الدروس
course cover
تفسير سورة الأعلى
22 Oct 2008
22 Oct 2008

7372

0

0

course cover
تفسير جزء عمّ

القسم الخامس

تفسير سورة الأعلى
22 Oct 2008
22 Oct 2008

22 Oct 2008

7372

0

0


0

0

0

0

0

سورةُ الأعلى
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ


{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5) سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}

هيئة الإشراف

#2

22 Oct 2008

تفسير سورة سبح

(1-19) {بسم الله الرحمن الرحيم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5) سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}.

يأمرُ تعالى بتسبيحهِ المتضمن لذكرهِ وعبادتهِ، والخضوعِ لجلالهِ، والاستكانةِ لعظمتهِ، وأنْ يكونَ تسبيحاً يليقُ بعظمةِ اللهِ تعالى، بأنْ تذكرَ أسماؤهُ الحسنى العاليةُ على كلِّ اسمٍ بمعناها الحسنِ العظيمِ، وتذكرَ أفعالُه التي منها أنَّهُ خلقَ المخلوقاتِ فسواها، أي: أتقنها وأحسنَ خلقهَا.

{وَالَّذِي قَدَرَ} تقديراً تتبعهُ جميعُ المقدراتِ {فَهَدَى} إلى ذلكَ جميعَ المخلوقاتِ.
وهذه الهدايةُ العامةُ،التي مضمونهُا أنهُ هدى كلَّ مخلوقٍ لمصلحتهِ، وتذكرَ فيها نعمهُ الدنيويةُ، ولهذا قالَ فيهَا: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي: أنزلَ منَ السماءِ ماءً فأنبتَ بهِ أنواعَ النباتِ والعشبِ الكثيرِ، فرتعَ فيهَا الناسُ والبهائمُ وكلُّ حيوانٍ، ثمَّ بعدَ أن استكملَ ما قدّرَ لهُ منَ الشبابِ، ألوى نباتُهُ، وصَوَّحَ عشبُهُ.
{فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} أي: جعلَهُ هشيماً رميماً، ويذكرَ فيها نعمَهُ الدينيةَ، ولهذا امتنَّ اللهُ بأصِلِها ومنشئِها، وهوَ القرآنُ {سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى} أي: سنحفظُ ما أوحينا إليكَ منَ الكتابِ، ونوعيهِ قلبكَ، فلا تنسى منهُ شيئاً، وهذهِ بشارةٌ كبيرةٌ منَ اللهِ لعبدهِ ورسولِه محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنّ اللهَ سيعلمهُ علماً لا ينساهُ {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} مما اقتضتْ حكمتُهُ أنْ ينسيكَهُ لمصلحةٍ بالغةٍ.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} ومنْ ذلكَ أنَّهُ يعلمُ ما يصلحُ عبادهُ أي: فلذلكَ يَشرعُ ما أرادَ، ويحكمُ بما يريدُ.
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}وهذه أيضاً بشارةٌ كبيرةٌ، أنَّ اللهَ ييسرُ رسولَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في جميعِ أمورِه ويجعلُ شرعَهُ ودينَهُ يسراً.
{فَذَكِّرْ}بشرعِ اللهِ وآياتهِ {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي: ما دامتِ الذكرى مقبولةً، والموعظةُ مسموعةً، سواءٌ حصلَ منَ الذكرى جميعُ المقصودِ أو بعضُهُ.
ومفهومُ الآيةِ أنَّهُ إنْ لمْ تنفعِ الذكرى، بأنْ كانَ التذكيرُ يزيدُ في الشَّرِّ، أو ينقصُ منَ الخِير، لمْ تكنِ الذكرى مأموراً بها، بل منهيّاً عنها.
فالذكرى ينقسمُ الناسُ فيها قسمينِ:
-منتفعونَ.
-وغيرُ منتفعينَ.
فأمَّا المنتفعونَ:
فقدْ ذكرَهم بقولِهِ: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} اللهَ تعالى، فإنَّ خشيةَ اللهِ تعالى، وعِلْمَهُ بأنْ سيجازيهِ على أعمالهِ، توجبُ للعبدِ الانكفافَ عن المعاصي والسعيَ في الخيراتِ.
وأمَّا غيرُ المنتفعينَ:
فذكرهمْ بقولهِ: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} وهي النارُ الموقدةُ، التي تطلعُ على الأفئدةِ.
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} أي: يعذبُ عذاباً أليماً، منْ غيرِ راحةٍ ولا استراحةٍ، حتى إنهَّمْ يتمنونَ الموتَ فلا يحصلُ لهمْ، كما قالَ تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}.
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} أي: قدْ فازَ وربحَ منْ طهَّرَ نفسهُ ونقَّاهَا منَ الشركِ والظلمِ ومساوئِ الأخلاقِ.
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي: اتصفَ بذكرِ اللهِ، وانصبغَ بهِ قلبهُ، فأوجبَ لهُ ذلكَ العملَ بما يرضي اللهَ، خصوصاً الصلاةَ، التي هيَ ميزانُ الإيمانِ، فهذا معنى الآيةِ الكريمةِ.
وأمَّا منْ فسَّرَ قولهُ:{تَزَكَّى}بمعنى أخرجَ زكاةَ الفطرِ {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أنَّهُ صلاةُ العيد، فإنَّهُ وإنْ كانَ داخلاً في اللفظِ وبعضِ جزئياتهِ، فليسَ هو المعنى وحدهُ.
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}أي: تقدمونهَا على الآخرةِ، وتختارونَ نعيمَهَا المنغَّصَ المكدَّرَ الزائلَ على الآخرةِ.
{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}وللآخرةُ خيرٌ من الدنيا في كلِّ وصفٍ مطلوبٍ، وأبقى؛ لكونهَا دارَ خلدٍ وبقاءٍ وصفاءٍ، والدنيا دارُ فناءٍ، فالمؤمنُ العاقلُ لا يختارُ الأردأ على الأجودِ، ولا يبيعُ لذةَ ساعةٍ، بترحةِ الأبدِ، فحبُّ الدنيا وإيثارُهَا على الآخرةِ رأسُ كلِّ خطيئةٍ.
{إِنَّ هَذَا}المذكورَ لكمْ في هذهِ السورةِ المباركةِ، من الأوامرِ الحسنةِ، والأخبارِ المستحسنةِ {لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} اللذين هما أشرفُ المرسلينَ، سوى النبيِّ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
فهذهِ أوامرُ في كلِّ شريعةٍ،لكونِهَا عائدةً إلى مصالحِ الدارينِ، وهيَ مصالحُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

هيئة الإشراف

#3

22 Oct 2008

المتن :

سورةُ الأعلَى

كان صلى الله عليه وسلم يقرأُها في صلاةِ العيد، وفي صلاة الشَّفْعِ قبلَ الوتر، وفي صلاة الجمعة.
1-قولُه تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي: نَزِّهْ ربَّكَ الذي علا على خلقِه في السماء(1)، نَزِّهْهُ ناطقاً باسمه، ومتكلِّماً به عند ذكرِك إيَّاه، وتعظيمِكَ له، وصلاتِك له(2).
2-قولُه تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي: سبِّحْهُ لأنه خَلَقَ الخلقَ، وجعلَ كلَّ مخلوقٍ مناسباً لما خَلَقَهُ له، فهو يقومُ بالأعمال التي تناسِبه.
3-قولُه تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي: والذي قدَّر لكلِّ مخلوقٍ مقاديرَه، وهداهُ لإتيانِ هذه الأقدار؛ كتقديرِ الإنسانِ للشِّقْوَة والسعادة، والبهائم للمراتع، وغيرِها من أنواع التقدير(3).
4- 5 قولُه تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} أي: والذي أخرج المرعى نباتاً أخضرَ، فصيَّرَه بعد ذلك هشيماً يابساً متغيِّراً مائلاً إلى السَّوادِ من شدَّة اليُبْسِ(4).
6-7قولُه تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} هذا وعدٌ من الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بأن يجعلَهُ قارئاً للقرآن حافظاً له، فلا يقعُ منه نسيانٌ له(5)، إلاَّ ما نسخَ اللهُ تِلاوتَه، ثمَّ أخبرَهُ قائلاً: إنَّ الله يعلمُ ما يقعُ منكَ من عملٍ أظْهَرْتَه، وعملٍ كَتَمْتَه فلم تُظْهِرْهُ، فهو يعلمُ جميعَ أحوالِكَ سرِّها وعلانيتِها.
8- قولُه تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} وهذا وعدٌ آخرُ لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يُسهِّل له عملَ الخيرِ الموصلَ للجنة.
9-قولُه تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَى} هذا بيانٌ لمهَمَّةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تذكيرُ الناس كافَّة، فمن آمنَ كانت هذه الذِّكرى نافعةً له، وهو المَعْنِيُّ بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} وإنْ لم يَتَذَكَّرْ كانت حجةً عليه، وهو المَعْنِيُّ بقوله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} (6).
10- قولُه تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} هذا بيانٌ للفريقين اللَّذَينِ يسمعانِ الذِّكرى، فالفريقُ الأول: هو الذي حَصَلَتْ آثارُ التذكيرِ في قلبه، فوقعَ منه التذكُّرُ، وهو الذي يخافُ اللهَ على علمٍ وتعظيمٍ ومحبةٍ له.
11- 13 قولُه تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} وهذا الفريقُ الثاني الذي يسمعُ الذِّكرى، ولكنه يتباعدُ عنها، فلا يقعُ في قلبه تذكُّر، فهو شديدُ الشِّقْوَة، فلا يسعَدُ بسبب تلك الشِّقوة التي حَصَلَت له بسببِ كُفره بالله.
وهذا الأشقى سيدخلُ النارَ الكبرى التي هي شديدةُ العذابِ والألمِ، فتشويه بحرِّها، ثمَّ هو لا يموتُ فيستريحُ من عذابها، ولا يحيى حياةً كريمةً لا إهانةَ فيها، ومعنى ذلك أنه لا يزولُ عنه الإحساس، بل هو باقٍ فيه، فيذوقُ به العذابَ، والعياذُ بالله.
14- 15 قولُه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي: حَصَلَ الظفرُ والفوزُ والنجاح لمن جعلَ نفسَه زاكيةً بتركِ السيِّئات، وحلاَّها بالعملِ الصالح، وذَكَرَ ربَّه بقلبِه ولسانه، فأقامَ الصلاةَ لله(7).
16- 17 قولُه تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: ولكنَّكم أيها الأشْقَوْنَ تختارونَ زينةَ الحياةِ الدنيا على نعيم الآخرة الذي هو أدومُ وأعلى من نعيم الدنيا كمَّا وكيفاً ومكاناً وزماناً وهيئة.
18- 19 قولُه تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} أي: إنَّ هذه الموعِظة التي في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} وما بعدها(8) موجودةٌ في ما أنزله الله من الكُتب على نبيَّيْهِ إبراهيم وموسى، والله أعلم.



الحاشية :
(1)جاء وصفُ الأعلى على صيغة اسم التفضيل المطلَقِ الذي لا مقابلَ له، للدلالةِ على كمالِه في هذا الوصف، وأنه لا أحدَ أعلى منه، وعُلُوُّه يشمل:
-علُوَّ الذات على خلقه، فهو مستوٍ على العرش الذي هو أعلى المخلوقات وأوسَعُها.
-وعلوَّ القهر، فهو القاهرُ فوق عبادِه.
-وعلوَّ القَدْرِ بما له من الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، والله أعلم.
(2) ورد في تأويل هذه الجملة إشكال، وهو : هل المراد تسبيحُ الاسم أو تسبيحُ الربِّ؟
والصواب -والله أعلم- أنَّ المرادَ تسبيح الرب، ويدل على ذلك حدِيثُ الرسول صلى الله عليه وسلم أنّها لما نزلت قال: ((اجعلوها في سجودِكم)).
ونحن مأمورونَ بأن نقول: (سبحان ربيَ الأعلى).
وقد ورد هذا التفسير عن علي بن أبي طالب من طريق عبد خير، وابن عباس من طريق أبي إسحاق الهمذاني وزياد بن عبد الله.
وهذا يستلزمُ تنزيهَ اسمِه تعالى من أن يسمَّى به غيرُه،كما سمَّى المشركون أصنامهم بأسماء الله؛ كاللاَّت والعُزَّى.
قال ابن القيم: (… فصار معنى الآيتين: سبِّح ربَّكَ بقلبِكَ ولسانِكَ، واذكر ربك بقلبك ولسانك، فأقحمَ الاسمَ تنبيهاً على هذا المعنى، حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان؛ لأن ذكر القلبِ متعلَّقُهُ المسمَّى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلَّقه اللفظ مع مدلوله؛ لأن اللفظَ لا يرادُ لنفسه، فلا يتوهَّم أحدٌ أن اللفظ هو المُسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى.
وعبَّر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية - قدَّس الله روحه - عن هذا المعنى بعبارةٍ لطيفة وجيزة، فقال: (المعنى: سبِّح ناطقاً باسم ربِّك متكلِّماً به، وكذا سبِّح ربَّك ذاكراً اسمه).
وهذه الفائدةُ تساوي رحلة لكن لمن يعرِف قَدْرَهَا، فالحمد لله المنَّان بفضله، ونسأله تمامَ نِعمته) (بدائع الفوائد 1: 19) .
(3)قال ابن جرير: (والصوابُ من القولِ في ذلك عندنا: أنَّ الله عمَّ بقوله: {فَهَدَى} الخبرَ عن هدايته خلقَه، ولم يخصِّص من ذلك معنى دون معنى، وقد هداهُم لسبيل الخير والشرِّ، وهدى الذكورَ لمأتى الإناث، فالخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقومُ به الحجة دالٌّ على خصوصه).
وعلى هذا فما ورد في تفسير السلفِ فهو على سبيل المثالِ لتقدير وهدايةٍ، والله أعلم.
(4)قال الطبري: (وكان بعضُ أهل العلم بكلام العربِ يرى أن ذلك من المؤخَّرِ الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى؛ أي: أخضر إلى السواد، فجعله غثاءً بعد ذلك، ويَعْتَلُّ لقوله ذلك بقول ذي الرُّمَّة:


حَوَّاءُ قَرْحاءُ أشْرَاطِيَّةٌ وَكَفَتْ = فيها الذَّهَابُ وحَفَّتْها البراعيم


"_atssh486" title="AddThis utility frame" style="height: 1px; width: 1px; position: absolute; top: 0px; z-index: 100000; border: 0px none; left: 0px;">


وهذا القول - وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدَّت خُضرته من النبات قد تسمِّيه العربُ أسود - غير صواب عندي، بخلافه أهل التأويل في أن الحرفَ إنما يُحتالُ لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير، إذا لم يكن له وجهٌ مفهومٌ إلاَّ بتقديمه من موضِعه أو تأخيره، فأمَّا وله في موضعِه وجهٌ صحيحٌ، فلا وجهَ لطلبِ الاحتيالِ لمعناه بالتقديم والتأخير).
(5)حُكِيَ عن بعض المفسِّرين أنَّ (لا) في قوله: {فَلا تَنْسَى} لا الناهية، وهذا مخالفٌ لرسم المصحفِ الذي جاء فيه رسمُ {تَنْسَى} بالألف المقصورة، ولو كان كما قال: لحُذِفَت هذه الألف لأجل جزم الفعل المضارع، والله أعلم.
ونقل الطبري عن بعض أهلِ العربية، وهو الفرَّاء، فقال: (لم يشأ الله أن تنسى شيئاً، وهو كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} ، ولا يشاء.
قال:وأنت قائل في الكلام: لأعطينَّكَ كلَّ ما سألتَ إلاَّ ما شئتُ، وإلاَّ أن أشاء أن أمنعَك، والنيةُ أن لا تمنَعه، ولا تشاءَ شيئاً.
قال:وعلى هذا مجاري الأيمان، يستثنَى فيها، ونيَّة الحالف اللَّمام).
وهذا القول فيه إخراجٌ للاستثناء من معناه دون ما يدعو إليه من المعنى،والمعنى المفسَّر على بقاء الاستثناء واضحٌ ومطابِقٌ للواقع، وهذا مما يدلُّ على خطأ هذا القول، والأصلُ بقاء اللفظِ على ما يدلُّ عليه، ولا يُخرَج عنه إلاَّ بدليل، والله أعلم.
(6)مقصودُ الآية:أنها حجَّةٌ على الكافر وتَذْكِرَةٌ للمؤمن، كما قال الحسن البصري، وهذا يدلُّ على أنَّ التذكيرَ واجبٌ في كل حال، وأنها نافعةٌ في كل حال، ولا يصحُّ أن يكون لهذا الشرط مقابِلٌ؛ أي: وإن لم تنفع فلا تذكر، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذِّكرى نافعة؛ لأنه لا سبيلَ إلى تعرُّفِ مواقع نفعِ الذكرى.
فالدعوة عامة، وما يعلمه الله من أحوال الناس في قَبولِ الهُدى أو عَدَمِه أمرٌ استأثرَ اللهُ بعلمِه، فأبو جهلٍ مَدْعُوٌّ للإيمان، والله يعلمُ أنه لا يؤمِن، لكنَّ اللهَ لم يخصَّ بالدعوة من يُرجى إيمانُه دون غيرهم، والواقع يكشفُ المقدور.
وعلى هذا فقوله: {فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَى } أمرٌ بتذكيرِ كلِّ أحدٍ، فإن انتفعَ كانت تذكرةً تامةً نافعةً، وإلاَّ حصلَ أصلُ التذكيرِ الذي تقومُ به الحجة والله أعلم. (انظر: (دقائق التفسير) 5: 75-84).
ومجيء (إنْ) المقتضي عدمَ احتمال وقوعِ الشرط، أو نُدرة وقوعه، فيه تنبيهٌ على أنَّ في القوم المذكَّرين من لا تنفعه الذِّكرى، ويفسِّر هذا ما جاء بعدها من قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى}.
(7)ورد في تفسير التَّزَكي خلافٌ بين السلف:
الأول:من كان عملُه زاكياً، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، من تزكَّى من الشرك وهو قول الحسن من طريق هشام، وقتادة من طريق معمر، وعكرمة من طريق الحكم.
الثاني:قد أفلح من أدَّى زكاةَ مالِه، وهو قول أبي الأحوص، وقتادة من طريق سعيد.
الثالث:من أدَّى زكاةَ الفطرِ، وهو قول أبي العالية من طريق أبي خلدة.
والظاهرُ من الخطابِ العموم،وما ذُكِرَ من تفسيراتٍ غيرَه فإنها أمثلة لأعمالٍ تُزَكِّي المسلم، ويظهرُ من رواياتِ مَنْ فسَّر التزكِّي بزكاة المال، أو زكاةِ الفطر، أنَّه استشهد بهذه الآيات، لا أنه أرادَ أنها هي المعنية دون غيرِها؛ لأنَّ السورةَ مكية، وزكاةُ الفطرِ إنما كانت في المدينة، وكذا يحملُ ما بعدها من الذكر والصلاة أنها على العموم.
قال الطبري: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: وذكَرَ اللهَ فوحَّدَه، ودعا إليه، ورغَّب؛ لأنَّ كلَّ ذلك من ذِكْرِ الله، ولم يخصِّص الله تعالى من ذكره نوعاً دون نوعٍ).
(8) ذكرَ الطبريُّ أقوالاً في مرجع اسم الإشارة (هذا) ثم قال: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إنَّ قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}لفي الصحُفِ الأُولى، صُحُفِ إبراهيمَ خليل الرحمن، وصُحُفِ موسى بن عمران.
وإنما قلت: ذلك أَوْلى بالصحَّة من غيره، لأن هذا إشارةٌ إلى حاضِرٍ، فلأَنْ يكونَ إشارةً إلى ما قَرُبَ منها، أولى مِنْ أنْ يكونَ إشارةً إلى غيرِه.
وأما الصُّحُف: فإنها جمع صحيفة، وإنما عُنِيَ بها: كُتب إبراهيم وموسى).

هيئة الإشراف

#4

22 Oct 2008

القارئ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ



{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى (6) إِلا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله -جل وعلا-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} في هذه الآية أمر الله -جل وعلا- رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينزهه عن كل نقص وعيب، وعن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، وهذا كقول الله -جل وعلا-: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وقد نزه الله -جل وعلا- نفسه:
- فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} .
-وقال -جل وعلا-: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
-وقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} .
ونزهته الملائكة الكرام قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
وقوله -جل وعلا- في هذه الآية: {سَبِّحِ اسْمَ}الاسم هذا أدخل بين الفعل وكلمة ربك زيادة في تعظيم الله جل وعلا، وطلباً لتعظيمه، ويدل على هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت هذه الآية قال: ((اجعلوها في سجودكم)) وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في سجوده: ((سبحان ربي الأعلى)) ولم يقل: (سبحان اسم ربي الأعلى) بل قال: ((سبحان ربي الأعلى)) فدل ذلك: على أن المراد بقوله -جل وعلا-: ((سبح اسم ربك الأعلى)) الذي هو: تسبيح الله جل وعلا.
وقوله -جل وعلا-: {الأَعْلَى} هذا اسم من أسماء الله جل وعلا، يتضمن إثبات العلو له جل وعلا، وعلو الله -جل وعلا- على خلقه: علو بذاته جل وعلا، فهو -جل وعلا- في العلو:
- كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
-وقال -جل وعلا-: {أَأَمِنتُم مَن فِي السَّمَاء} يعني: من في العلو؛ لأن السماء يطلق على العلو.
-وقال -جل وعلا- مبيناً فوقيته على خلقه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} .
-وقال -جل وعلا-: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} .
وأخبر -جل وعلا- أن الأشياء تصعد إليه وتعرج؛ وذلك دليل على علوه:
-كما قال الله -جل وعلا-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} يعني: أن الله يرفع العمل الصالح.
-وقال جل وعلا: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} .
وأخبر -جل وعلا- أنه ينزل الأشياء على خلقه، والنزول لا يكون إلا من علو كما قال الله -جل وعلا-:
- {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}.
-{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
فهذا كله يدل على أن الله -جل وعلا- عليٌّ بذاته، وهو داخل في قوله -جل وعلا- في هذه الآية: {الأَعْلَى} .
كما أنه -جل وعلا- له علو القهر والقوة، فهو -جل وعلا- قاهر لعباده {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
كما أنه -جل وعلا- له علو الصفات، فله -جل وعلا- الكمال المطلق في صفاته وأفعاله -جل وعلا-: - كما قال الله -جل وعلا-: {وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
-قال -جل وعلا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
-وقال -جل وعلا-: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)}.
-وقال جل وعلا: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً}.
فهو -جل وعلا- له علو الصفات، فلا عيب ولا نقص يلحقه جل وعلا، بل هو جل وعلا الأعلى في صفاته، وفي أفعاله سبحانه وتعالى.
ثم قال -جل وعلا-: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي: خلق الأشياء فسواها، وأحسن -جل وعلا- خلقتها، وقد تقدم لنا ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي: أن الله -جل وعلا- قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هدى العباد بعد ذلك إلى أن يأتوا بما قدره -جل وعلا- عليهم، فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل بعمل أهل السعادة، ويُهدى إلي طريقهم، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل عمل أهل الشقاء، ويُهدى إلى طريقهم، والعباد في معايشهم وأرزاقهم، والحيوانات والنباتات والجمادات؛ كلها - بل كل خلق الله جل وعلا - قدّر الله جل وعلا عليهم ما هم عاملون، ثم يوقعونه كما أراد الله -جل وعلا- وقضى به في سابق علمه.
ولهذا قال موسى لفرعون: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فالطيور تهتدي في الصباح تغدوا خماصاً وتروح بطاناً، والدواب ترحم أولادها، والطفل الصغير إذا خرج من بطن أمه التقم ثديها، وهذه الدواب ترعى وتأكل، ثم تنوم وتمشي، وتذهب وتروح، وهذه كل مخلوفات الله -جل وعلا- في سيرها؛ قد هداها الله -جل وعلا- لما سبق به علمه سبحانه وتعالى.
ثم قال جل وعلا: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} يعني: أن الله -جل وعلا- هو الذي أخرج المرعى، وهي النباتات التي تنبت من نزول المطر من السماء، وترعاها الدواب فالله -جل وعلا- هو الذي أخرج ذلك.
{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} الغثاء: هو ما يكون على ظهر السيل مما يحمله الماء، والأحوى: هو الأسود الذي يميل إلى خضرة.
ومعنى ذلك: أن الله -جل وعلا- بعد أن يخضر هذا الزرع يعود يابساً هشيماً قد اسود.
وهذا قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- ذكره مثلاً للحياة الدنيا، وهذا المثل ضربه الله -جل وعلا- في آيات كثيرة:
- كما قال الله -جل وعلا-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} .
-قال جل وعلا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ}.
-وقال جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} .
ثم قال -جل وعلا-: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} أخبر الله -جل وعلا- في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيقرؤه القرآن، ويجعله محفوظاً عنده إلا ما شاء الله -جل وعلا- أن ينسيه نبيه -صلى الله عليه وسلم- فإنه ينساه، وهذا لا يعارض قول الله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
كما لا يعارض قوله جل وعلا{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وإنما لم يعارض هذا؛ لأن ما ينساه النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون الله جل وعلا قد أراد نسخه، والله جل وعلا له الحكمة في ذلك فينسيه نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليكون أمراً منسوخاً، ويبدله الله -جل وعلا- بمثله أو خير منه، كما قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}.
وإما أن يُنسي الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من هذا القرآن فَيُذَكَّر به، وييسر الله -جل وعلا- له أسباب ذلك، كما ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلاً يقرأ آية فقال: ((رحم الله أخي كنت قد أنسيتها)) وهذا الحديث حديث في الصحيحين، وفي معناه كلام للعلماء ولكن إذا أخذ بظاهره - كما هو ظاهر الآية - فإن الله جل وعلا يُيَسِّر لنبيه صلى الله عليه وسلم سبباً إذا أراد الله -جل وعلا- بقاء هذا القرآن وحفظه من النسخ.
وأما إذا أراد الله -جل وعلا- أن ينسخه فإنه سبحانه وتعالى ينسيه نبيه صلى الله عليه وسلم، وله -جل وعلا- في ذلك الحكمة البالغة، فلا يعارض ذلك قوله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أو هذا الذكر الذي أراده الله -جل وعلا- ذكراً يبقى إلى يوم الدين، حَفظه الله -جل وعلا- فلم يُنسخ ولم يُنس.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} أي: أن الله -جل وعلا- يعلم ما يخفيه العباد، وما يظهرونه، وما يخرج على وجه الأرض، وما يكون في باطنها، وما هو في السماء، وما هو في هذا الكون كله الخافي منه والظاهر، فإن الله -جل وعلا- يعلمه.
ثم قال -جل وعلا-: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي: أن الله -جل وعلا- ييسر نبيه صلى الله عليه وسلم لليسرى، وهي هذه الملة الحنيفية السمحة، التي ليس فيها إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولاجفاء، بل هي شريعة سمحة مناسبة للعباد في معايشهم ومعادِهم، ليس فيها آصار ولا أغلال، بل هي طريقة سهلة ميسرة، قد رفع الله -جل وعلا- فيها الحرج والآصار والأغلال، وهي ميسورة للعباد في فعلها، كما أن هذه الطريقة أو هذه التي يسَّر الله -جل وعلا- له نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- تُيَسِّرالعباد إلى الدخول في جنات النعيم، وتُسَهِّل عليهم طريق ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: {فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11)} أمر الله -جل وعلا- نبيه أن يذكر العباد.
ثم قال: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} قال بعض العلماء: إن هذه الآية فيها محذوف وتقديره: (فذكر إن نفعت الذكرى أولم تنفع) لأن الله -جل وعلا- أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم ليبلغ العالمين جميعاً، قالوا: وذلك جائز في لغة العرب؛ كما قال الله -جل وعلا-: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} وتقدير الآية: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر والبرد) لأن القمصان وهي: السرابيل يمتنع بها العباد من الحر والبرد.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال: إن هذه الآية تشبه:
- قول الله جل وعلا: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}.
-{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}.
-وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28)} .
وذلك أن الله -جل علا- جعل في هذه الذكرى - ذكرى النبي صلى الله عليه وسلم -نفعاً عاماً ونفعاً خاصاً:
- فالنفع العام: هو ما يحصل بالذكرى من إقامة الحجة على الكافر، وتبصير المؤمنين، وإظهار هذا الدين، وتبليغ رسالة الله -جل وعلا- التي تبرأ بها ذمة المرْسَل الذي أرسله الله جل وعلا، ففي هذا نفع عام.
-وهناك نفع خاص: وهو الذي يتذكر به العبد وينتفع به في خاصّة نفسه فيهديه الله -جل وعلا- لدينه.
فالله -جل وعلا- في هذه الآية أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالتذكير العام، وتذكير المؤمنين والكفار؛ فقال جل وعلا: {فَذَكِّرْ} وأخبر -جل وعلا- أن التذكرة الخاصة هي التي يجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُذَكِّرَها من كان يَتَذَكَّر، وأما من لم يكن يتذكر فإنه لا يجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يذكره هذه الذكرى الخاصة، كما قال الله -جل وعلا-: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فالذي يتولى عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الذين لم يستجيبوا للذكرى التي تتضمن النفع الخاص.
وأما عموم الخلق فيذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على هذا قوله -جل وعلا- بعد هذه الآية: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} أي: يتجنب التذكرة الخاصة الأشقى من كتب الله -جل وعلا- عليه الشقاء، وأما التذكرة العامة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم ولا يمكن لهم أن يتجنبوها؛ لأنهم كانوا يسمعونها كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في مواضع كثيرة من كتابه.
ثم قال -جل وعلا-: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} يعني: أن من سبق في علم الله -جل وعلا- أنه من أهل الشقاء فإنه يتجنب هذه الذكرى فلا يتذكر، وإذا لم يتذكر العبد فإنه يكون من أهل النار، ويصلى النار الكبرى، وهذه النار الكبرى المراد بها نار الآخرة؛ لأنها نار عظيمة فظيعة شديدة.
وأما نار الدنيا فهي بالنسبة إلى نار الآخرة ضعيفة، ولهذا ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نار الدنيا: ((ما ناركم هذه إلا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة)) فنار الآخرة تفضل على نار الدنيا بتسع وستين جزءاً، ولهذا كانت تلك النار هي النار الكبرى.
وهذه النار قال الله -جل وعلا- فيها: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} الذي يصلى النار الكبرى هو الكافر، وأما المؤمن ولو كان مذنباً فإنه لايصلى النار الكبرى، إذا كان المؤمن مؤمناً واقترف شيئاً من السيئات فإن النار تصيبه ولا تصلاه، وأما الكافر فإنه هو الذي يصلى النار الكبرى، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أخبر أن الذي يصلى هذه النار الكبرى إنما هم أهلها الذين لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما المؤمن فإنه تصيبه النار بذنوبه ثم يخرج بالشفاعة ويُلقى في نهر الحياة، فينبت بعد ذلك كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل، ثم بعد ذلك يدخل الجنة بفضل الله -جل وعلا- ورحمته، فالنار قد تصيب المؤمن ولكنه لا يصلاها، ولهذا لا يكون الصلي إلا في شأن الكافرين.
قال الله -جل وعلا-: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أي: أن الكافر لا يموت في النار بل هو حي، لكن هذه الحياة حياة لاراحة فيها ولاتنفعه؛ ولهذا قال تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} يعني: لا يحيى حياةً يرتاح فيها وينتفع بها، وإنما هي حياة يتمنى أن يموت كما قال -جل وعلا- عن أهل النار: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}.
-وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}.
-وقال جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى}.
-وقال -جل وعلا- عن أهل النار: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}.
فالكفار لا يموتون في هذه النار؛ بل هم فيها أحياء حياةً كأنها لا حياة بالنسبة لهم؛ لأنهم يذوقون فيها العذاب غدواً وعشياً.
وأما أهل التوحيد الذين ماتوا وعليهم شيء من السيئات فهم إذا أصابتهم هذه النار أماتهم الله جل وعلا، ثم بعد ذلك أحياهم، وأدخلهم الجنة بفضله ورحمته بعد شفاعة الشافعين.
ثم قال جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} قوله جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} أي: قد أفلح وفاز ونجى من زكى نفسه وطهرها من السيئات والمعاصي، ونمّاها وقواها بالأعمال الصالحة؛ والإيمان بالله -جل وعلا- فهذا يتزكى، وهذا التزكي له لا يكون إلا بفعل أسباب الزكاة.
وأما نفس التزكي فإن الله -جل وعلا- إذا أراد بعبده خيراً زكاه، ولهذا كانت التزكية لله -جل وعلا- (ولكن الله يزكي من يشاء) وأما العبد فعليه أن يبذل أسباب الزكاة، فإذا أراد الله -جل وعلا- به خيراً زكاه، ومن بذل أسبابها هداه الله -جل وعلا- ووفقه وزكاه.
فإضافتها هنا أو إسناد التزكي له؛ لأنه يفعل أسباب التزكي، من الإقبال على طاعة الله، والتفكر في آيات الله ومخلوقاته، والإذعان لأوامر الله، والانتهاء عن نواهيه، وحمل النفس على ذلك، فإذا فعل ذلك كان طالباً للزكاة، وصح أن يطلق عليه متزكي، فإذا أراد الله -جل وعلا- به خيراً؛ زكّى الله -جل وعلا- قلبه وجوارحه وعمله، فكان من المتزكين؛ ومن المزكِّين عند الله جل وعلا.
وهذا الفلاح في التزكي بينه الله -جل وعلا- في قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} فهذا هو الفلاح الذي ذكره الله -جل وعلا- في هذه الآية.
والله -جل وعلا- في آيات أخرى بين لعباده طريق هذه التزكية؛ وذلك باتباع النبي صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقال جل وعلا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.
فلا طريق للزكاة إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الطريق الأوحد ليس هناك طريق آخر غير هذا الطريق، من ابتغى طريقاً للزكاة غير طريق نبينا -صلى الله عليه وسلم- فهو ضال مضل، ومن ظن أو زعم أن هناك طريقاً يوصل به إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- غير الطريق الذي جاء به فهو كافر بالله العظيم، وذلك بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فمن قال: إن النصرانية طريق إلى الجنة، أو أن اليهودية طريق إلى الجنة، أو أن وحدة الأديان طريق إلى الجنة بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه اتخذ طريقاً غير الطريق التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، والله -جل وعلا- لم يجعل إلا طريقاً واحداً إلى دينه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فلا زكاء للعبد إلا باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله -جل وعلا- بعثه بأسباب الزكاة، وبعثه بما يزكي به العباد.
وقوله جل وعلا: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} يعني: أنه ذكر الله -جل وعلا- فخاف من ربه وآمن به ووجل لذكره -جل وعلا- كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وقوله جل وعلا: {فَصَلَّى} يعني: أنه صلى لله جل وعلا، وأول ما يدخل في ذلك هذه الصلوات الخمس التي فرضها الله -جل وعلا- على خلقه؛ لأن بعض العلماء يقول: إن قوله جل وعلا: {فَصَلَّى} يشمل عموم الطاعات والعبادات، لكن أولها دخولاً هذه الصلوات الخمس التي أوجبها الله -جل وعلا- على عباده، فمن لم يؤدها فإنه لا يتزكى.
ثم قال جل وعلا-: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} بين -جل وعلا- في هذه الآية أن الكفار يؤثرون الحياة الدنيا؛ لأنهم ينكرون البعث والنشور، يؤثرون هذه الحياة الدنيا، ويركنون إليها ويطمئنون بها، ويرضون بها عِوضاً عن الآخرة، وقد بين الله -جل وعلا- جزاءهم على ذلك في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} .
وأما المؤمنون فإنهم لا يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وإن تمتعوا بالطيبات التي أباحها الله لهم.
ولهذا قال -جل وعلا- في قصة السحرة الذين آمنوا من قوم فرعون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}.
والمؤمن يأخذ من الدنيا نصيبه منها، لكنه يسعى إلى آخرته، ولا يؤثر حياته الدنيا على الآخرة؛ لأنه إذا آثر الدنيا على الآخرة عذبه الله -جل وعلا- وكان من أهل النار؛ ولكن كما قال الله -جل وعلا-: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقال -جل وعلا- في قصة قارون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ}.
ثم قال جل وعلا: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: أن الآخرة خير من الدنيا، ولا شك في ذلك، وأبقى: بمعنى أنها أدوم لأن الدنيا تنقطع، وأما الآخرة فلا ينقطع نعيمها أبداً، وهذا كما قال الله -جل وعلا- مبيناً أن الآخرة خير من الدنيا:
- {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
-وقال جل وعلا: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
-وقال جل وعلا: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.
فدلت هذه الآيات على أن الدنيا - وإن كان فيها متاع - إلا أن ما في الآخرة خير مما في هذه الدنيا، كما أنه أدوم مما في هذه الدنيا؛ لأن أهل الجنة خالدين فيها أبداً؛ ينعمون ويأتيهم من رزق الله -جل وعلا- ومن النعيم المقيم في هذه الجنة خالدين فيها أبداً، وأما الدنيا فإن تمتع بها العبد فإن مصيرها إلى الزوال، فالآخرة خير منها، كما أنها أبقى وأدوم.
ثم قال جل وعلا: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسىَ (19)} الصحف هذه صحف أنزلها الله -جل وعلا- على موسى وعلى إبراهيم، كل واحد منهم أنزل الله -جل وعلا- عليه عشراً من الصحف، وهذه الصحف قد ذكر الله -جل وعلا- فيها معنى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} إلى آخر السورة، ذكر الله -جل وعلا- ما ذكره في هذه الصحف، وذلك دليل على أن ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأشياء المهمة التي ينبغي للمسلم أن يعتني بها؛ لأن فيها تزكية للنفس في باب توحيد الله -جل وعلا- وفي باب الأحكام والشرائع، وفي باب الأخلاق، وفي جميع ما يحتاجه العباد، في هذه الآيات تزكية لهم، كما أن فيها بياناً وإظهاراً لحق الله -جل وعلا- على خلقه؛ ووجوب اتباع ما جاءت به الأنبياء والمرسلون، لأن الأنبياء والمرسلون لا يأتون من عند الله -جل وعلا- إلا بما فيه الخير والصلاح للعباد في معاشهم ومعادهم.
ولهذا شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كلها متفقة على ما يصلح الإنسان في معاشه ومعاده، وإن اختلفت هذه الشرائع فيما بينها إلا أن الأصل وهو التوحيد متفقة فيه، كما أنها متفقة على الأصل الكلي، وأنها لا تأتي للعباد إلا بما يصلحهم، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم، والله أعلم.

هيئة الإشراف

#5

10 Feb 2009

تفسير سورة الأعلى

المواضع التي يسن فيها قراءة سورة الأعلى

تفسير قول الله تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى )قوله تعالى: (الأعلى) فيه إثبات علو الذات وعلو الصفات ، مع ذكر الأدلة على علوه سبحانه وتعالى
ما يفيده مجيء وصفِ (الأعلى) على صيغة اسم التفضيل المطلَقِ
هل المراد تسبيحُ الاسم أو تسبيحُ الربِّ؟
تفسير قول الله تعالى : ( والذي قدر فهدى)
تفسير قول الله تعالى : ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاء أحوى )
تفسير قول الله تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى )
هذه الآية لا تنافي قوله تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وما في معناها من الآيات
تفسير قول الله تعالى : ( ونيسرك لليسرى)
تفسير قول الله تعالى : ( فذكر إن نفعت الذكرى )
الذكرى لها نفع عام ونفع خاص
تفسير قول الله تعالى : ( سيذكر من يخشى )
تفسير قول الله تعالى : ( ويتجنبها الأشقى ، الذي يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيا )
تفسير قول الله تعالى : ( قد أفلح من تزكى )
أقوال السلف في معنى التَّزَكي
تفسير قول الله تعالى : ( وذكر اسم ربه فصلى )
تفسير قول الله تعالى : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى )
تفسير قول الله تعالى : ( إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى )
الراجح في مرجع اسم الإشارة (هذا)

هيئة الإشراف

#6

2 Oct 2009

الأسئلة



س1: اذكر بعض المواضع التي يسن فيها قراءة سورة الأعلى.
س2: قال الله تعالى{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فسِّر هذه الآية باختصار، ثم بيِّن هل المراد تسبيح الاسم، أو تسبيح الرب جل وعلا؟
س3: ينقسم الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام، اذكرها مع التمثيل.
س4: بين معاني المفردات التالية: سَوَّى، قَدَّرَ، غُثاءً، أحْوَى، يَصلى، تَزَكَّى، تؤثِرون.
س5: قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} فسِّر هذه الآيات باختصار مبيناً عموم دلالتها.
س6: قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} فسِّر هذه الآيات باختصار مبيناً، ما فيها من بشارات عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمَّته.
س7: قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَى} فسر هذه الآية باختصار مبيناً عموم الأمر بالتذكير للأمة.
س8: ينقسم الناس حيال الرسالة والدعوة إلى قسمين، ذكرهما الله عز وجل في هذه السورة، تحدث عن أوصاف الفريقين،ومآلهما في ضوء دراستك لتفسير هذه السورة الكريمة.
س9: اذكر أقوال المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} مع بيان القول الراجح.
س10: بين المشار إليه في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} .
س11: تحدث عن خطر إيثار الحياة الدنيا على الآخرة على سلوك العبد في ضوء دراستك لهذه السورة العظيمة.
س12: في هذه السورة الكريمة فوائد سلوكية عظيمة في الحثِّ على الاستقامة على دين الله تعالى، واجتناب معاصيه، اذكر ما تيسر لك من هذه الفوائد، وبيِّن دلائلها من السورة.

هيئة الإشراف

#7

4 Oct 2014

تفسير ابن كثير


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة سبح وهي مكّيّةٌ.
والدّليل على ذلك ما رواه البخاريّ: حدّثنا عبدان، حدّثنا أبي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازبٍ قال: أوّل من قدم علينا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مصعب بن عميرٍ وابن أمّ مكتومٍ، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثمّ جاء عمّارٌ وبلالٌ وسعدٌ، ثمّ جاء عمر بن الخطّاب في عشرين، ثمّ جاء النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيءٍ فرحهم به، حتّى رأيت الولائد والصّبيان يقولون: هذا رسول اللّه قد جاء، فما جاء حتّى قرأت: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. في سورٍ مثلها.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا إسرائيل، عن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن عليٍّ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحبّ هذه السورة: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. تفرّد به أحمد، وثبت في الصحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لمعاذٍ: ((هلاّ صلّيت بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، {والشّمس وضحاها}، {واللّيل إذا يغشى})).
وقال الإمام أحمد: حدّثنا سفيان، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالمٍ، عن أبيه، عن النّعمان بن بشيرٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ في العيدين بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية}. وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعاً.
هكذا وقع في مسند الإمام أحمد إسناد هذا الحديث، وقد رواه مسلمٌ في صحيحه وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ من حديث أبي عوانة، وجريرٌ وشعبة ثلاثتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالمٍ، عن النّعمان بن بشيرٍ به، قال التّرمذيّ: وكذا رواه الثّوريّ ومسعرٌ عن إبراهيم ..
قال: ورواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم، عن أبيه، عن حبيب بن سالمٍ، عن أبيه، عن النّعمان، ولا يعرف لحبيبٍ روايةٌ عن أبيه.
وقد رواه ابن ماجه عن محمد بن الصّباح، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالمٍ، عن النّعمان به، كما رواه جماعةٌ، واللّه أعلم.
ولفظ مسلمٍ وأهل السّنن: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية}. وربّما اجتمعا في يومٍ واحدٍ فقرأهما. وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبيّ بن كعبٍ وعبد اللّه بن عبّاسٍ وعبد الرّحمن بن أبزى وعائشة أمّ المؤمنين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ في الوتر بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{قل يا أيّها الكافرون}، و{قل هو اللّه أحدٌ}. زادت عائشة والمعوّذتين.
وهكذا روي هذا الحديث من طريق جابرٍ وأبي أمامة صديّ بن عجلان وعبد اللّه بن مسعودٍ وعمران بن حصينٍ وعليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنهم، ولولا خشية الإطالة لأوردنا ما تيسّر لنا من أسانيد ذلك ومتونه، ولكنّ في الإرشاد بهذا الاختصار كفايةً، واللّه أعلم.
قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عبد الرّحمن، حدّثنا موسى - يعني ابن أيّوب الغافقيّ - حدّثنا عمّي إياس بن عامرٍ، سمعت عقبة بن عامرٍ الجهنيّ لمّا نزلت: {فسبّح باسم ربّك العظيم}. قال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((اجعلوها في ركوعكم)). فلمّا نزلت: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. قال: ((اجعلوها في سجودكم)). ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن المبارك عن موسى بن أيّوب به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلمٍ البطين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا قرأ: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. قال: ((سبحان ربّي الأعلى)). وهكذا رواه أبو داود، عن زهير بن حربٍ، عن وكيعٍ به وقال: خولف فيه وكيعٌ، رواه أبو وكيعٍ وشعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيدٍ، عن ابن عبّاسٍ موقوفاً.
وقال الثّوريّ عن السّدّيّ، عن عبد خيرٍ قال: سمعت عليًّا قرأ: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. فقال: سبحان ربّي الأعلى.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، أنّ ابن عبّاسٍ كان إذا قرأ: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. يقول: سبحان ربّي الأعلى. وإذا قرأ: {لا أقسم بيوم القيامة}. فأتى على آخرها: {أليس ذلك بقادرٍ على أن يحيي الموتى}. يقول: سبحانك، وبلى. وقال قتادة: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا قرأها قال: ((سبحان ربّي الأعلى)).
وقوله: {الّذي خلق فسوّى}. أي: خلق الخليقة وسوّى كلّ مخلوقٍ في أحسن الهيئات.
وقوله: {والّذي قدّر فهدى}. قال مجاهدٌ: هدى الإنسان للشّقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها.
وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن موسى أنّه قال لفرعون: {ربّنا الّذي أعطى كلّ شيءٍ خلقه ثمّ هدى}. أي: قدر قدراً، وهدى الخلائق إليه، كما سبق في صحيح مسلمٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((إنّ اللّه قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السّماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ، وكان عرشه على الماء)) .
وقوله: {والّذي أخرج المرعى}. أي: من جميع صنوف النباتات والزّروع.
{فجعله غثاءً أحوى}. قال ابن عبّاسٍ: هشيماً متغيّراً. وعن مجاهدٍ وقتادة وابن زيدٍ نحوه.
قال ابن جريرٍ:
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أنّ ذلك من المؤخّر الذي معناه التقديم، وأنّ معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر إلى السّواد، فجعله غثاءً بعد ذلك. ثم قال ابن جريرٍ: وهذا وإن كان محتملاً إلاّ أنّه غير صوابٍ؛ لمخالفته أقوال أهل التأويل.
وقوله: {سنقرئك}. أي: يا محمد، {فلا تنسى}. وهذا إخبارٌ من اللّه عزّ وجلّ، ووعدٌ منه له بأنّه سيقرئه قراءةً لا ينساها.
{إلاّ ما شاء اللّه}. وهذا اختيار ابن جريرٍ، وقال قتادة: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا ينسى شيئاً إلاّ ما شاء اللّه.
وقيل: المراد بقوله: {فلا تنسى} طلبٌ، وجعلوا معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النّسخ، أي: لا تنسى ما نقرئك إلاّ ما يشاء اللّه رفعه، فلا عليك أن تتركه.
وقوله تعالى: {إنّه يعلم الجهر وما يخفى}. أي: يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيءٌ.
وقوله: {ونيسّرك لليسرى} أي: نسهّل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرّع لك شرعاً سهلاً سمحاً مستقيماً عدلاً لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر.
وقوله: {فذكّر إن نفعت الذّكرى}. أي: ذكّر حيث تنفع التذكرة، ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي اللّه عنه: ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاّ كان فتنةً لبعضهم، وقال: حدّث الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب اللّه ورسوله؟! .
وقوله: {سيذكّر من يخشى}. أي: سيتّعظ بما تبلّغه يا محمد، من قلبه يخشى اللّه ويعلم أنّه ملاقيه.
{ويتجنّبها الأشقى الّذي يصلى النّار الكبرى ثمّ لا يموت فيها ولا يحيا}. أي: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياةً تنفعه، بل هي مضرّةٌ عليه؛ لأنّ بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب وأنواع النّكال.
قال الإمام أحمد: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سليمان - يعني التّيميّ - عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون، وأمّا أناسٌ يريد اللّه بهم الرّحمة فيميتهم في النّار، فيدخل فيهم الشّفعاء، فيأخذ الرّجل الضّبارة فينبتهم- أو قال: ينبتون - في نهر الحياء - أو قال: الحياة. أو قال: الحيوان. أو قال: نهر الجنّة- فينبتون نبات الحبّة في حميل السّيل)) قال: وقال النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أما ترون الشّجرة تكون خضراء ثمّ تكون صفراء)). أو قال: ((تكون صفراء ثمّ تكون خضراء)). قال: فقال بعضهم: كأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان بالبادية.
وقال أحمد أيضاً: حدّثنا إسماعيل، حدّثنا سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ الخدريّ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس- أو كما قال- تصيبهم النّار بذنوبهم - أو قال: بخطاياهم - فيميتهم إماتةً، حتّى إذا صاروا فحماً أذن في الشّفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فنبتوا على أنهار الجنّة؛ فيقال: يا أهل الجنّة، أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبّة تكون في حميل السّيل)). قال: فقال رجلٌ من القوم حينئذٍ: كأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان بالبادية.
ورواه مسلمٌ من حديث بشر بن المفضّل وشعبة، كلاهما عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد به مثله. ورواه أحمد أيضاً عن يزيد، عن سعيد بن إياسٍ الجريريّ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ، عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((إنّ أهل النّار الّذين لا يريد اللّه إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وإنّ أهل النّار الّذين يريد اللّه إخراجهم يميتهم فيها إماتةً حتّى يصيروا فحماً ثمّ يخرجون ضبائر، فيلقون على أنهار الجنّة، فيرشّ عليهم من أنهار الجنّة، فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السّيل)).
وقد قال اللّه إخباراً عن أهل النّار: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربّك قال إنّكم ماكثون}. وقال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفّف عنهم من عذابها}. إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
يقول تعالى: {قد أفلح من تزكّى}. أي: طهّر نفسه من الأخلاق الرّذيلة وتابع ما أنزل اللّه على الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه.
{وذكر اسم ربّه فصلّى}. أي: أقام الصّلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان اللّه وطاعةً لأمر اللّه وامتثالاً لشرع اللّه.
وقد قال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا عبّاد بن أحمد العرزميّ، حدّثنا عمّي محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابطٍ، عن جابر بن عبد اللّه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {قد أفلح من تزكّى}. قال: ((من شهد أن لا إله إلاّ اللّه، وخلع الأنداد وشهد أنّي رسول اللّه)) {وذكر اسم ربّه فصلّى}. قال: ((هي الصّلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها)).
ثم قال: لا يروى عن جابرٍ إلاّ من هذا الوجه، وكذا قال ابن عبّاسٍ: إنّ المراد بذلك الصلوات الخمس. واختاره ابن جريرٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني عمرو بن عبد الحميد الآمليّ، حدّثنا مروان بن معاوية، عن أبي خلدة قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غداً إلى العيد فمرّ بي. قال: فمررت به؛ فقال: هل طعمت شيئاً؟ قلت: نعم. قال: أفضت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: قد وجّهتها. قال: إنّما أردتك لهذه. ثمّ قرأ: {قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى}. وقال: إنّ أهل المدينة لا يرون صدقةً أفضل منها ومن سقاية الماء.
قلت: وكذلك روّينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنّه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ويتلو هذه الآية: {قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى}.
وقال أبو الأحوص: إذا أتى أحدكم سائلٌ وهو يريد الصلاة فليقدّم بين يدي صلاته زكاةً؛ فإنّ اللّه تعالى يقول: {قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى}.
وقال قتادة في هذه الآية: {قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى}: زكّى ماله وأرضى خالقه.
ثم قال تعالى: (بل يؤثرون الحياة الدّنيا). أي: يقدّمونها على أمر الآخرة، ويبدّونها على ما فيه نفعهم وصلاحهم في معاشهم ومعادهم.
{والآخرة خيرٌ وأبقى}. أي: ثواب اللّه في الدار الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى؛ فإنّ الدنيا دنيّةٌ فانيةٌ، والآخرة شريفةٌ باقيةٌ، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى؟! ويهتمّ بما يزول عنه قريباً ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟!
قال الإمام أحمد: حدّثنا حسين بن محمدٍ، حدّثنا ذويدٌ، عن أبي إسحاق، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((الدّنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له)).
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا يحيى بن واضحٍ، حدّثنا أبو حمزة، عن عطاءٍ، عن عرفجة الثّقفيّ قال: استقرأت ابن مسعودٍ: {سبّح اسم ربّك الأعلى}، فلمّا بلغ: {بل تؤثرون الحياة الدّنيا} ترك القراءة وأقبل على أصحابه، فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة. فسكت القوم؛ فقال: آثرنا الدنيا؛ لأنّا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنّا الآخرة فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل.
وهذا منه على وجه التواضع والهضم، أو هو إخبارٌ عن الجنس من حيث هو، واللّه أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا سليمان بن داود الهاشميّ، حدّثنا إسماعيل بن جعفرٍ، أخبرني عمرو بن أبي عمرٍو، عن المطّلب بن عبد اللّه، عن أبي موسى الأشعريّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)). تفرّد به أحمد، وقد رواه أيضاً عن أبي سلمة الخزاعيّ، عن الدّراورديّ، عن عمرو بن أبي عمرٍو به مثله سواءً.
وقوله: {إنّ هذا لفي الصّحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}.
قال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا نصر بن عليٍّ، حدّثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت {إنّ هذا لفي الصّحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}. قال النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((كان كلّ هذا - أو: كان هذا - في صحف إبراهيم وموسى)). ثم قال: لا نعلم أسند الثّقات عن عطاء بن السائب، عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ غير هذا، وحديثاً آخر أورده قبل هذا.
وقال النّسائيّ: أخبرنا زكريّا بن يحيى، أخبرنا نصر بن عليٍّ، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن عطاء بن السّائب، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. قال: كلّها في صحف إبراهيم وموسى. فلمّا نزلت: {وإبراهيم الّذي وفّى}. قال: وفّى {ألاّ تزر وازرةٌ وزر أخرى}. يعني: أنّ هذه الآية كقوله تعالى في سورة النّجم: {أم لم ينبّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الّذي وفّى ألاّ تزر وازرةٌ وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيه سوف يرى ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى وأنّ إلّى ربّك المنتهى} .. الآيات إلى آخرهنّ، وهكذا قال عكرمة فيما رواه ابن جريرٍ عن ابن حميدٍ، عن مهران، عن سفيان الثّوريّ، عن أبيه، عن عكرمة في قوله تعالى: {إنّ هذا لفي الصّحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}. يقول: الآيات التي في: {سبّح اسم ربّك الأعلى}.
وقال أبو العالية: قصّة هذه السورة في الصّحف الأولى.
واختار ابن جريرٍ أنّ المراد بقوله: {إنّ هذا}. إشارةٌ إلى قوله: {قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا والآخرة خيرٌ وأبقى}. ثم قال تعالى: {إنّ هذا}. أي: مضمون هذا الكلام {لفي الصّحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}. وهذا الذي اختاره حسنٌ قويٌّ، وقد روي عن قتادة وابن زيدٍ نحوه. واللّه أعلم.
آخر تفسير سورة (سبّح) وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/377-383]

هيئة الإشراف

#8

1 Aug 2022

سُورَةُ الأَعْلَى

1- {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}؛ أَيْ: نَزِّهْهُ عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ بِقَوْلِكَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى. وَلَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ)). وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نَزِّهْ تَسْمِيَةَ رَبِّكَ,وَذِكْرُكَ إِيَّاهُ أنْ ([1]) تَذْكُرَهُ إِلاَّ وَأَنْتَ خَاشِعٌ لَهُ مُعَظِّمٌ، وَلِذِكْرِهِ مُحْتَرِمٌ.
2- {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}: خَلَقَ الإِنْسَانَ مُسْتَوِياً، فَعَدَلَ قَامَتَهُ وَسَوَّى فَهْمَهُ وَهَيَّأَهُ للتَّكْلِيفِ.
3- {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}؛ الْمَعْنَى: قَدَّرَ أَجْنَاسَ الأَشْيَاءِ، وَأَنْوَاعَهَا وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا وَأَقْوَالَهَا وَآجَالَهَا، فَهَدَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى مَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي لَهُ، وَيَسَّرَهُ لِمَا خَلَقَهُ لَهُ، وَأَلْهَمَهُ إِلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَقَدَّرَ أَرْزَاقَ الْخَلْقِ وَأَقْوَاتَهُمْ، وَهَدَاهُمْ لِمَعَايِشِهِمْ إِنْ كَانُوا إِنْساً، وَلِمَرَاعِيهِمْ إِنْ كَانُوا وَحْشاً، وَخَلَقَ المنافعَ فِي الأَشْيَاءِ، وَهَدَى الإِنْسَانَ لِوَجْهِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهَا.
4- {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}؛ أَيْ: أَنْبَتَ العُشْبَ وَمَا تَرْعَاهُ النَّعَمُ مِنَ النباتِ الأخْضَرِ.
5- {فَجَعَلَهُ غُثَاءً}؛ أَيْ: فَجَعَلَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَخْضَرَ, غُثَاءً؛أَيْ: هَشِيماً جَافًّا، {أَحْوَى}؛ أَيْ: أَسْوَدَ بَعْدَ اخْضِرَارِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الكَلَأَ إِذَا يَبِسَ اسْوَدَّ.
6- {سَنُقْرِئُكَ}: سَنَجْعَلُكَ قَارِئاً بِأَنْ نُلْهِمَكَ الْقِرَاءَةَ، {فَلاَ تَنْسَى} مَا تَقْرَؤُهُ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بالوَحْيِ لَمْ يَفْرُغْ جِبْرِيلُ منْ آخِرِ الآيَةِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوَّلِهَا؛ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهَا؛ فَنَزَلَتْ: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى}, فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ وَعَصَمَهُ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ.
7- {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} أَنْ تَنْسَاهُ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى النَّسْخِ.أَيْ: إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهُ مِمَّا نَسَخَ تِلاوَتَهُ، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}؛ أَيْ: يَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ، وَمِنَ الجَهْرِ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الإِنْسَانُ أَوْ يَقُولُهُ عَلانِيَةً، وَمِمَّا يَخْفَى كُلُّ مَا يُسِرُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ مِمَّا لا يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى.
8- {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}؛ أَيْ: نُهَوِّنُ عَلَيْكَ عَمَلَ الْجَنَّةِ، وَنُهَوِّنُ عَلَيْكَ الْوَحْيَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَتَعْمَلَ بِهِ، أَوْ نُوَفِّقُكَ للطَّرِيقَةِ اليُسْرَى فِي الدِّينِ والدنيا، فِي كُلِّ أَمْرٍ منْ أمورِهِمَا الَّتِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ.
9- {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}؛ أَيْ: عِظْ يَا مُحَمَّدُ النَّاسَ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَأَرْشِدْهُمْ إِلَى سُبُلِ الْخَيْرِ، وَاهْدِهِمْ إِلَى شرائعِ الدِّينِ، وَذَلِكَ حَيْثُ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، فَأَمَّا مَنْ ذُكِّرَ وَبُيِّنَ لَهُ الْحَقُّ بِجَلاءٍ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَأَصَرَّ عَلَى العِصيانِ فَلا حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيرِهِ، وَهَذَا فِي تكريرِ الدعوةِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ الأَوَّلُ فَعَامٌّ.
10- {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}؛ أَيْ: سَيَتَّعِظُ بِوَعْظِكَ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ، فَيَزْدَادُ بِالتَّذْكِيرِ خَشْيَةً وَصَلاحاً.
11- {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى}؛ أَيْ: وَيَتَجَنَّبُ الذِّكْرَى وَيَبْعُدُ عَنْهَا الأَشْقَى من الْكُفَّارِ؛ لإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَانْهِمَاكِهِ فِي مَعَاصِيهِ.
12- {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}؛ أَي: العَظِيمَةَ الفَظِيعَةَ، وَالنارُ الصُّغْرَى: نَارُ الدُّنْيَا.
13- {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا}؛ فَيَسْتَرِيحَ مِمَّا هُوَ فِيهِ من الْعَذَابِ، {وَلاَ يَحْيَا} حَيَاةً يَنْتَفِعُ بِهَا.
14- {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}؛ أَيْ: مَنْ تَطَهَّرَ من الشِّرْكِ، فآمَنَ بِاللَّهِ وَوَحَّدَهُ وَعَمِلَ بِشَرَائِعِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالآيةِ: زَكَاةُ الأَمْوَالِ.
15- {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} قِيلَ: الْمَعْنَى: ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بِلِسَانِهِ، {فَصَلَّى}؛ أَيْ: فَأَقَامَ الصلواتِ الخَمْسَ,وَقِيلَ: تَذَكَّرَ مَوْقِفَهُ وَمعادَهُ فَعَبَدَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالتَّزَكِّي فِي الآيَةِ الأُولَى زَكَاةُ الفطرِ، وَالْمُرَادُ بالصلاةِ صَلاةُ العيدِ.
16- {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أَيْ: لا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ، بَلْ تُؤْثِرُونَ اللَّذَّاتِ الفَانِيَةَ فِي الدُّنْيَا.
17- {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}: أَفْضَلُ وَأَدْوَمُ من الدُّنْيَا، قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْثَرَ خَزَفٌ يَبْقَى عَلَى ذَهَبٍ يَفْنَى، فَكَيْفَ وَالآخِرَةُ منْ ذَهَبٍ يَبْقَى، وَالدُّنْيَا منْ خَزَفٍ يَفْنَى؟!
18- {إِنَّ هَذَا} وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ منْ فَلاحِ مَنْ تَزَكَّى وَمَا بَعْدَهُ، {لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}؛ أَيْ: ثَابِتٌ فِيهَا.
19- {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}:تَتَابَعَتْ كُتُبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى مِنَ الدُّنْيَا.

ــــــــــ
[1] لعل في الكلام سقطا وهو أداة النفي لا.