الدروس
course cover
تفسير سورة الغاشية
22 Oct 2008
22 Oct 2008

11416

0

0

course cover
تفسير جزء عمّ

القسم الخامس

تفسير سورة الغاشية
22 Oct 2008
22 Oct 2008

22 Oct 2008

11416

0

0


0

0

0

0

0

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}

هيئة الإشراف

#2

22 Oct 2008

تفسير سورة الغاشية



(1-16) {بسم الله الرحمن الرحيم هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)}

يذكرُ تعالى أحوالَ يومِ القيامةِ وما فيها من الأهوالِ الطامَّةِ، وأنَّها تغشى الخلائقَ بشدائدها، فيجازونَ بأعمالهمْ، ويتميزونَ فريقينِ: فريقاً في الجنةِ، وفريقاً في السعيرِ.
فأخبرَ عنْ وصفِ كلا الفريقينِ،فقالَ في أهلِ النارِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أي: يومَ القيامةِ {خَاشِعَةٌ} من الذلِّ والفضيحةِ والخزي.
{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}أي: تاعبةٌ في العذابِ، تُجرُّ على وجوههَا، وتغشى وجوههم النارُ.
ويحتملُ أنَّ المرادَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} في الدنيا لكونهم في الدنيا أهلَ عباداتٍ وعملٍ، ولكنَّهُ لما عدمَ شرطهُ وهوَ الإيمانُ، صارَ يومَ القيامةِ هباءً منثوراً، وهذا الاحتمالُ وإنْ كانَ صحيحاً منْ حيثُ المعنى، فلا يدلُّ عليهِ سياقُ الكلامِ، بلِ الصوابُ المقطوعُ بهِ هو الاحتمالُ الأولُ:
-لأنَّهُ قيدَهُ بالظرفِ، وهوَ يومُ القيامةِ.
-ولأنَّ المقصودَ هنا بيانُ وصفِ أهلِ النارِ عموماً، وذلكَ الاحتمالُ جزءٌ قليلٌ منْ أهلِ النارِ بالنسبةِ إلى أهلهَا.
-ولأنَّ الكلامَ في بيانِ حالِ الناسِ عندَ غشيانِ الغاشيةِ، فليسَ فيه تعرضٌ لأحوالهم في الدنيا.
وقولهُ: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} أي: شديداً حرُّها، تُحيطُ بهمْ من كلِّ مكانٍ.
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي: حارةٍ شديدةِ الحرارةِ {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} فهذا شرابهُم.
وأما طعامُهُم، فـ{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} وذلكَ أنَّ المقصودَ مِنَ الطعامِ أحدُ أمرينِ:
-إمَّا أنْ يسدَّ جوعَ صاحبهِ ويزيلَ عنهُ ألمَهُ.
-وإمَّا أنْ يسمنَ بدنَهُ من الهزالِ.
وهذا الطعامُ ليسَ فيهِ شيءٌ منْ هذينِ الأمرينِ، بلْ هوَ طعامٌ في غايةِ المرارةِ والنتنِ والخسةِ، نسألُ اللهَ العافيةَ.
وأمَّا أهلُ الخيرِ،فوجوهُهُمْ يومَ القيامةِ {نَاعِمَةٍ} أي: قدْ جرتْ عليهمْ نضرةُ النعيمِ، فنضرتْ أبدانُهُمْ، واستنارتْ وجوهُهُمْ، وسرُّوا غايةَ السُّرورِ، {لِسَعْيِهَا} الذي قدمتهُ في الدنيا منَ الأعمالِ الصالحةِ، والإحسانِ إلى عبادِ اللهِ، {رَاضِيَةً} إذْ وجدتْ ثوابَهُ مدخراً مضاعفاً، فحمدتْ عقباهُ، وحصلَ لها كلُّ مَا تتمناهُ، وذلكَ أنهَا {فِي جَنَّةٍ} جامعةٍ لأنواعِ النعيمِ كلهَا، {عَالِيَةٍ} في محلهَا ومنازلِهَا، فمحلّهَا في أعلى عليينَ، ومنازلُهَا مساكنُ عاليةٌ، لها غرفٌ ومنْ فوقِ الغرفِ غرفٌ مبنيةٌ يشرفونَ منهَا على مَا أعدَّ اللهُ لهمْ من الكرامةِ.
{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} أي: كثيرةُ الفواكهِ اللذيذةِ، المثمرةِ بالثمارِ الحسنةِ، السهلةِ التناولِ، بحيثُ ينالونَهَا على أيِّ حالٍ كانُوا، لا يحتاجونَ أنْ يصعدُوا شجرة، أو يستعصيَ عليهمْ منهَا ثمرةٌ.
{لا تَسْمَعُ فِيهَا} أي: الجنةُ{لاغِيَةً} أي: كلمةَ لغوٍ وباطلٍ، فضلاً عن الكلامِ المحرمِ، بلْ كلامُهُمْ كلامٌ حسنٌ مشتملٌ على ذكرِ اللهِ تعالَى، وذكرِ نعمهِ المتواترةِ عليهمْ، و الآدابِ المستحسنةِ بينَ المتعاشرينَ، الذي يسرُّ القلوبَ، ويشرحُ الصدورَ.
{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} وهذا اسم جنس أي: فيهَا العيونُ الجاريةُ التي يفجرونَهَا ويصرفونَها كيفَ شاؤوا وأنَّى أرادوا.
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} والسررُ: جمعُ سريرٍ، وهي المجالسُ المرتفعةُ في ذاتها، وبمَا عليهَا من الفرشِ اللينةِ الوطيئةِ.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} أي: أوانٍ ممتلئةٌ منْ أنواعِ الأشربةِ اللذيذةِ، قدْ وضعتْ بينَ أيديهمْ، وأعدتْ لهمْ، وصارتْ تحتَ طلبهمْ واختيارهمْ، يطوفُ بهَا عليهمُ الوِلدانُ المخلدونَ.
{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}أي: وسائدُ مِنَ الحريرِ والإستبرقِ وغيرهمَا ممَا لا يعلمهُ إلا اللهُ، قدْ صفتْ للجلوسِ والاتكاءِ عليهَا، وقدْ أريحوا عنْ أنْ يضعوهَا، ويَصُفُّوهَا بأنفسهمْ.

(16) {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} والزرابيُّ البسطُ الحسانُ، مبثوثةٌ أي: مملوءةٌ بهَا مجالسهمْ منْ كلِّ جانبٍ.
(17-26) {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}
يقولُ تعالَى حثّاً للذينَ لا يصدقونَ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولغيرهمْ منَ الناسِ، أنْ يتفكرُوا في مخلوقاتِ اللهِ الدالةِ على توحيدهِ: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} أي: ينظرونَ إلى خلقهَا البديعِ، وكيفَ سخرَهَا اللهُ للعبادِ، وذلَّلهَا لمنافعهمُ الكثيرةِ التي يضطرونَ إليهَا.
{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} بهيئةٍ باهرةٍ، حصلَ بهَا استقرارُ الأرضِ وثباتُهَا عنِ الاضطرابِ، وأودعَ اللهُ فيهَا مِنَ المنافعِ ما أودعَ.
{وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي: مُدَّتْ مدّاً واسعاً، وسهلتْ غايةَ التسهيلِ، ليستقرَّ الخلائقُ على ظهرِهَا، ويتمكنُوا منْ حرثِهَا وغراسِهَا، والبنيانِ فيهَا، وسلوكِ الطرقِ الموصلةِ إلى أنواعِ المقاصدِ فيهَا.
واعلمْ أنَّ تسطيحَهَا لا ينافي أنَّهَا كرةٌ مستديرةٌ،قدْ أحاطتِ الأفلاكَ فيهَا منْ جميعِ جوانبهَا، كمَا دلَّ على ذلكَ النقلُ والعقلُ والحسُّ والمشاهدةُ، كمَا هوَ مذكورٌ معروفٌ عندَ أكثرِ الناسِ، خصوصاً في هذهِ الأزمنةِ، التي وقفَ الناسُ على أكثرِ أرجائِهَا بمَا أعطاهمُ اللهُ مِنَ الأسبابِ المقربةِ للبعيدِ، فإنَّ التسطيح إنَّمَا ينافي كرويةَ الجسمِ الصغيرِ جدّاً، الذي لو سطحَ لمْ يبقَ لهُ استدارةٌ تذكرُ.
وأمَّا جسمُ الأرضِ الذي هوَ في غايةِ الكبرِ والسعةِ، فيكونُ كرويّاً مسطّحاً، ولا يتنافى الأمرانِ، كمَا يعرفُ ذلكَ أربابُ الخبرةِ.
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} أي: ذكِّر الناسَ وعِظهمْ، وأنذرهمْ وبشِّرهمْ، فإنَّكَ مبعوثٌ لدعوةِ الخلقِ إلى اللهِ وتذكيرهمْ، ولمْ تبعثْ مسيطراً عليهمْ، مسلّطاً موكَّلاً بأعمالهمْ، فإذا قمتَ بمَا عليكَ، فلا عليكَ بعدَ ذلكَ لومٌ، كقولهِ تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} .
وقولهِ: {إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} أي: لكن مَنْ تولَّى عنِ الطاعةِ وكفرَ باللهِ {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} أي: الشديدَ الدائمَ.
{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أي: رجوعَ الخليقةِ وجمعهمْ في يومِ القيامةِ.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} فنحاسبهمْ على ما عملُوا من خيرٍ وشرٍّ.
آخر تفسير سورة الغاشية، والحمدُ لله رب العالمينَ.

هيئة الإشراف

#3

22 Oct 2008

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ

1- {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}؛ أَيْ: قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ، وَهِيَ الْقِيَامَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الغاشيةَ؛ لأَنَّهَا تَغْشَى الخلائقَ بِأَهْوَالِهَا.
2- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}؛ أَيْ: إِنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرِيقَيْنِ: الأَوَّلُ وُجُوهُهُمْ ذَلِيلَةٌ خاضِعَةٌ؛ لِمَا هِيَ فِيهِ من الْعَذَابِ، وَقِيلَ: أَرَادَ وُجُوهَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى الخُصوصِ.
3- {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}: كَانُوا يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي العبادةِ وَيُنْصِبُونَهَا، وَلا أَجْرَ لَهُمْ عَلَيْهَا؛لِمَا هُمْ عَلَيْهِ من الْكُفْرِ والضلالِ.
5- {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}؛ أَيْ: يَشْرَبُونَ منْ مَائِهَا، وَالْمَاءُ الآنِي: هُوَ المُتَنَاهِي فِي الحَرِّ.
6- {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ}: هُوَ نَوْعٌ من الشوكِ يُقَالُ لَهُ: الشِّبْرِقُ فِي لسانِ قُرَيْشٍ إِذَا كَانَ رَطْباً، فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ الضَّرِيعُ.
7- {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}؛ أَيْ: لا يُسْمِنُ الضَّرِيعُ آكِلَهُ، وَلا يَدْفَعُ عَنْهُ مَا بِهِ من الجُوعِ.
8- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}؛ أَيْ: ذَاتُ نِعْمَةٍ وَبَهْجَةٍ، وَهِيَ وُجُوهُ أَصْحَابِ الفريقِ الثَّانِي؛لِمَا شَاهَدُوهُ منْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ.
9- {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}؛ أَيْ: لِعَمَلِهَا الَّذِي عَمِلَتْهُ فِي الدُّنْيَا رَاضِيَةٌ؛ لأَنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتْ من الأجْرِ مَا أَرْضَاهَا.
11- {لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}: لا تَسْمَعُ فِي كَلامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَلِمَةً تُلْغَى؛ لأَنَّهُمْ لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ بالحِكْمةِ وَحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا رَزَقَهُمْ من النَّعِيمِ الدَّائِمِ.
12- {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ}: تَجْرِي مِيَاهُهَا وَتَتَدَفَّقُ بِأَنْوَاعِ الأَشْرِبَةِ المُسْتَلَذَّةِ.
14- {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} الأَكْوَابُ: الأَقْدَاحُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ، مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَشْرَبُونَ مِنْهَا.
15- {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}: وَسَائِدُ مَصْفُوفَةٌ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ.
16- {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} الزَّرَابِيُّ: الطَّنَافِسُ الَّتِي لَهَا خَمْلٌ رَقِيقٌ، مُفَرَّقَةٌ فِي المجالسِ كَثِيرَةٌ.
17- {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ} الَّتِي هِيَ غَالِبُ مَوَاشِيهِمْ وَأَكْبَرُ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ المخلوقاتِ، {كَيْفَ خُلِقَتْ} عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ من الْخَلْقِ البديعِ، مِنْ عِظَمِ جُثَّتِهَا وَمَزِيدِ قُوَّتِهَا وَبَدِيعِ أَوْصَافِهَا، نَبَّهَهُمْ عَلَى عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِهِ قَدْ ذَلَّلَهُ للصَّغِيرِ يَقُودُهُ وَيُنِيخُهُ وَيُنْهِضُهُ، ويَحْمِلُ عَلَيْهِ الثقيلَ من الحِمْلِ وَهُوَ بَارِكٌ، فَيَنْهَضُ بِثِقَلِ حِمْلِهِ.
18- {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} فَوْقَ الأَرْضِ بِلا عَمَدٍ، عَلَى وَجْهٍ لا يَنَالُهُ الفَهْمُ وَلا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ.
19- {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}؛ أَيْ: رُفِعَتْ عَلَى الأَرْضِ مُرساةً رَاسِخَةً لا تَمِيدُ وَلا تَمِيلُ وَلا تَزُولُ.
21- {فَذَكِّرْ}؛ أَيْ: فَعِظْهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَخَوِّفْهُمْ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}؛ أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ إِلاَّ ذَلِكَ.
22- {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} حَتَّى تُكْرِهَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ.
23- {إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ}؛ أَيْ: لَكِنْ مَنْ تَوَلَّى عَن الوعظِ والتذكيرِ.
24- {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ}: وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ الدَّائِمُ.
25- {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}؛ أَيْ: رُجُوعَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
26- {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}؛ يَعْنِي: مُحَاسَبَتَهُمْ ثُمَّ نُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى اللَّهِ بِالْبَعْثِ.

هيئة الإشراف

#4

22 Oct 2008

المتن :

سورةُ الغَاشية

وردَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرؤُها في صلاةِ العيدِ والجُمعة.

1-قولُه تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} يقولُ اللهُ تعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: هل أتاكَ خبرُ يومِ القيامة التي تغشَى الناسَ بأهوالها وتُغطِّيهم(1) ؟.
2-قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي: يومُ الغاشيةِ تكونُ وجوهٌ حاضرةٌ له ذليلةً في النار(2)، وهي وجوهُ الكفَّار.
3-قولُه تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: هذه الوجوهُ الكافرةُ عاملةٌ في النار، تعملُ من الأعمال ما به مشقَّةٌ وتَعَب، ومن ذلك جَرُّ السلاسِلِ والأغلالِ وغيرها من أنواعِ العذابِ التي تعمَلُها في النارِ(3).
4-قولُه تعالى: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} أي: تَرِدُ هذه الوجوهُ ناراً قد اشتدَّ حَرُّها، فتشويها بحرِّها.
5-قولُه تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي: تَسْقي ملائكةُ العذابِ هذه الوجوهَ من ماءِ عينٍ قد بلغت حرارتُها أشدَّ ما يكون من الحرارة(4).
6-قولُه تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} أي: ليس لهذه الوجوهِ الكافرةِ في النار طعامٌ يأكلونه إلاَّ نباتاً من الشَّوك، وهو الشِّبْرِقُ اليابس(5).
7-قولُه تعالى: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} أي: هذا الشِّبْرِقُ اليابسُ الذي يأكلونَه في النار لا يُسْمِنُ آكليه، ولا يسدُّ رَمَقَ جوعِهم.
8-قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أي: ووجوهٌ في يوم الغاشيةِ قد ظهرَ عليها الحُسْنُ والبهاءُ الذي يكون من أثَرِ النعيم، وهذه وجوهُ المؤمنين.
9-قولُه تعالى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي: لعمَلِها الذي عملَته في الدنيا حامدةٌ غير ساخِطة، وذلك لما وجدتْ من الثوابِ عليه.
10- 11 قولُه تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(10)لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} أي: هذه الوجوهُ المؤمنة في بساتين مرتفعة، لا تسمعُ في هذه الجنَّةِ العاليةِ كلمةَ باطل(6)؛ لأنَّ الجنة طيبةٌ، طيِّبٌ ما فيها، وهي دارُ سلامٍ وأمنٍ دائمٍ.
12- 16 قولُه تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ{12} فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ(13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} أي: في هذه الجنةِ العالية عين من جنسِ عينِ الماءِ، تجري على أرضِها من غير أُخدودٍ، وفيها السُّرُرُ مرتفعةٌ وعاليةٌ يجلسون عليها ويضطَجِعون، لينظروا ما حولَهم من النعيم، وفيها أواني الشُّرب مُعدَّةٌ عندهم إذا أرادوا أن يشرَبوا من العين أو غيرها، وفيها الوسائد التي قد رُصَّ بعضها بجوار بعضٍ(7)، وفيها البُسُطُ الكثيرةُ الوفيرةُ المنتشرةُ بين يدي المؤمن.
17- قولُه تعالى: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} لما ذكرَ أهلَ الشقاءِ في أول السورة ومآلهم، ذكر هنا سبب ذلك الشقاء، وهو إعراضهم عن دلائل التوحيد، فقال: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقت) أي: هؤلاء المنكِرونَ لقدرة الله، أفلا ينظرُون نظرَ اعتبارٍ وتفكُّر إلى الإبِلِ التي هي مركوبهم الأول، ينظرون كيف خَلَقَها اللهُ بما فيها من العَظَمةِ والكِبرِ؟، وكيف ذَلَّلَها مع هذا العِظَمِ في خَلْقِها؟.
18-20 قولُه تعالى: {وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي: وينظرون معتبرينَ إلى هذه السماء العظيمةِ التي تغطِّيهم كيف رفعها الله من غير عَمَدٍ يَرَوْنَها؟
وإلى هذه الجبالِ العظيمةِ التي يتَّخذونَها مأوىً لهم، كيف أقامها اللهُ شامخةً عالية؟
وإلى الأرضِ، كيف بَسَطَها الله لهم ومهَّدَها لسكَنِهم وتقلُّبِهِم فيها؟.
21-قولُه تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} هذا بيانٌ لمهَمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التذكير، وأن عليه ألا ييأسَ مما يجده من إعراضِ هؤلاء المنكرين لقَدَرِ الله تعالى وتوحيدِه.
22-قولُه تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} أي: لستَ مُسلَّطاً عليهم تحملهم على ما تريد، وتُكرِههم على الإيمان.
23- 24 قولُه تعالى: {إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} أي: لكن من أعرضَ عن التذكُّر وتركَه، وكفرَ بالله فلم يؤمِن، فإن اللهَ يعذبه في جهنَّم، وهو العذابُ الأكبر الذي لا أكبرَ منه.
25- 26 قولُه تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أي: إنَّ رجوعَهم إلى الله، وإنَّ مجازاتهم على أعمالِهم على الله، فهو يجازيهم بها، والله أعلم.



الحاشية :
(1) وردَ عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: (الغاشية: من أسماء يوم القيامة، عظَّمه الله، وحذَّره عباده).
ومن طريق العوفي قال: (الساعة) وكذا ورد عن قتادة من طريق سعيد.
وذكر الطبري ترجمة أخرى فقال: (وقال آخرون: بل الغاشية: النار تغشى وجوهَ الكَفَرَة)، وأوردَ الرواية عن سعيد بن جبير قال: (غاشيةُ النار).
ويلاحَظُ أنَّ قول سعيدٍيَحتمِلُ أن يُرادَ به الذين يغشون النار، وهم الكفَّار،والله أعلم.
ثم رجَّح الإمام ابن جرير فقال: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنَّ الله قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} لم يخبرنا أنه عَنَى غاشيةَ القيامةِ، ولا أنه عَنَى غاشيةَ النَّارِ، وكِلتاهما غاشيةٌ، هذه تَغشَى الناسَ بالبلاءِ والأهوالِ والكُروبِ، وهذه تغشى الكفارَ باللَّفْحِ في الوجوهِ، والشُّواظِ والنُّحاسِ، فلا قول أصحُّ من أنْ يقالَ كما قال جلَّ ثناؤه، ويُعمَّ الخبرُ بذلك كما عَمَّهُ).
ويلاحَظُ هنا أنّ ابن جرير لم يعتمد قولَ ابن عباس ويقدِّمه على أنه قول صحابي، ويترك ما خلفه من قول التابعي، وهذا منهجٌ يحتاجُ إلى بحثٍ ودراسة، والله أعلم.
وعلى هذا يكون سبب الاختلاف أن الغاشية وصفٌ لمحذوف، فذكَرَ كلُّ واحدٍ منهم ما يحتمله من الموصوفات، وهذه الموصوفاتُ جاءت على سبيل التواطؤ بينها في وصف الغاشية، والله أعلم.
(2) فسَّرها قتادة من طريق سعيد: (ذليلة)، وزاد من طريق معمر: (خاشعة في النار)، فبيَّن مكان خشوعِها.
(3) سياقُ الآيات يدلُّ على أنَّ هذا العملَ يكونُ في النار، ولا يصحُّ أن يقال: إن الآخرةَ ليس فيها عمل؛ لأنَّ هذه المسألة لا دليلَ عليها من كتابٍ ولا سنَّة، وإنما هي استنباطٌ عقلي، وهو غير صحيح، وبهذا جاء التفسيرُ عن السلف، ورَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، والحسن من طريق أبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد.
وقد حملَ بعض المفسِّرين الآية على الدنيا،وقال بأنها في الرُّهبانِ الذي يُتعبُون أنفسهم في عبادة الله، وهم على الباطل، فَيَتعَبون في الدنيا ويُعذَّبون في الآخرة، وذكروا في ذلك أثراً عن عمر رضي الله عنه في أنه رأى راهباً فبكى، وقال: ذكرتُ قولَ الله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4)} والأثر فيه انقطاع، ولو صحَّ فإنه يكون تفسيراً قياسياً، لا أنَّ المرادَ بالآية هذا الرَّاهبُ وجنسُه فقط، بل هي في جميعِ الكفَّارِ، والله أعلم.
وقد أوردَ البخاريُّ عن ابن عباسٍ في تفسيرِ هذه الآيةِ أنهم النصارى، وفي روايةِ غير البخاري، اليهود، وهو محمولٌ على ما ذكرت، أو أنه أشارَ إلى قومٍ من الذين يعملونَ وينصبون في الآخرة في النار، فيكون تفسيراً بالمثال، والله أعلم.
وقد ذكر ابن تيمية هذين القولين، وقال: (… والقول الثاني: أن المعنى أنها يوم القيامة تخشع؛ أي: تذل وتعمل وتنصب).
قلت: هذا هو الحق لوجوه.
ثم ذكر هذه الوجوه، ومنها: (أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه؛ أي: وجوه يوم الغاشية خاشعة عاملة ناصبة صالية، وعلى الأول لا يتعلق إلا بقوله: {تَصْلَى} ويكون قوله: {خَاشِعَةٌ} صفة للوجوه، قد فَصَلَ بين الصفةِ والموصوف بأجنبي متعلِّق بصفة أخرى متأخِّرة، والتقدير: وجوهٌ خاشعةٌ عاملة ناصبةٌ يومئذ تَصْلَى ناراً حامية، والتقديمُ والتأخيرُ على خلافِ الأصل، فالأصلُ إقرارُ الكلام على نَظْمِه وترتيبه، لا تغيير ترتيبه.
ثم إنما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة، أما مع اللَّبْسِ فلا يجوز؛لأنه يلتبسُ على المخاطَبِ، ومعلوم أنه ليس هنا قرينة تدلُّ على التقديم والتأخير، بل القَرِينةٌ تدلُّ على خلافِ ذلك، فإرادةُ التقديم والتأخيرِ بمثل هذا الخطاب خلاف البيان، وأمرُ المخاطَب بفهمِه تكليفٌ لما لا يُطاق…).(انظر الوجوه الأخرى في (دقائق التفسير): 5/123-124) .
(4) كذا فسَّر السلف: ابن عباس من طريق العوفي، والحسن من طريق أبي رجاء ومعمر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد.
وفسَّرها ابن زيد فقال: (آنية: حاضرة)، وقد وردَ عن مجاهدٍ من الطريق السابق تفسيره: (قد بلغت إنَاهَا، وحانَ شربها) وعلى هذا فتفسيرها بحاضرةٍ تفسير بلازم المعنى؛ لأنها إنما بلغت إنَاهَا لكي يشربها هؤلاء الكفار، والله أعلم.
(5) هذا قول مجاهد من طريق ليث وابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وشريك بن عبد الله، وقد نسبه ابن كثير إلى ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي الجوزاء وقتادة.
ووردَ عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: (شجرٌ من النار).
ووردَ عن ابن زيد: (الضَّريع: الشوك من النار، قال: وأما في الدنيا، فإن الضَّريع: الشوك اليابسُ الذي ليس له ورق، تدعوه العرب الضَّريع، وهو في الآخرة شوكٌ من نار) وهذا لا يخالِفُ ما وردَ من أنه الشِّبرق اليابس، فإنه يكون من شجر النار، ويكون ناراً كما قال ابن زيد، والله أعلم.
ووردَ في تفسير سعيد بن جبير من طريق جعفر بأن الضَّريعَ الحجارة.
لم أجد من فسَّره بهذا التفسير، كما لم أجده في كتب اللغة، فهل هي لغة علِمَها سعيد وجهِلَها غيره، أم ماذا؟!
(6) قال الطبري: (وقوله:{لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} يقول: لا تسمعُ هذه الوجوه؛ المعنى لأهلها، فيها: في الجنة العالية لاغية؛ يعني باللاغية: كلمة لَغْوٍ، واللَّغْوُ: الباطلُ، فقيلَ للكلمة التي هي لَغْوٌ: لاغية، كما قيل لصاحب الدِّرع: دارع، ولصاحب الفَرَس: فارس، ولقائل الشعر: شاعر، وكما قال الحُطَيئة:


أغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّـ = ـك لابِنٌ بالصَّيْفِ تَامِرْ


"_atssh796" title="AddThis utility frame" style="height: 1px; width: 1px; position: absolute; top: 0px; z-index: 100000; border: 0px none; left: 0px;">


يعني: صاحبَ لَبَنٍ، وصاحبَ تمر.
وزعم بعض الكوفيين الفراء] أن معنى ذلك: لا تسمع فيها حالفةً على الكذب، ولذلك قيل: لاغية.
ولهذا الذي قال مذهبٌ ووجه، لولا أن أهلَ التأويل من الصحابة والتابعين على خلافه، وغير جائز لأحدٍ خلافُهم فيما كانوا عليه مجتمعين) ثمَّ ذكر الرواية عن ابن عباس من طريق العوفي، قال: (لا تسمع أذىً ولا باطلاً)، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح: (شتماً)، وقتادة من طريق سعيد ومعمر: (لا تسمع فيها باطلاً ولا شتماً).
(7) عبَّر السلف عن النمارِق بالمرافق، وَرَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وبالمجالس من طريق العوفي، وبالوسائد عن قتادة من طريق سعيد.

هيئة الإشراف

#5

22 Oct 2008

القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}


الشيخ:
هذه سورة الغاشية، أورد الحافظ ابن كثير في مستهلِّها أن جارية كانت تقرأ هذه الآية، استمع إليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قرأت {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قال: ((قد جاءني من ربي)) ولكن هذا حديث ضعيف.
وقد تقدم أن قوله -جل وعلا- مثل هذه الآية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} وغيرها تحتمل هذه الآية أن يكون معناها: قد جاءك أو قد أتاك، وهذا عليه جمع من المفسرين وأهل اللغة، وهذا يصلح فيما ثبت أن الله -جل وعلا- أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل خبره قبل ذلك، وأما ما لم يثبت: فهذه الآية تحتمل أن يكون قد جاء ويحتمل أن يكون معناها استفهام؛ المقصود به لفت الانتباه إلى هذه الآيات.
قوله جل وعلا: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أي: هل أتاك خبر الغاشية.

والغاشية:اسم من أسماء يوم القيامة؛ لأن يوم القيامة لعظمه وشدة هوله، سماه الله جل وعلا بأسماء، قد تقدم أن الشيء إذا كان معظماً فإنها تكثر أسماؤه.
ولهذا الله -جل وعلا- لما كان جليلاً معظماً كانت له أسماء لا يحصيها العباد؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك إلى أن قال: أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) .
فهناك أسماء لله -جل وعلا- لم يطلع عليها أحداً من خلقه بل استأثر بعلمها، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)) فالعبد إذا تأمل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يستطيع أن يحصي من أسماء الله جل وعلا تسعة وتسعين اسماً، وما هذه الأسماء إلا دليل على عظمة المسمى بها، وهو الله جل وعلا.
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أيضاً لما كان معظماً كانت له أسماء كثيرة، فالشيء المعظم كلما عظم، كثرت أسماؤه، ويوم القيامة يوم عظيم ولهذا كثرت أسماؤه.
ثم قال -جل وعلا- مبيناً انقسام الناس يوم القيامة إلى فريقين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: وجوه يوم القيامة ذليلة خاسرة، ترهقها قترة، وعليها ذلة، وهي وجوه الكفار، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} فوجوههم يوم القيامة ذليلة؛ لأن الله -جل وعلا- أذلهم بكفرهم.
{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: أن أصحاب هذه الوجوه يوم القيامة يعذبهم الله -جل وعلا- في نار جهنم بالعمل الشاق، ويتعبون في ذلك اليوم تعباً عظيماً، كما قال الله -جل وعلا: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} وقال جل وعلا: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} ذكر بعض العلماء أن (صعوداً) هذا اسم لجبل في النار، يُكَلَّف الكافر يوم القيامة أن يصعده وما يستطيع صعوده.
والشاهد أنه الذي دلت عليه آية المدثر، وآية الجن، أنه يوم القيامة يكلف بالأعمال الشاقة.
وهذه الآيات قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} الصحيح أنها تكون يوم القيامة، وما جاء عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في قصة الراهب الذي ناداه عمر من صومعته، فأشرف على عمر، فبكى عمر -رضي الله عنه- وتلا هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} على معنى أنها تعمل في الدنيا وتخسر في الآخرة، هذا وإن كان معناه صحيحاً لكنه ليس مراداً بهذه الآية، والأثر هذا الذي عن عمر -رضي الله تعالى عنه - لا يصح عنه ولا يثبت.
فالصواب أن قوله جل وعلا {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يعني: يوم القيامة، الكافر في الدنيا يعمل وليس له عند الله -جل وعلا- نصيب في الآخرة، كما دلت عليه النصوص الأخرى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} وفي قوله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} هذا صحيح ولكن ليس هو المراد بهذه الآية؛ لأن قوله جل وعلا: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أورده الله -جل وعلا- بعد ذكره لقيام الساعة وانقسام الناس إلى فريقين، فريق في الجنة، وفريق في السعير؛ لأن قوله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} ليس المراد بها في الدنيا، وإنما المراد بها في الآخرة قطعاً، فاقتران هذين يدل على أن المراد به في الآخرة.
ثم إن الله -جل وعلا- في آيات أخرى بين هذا الانقسام في قوله جل وعلا:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}، في قوله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} وكل ذلك في الآخرة، فدل على أن المراد بقوله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} إنما هو في الآخرة.
وقوله جل وعلا: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} أي: تصلى ناراً صفتها أنها حامية، ولشدة حرارتها تكاد تتقطع؛ كما قال الله جل وعلا: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} فهي تغيظ يوم القيامة؛ ويشتد غيظها ويزداد سعيرها، حتى تكاد أن تتقطع.
ثم قال جل وعلا: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي: أن الكافر يوم القيامة يسقى من عين آنية قد بلغت الغاية في شدة الحرارة، وهذا الماء الذي يسقونه يوم القيامة، بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى:
- أنه من صديد؛ كما قال تعالى: {يُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} .
-وبين -جل وعلا- في آية أخرى أنه يقطع أمعائهم: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}.
-وبين -جل وعلا- في آية أخرى أنه يشوي وجوههم؛ كما في آية الكهف: {يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً}.
ثم قال جل وعلا: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} الضريع: هو نوع من أنواع النباتات كان معروفاً في الحجاز، ويسمى: الشُّبرُق.
هذا الشبرق إذا يبس يسمى ضريعاً فلا تنتفع به الدواب بعد ذلك ولا ينتفع به، وهكذا الذي أعد الله -جل وعلا- للكفار يوم القيامة، أعد الله -جل وعلا- لهم طعاماً لا ينتفعون به، كما قال تعالى بعد ذلك: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} لأن الطعام يؤكل من أجل أن يتقوى به الإنسان في جسده، ويؤكل من أجل سد الجوع، وأما هذا الطعام يوم القيامة فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، فهو زيادة في عذابهم.
ثم قال جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} وهذه وجوه المؤمنين يوم القيامة، ناعمة، هي معنى قوله جل وعلا: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} لما كان المؤمنون ينعمون في الآخرة فإن هذا النعيم يظهر أثره على وجوههم، والكفار لما كانوا يعذبون في النار وكان هذا الأثر يظهر على وجوههم، عبر الله -جل وعلا- بالوجوه.
ثم قال جل وعلا: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} يعني: أن هذه الوجوه لعملها الذي عملته في الدنيا راضية؛ لأن الله -جل وعلا- جازاها عليه أحسن الجزاء.
ثم قال جل وعلا: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} يعني: في جنة عالية في مكانها وفي صفتها، وما أعد الله -جل وعلا- لأهلها فيها من النعيم المقيم.
{لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} يعني: أن المؤمنين الذين في الجنة، لا يسمعون في الجنة كلمةً لاغيةً، واللغو: هو الكلام الذي لا فائدة منه، بل لا يسمعون إلا كلاماً حقاً له فائدة، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله جل وعلا: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} .
ثم قال جل وعلا{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} المراد بالعين هنا: الجنس فيشمل العيون الكثيرة؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فالعيون يوم القيامة كثيرة، وقوله جل وعلا في هذه الآية: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أراد جل وعلا فيها الجنس، فيعم جميع العيون التي أعدها الله جل وعلا في الجنة، وقد بين الله جل وعلا بعض هذه العيون كما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي: أنهم يشربون الخمر ممزوجة بالكافور، وهذا الكافور جعله الله جل وعلا عيناً، يقوده المؤمنون حيث شاؤوا، فيميل معهم حيث مالوا، يعني: أن هذه العيون تتبع المؤمنين وهو معنى قوله جل وعلا: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}، وقال جل وعلا في الآية الأخرى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)} ، وهذا نوع آخر، يسقي الله -جل وعلا- المؤمنين الخمر في الجنة ممزوجة بالزنجبيل، وهذه الزنجبيل من عين في الجنة تسمى سلسبيلاً.
ثم قال جل وعلا: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} السرر: جمع سرير، والمعنى: أن هذه السرر مرفوعة، وهم متكئون على هذه السرر؛ كما قال الله جل وعلا: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} فقوله جل وعلا: {مَوْضُونَةٍ} قال بعض العلماء: أي: أن الله -جل وعلا- جعل هذه السرر مشبكةً بعضها ببعض، وهذا التشبيك من ذهب، ثم إن الله -جل وعلا- يجعل أهلها متكئين عليها متقابلين، لا يعطي أحد منهم قفاه للآخر، وذلك من فضل الله -جل وعلا- عليهم.
ثم قال جل وعلا: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} الأكواب: جمع كوب، وهو عبارة عن الكأس الذي ليس له عروة، الإناء الذي له عروة يسمى كأساً، والقدح الذي ليس له عروة يسمى كوباً، وقوله جل وعلا: {مَوْضُوعَةٌ} يعني: أن الله -جل وعلا- يسر هؤلاء الخدم الذين يخدمون المؤمنين في الجنة فيضعونها بين أيديهم، يشربون منها متى اشتهوا لذلك.
ثم قال جل وعلا: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} النمارق: جمع نمرقة، وهو الوسادة، فذكر الله -جل وعلا- أن هذه النمارق في الجنة، تكون مصفوفة.
{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} والزرابي: هي البسط، يعني: أن الله -جل وعلا- بث في هذه الجنة بسطاً كثيرةً متفرقة في أنحائها؛ يتنعم بها عباد الله المؤمنون.
ثم قال جل وعلا: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} لما ذكر الله -جل وعلا- قيام الساعة وما أعده للمؤمنين، وما أعده للكافرين لفت الله -جل وعلا- انتباه الكفار؛ واستفهمهم من أجل أن يلتفتوا إلى هذه الآيات، التي جعلها الله -جل وعلا- في كونه ليوحدوا الله، ويوقنوا بلقائه، وبالبعث والنشور، فقال جل وعلا: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}.
والمراد بالنظر هنا: ليس نظر الأعين؛ لأن الناس ينظرون، كل مبصر فإنه ينظر، بل ربما يكون الكافر أحياناً أقوى في بصره من المؤمن، ولكن الله -جل وعلا- يريد بذلك نظر البصيرة؛لأن النظر قسمان:
- نظر بالعين.
- ونظر بالبصيرة.
فنظر العين هذا ليس هو المراد بهذه الآية، وإنما المراد بهذه الآية: أن ينظر العبد إلى هذه المخلوقات نظراً يورثه الهداية، وهذا هو نظر البصيرة، وهو الذي أرشد الله -جل وعلا- العباد إليه، وأمرهم به، ونبه عليه في مواضع كثيرة، وجعله آية من آياته:
-كما قال -جل وعلا-: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} .
-وقال جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}ينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}}.
-وقال جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}
-وقال جل وعلا: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .
فهذه الآيات التي جعلها الله -جل وعلا- ينتفع بها المؤمنون، وينظرون بها، ويستدلون بها على وحدانية الله وقدرته، وعلى بعث الخلائق إليه.

قال جل وعلا: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} والإبل: خلق من مخلوقات الله، وبهيمة من بهائم الأنعام، وفيه من عجائب صنع الله -جل وعلا- وقدرته، شيء عظيم لو تأمله العبد وأبصر به لعلم أن هذا الإبل لا يمشي في هذا الكون إلا بإذن الله -جل وعلا-، وأن هذا الخلق من لدنه جل وعلا.
فهذا الإبل مع كبره وقوته إلا أن الله -جل وعلا- سخره لبني آدم يمسكه الطفل الصغير فينقاد معه، ثم إن الله -جل وعلا- جعل فيه منافع عظيمةً للعباد كثيرةً، كما نبه الله -جل وعلا- على ذلك في مواضع كثيرة، ومن أعظمها أن الله -جل وعلا-: جعله لعباده يحمل أثقالهم في أسفارهم؛ كما قال تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} ولهذا كان بعض العرب في الجاهلية، يسمي الإبل: سفينة البر، كما أن السفينة المعتادة: سفينة البحر، ولله -جل وعلا- فيما خلق آيات.
ثم قال جل وعلا: {وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ} أي: أفلا ينظرون إلا السماء كيف رفعت، وهذه السماء رفعها جل وعلا بغير عمد نراها، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} خلق السماوات بغير عمد ترونها، فهذه آية وعبرة والله -جل وعلا- هو الذي يمسكها؛ كما قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} .
ثم قال جل وعلا:{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} أي: إلى هذه الجبال كيف نصبها الله جل وعلا، وجعلها ساكنة في نفسها، مسكِّنة لهذه الأرض، أوتاداً لها؛ كما مر بيانه فيما سبق.
ثم قال جل وعلا: {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي: ألا ينظر العباد إلى هذه الأرض كيف سطحها الله -جل وعلا- لينتفع بها العباد، وهذه السطحية للأرض لا تنافي أن تكون الأرض بيضاوية الشكل، أو أن تكون الأرض كروية الشكل؛ لأن كروية الأرض مما أجمع عليه العلماء قديماً وحديثاً وأجمع عليه علماء المسلمين سابقاً، ولكن الجرم إذا كان كبيراً فإنه يكون له سطح، كلما صغرت الكرة كلما قل سطحها، وكلما عظمت هذه الكرة كلما توسع سطحها، وهذه الأرض كروية الشكل، أو بيضاوية الشكل، ولكنها لعظمها وكبرها صار ما عليها سطحاً كسطح البيت، يسكن عليه العباد، وينتفعون به، وهذا آية عظيمة من آيات الله -جل وعلا-.
ثم قال جل وعلا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} هذا أمر من الله -جل وعلا- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يذكر العباد، ثم بين -جل وعلا- وظيفته، وأنه مذكر وليس بمسلط على العباد، يكرههم ويجبرهم على الإسلام، وهذا كان في باديء الأمر، ثم نسخه الله -جل وعلا- بآيات السيف، التي فيها الأمر بقتال المشركين، وهذا عند طائفة من العلماء؛ وبعض العلماء يقول -وهو الأظهر- إن قوله جل وعلا: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} أي: إنك يا محمد وظيفتك أن تبلغ الناس ما نزل إليهم من ربهم، وأما هداية القلوب فلست بمسلط عليها، وليست هداية القلوب بيدك، كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}.

ثم قال جل وعلا: {إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} هذا استثناء منقطع (إلا) فيه بمعنى لكن، أي: لكن من تولى وكفر؛ وتولى وأعرض عما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- وكفر به؛ فيعذبه الله العذاب الأكبر، والعذاب الأكبر: هو عذاب النار يوم القيامة كما تقدم قبل قليل: {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يصلى النار الكبرى.
ثم قال جل وعلا: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} يعني: أن مرجع العباد ومردهم إليه جل وعلا، وهو الذي يحاسبهم، فمن عمل خيراً فلنفسه ومن أساء فعليها، وفي هذا تخويف ووعيد للكافرين لأن الله -جل وعلا- يتهددهم ويخوفهم بمصيرهم إليه، وهذه الآية كما قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

هيئة الإشراف

#6

10 Feb 2009

تفسير سورة الغاشية

المواضع التي يسن فيها قراءة سورة الغاشية
حديث الجارية الذي أورده ابن كثير في مستهل سورة الغاشية حديث ضعيف
تفسير قول الله تعالى : ( هل أتاك حديث الغاشية )ما يحتمله لفظ أتى في قوله تعالى: ( هل أتاك حديث الغاشية )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية) مع الترجيح
كثرة أسماء المسمى الواحد يدل على عظمته
تفسير قول الله تعالى : ( وجوه يومئذ خاشعة ، عاملة ناصبة )في قوله تعالى: (عاملة ناصبة) هل العمل في الدنيا أم في النار ؟
تفسير قول الله تعالى : ( تصلى ناراً حامية ، تسقى من عين آنية )تفسير قول الله تعالى : ( ليس لهم طعام إلا من ضريع ، لا يسمن ولا يغني من جوع )
تفسير قول الله تعالى : ( وجوه يومئذ ناعمة ، لسعيها راضية )
تفسير قول الله تعالى : ( في جنة عالية ، لا تسمع فيها لاغية)
تفسير قول الله تعالى : ( فيها عين جارية ، فيها سرر مرفوعة )
تفسير قول الله تعالى : ( وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابي مبثوثة )
أقوال السلف في معنى النمارق
تفسير قول الله تعالى : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت )
مناسبة قوله تعالى ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) للسورة
معنى النظر في الآية
تفسير قول الله تعالى : ( وإلى السماء كيف رفعت )
تفسير قول الله تعالى : ( وإلى الجبال كيف نصبت )
تفسير قول الله تعالى : ( وإلى الأرض كيف سطحت )
تفسير قول الله تعالى : ( فذكر إنما أنت مذكر ، لست عليهم بمصيطر )
تفسير قول الله تعالى : ( إلا من تولى وكفر ، فيعذبه الله العذاب الأكبر )
تفسير قول الله تعالى : ( إن إلينا إيابهم ، ثم إن علينا حسابهم )

هيئة الإشراف

#7

10 Feb 2009

الأسئلة


س1: اذكر المواضع التي يسنُّ فيها قراءة هذه السورة.
س2: يكرر الله تعالى التذكير بيوم القيامة في القرآن الكريم بأوصاف متنوعة، تكلم عن الفوائد الدعوية التي تستفيدها من هذا التكرار والتنويع.
س3: بين معاني الكلمات التالية: الغاشية، خاشعة، ناصبة، آنية، ضريع، لاغية، نمارق، زرابي، مبثوثة، نُصبت، إيابهم.
س4: تكلم عن أوصاف الفريقين الشقي والسعيد، وما أعد لهما، من خلال دراستك لهذه السورة.
س5: اذكر القولين في تفسير قول الله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} مع الترجيح.
س6: تحدث باختصار عن دلالة الآيات الكونية على التوحيد في ضوء دراستك لتفسير السورة.
س7: بين الله عز وجل في هذه السورة مهمة رسوله صلى الله عليه وسلم، اذكرها، ثم اذكر ما يستفيده الداعية من هذا البيان.
س8: ما نوع الاستثناء في قول الله تعالى: {إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} ؟ وما أثر معرفة نوعه على فهم المعنى المراد؟
س9: ختم الله السورة بذكر المعاد والحساب، كما ابتدأها بالحديث عن يوم القيامة وبعض ما يجري فيه من الأمور العظيمة، تحدث باختصار عن الفوائد التربوية لهذا الأسلوب الحكيم.

هيئة الإشراف

#8

10 Apr 2014

تفسير ابن كثير



قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة الغاشية وهي مكّيّةٌ.

قد تقدّم عن النّعمان بن بشيرٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، و"الغاشية" في صلاة العيد ويوم الجمعة. وقال الإمام مالكٌ: عن ضمرة بن سعيدٍ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه أنّ الضّحّاك بن قيسٍ سأل النّعمان بن بشيرٍ: بم كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: {هل أتاك حديث الغاشية}. ورواه أبو داود عن القعنبيّ، والنّسائيّ عن قتيبة، كلاهما عن مالكٍ به، ورواه مسلمٌ وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، عن ضمرة بن سعيدٍ به.

الغاشية من أسماء يوم القيامة، قاله ابن عبّاسٍ وقتادة وابن زيدٍ؛ لأنّها تغشى النّاس وتعمّهم.

وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسيّ، حدّثنا أبو بكر بن عيّاشٍ، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمونٍ، قال: مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على امرأةٍ تقرأ: {هل أتاك حديث الغاشية}. فقام يستمع ويقول: ((نعم، قد جاءني)).

وقوله: {وجوهٌ يومئذٍ خاشعةٌ} أي: ذليلةٌ، قاله قتادة. وقال ابن عبّاسٍ: تخشع، ولا ينفعها عملها.

وقوله: {عاملةٌ ناصبةٌ}. أي: قد عملت عملاً كثيراً، ونصبت فيه، وصليت يوم القيامة ناراً حاميةً.

قال الحافظ أبو بكر البرقانيّ: حدّثنا إبراهيم بن محمّدٍ المزكّي، حدّثنا محمّد بن إسحاق السّرّاج، حدّثنا هارون بن عبد اللّه، حدّثنا سيّارٌ، حدّثنا جعفرٌ قال: سمعت أبا عمران الجونيّ يقول: مرّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه بدير راهبٍ، قال: فناداه، يا راهب، يا راهب. فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه: {عاملةٌ ناصبةٌ تصلى ناراً حاميةً}. فذاك الذي أبكاني.

وقال البخاريّ: قال ابن عبّاسٍ: {عاملةٌ ناصبةٌ}: النّصارى. وعن عكرمة والسّدّيّ: {عاملةٌ} في الدّنيا بالمعاصي، {ناصبةٌ} في النار بالعذاب والأغلال.

قال ابن عبّاسٍ والحسن وقتادة: {تصلى ناراً حاميةً}. أي: حارّةً شديدة الحرّ.

{تسقى من عينٍ آنيةٍ}. أي: قد انتهى حرّها وغليانها، قاله ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والحسن والسّدّيّ.

وقوله: {ليس لهم طعامٌ إلاّ من ضريعٍ}. قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: شجرٌ من نارٍ. وقال سعيد بن جبيرٍ: هو الزّقّوم. وعنه أنّها الحجارة. وقال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وعكرمة وأبو الجوزاء وقتادة: هو الشّبرق. قال قتادة: قريشٌ تسمّيه في الرّبيع الشّبرق، وفي الصّيف الضّريع.

قال عكرمة: وهو شجرةٌ ذات شوكٍ، لاطئةٌ بالأرض.

وقال البخاريّ: قال مجاهدٌ: الضّريع: نبتٌ يقال له: الشّبرق، يسمّيه أهل الحجاز الضّريع إذا يبس. وهو سمٌّ. وقال معمرٌ، عن قتادة: {إلاّ من ضريعٍ}. هو الشّبرق إذا يبس، سمّي الضّريع. وقال سعيدٌ، عن قتادة: {ليس لهم طعامٌ إلاّ من ضريعٍ}: من شرّ الطّعام وأبشعه وأخبثه.

وقوله: {لا يسمن ولا يغني من جوعٍ}. يعني: لا يحصل به مقصودٌ، ولا يندفع به محذورٌ.

لمّا ذكر حال الأشقياء ثنّى بذكر السّعداء؛ فقال: {وجوهٌ يومئذٍ}. أي: يوم القيامة {ناعمةٌ}. أي: يعرف النّعيم فيها، وإنما حصل لها ذلك بسعيها.

وقال سفيان: {لسعيها راضيةٌ}: قد رضيت عملها.

وقوله: {في جنّةٍ عاليةٍ}. أي: رفيعةٍ بهيّةٍ في الغرفات آمنون.

{لا تسمع فيها لاغيةً}. أي: لا يسمع في الجنّة التي هم فيها كلمة لغوٍ، كما قال: {لا يسمعون فيها لغواً إلاّ سلاماً}. وقال: {لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ}. وقال: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً}.

{فيها عينٌ جاريةٌ}. أي: سارحةٌ، وهذه نكرةٌ في سياق الإثبات، وليس المراد بها عيناً واحدةً، وإنّما هذا جنسٌ، يعني: فيها عيونٌ جارياتٌ.

وقال ابن أبي حاتمٍ: قرئ على الرّبيع بن سليمان، حدّثنا أسد بن موسى، حدّثنا ابن ثوبان، عن عطاء بن قرّة، عن عبد اللّه بن ضمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أنهار الجنّة تفجّر من تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك)) .

{فيها سررٌ مرفوعةٌ}. أي: عاليةٌ ناعمةٌ كثيرة الفرش، مرتفعة السّمك، عليها الحور العين. قالوا: فإذا أراد وليّ اللّه أن يجلس على تلك السّرر العالية تواضعت له.

{وأكوابٌ موضوعةٌ}. يعني أواني الشّرب، معدّةٌ مرصدةٌ لمن أرادها من أربابها.

{ونمارق مصفوفةٌ}. قال ابن عبّاسٍ: النّمارق: الوسائد. وكذا قال عكرمة وقتادة والضحّاك والسّدّيّ والثّوريّ وغيرهم.

وقوله: {وزرابيّ مبثوثةٌ}. قال ابن عبّاسٍ: الزّرابيّ: البسط. وكذا قال الضحّاك وغير واحدٍ. ومعنى {مبثوثةٌ}. أي: ههنا وههنا لمن أراد الجلوس عليها، ونذكر ههنا الحديث الذي رواه أبو بكر بن أبي داود.

حدّثنا عمرو بن عثمان، حدّثنا أبي، عن محمّد بن مهاجرٍ، عن الضحّاك المعافريّ، عن سليمان بن موسى، حدّثني كريبٌ أنّه سمع أسامة بن زيدٍ يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((ألا هل من مشمّرٍ للجنّة؟ فإنّ الجنّة لا خطر لها، هي وربّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مطّردٌ، وثمرةٌ نضيجةٌ، وزوجةٌ حسناء جميلةٌ، وحللٌ كثيرةٌ، ومقامٌ في أبدٍ في دارٍ سليمةٍ، وفاكهةٌ وخضرةٌ وحبرةٌ ونعمةٌ في محلّةٍ عاليةٍ بهيّةٍ)). قالوا: نعم، يا رسول اللّه نحن المشمّرون لها. قال: ((قولوا إن شاء اللّه)). قال القوم: إن شاء اللّه. ورواه ابن ماجه عن العبّاس بن عثمان الدّمشقيّ، عن الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجرٍ به.

يقول تعالى آمراً عباده بالنظر إلى مخلوقاته الدّالّة على قدرته وعظمته: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}؛ فإنّها خلقٌ عجيبٌ، وتركيبها غريبٌ؛ فإنّها في غاية القوّة والشّدّة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها، ونبّهوا بذلك؛ لأنّ العرب غالب دوابّهم كانت الإبل، وكان شريحٌ القاضي يقول: اخرجوا بنا حتّى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.

{وإلى السّماء كيف رفعت} أي: كيف رفعها اللّه عزّ وجلّ عن الأرض هذا الرّفع العظيم، كما قال تعالى: {أفلم ينظروا إلى السّماء فوقهم كيف بنيناها وزيّنّاها وما لها من فروجٍ}.

{وإلى الجبال كيف نصبت}. أي: جعلت منصوبةً قائمةً ثابتةً راسيةً؛ لئلاّ تميد الأرض بأهلها، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن.

{وإلى الأرض كيف سطحت}. أي: كيف بسطت ومدّت ومهّدت، فنبّه البدويّ على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكبٌ عليه، والسّماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه، والأرض التي تحته، على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنّه الرّبّ العظيم الخالق المتصرّف المالك، وأنّه الإله الذي لا يستحقّ العبادة سواه. وهكذا أقسم "ضمامٌ" في سؤاله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، كما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنسٍ قال: كنّا نهينا أن نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيءٍ، فكان يعجبنا أن يجيء الرّجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجلٌ من أهل البادية فقال: يا محمّد، إنّه أتانا رسولك فزعم لنا أنّك تزعم أنّ اللّه أرسلك. قال: ((صدق)). قال: فمن خلق السّماء؟ قال: ((اللّه)). قال: فمن خلق الأرض؟ قال: ((اللّه)). قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: ((اللّه)). قال: فبالذي خلق السّماء والأرض ونصب هذه الجبال آللّه أرسلك؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أنّ علينا خمس صلواتٍ في يومنا وليلتنا. قال: ((صدق)). قال: فبالذي أرسلك آللّه أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أنّ علينا زكاةً في أموالنا. قال: ((صدق)). قال: فبالذي أرسلك آللّه أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أنّ علينا حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: ((صدق)). قال: ثمّ ولّى فقال: والذي بعثك بالحقّ لا أزيد عليهنّ شيئاً ولا أنقص منهنّ شيئاً؛ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إن صدق ليدخلنّ الجنّة)).

وقد رواه مسلمٌ عن عمرٍو النّاقد، عن أبي النّضر هاشم بن القاسم به، وعلّقه البخاريّ ورواه التّرمذيّ والنّسائيّ من حديث سليمان بن المغيرة به، ورواه الإمام أحمد والبخاريّ وأبو داود والنّسائيّ وابن ماجه من حديث اللّيث بن سعدٍ، عن سعيد المقبريّ، عن شريك بن عبد اللّه بن أبي نمرٍ، عن أنسٍ به بطوله، وقال في آخره: وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكرٍ.

وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا إسحاق، حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثني عبد اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمر قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كثيراً ما كان يحدّث عن امرأةٍ في الجاهليّة على رأس جبلٍ، معها ابنٌ لها ترعى غنماً، فقال لها ابنها: يا أمّه، من خلقك؟ قالت: اللّه. قال: فمن خلق أبي؟ قالت: اللّه. قال: فمن خلقني؟ قالت: اللّه. قال: فمن خلق السّماء؟ قالت: اللّه. قال: فمن خلق الأرض؟ قالت: اللّه. قال: فمن خلق الجبل؟ قالت: اللّه. قال: فمن خلق هذه الغنم؟ قالت: اللّه. قال: فإنّي لأسمع للّه شأناً. وألقى نفسه من الجبل فتقطّع.

قال ابن عمر كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كثيراً ما يحدّثنا هذا. قال ابن دينارٍ: كان ابن عمر كثيراً ما يحدّثنا بهذا.

في إسناده ضعفٌ، وعبد اللّه بن جعفرٍ هذا هو المدينيّ، ضعّفه ولده الإمام عليّ بن المدينيّ وغيره.

وقوله: {فذكّر إنّما أنت مذكّرٌ لست عليهم بمسيطرٍ}. أي: فذكّر يا محمّد النّاس بما أرسلت به إليهم، فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب.

ولهذا قال: {لست عليهم بمسيطرٍ}. قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وغيرهما: لست عليهم بجبّارٍ.

وقال ابن زيدٍ: لست بالذي تكرههم على الإيمان.

قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ قال: قال صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على اللّه عزّ وجلّ)). ثمّ قرأ {فذكّر إنّما أنت مذكّرٌ لست عليهم بمسيطرٍ}.

وهكذا رواه مسلمٌ في كتاب الإيمان، والتّرمذيّ والنّسائيّ في كتابي التّفسير من سننيهما، من حديث سفيان بن سعيدٍ الثّوريّ به بهذه الزّيادة، وهذا الحديث مخرّجٌ في الصحيحين من رواية أبي هريرة بدون ذكر هذه الآية.

وقوله: {إلاّ من تولّى وكفر}. أي: تولّى عن العمل بأركانه وكفر بالحقّ بجنانه ولسانه، وهذه كقوله: {فلا صدّق ولا صلّى ولكن كذّب وتولّى}.

ولهذا قال: {فيعذّبه اللّه العذاب الأكبر}. قال الإمام أحمد: حدّثنا قتيبة، حدّثنا ليثٌ، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن عليّ بن خالدٍ، أنّ أبا أمامة الباهليّ مرّ على خالد بن يزيد بن معاوية فسأله عن ألين كلمةٍ سمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ((ألا كلّكم يدخل الجنّة إلاّ من شرد على اللّه شراد البعير على أهله)).

تفرّد بإخراجه الإمام أحمد. وعليّ بن خالدٍ هذا ذكره ابن أبي حاتمٍ عن أبيه، ولم يزد على ما ههنا، روى عن أبي أمامة، وعنه سعيد بن أبي هلالٍ.

وقوله: {إنّ إلينا إيابهم}. أي: مرجعهم ومنقلبهم.

{ثمّ إنّ علينا حسابهم}. أي: نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها، إن خيراً فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.

آخر تفسير سورة الغاشية، وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/384-389]