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم: ((كلّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تولد البهيمة بهيمةً جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء)). أخرجاه من رواية أبي هريرة.
وفي صحيح مسلمٍ من رواية عياض بن حمارٍ المجاشعيّ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((يقول الله عزّ وجلّ: إنّي خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم)) .
وقوله: {فألهمها فجورها وتقواها} أي: فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي: بيّن لها ذلك، وهداها إلى ما قدّر لها.
قال ابن عبّاسٍ: {فألهمها فجورها وتقواها} بيّن لها الخير والشرّ.
وكذا قال مجاهدٌ، وقتادة، والضحّاك، والثّوريّ، وقال سعيد بن جبيرٍ: ألهمها الخير والشرّ.
وقال ابن زيدٍ: جعل فيها فجورها وتقواها.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصمٍ النّبيل، قالا: حدّثنا عزرة بن ثابتٍ، حدّثني يحيى بن عقيلٍ، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الدّيليّ، قال: قال لي عمران بن حصينٍ: أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه؟ أشيءٌ قضي عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون ممّا أتاهم به نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم = وأكّدت عليهم (1) الحجّة؟
قلت: بل شيءٌ قضي عليهم. قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً. قال: قلت له: ليس شيءٌ إلا وهو خلقه وملك يده {لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون}.
قال: سدّدك الله، إنما سألتك لأخبر عقلك، إنّ رجلاً من مزينة - أو جهينة - أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون؟ أشيءٌ قضي عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبق، أم شيءٌ ممّا يستقبلون ممّا أتاهم به نبيّهم وأكّدت به عليهم الحجّة؟
قال: ((بل شيءٌ قد قضي عليهم)) قال: ففيم نعمل؟ قال: ((من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيّئه لها، وتصديق ذلك في كتاب الله: {ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها})). رواه أحمد ومسلمٌ من حديث عزرة بن ثابتٍ به.
وقوله: {قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها}. يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكّى نفسه، أي: بطاعة الله - كما قال قتادة - وطهّرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل.
ويروى نحوه عن مجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وكقوله تعالى: {قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى}.
{وقد خاب من دسّاها} أي: دسسها، أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إيّاها عن الهدى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عزّ وجلّ، وقد يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكّى الله نفسه، وقد خاب من دسّى الله نفسه. كما قال العوفيّ، وعليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، وأبو زرعة، قالا: حدّثنا سهل بن عثمان، حدّثنا أبو مالكٍ - يعني: عمرو بن هشامٍ - عن عمرو بن هاشمٍ، عن جويبرٍ، عن الضحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في قول الله عزّ وجلّ: {قد أفلح من زكّاها} قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((أفلحت نفسٌ زكّاها الله)). ورواه ابن أبي حاتمٍ من حديث أبي مالكٍ به.
وجويبرٌ هذا هو ابن سعيدٍ متروك الحديث، والضحّاك لم يلق ابن عبّاسٍ.
وقال الطّبرانيّ: حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ بهذه الآية: {ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها} وقف، ثمّ قال: ((اللّهمّ آت نفسي تقواها، أنت وليّها ومولاها، وخير من زكّاها)).
حديثٌ آخر: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا يعقوب بن حميدٍ المدنيّ، حدّثنا عبد الله بن عبد الله الأمويّ، حدّثنا معن بن محمدٍ الغفاريّ، عن حنظلة بن عليٍّ الأسلميّ، عن أبي هريرة، قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ: {فألهمها فجورها وتقواها} قال: ((اللّهمّ آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها)). لم يخرّجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيعٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن صالح بن سعيدٍ، عن عائشة، أنها فقدت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه، وهو ساجدٌ، وهو يقول: ((ربّ، أعط نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها)) تفرّد به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، حدّثنا عاصمٌ الأحول، عن عبد الله بن الحارث، عن زيد بن أرقم، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((اللّهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل والهرم، والجبن والبخل، وعذاب القبر، اللّهمّ آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، وعلمٍ لا ينفع، ودعوةٍ لا يستجاب لها)). قال زيدٌ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلّمناهنّ ونحن نعلّمكوهنّ.
رواه مسلمٌ من حديث أبي معاوية، عن عاصمٍ الأحول، عن عبد الله بن الحارث وأبي عثمان النّهديّ، عن زيد بن أرقم به.
يخبر تعالى عن ثمود أنهم كذّبوا رسولهم بسبب ما كانوا عليه من الطّغيان والبغي. وقال محمد بن كعبٍ: {بطغواها} أي: بأجمعها. والأوّل أولى، قاله مجاهدٌ وقتادة وغيرهما. فأعقبهم ذلك تكذيباً في قلوبهم بما جاءهم به رسولهم من الهدى واليقين.
{إذ انبعث أشقاها} أي: أشقى القبيلة، وهو قدار بن سالفٍ عاقر الناقة، وهو أحيمر ثمود، وهو الذي قال تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذرٌ}. وكان هذا الرجل عزيزاً فيهم، شريفاً في قومه، نسيباً رئيساً، مطاعاً، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا ابن نميرٍ، حدّثنا هشامٌ، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة، قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر الناقة، وذكر الذي عقرها، فقال: (({إذ انبعث أشقاها} انبعث لها رجلٌ عارمٌ عزيزٌ منيعٌ في رهطه مثل أبي زمعة)).
ورواه البخاريّ في التفسير، ومسلمٌ في صفة النار، والتّرمذيّ والنّسائيّ في التفسير من سننيهما، وكذا ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ، عن هشام بن عروة به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا عيسى بن يونس، حدّثنا محمد بن إسحاق، حدّثني يزيد بن محمد بن خثيمٍ، عن محمد بن كعبٍ القرظيّ، عن محمد بن خثيمٍ أبي يزيد، عن عمّار بن ياسرٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعليٍّ: ((ألا أحدّثك بأشقى النّاس؟)) قال: بلى. قال: ((رجلان: أحيمر ثمود الّذي عقر النّاقة، والّذي يضربك يا عليّ على هذا)) يعني: قرنه ((حتّى تبتلّ منه هذه)) يعني: لحيته.
وقوله: {فقال لهم رسول الله} يعني: صالحاً عليه السلام، {ناقة الله} أي: احذروا ناقة الله أن تمسّوها بسوءٍ {وسقياها} أي: لا تعتدوا عليها في سقياها؛ فإنّ لها شرب يومٍ، ولكم شرب يومٍ معلومٍ.
قال الله تعالى: {فكذّبوه فعقروها} أي: كذّبوه فيما جاءهم به، فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها الله من الصخرة آيةً لهم وحجّةً عليهم.
{فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم} أي: غضب عليهم فدمّر عليهم، {فسوّاها} أي: فجعل العقوبة نازلةً عليهم على السّواء.
قال قتادة: بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، فلمّا اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنوبهم فسوّاها.
وقوله: {ولا يخاف عقباها} وقرئ: (فلا يخاف عقباها) قال ابن عبّاسٍ: لا يخاف الله من أحدٍ تبعةً. وكذا قال مجاهدٌ، والحسن، وبكر بن عبد الله المزنيّ وغيرهم.
وقال الضّحّاك والسّدّيّ: {ولا يخاف عقباها} أي: لم يخف الذي يعقرها عاقبة ما صنع. والقول الأوّل أولى؛ لدلالة السّياق عليه. والله أعلم.
آخر تفسير سورة {والشّمس وضحاها}، ولله الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/410-415]