22 Oct 2008
سورةُ البُروج
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ
الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ
(4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا
مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (9) إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الْحَرِيقِ (10)}
تفسير سورة البروج
(1-10) {بسم الله الرحمن الرحيم وَالسَّمَاء ذَاتِ
الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ
هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ
جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)}
{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ} أي: المنازلِ
المشتملةِ على منازلِ الشمسِ والقمرِ، والكواكبِ المنتظمةِ في سيرهَا على
أكملِ ترتيبٍ، ونظامٍ دالٍّ على كمالِ قدرةِ اللهِ تعالَى ورحمتهِ، وسعةِ
علمهِ وحكمتهِ.
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} وهوَ يومُ
القيامةِ، الذي وعدَ اللهُ الخلقَ أنْ يجمعهمْ فيهِ، ويضمَّ فيهِ أولهمْ
وآخرَهمْ، وقاصيهمْ ودانيهمْ، الذي لا يمكنُ أنْ يتغير، ولا يُخْلِفُ اللهُ
الميعادَ.
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}وشملَ هذا كلَّ منِ اتصفَ بهذا الوصفِ أي: مُبصِر ومُبْصَر، وحاضِر ومحضورٍ، وراءٍ ومَرئي.
والمقسمُ عليهِ،ما تضمنهُ هذا القسمُ من آياتِ اللهِ الباهرةِ، وحكمهِ
الظاهرةِ، ورحمتهِ الواسعةِ، وقيلَ: إنَّ المقسمَ عليهِ قولهُ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} وهذا دعاءٌ عليهمْ بالهلاكِ. و(الأخدودِ) الحُفَرُ التي تُحْفَرُ في الأرضِ.
وكانَ أصحابُ الأخدودِ هؤلاءِ قوماً كافرينَ، ولديهمْ قومٌ مؤمنونَ،
فراودوهمْ للدخولِ في دينهمْ، فامتنعَ المؤمنونَ منْ ذلكَ، فشقَّ الكافرونَ
أخدوداً ، وقذفوا فيهَا النارَ، وقعدوا حولهَا، وفتنوا المؤمنينَ،
وعرضوهمْ عليهَا، فمنِ استجابَ لهمْ أطلقوهُ، ومنِ استمرَّ على الإيمانِ
قذفوهُ في النارِ، وهذا في غايةِ المحاربةِ للهِ ولحزبهِ المؤمنينَ، ولهذا
لعنَهمُ اللهُ وأهلكمْ وتوعدهمْ فقالَ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} ثمَّ فسرَ الأخدودَ بقولهِ: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}
وهذا من أعظمِ ما يكونُ منَ التجبُّرِ وقساوةِ القلبِ، لأنَّهمْ جمعوا
بينَ الكفرِ بآياتِ اللهِ ومعاندتِها، ومحاربةِ أهلهَا وتعذيبهمْ بهذا
العذابِ، الذي تنفطرُ منهُ القلوبُ، وحضورهمْ إياهمْ عندَ إلقائهمْ فيهَا،
والحالُ أنَّهمْ ما نقموا منَ المؤمنينَ إلا خصلةً يُمدحونَ عليهَا، وبها
سعادتهمْ، وهيَ أنَّهمْ كانوا يؤمنونَ باللهِ العزيزِ الحميدِ أي: الذي لهُ
العزةُ التي قهرَ بهَا كلَّ شيءٍ، وهو حميدٌ في أقوالهِ وأوصافهِ
وأفعالهِ.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}خلقاً وعبيداً، يتصرفُ فيهمْ تصرفَ المالكِ بملكهِ.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}علماً
وسمعاً وبصراً، أفلا خافَ هؤلاءِ المتمردونَ على اللهِ، أنْ يبطشَ بهمُ
العزيزُ المقتدرُ، أو مَا علمُوا أنَّهمْ جميعهمْ مماليكُ للهِ، ليسَ لأحدٍ
على أحدٍ سلطةٌ، منْ دونِ إذنِ المالكِ؟ أو خفيَ عليهمْ أنَّ اللهَ محيطٌ
بأعمالهمْ، مجازٍ لهمْ على فعالهمْ؟ كلاَّ إنَّ الكافرَ في غرورٍ، والظالمَ
في جهلٍ وعمى عنْ سواءِ السبيلِ.
ثمَّ وعدَهمْ وأوعدَهمْ، وعرضَ عليهمُ التوبةَ، فقالَ: {إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي: العذابُ الشديدُ المحرقُ.
قالَ الحسنُ رحمهُ اللهُ: (انظرُوا إلى هذا الكرمِ والجودِ، همْ قتلُوا أولياءَهُ وأهلَ طاعتهِ، وهوَ يدعُوهمْ إلى التوبةِ).
سُورَةُ الْبُرُوجِ
1- {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} البُرُوجُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقِيلَ: هِيَ المَنَازِلُ للكَوَاكِبِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجاً لاثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَباً.
2- {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}؛ أَي: المَوْعُودِ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
3- {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}
الْمُرَادُ بالشَّاهِدِ: مَنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ
الخلائقِ، وَالْمُرَادُ بالمَشْهُودِ: مَا يَشْهَدُ بِهِ الشَّاهِدُونَ
عَلَى الْمُجْرِمِينَ، مِن الجرائمِ الفظيعةِ الَّتِي فَعَلُوهَا بالشهودِ
أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا فِي
قِصَّةِ أَصْحَابِ الأُخْدُودِ الآتِي ذِكْرُهَا، وَاللَّهُ عَلَيْهِمْ
شَهِيدٌ أَيْضاً كَمَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ.وَقِيلَ: الشاهدُ: يَوْمُ
الْجُمُعَةِ، يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ فِيهِ، والمشهودُ:
يَوْمُ عَرَفَةَ، يَشْهَدُ النَّاسُ فِيهِ مَوْسِمَ الْحَجِّ،
وَتَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ.
4- {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}؛
أَيْ: لُعِنُوا. وَأَصْحَابُ الأُخْدُودِ هُمْ أَحَدُ مُلُوكِ الْكُفَّارِ
وَجُنْدُهُ، لَمَّا آمَنَ بَعْضُ رَعِيَّتِهِ شَقُّوا لَهُمُ الأُخْدُودَ،
وَأَضْرَمُوا فِيهِ النَّارَ، ثُمَّ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: مَنْ رَجَعَ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ أَلْقَيْنَاهُ
فِي النَّارِ، فَصَبَرُوا فَأَلْقَوْهُمْ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقُوا،
والْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ يَنْظُرُونَ. والقِصَّةُ مُطَوَّلَةٌ
فَانْظُرْهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (ج 4، ص 2299)
5- {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} الوَقُودُ: الحَطَبُ الَّذِي تُوقَدُ بِهِ.
6- {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}؛ أَيْ: لُعِنُوا حِينَ أَحْدَقُوا بِالنَّارِ قَاعِدِينَ عَلَى الكَرَاسِيِّ عِنْدَ الأُخدودِ.
7- {وَهُمْ}؛ أَي: الَّذِينَ خَدُّوا الأُخْدُودَ، وَهُم الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ، {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ}
مِنْ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ؛ لِيَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ،
يَشْهَدُونَ بِمَا فَعَلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ.
8- {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}؛
أَيْ: إِلاَّ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا بِاللَّهِ الغَالِبِ المَحْمُودِ فِي
كُلِّ حَالٍ، مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ ذَنْباً إِلاَّ إِيمَانَهُمْ.
9- {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُؤْمَنَ بِهِ وَيُوَحَّدَ. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
مِنْ فِعْلِهِمْ بالمؤمنِينَ، لا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ،
وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لأَصْحَابِ الأُخدودِ، وَوَعْدٌ خَيْرٌ لِمَنْ
عَذَّبُوهُ عَلَى دِينِهِ منْ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ.
10- {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}؛
أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِالنَّارِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُمْ خِيَاراً فِي
ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ، فَمَحَنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ
لِيَرْجِعُوا عَنْهُ، {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} مِنْ قَبِيحِ صُنْعِهِمْ وَيَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَفِتْنَتِهِمْ، {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} فِي الآخِرَةِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}؛
أَيْ: ولهم عَذَابٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى عَذَابِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ
عَذَابُ الْحَرِيقِ بِسَبَبِ الحَرْقِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ
لِلْمُؤْمِنِينَ.
المتن :
سورةُ البروج
1-قولُه تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ} يقسمُ ربُّنا بالسماءِ صاحبةِ النجومِ ومنازِلها(1).
2-قولُه تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} ويقسمُ ربُّنا باليومِ الذي وعدَ به عبادَهُ للفصلِ بينهم، وهو يوم القيامة.
3-قولُه تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}
ويقسمُ ربُّنا بكلِّ راءٍ مشاهِدٍ ومَرئيٍ مُشاهَدٍ، وكلِّ شاهدٍ على أحدٍ
ومشهودٍ عليه؛ كيوم الجُمعة شاهدٌ لمن حضره، وهو مشهودٌ بمن حضره، وكذا
يوم عرفة، أو الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على أمَّته، وأمته مشهودٌ
عليها، وكذا غيرها من الأمم(2).
وجوابُ القَسَم محذوف،تقديره: (لتُبْعَثُنَّ) بدلالة قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} وهو اليوم الذي يكذِّبُ به الكفَّار.
4- 5-قولُه تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}
أصحاب الأخدود(3) هم الذين أمروا بحفر الشقوقِ الكبيرة في الأرض، ومَلْئها
بالنار، وإلقاء المؤمنين بها، والمعنى: ليحصلِ القتلُ لهؤلاء الكافرين
الذين عذَّبوا المؤمنين بإلقائهم في النار التي تُشعَل بالحطب وغيره مما
توقَدُ به النار.
6-قولُه تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أي: إذ هؤلاء الكفار قعودٌ حول النار، وهم متمكِّنون منها، يلقُون فيها من شاءوا من المؤمنين.
7-قولُه تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي: وهؤلاء الكفار يشهدونَ على أنفسِهم بما فعلوه بالمؤمنين، بعد أن حضروا تعذيبَهم.
8- 9- قولُه تعالى:
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: ما أنكر هؤلاء الكفار على المؤمنين
إلا إيمانَهم بالله القويِّ الذي لا يُقهر، والمحمودِ الذي يكثرُ منه
فِعْلُ ما يَحْمَدُهُ عليه خلقُه، والذي له كلُّ ما في السموات والأرض
مُلْكاً وحُكْماً، وهو مطَّلِعٌ على كلِّ شيءٍ لا تخفى عليه منهم خافية،
وهو مطَّلِعٌ على ما فعلَه هؤلاء الكفار بأوليائه.
10-قولُه تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي: إنَّ
الذين عذَّبوا المؤمنين بالنار(4) - من الكفَّار أو غيرِهم ممن اتَّصَفَ
بعداءِ أولياءِ الله(5) - إذا لم يتوبوا إلى الله من فعلِهم فيصيروا بهذه
التوبةِ من أوليائه(6)، فإن اللهَ سيعذِّبهم بنار جهنَّمَ التي تُطْبِقُ
عليهم بظلُماتها، وبنارِ الحريقِ التي تحرقهم(7).
الحاشية :
(1) تدلُّ مادة برج في
اللغة: على البروزِ والظُّهور، ومنه سُمِّيَ القصرُ والقلعةُ بُرجاً؛
لظهورِهما وبروزهما فوقَ الأرض يراهما المشاهِد دون عناء، وبها سُمِّيت
منازل الشمس والقمر بروجاً، ومنه تبرُّجُ المرأة، وهو إظهار محاسنها.
وقد وقع اختلافٌ بين السلف في معنى البروج هنا على أقوال:
الأول:قصورٌ في السماء، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وحكاه الضحاك من طريق عبيد المكتب، وقد أوردَ الطبريُّ في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} قولَ عطية العوفي من طريق إدريس، ويحيى بن رافع من طريق إسماعيل، وإبراهيم من طريق منصور، وأبي صالح من طريق إسماعيل.
وهذا القول مبناه: تسميةُ القصور بالبروج، والله أعلم.
الثاني:النجوم،
وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وابن أبي نجيح من طريق سفيان الثوري،
وقتادة من طريق سعيد، وذكر الطبري في آية الفرقان قول أبي صالح من طريق
إسماعيل، وقتادة من طريق معمر، ونسبَهُ ابن كثير إلى ابن عباس ومجاهد
والحسن وقتادةوالسدي.
ويظهرُ أن من فسَّرها بالقصور،اعتمد المعنى الأشهر من اللفظ، ولذا قال ابن جرير الطبري في ترجيح معنى البروج في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} : (وأَوْلى القولين في ذلكَ بالصواب، قول من قال: هي قصورٌ في السماء؛ لأن ذلك في كلام العرب {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} ، وقول الأخطل:
كـأنـهـابرجُ روميٍّ يشيّدُهُ = بانٍ بجصٍّ وآجُرٍّ وأحجارِ
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ
الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ
(4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا
مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الْحَرِيقِ (10)} .
الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله جل وعلا: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ}
هذا قسم من الله -جل وعلا- بالسماء وبروجها، والبروج: هي الكواكب والنجوم
التي في السماء أو منازلها، وهذا قسم من الله -جل وعلا- ببعض مخلوقاته التي
يشاهدها العباد؛ لأن الله -جل وعلا- جعل لهم فيها آية وعبرة، ومثل هذه
الآية قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} ومثلها في دلالتها على السماء والبروج قول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً}.
وهذه البروج التي جعلها الله -جل وعلا- في السماء، بين لنا رب العالمين حكمته من خلقها:
-في قوله جل وعلا: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}.
-وفي قوله جل وعلا: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}.
-وفي قوله جل وعلا: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}.
فهذه ثلاثة أشياء خلق الله -جل وعلا- النجوم لها:
- رجوماً للشياطين الذين يسترقون السمع؛ كما قال تعالى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}.
-وجعلها -جل وعلا- زينة للسماء، ومصابيح يستنير بها العباد.
- وجعلها -جل وعلا- علامات يهتدي بها العباد في البر وفي البحر، ولهذا قال
قتادة - رحمه الله -: (خلق الله النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين
وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما
ليس له به علم).
فمن ظن في هذه النجوم أنها تؤثر على مخلوقات الله -جل وعلا- وتدبرها فهو
مشرك كافر بالله العظيم، وأما من استفاد من هذه النجوم في معرفة ما يحتاجه
من القبلة، أو من الطريق، أو من معرفة المواقيت، أو من معرفة غيرها مما لا
تعلق له بالشرك ولا اعتقاد فيه بالتأثير؛ فذلك مما رخص فيه جمهور العلماء.
ثم قال الله جل وعلا: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} اليوم
الموعود: هو يوم القيامة؛ لأن الله -جل وعلا- جعله موعداً للخلائق يردهم
إليه؛ وهذا بإجماع أهل التفسير، وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
تفسيره بذلك؛ إلا أن الأحاديث لا تثبت فيه، ويبين هذه الآية قول الله -جل
وعلا- في شأن أهل الجنة: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وقال جل وعلا: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وقوله -جل وعلا- في الرد على المشركين: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ}.
ثم قال جل وعلا: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} أكثر المفسرين على أن الشاهد: هويوم الجمعة؛ لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه.
والمشهود: هو يوم عرفة؛ لأن الحجاج يشهدون هذا اليوم.
والذي اختاره ابن القيم - رحمه الله - أن هذا مطلق في الشاهد والمشهود؛
فيكون قسماً بالله، وقسماً بالملائكة، وقسما بالرسل، وقسماً بالقرآن،
وقسماً بكل شيء شاهد أو مشهود؛ لأن الله -جل وعلا- أطلق في هذه الآية ولم
يقيد، فكل ما كان شاهداً أو مشهوداً بمعنى: مرئي أو رائي، أو مدرَك أو
مدرِك، أو عالم أو معلوم، فالله -جل وعلا- قد أقسم به؛ لأن الله -جل وعلا-
أطلق ولم يقيد بشيء، ولهذا تنوعت عبارات السلف - رحمهم الله - في الشاهد
والمشهود، وهذا التنوع لعله في جملته من باب تفسير الشيء ببعض آحاده.
ثم قال جل وعلا: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} الأخدود:
هو شق مستطيل عظيم في الأرض كالخندق هذا هو الأخدود، وأهل الأخدود هؤلاء
لعنهم الله -جل وعلا- في هذه الآية، لعن من خدد تلك الأخاديد، وأضرم فيها
النار، وحرق فيها عباد الله المؤمنين، فقال جل وعلا: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} أي: لعن أصحاب الأخدود.
ثم بين الله -جل وعلا- هذا الأخدود فقال: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}
يعني: أن المراد بالأخدود هاهنا: النار العظيمة التي أوقدت في هذه
الحفر؛ليمتحن بها المؤمنون، فمن أجاب إلى الكفرلم يلق فيها، ومن كان مؤمناً
وصبر على إيمانه فإنه يلقى في هذه النار.
وقوله جل وعلا: {ذَاتِ الْوَقُودِ} أي: ذات الحطب الذي يكون وقوداً لهذه النار.
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أي: أن أولئك المجرمين الذين خدوا هذه الأخاديد، قعود على هذه النار وعلى جنباتها يفتنون عباد الله المؤمنين.
{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}أي:
هم حاضرون ويشاهدون ما يفعلونه بعباد الله المؤمنين، وذلك لشدة قساوة
قلوبهم وبطشهم وكفرهم بالله جل وعلا؛ لأن العادة جارية أن الكبراء
والسلاطين إذا أرادوا تعذيب هذه الأمم لا يأتون ولا يباشرون هذه الأفعال،
وهؤلاء يأتون ليروا عباد الله المؤمنين الأحياء وهم يحَّرقون في هذه النار
تشفياً منهم؛ من أجل أنهم آمنوا بالله جل وعلا.
وهذه الآيات ذكر بعض العلماء أنها حوادث كثيرة وقعت قبل النبي -صلى الله
عليه وسلم- في الأمم السابقة في أنحاء من المعمورة، امتحن بها الذين آمنوا.
وبعضهم يحمل هذه الآية على القصة التي خرجها الإمام مسلم في صحيحه من حديث
صهيب في قصة الملك والساحر والغلام، وهي قصة طويلة، خد فيها هذا الملك
الجبار الأخاديد، وصار يفتن المؤمنين، من صبر على إيمانه قذف فيها، حتى
جاءت امرأة معها صبي، فلما تقاعست أن تقع في النار،وكادت تجيب قال لها
الصبي: (اتقِ الله واصبري) .
ثم قال جل وعلا: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: ما نقم أولئك الكفار من هؤلاء المؤمنين إلا أنهم يؤمنون بالله جل وعلا، وهذا كما قال الله جل وعلا:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} وهذا شأن الكفار ينقمون من المؤمنين لإيمانهم، ويؤذونهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم من أجل إيمانهم، كما قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}
فلما كانت العداوة عداوة دينية يحمل عليها بُغض الإيمان، صاروا يؤذون عباد
الله -جل وعلا- بلا رحمة، ويعذبونهم بلا هوادة، وهذا شأن أعداء الله -جل
وعلا- مع المؤمنين.
وفي هذه الآيات تنبيه من الله جل وعلا لعباده المؤمنين ألا يغتروا بالكفار،
ولا يركنوا إليهم، ولا يودوهم؛ لأنهم أعداء لهم، فالشأن في الكافر أنه
ينقم من المؤمن؛ لأنه آمن بالله وحده.
وقوله جل وعلا: {الْعَزِيزُ} يعني: أن الله -جل وعلا- عزيز لا يغلب ولا يقهر.
فله جل وعلا:
-عزة القهر.
- وعزة القوة.
- وعزة الغلبة.
- وعزة الامتناع.
وقوله جل وعلا: {الْحَمِيدِ} يعني: المحمود،
فالله -جل وعلا- محمود بماله من صفات الكمال والجلال والعظمة، وبماله من
الأسماء الحسنى، وبماله من الأفعال الدائرة بين الفضل والعدل، وهو -جل
وعلا- المحمود على كل حال، والمحمود بكل لسان.
وقد ذيل الله جل وعلا هذه الآية بقوله: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}
والله أعلم لئلا يظن مؤمن أن الله -جل وعلا- ليس بقدرته أن يدفع عن أولئك
المؤمنين تسلط أعدائهم عليهم، وإنما صنع الله -جل وعلا- ذلك، وسلط أعداء
الله على المؤمنين مع عزته -جل وعلا- وغلبته وقهره؛ ليمتحن عباده المؤمنين؛
ليرى -جل وعلا-هل يحمدوه على كل حال أو لا؟ وإلا فالله -جل وعلا- قادر على
أن ينصر أوليائه، وقد بين الله -جل وعلا- ذلك في كتابه الكريم:
- كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
-وقال جل وعلا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
-وقال جل وعلا: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}.
-وقال جل وعلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.
- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ}.
فهذه الآيات تدل على أن الله -جل وعلا- قادر على نصر أوليائه، ولكنه سبحانه
يبتليهم ويختبرهم؛ ليرى -جل وعلا- من يصبر على إيمانه وطاعته، ويمحص الله
-جل وعلا- بذلك إيمانه، وليعلم الله -جل وعلا- من ينقلب على عقبيه خاسئاً
كافراً ضالاً.
ولهذا ذكر الله -جل وعلا- عن عباده المؤمنين أنهم إذا جاءتهم مثل هذه
المصائب التي يتسلط بها أعداء الله عليهم، أنهم يؤمنون ويصدقون بوعد الله،
ويزدادون تصديقاً وإيماناً بالله، كما قال الله جل وعلا:
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ
إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .
لما تحزب الأحزاب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وضيقوا عليهم في
المدينة، كان موقف المؤمنين ما ذكره الله -جل وعلا- في هذه الآية، وكما
قال الله -جل وعلا- عن المؤمنين: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}
يعني: أن المؤمنين يقولون للمنافقين: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنين،
إما الشهادة وإما النصر، وذلك دليل على ثباتهم على إيمانهم، وصبرهم على دين
الله جل وعلا، وأما المنافقون والكفار والذين لا يوقنون بلقاء الله،
قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} .
ثم قال جل وعلا: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}وهذه
الجملة فيها تطمين لعباد الله المؤمنين، بأن الله -جل وعلا- له ملك
السماوات والأرض؛ فينصر -جل وعلا- من شاء، ويذل من شاء، والكافر مهما تكبر
وتجبر فإن الله -جل وعلا- له ملك السماوات والأرض، وهو قادر على أن يذله
ويخزيه، كما أن في هذه الآية تخويفاً وتهديداً لأعداء الله -جل وعلا- الذين
يفتنون المؤمنين عن دينهم، فإن الله -جل وعلا- له ملك السماوات والأرض
يأخذهم -جل وعلا- على حين غرة وهم لا يشعرون، يأخذهم في تقلبهم، أو يأخذهم
وهم نائمون، أو يأخذهم ضحى وهم يلعبون، والله -جل وعلا- قادر عل ذلك.
ثم قال جل وعلا: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
أي: أن الله -جل وعلا- عالم بجميع الأشياء؛ محيط بها، لا تخفى عليه، كما
أنه -جل وعلا- شاهد للعباد، وهو كذلك شاهد عليهم، يشهد لهم جل وعلا، ويشهد
عليهم، ويشهد جل وعلا على كل شيء؛ لأنه -جل وعلا- عالم بكل شيء لا تخفى
عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ومن ذلك أن الله -جل وعلا- شهيد على
أعمال أولئك المجرمين بعباد الله المؤمنين، وهو -جل وعلا- شاهد عليهم يوم
القيامة بما كسبته أيديهم، وشاهد للمؤمنين بصبرهم على دين الله جل وعلا،
وصبرهم على الأذى فيه.
ثم قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ
جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} هذه الآية يتوعد الله -جل
وعلا- فيها الذين فتنوا المؤمنين، وجاء الله -جل وعلا- بوصف الإيمان في هذه
الآية ليؤكد أنهم ما نقموا منهم إلا لإيمانهم، ولم يقل جل وعلا: إن الذين
فتنوا أولئك، ولكن قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} ليبين -جل وعلا- ويؤكد أن سبب فتنتهم لأولئك إنما هو إيمانهم الذي ذكره الله في قوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا} .
ثم إنه -جل وعلا- جاء بهذا الوصف:
ليبين عموم هذا الحكم لجميع الناس، جاء بهذا الوصف وأدخل عليه الألف واللام
وذلك يقتضي العموم، فالذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات فإنهم داخلون في هذه
الآية بوصف الإيمان الذي ذكره الله جل وعلا، وإن كان أولئك الذين قص الله
-جل وعلا- خبرهم هم الداخلين في هذه الآية مباشرة، وهم المرادون بها عند
أكثر علماء التفسير.
ثم قال جل وعلا: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}فالذين
يعذبهم الله -جل وعلا- ويستحقون هذا الجزاء هم الذين فتنوا المؤمنين عن
دينهم، ثم أصروا على ذلك؛ فماتوا ولم يتوبوا، وأما من فتن المؤمنين ثم تاب
بعد ذلك فلا يكون داخلاً في هذه الآية؛ لأن الله -جل وعلا- يتوب على من
تاب، وذلك غاية الكرم منه -جل وعلا- لعباده، يقتلون أولياءه، ويدعوهم -جل
وعلا- إلى التوبة.
وهذا يدل على أن العبد لا يتعاظم ذنباً فعله أن يغفره الله -جل وعلا- له،
ولو كان ذلك بقتل الأنفس، فإن الله -جل وعلا- قد دعا عباده إلى التوبة مما
هو أعظم من قتل الأنفس {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
ومن الذنوب الإشراك بالله جل وعلا، والذي قتل مائة نفس تاب الله -جل وعلا-
عليه، ووعدهم جل وعلا، وعد أهل الإشراك الذين تابوا بالتوبة {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} .
وقوله جل وعلا: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} جمع الله -جل وعلا- عليهم في هذه الآية عذابين، قال بعض العلماء:
الأول: متعلق بعذاب الآخرة.
والثاني: متعلق بعذاب الدنيا.
ذلك أن الله -جل وعلا- ما أمات أولئك الذين فتنوا المؤمنين إلا بعد أن أحرقهم بالنار.
وقال بعض العلماء: إن لهم في الآخرة عذابين: عذاب جهنم، والمراد به في هذه
الآية: أنهم يعذبون بزمهرير؛ وهو: البردُ الشديد، ثم بعد ذلك يردون إلى
العذاب الحار؛ وهو المراد بقوله جل وعلا: {عَذَابَ الْحَرِيقِ}فهم يعذبون أولاً: بالبرودة الشديدة، ثم يعذبون بعد ذلك: بالحرارة الشديدة الأليمة.
والذي يظهر -والله أعلم- أن قوله جل وعلا: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}
يعني: أن هؤلاء الكفار لما جمعوا بين أمرين: الكفر بالله جل وعلا، وبين
تعذيب المؤمنين وصدهم عن دين الله؛ فإن الله -جل وعلا- يعذبهم عذاباً
شديداً؛ فيعذبهم -جل وعلا- بجهنم ولا يزال هذا العذاب يتسع عليهم، وهذا
مأخوذ من قوله: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}؛
لأن النار إذا اشتعلت فإنها تبدأ تتسع شيئاً فشيئاً، فكأن الله -جل وعلا-
أخبر أنه يزيدهم من العذاب والنكال جزاءً ما فتنوا به عباده المؤمنين،
وجزاء على كفرهم بالله جل وعلا.
والله -جل وعلا- بين في كتابه أن هذه النار درجات وطبقات، والناس يعذبون في هذه النار بحسب أعمالهم:
-فمنهم من هو في الدرك الأسفل من النار.
-ومنهم من يوضع تحت قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، وهو أهون أهل النار عذاباً.
-وما بين ذلك، يعذب الله -جل وعلا- الناس في النار.
فالشاهد: أنه لما كانت النار درجات ودركات
وطبقات، وكانت هذه النار فيها من العذاب ما يقع على قدر ذنب العبد وجرمه،
فإن هؤلاء لعظم جرمهم لكونهم لم يقتصروا على الكفر بالله وحده؛ وإنما تعدوا
إلى فتن المؤمنين وصدهم عن دين الله؛ زاد الله -جل وعلا- في عذابهم نكالاً
لهم.
وفي هذه الآية ما يدل على أن العبد المؤمن ولو ارتكب شيئاً من السيئات
والمعاصي فإنه لا ينبغي له أن يشهره بين الناس، ويدعو الناس إليه؛ لأن ذلك
من فتن الناس عن دينهم، ومن كان كذلك فيخشى أنه إذا فُتن العبد عن دينه،
وارتد بسبب ما جلبه له من الوسائل وغيرها أن يدخل في هذه الآية التي توعد
الله -جل وعلا- بها الكفار، وما كان دون ذلك من فتن أولياء الله، ومن فتن
المؤمنين بالمعاصي والسيئات؛ فإنه له نصيباً من العذاب بقدر جرمه الذي
ارتكبه من دعوة الناس إلى معصية الله جل وعلا.
تفسير سورة البروج
تفسير قول الله تعالى : ( والسماء ذات البروج )
أقوال السلف في معنى (البروج)
فائدة: الحكمة من خلق النجوم
مسألة: حكم تعلم منازل النجوم في معرفة القبلة ونحوها
مسألة: حكم من اعتقد بأن النجوم لها تأثير في تدبير الكون
تفسير قول الله تعالى : ( واليوم الموعود )المراد باليوم الموعود يوم القيامة بإجماع المفسرين
تفسير قول الله تعالى : ( وشاهد ومشهود )بيان جواب القسم
اختيار ابن القيم في المراد بالشاهد والمشهود
تفسير قول الله تعالى : ( قتل أصحاب الأخدود )
تفسير قول الله تعالى : ( النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود )
تفسير قول الله تعالى : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )
كلام نفيس لابن القيم في أن أعداء الله ينقمون دائماً على المؤمنين
معنى (العزيز) و (الحميد)
مناسبة ختم الآية السابقة باسمي: (العزيز) و (الحميد)
حال المؤمنين عند نزول المصائب بهم
حال المنافقين عند نزول المصائب
تفسير قول الله تعالى : ( الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيءٍ شهيد )
تفسير قول الله تعالى : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)
أقوال المفسرين في الجمع بين العذابين في قوله تعالى: ( فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)
بيان أن عذاب أهل النار متفاوت
خطر الدعوة إلى المعصية
الأسئلة
س1: بين معنى البروج في اللغة، ثم اذكر أقوال المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ}.
س2: ما هو اليوم الموعود ؟وما فائدة القسم به في هذه السورة؟
س3: تعددت أقوال المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}، اذكر أجمع هذه الأقوال، وما نوع اختلاف المفسرين في تفسير هذه الآية؟
س4: بين جواب القسم في الآيات السابقة.
س5: بين معاني المفردات التالية: قُتل، الأخدود، الوَقُود، نقموا، فتنوا.
س6: فسر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً.
س7: اذكر الفوائد التي تستفيدها من قول الله تعالى: {وَمَا
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
س8: اذكر الفوائد التي تستفيدها من قول الله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} .
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة البروج وهي مكّيّةٌ.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصّمد،
حدّثنا رزيق بن أبي سلمى، حدّثنا أبو المهزّم، عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسّماء ذات البروج،
والسّماء والطّارق.
وقال أحمد: حدّثنا أبو سعيدٍ مولى بني
هاشمٍ، حدّثنا حمّاد بن عبّادٍ السّدوسيّ، سمعت أبا المهزّم يحدّث عن أبي
هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر أن يقرأ بالسّماوات في
العشاء. تفرّد به أحمد.
يقسم تعالى بالسّماء وبروجها، وهي النّجوم العظام كما تقدّم بيان ذلك في قوله: {تبارك الّذي جعل في السّماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً}.
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والضّحّاك والحسن وقتادة والسّدّيّ: {البروج}: «النّجوم».
وعن مجاهدٍ أيضاً: «البروج التي فيها الحرس».
وقال يحيى بن رافعٍ: البروج: قصورٌ في السّماء. وقال المنهال بن عمرٍو:« {والسّماء ذات البروج}: الخلق الحسن».
واختار ابن جريرٍ أنّها منازل الشّمس والقمر، وهي اثنا عشر برجاً، تسير
الشّمس في كلّ واحدٍ منها شهراً، ويسير القمر في كلّ واحدٍ يومين وثلثاً،
فذلك ثمانيةٌ وعشرون منزلةً، ويستتر ليلتين.
وقوله: {واليوم الموعود وشاهدٍ ومشهودٍ}.
اختلف المفسّرون في ذلك، وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عبد اللّه بن
محمّد بن عمرٍو الغزّيّ، حدّثنا عبيد اللّه، يعني ابن موسى، حدّثنا موسى بن
عبيدة، عن أيّوب بن خالد بن صفوان بن أوسٍ الأنصاريّ، عن عبد اللّه بن
رافعٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «{واليوم الموعود}: يوم القيامة، {وشاهدٍ}: يوم الجمعة، وما طلعت شمسٌ ولا غربت على يومٍ أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعةٌ لا يوافيها عبدٌ مسلمٌ يسأل اللّه فيها خيراً إلاّ أعطاه إيّاه، ولا يستعيذ فيها من شرٍّ إلاّ أعاذه، {ومشهودٍ}: يوم عرفة».
وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة من طرقٍ، عن موسى بن عبيدة الرّبذيّ، وهو ضعيف الحديث، وقد روي موقوفاً على أبي هريرة، وهو أشبه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّدٌ،
حدّثنا شعبة، سمعت عليّ بن زيدٍ ويونس بن عبيدٍ يحدّثان عن عمّارٍ مولى بني
هاشمٍ، عن أبي هريرة، أمّا عليٌّ فرفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم، وأمّا يونس فلم يعد أبا هريرة، أنّه قال في هذه الآية: {وشاهدٍ ومشهودٍ}. قال: «يعني: الشّاهد: يوم الجمعة، ويومٌ مشهودٌ: يوم القيامة».
وقال أحمد أيضاً: حدّثنا محمّد بن
جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن يونس: سمعت عمّاراً مولى بني هاشمٍ يحدّث، عن أبي
هريرة أنّه قال في هذه الآية: {وشاهدٍ ومشهودٍ}. قال: «الشّاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، والموعود: يوم القيامة».
فقد روي عن أبي هريرة أنّه قال: {اليوم الموعود}: «يوم القيامة». وكذلك قال الحسن وقتادة وابن زيدٍ، ولم أرهم يختلفون في ذلك وللّه الحمد.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن
عوفٍ، حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن عيّاشٍ، حدّثني أبي، حدّثنا ضمضم بن
زرعة، عن شريح بن عبيدٍ، عن أبي مالكٍ الأشعريّ، قال: قال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: «اليوم الموعود: يوم القيامة، وإنّ الشّاهد: يوم الجمعة، وإنّ المشهود: يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره اللّه لنا».
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا سهل بن موسى
الرّازيّ، حدّثنا ابن أبي فديكٍ، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيّب أنّه
قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ سيّد الأيّام يوم الجمعة، وهو الشّاهد، والمشهود يوم عرفة». وهذا مرسلٌ من مراسيل سعيد بن المسيّب.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا وكيعٌ، عن شعبة، عن عليّ بن زيدٍ، عن يوسف المكّيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: «الشّاهد: هو محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، والمشهود: يوم القيامة. ثمّ قرأ: {ذلك يومٌ مجموعٌ له النّاس وذلك يومٌ مشهودٌ}».
وحدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا جريرٌ عن مغيرة، عن سماكٍ قال: سأل رجلٌ الحسن بن عليٍّ عن: {وشاهدٍ ومشهودٍ}. قال: «سألت أحداً قبلي؟» قال: «نعم، سألت ابن عمر وابن الزّبير فقالا: «يوم الذّبح ويوم الجمعة»، فقال: «لا. ولكنّ الشّاهد: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم. ثمّ قرأ: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}.
والمشهود: يوم القيامة، ثمّ قرأ: {ذلك يومٌ مجموعٌ له النّاس وذلك يومٌ مشهودٌ}». وهكذا قال الحسن البصريّ، وقال سفيان الثّوريّ عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيّب: «{ومشهودٍ}: يوم القيامة».
وقال مجاهدٌ وعكرمة والضّحّاك: «الشّاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة».
وعن عكرمة أيضاً: «الشّاهد: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، والمشهود: يوم الجمعة». وقال عليّ بن أبي طلحة: عن ابن عبّاسٍ: «الشّاهد: اللّه، والمشهود: يوم القيامة». وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو نعيمٍ الفضل بن دكينٍ، حدّثنا سفيان، عن أبي يحيى القتّات، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وشاهدٍ ومشهودٍ}. قال: «الشّاهد: الإنسان، والمشهود: يوم الجمعة ». هكذا رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وشاهدٍ ومشهودٍ}. «الشّاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة». وبه عن سفيان – هو الثّوريّ - عن مغيرة، عن إبراهيم قال: «يوم الذّبح ويوم عرفة. يعني الشّاهد والمشهود».
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: المشهود:
يوم الجمعة، ورووا في ذلك ما حدّثنا أحمد بن عبد الرّحمن، حدّثني عمّي عبد
اللّه بن وهبٍ، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن زيد بن
أيمن، عن عبادة بن نسيٍّ، عن أبي الدّرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: «أكثروا عليّ من الصّلاة يوم الجمعة؛ فإنّه يومٌ مشهودٌ تشهده الملائكة».
وعن سعيد بن جبيرٍ: «الشّاهد: اللّه. وتلا: {وكفى باللّه شهيداً}. والمشهود: نحن». حكاه البغويّ وقال: «الأكثرون على أنّ الشّاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة».
وقوله: {قتل أصحاب الأخدود}.
أي: لعن أصحاب الأخدود، وجمعه أخاديد، وهي الحفير في الأرض، وهذا خبرٌ عن
قومٍ من الكفّار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين باللّه عزّ وجلّ فقهروهم
وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدوداً
وأجّجوا فيه ناراً وأعدّوا لهم وقوداً يسعّرونها به، ثمّ أرادوهم فلم
يقبلوا منهم فقذفوهم فيها.
ولهذا قال تعالى: {قتل أصحاب الأخدود النّار ذات الوقود إذ هم عليها قعودٌ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهودٌ}. أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين.
قال اللّه تعالى: {وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد}. أي:
وما كان لهم عندهم ذنبٌ إلاّ إيمانهم باللّه العزيز الذي لا يضام من لاذ
بجنابه المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، وإن كان قد قدّر
على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفّار به، فهو العزيز الحميد
وإن خفي سبب ذلك على كثيرٍ من النّاس.
ثمّ قال: {الّذي له ملك السّماوات والأرض}. من تمام الصّفة أنّه المالك لجميع السّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما.
{واللّه على كلّ شيءٍ شهيدٌ}. أي: لا يغيب عنه شيءٌ في جميع السّماوات والأرض، ولا تخفى عليه خافيةٌ.
وقد اختلف أهل التّفسير في أهل هذه القصّة
من هم؟ فعن عليٍّ رضي اللّه عنه أنّهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل
تزويج المحارم؛ فامتنع عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدودٍ فقذف فيه من أنكر
عليه منهم. واستمرّ فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.
وعنه أنّهم كانوا قوماً باليمن اقتتل
مؤمنوهم ومشركوهم فغلب مؤمنوهم على كفّارهم، ثمّ اقتتلوا فغلب الكفّار
المؤمنين فخدّوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها، وعنه أنّهم كانوا من أهل
الحبشة، واحدهم حبشيٌّ.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {قتل أصحاب الأخدود النّار ذات الوقود}. قال: «ناسٌ
من بني إسرائيل خدّوا أخدوداً في الأرض ثمّ أوقدوا فيه ناراً ثمّ أقاموا
على ذلك الأخدود رجالاً ونساءً، فعرضوا عليها، وزعموا أنّه دانيال وأصحابه». وهكذا قال الضّحّاك بن مزاحمٍ، وقيل غير ذلك.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان،
حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن صهيبٍ،
أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «كان
ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحرٌ فلمّا كبر السّاحر قال للملك: إنّي قد
كبرت سنّي، وحضر أجلي فادفع إليّ غلاماً لأعلّمه السّحر. فدفع إليه
غلاماً، فكان يعلّمه السّحر، وكان بين السّاحر وبين الملك راهبٌ، فأتى
الغلام على الرّاهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى
السّاحر ضربه، وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا
ذلك إلى الرّاهب. فقال: إذا أراد السّاحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا
أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني السّاحر.
قال: فبينما هو ذات
يومٍ إذ أتى على دابّةٍ فظيعةٍ عظيمةٍ قد حبست النّاس فلا يستطيعون أن
يجوزوا؛ فقال: اليوم أعلم أمر الرّاهب أحبّ إلى اللّه أم أمر السّاحر.
قال: فأخذ حجراً فقال: اللّهمّ، إن كان
أمر الرّاهب أحبّ إليك وأرضى من أمر السّاحر فاقتل هذه الدّابّة حتّى يجوز
النّاس. ورماها فقتلها ومضى النّاس، فأخبر الرّاهب بذلك فقال: أي بنيّ أنت
أفضل منّي، وأنت ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ. فكان الغلام يبرئ
الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليسٌ فعمي فسمع به،
فأتاه بهدايا كثيرةٍ، فقال: اشفني ولك ما ههنا أجمع. فقال: ما أنا أشفي
أحداً، إنّما يشفي اللّه عزّ وجلّ، فإن آمنت به دعوت اللّه فشفاك. فآمن
فدعا اللّه فشفاه، ثمّ أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس؛ فقال له الملك:
يا فلان من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربّي. فقال: أنا؟ قال: لا، ربّي وربّك
اللّه. قال: ولك ربٌّ غيري؟! قال: نعم، ربّي وربّك اللّه.
فلم يزل يعذّبه حتّى دلّ على الغلام فبعث
إليه؛ فقال: أي بنيّ بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء!
قال: ما أشفي أحداً، إنّما يشفي اللّه عزّ وجلّ. قال: أنا؟ قال: لا. قال:
أولك ربٌّ غيري؟! قال: ربّي وربّك اللّه. فأخذه أيضاً بالعذاب، فلم يزل به
حتّى دلّ على الرّاهب، فأتي بالرّاهب؛ فقال: ارجع عن دينك. فأبى، فوضع
المنشار في مفرق رأسه حتّى وقع شقّاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك. فأبى
فوضع المنشار في مفرق رأسه حتّى وقع شقّاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن
دينك فأبى، فبعث به مع نفرٍ إلى جبل كذا وكذا وقال: إذا بلغتم ذروته فإن
رجع عن دينه وإلاّ فدهدهوه.
فذهبوا به فلمّا علوا به الجبل قال:
اللّهمّ اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام
يتلمّس حتّى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللّه. فبعث
به مع نفرٍ في قرقورٍ فقال: إذا لجّجتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلاّ
فغرّقوه في البحر .. فلجّجوا به البحر؛ فقال الغلام: اللّهمّ اكفنيهم بما
شئت. فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتّى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟
فقال: كفانيهم اللّه تعالى. ثمّ قال للملك: إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما
آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلاّ فإنّك لا تستطيع قتلي،
قال: وما هو؟ قال: تجمع النّاس في صعيدٍ واحدٍ ثمّ تصلبني على جذعٍ وتأخذ
سهماً من كنانتي، ثمّ قل: بسم اللّه ربّ الغلام. فإنّك إن فعلت ذلك قتلتني.
ففعل ووضع السّهم في كبد قوسه ثمّ رماه
وقال: بسم اللّه ربّ الغلام. فوقع السّهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع
السّهم ومات؛ فقال الناس: آمنّا بربّ الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت
تحذر. فقد -واللّه- نزل بك، قد آمن النّاس كلّّهم. فأمر بأفواه السّكك
فخدّت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النّيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه
وإلاّ فاقتحموه فيها.
قال: فكانوا يتعادون فيها
ويتدافعون، فجاءت امرأةٌ بابن لها ترضعه، فكأنّها تقاعست أن تقع في النّار؛
فقال الصّبيّ: اصبري يا أمّاه، فإنّك على الحقّ».
وهكذا رواه مسلمٌ في آخر الصّحيح عن
هدبة بن خالدٍ، عن حمّاد بن سلمة به نحوه، ورواه النّسائيّ عن أحمد بن
سلمان، عن عفّان، عن حمّاد بن سلمة، ومن طريق حمّاد بن زيدٍ كلاهما عن
ثابتٍ به، واختصروا أوّله.
وقد جوّده الإمام أبو عيسى
التّرمذيّ، فرواه في تفسير هذه السّورة، عن محمود بن غيلان وعبد بن حميدٍ،
المعنى واحدٌ، قالا: أخبرنا عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن ثابتٍ البنانيّ، عن
عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن صهيبٍ قال: «كان
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا صلّى العصر همس - والهمس في بعض
قولهم: تحريك شفتيه، كأنّه يتكلّم - فقيل له: يا رسول اللّه إذا صلّيت
العصر همست؛ قال: «إنّ نبيًّا من الأنبياء كان
أعجب بأمّته فقال: من يقوم لهؤلاء؟ فأوحى اللّه إليه أن خيّرهم بين أن
أنتقم منهم وبين أن أسلّط عليهم عدوّهم، فاختاروا النّقمة، فسلّط عليهم
الموت فمات منهم في يومٍ سبعون ألفاً». قال: وكان إذا حدّث بهذا الحديث حدّث بهذا الحديث الآخر قال: «كان ملكٌ من الملوك وكان لذلك الملك كاهنٌ يتكهّن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً، أو قال: فطناً لقناً، فأعلّمه علمي هذا».
فذكر القصّة بتمامها وقال في آخره: «يقول اللّه عزّ وجلّ: {قتل أصحاب الأخدود النّار ذات الوقود}. حتّى بلغ: {العزيز الحميد}. قال: فأمّا الغلام فإنّه دفن». قال: فيذكر أنّه أخرج في زمان عمر بن الخطّاب، وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل. ثمّ قال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ.
وهذا السّياق ليس فيه صراحةً أنّ سياق
هذه القصّة من كلام النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال شيخنا الحافظ أبو
الحجّاج المزّيّ: فيحتمل أن يكون من كلام صهيبٍ الرّوميّ؛ فإنّه كان عنده
علمٌ من أخبار النّصارى، واللّه أعلم.
وقد أورد محمّد بن إسحاق بن يسارٍ
هذه القصّة في السّيرة بسياقٍ آخر، فيها مخالفةٌ لما تقدّم، فقال: حدّثني
يزيد بن زيادٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، وحدّثني أيضاً بعض أهل نجران عن
أهلها، «أنّ أهل نجران كانوا أهل شركٍ يعبدون
الأوثان، وكان في قريةٍ من قراها قريباً من نجران-ونجران هي القرية العظمى
التي إليها جماع تلك البلاد- ساحرٌ يعلّم غلمان أهل نجران السّحر، فلمّا
نزلها فيميون - ولم يسمّوه لي بالاسم الذي سمّاه لي ابن منبّهٍ، قالوا:
نزلها رجلٌ - فابتنى خيمةً بين نجران وبين تلك القرية التي فيها السّاحر،
وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك السّاحر يعلّمهم السّحر.
فبعث الثّامر ابنه
عبد اللّه بن الثّامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مرّ بصاحب الخيمة
أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحّد
اللّه وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن
الاسم الأعظم، وكان يعلّمه، فكتمه إيّاه وقال له: يابن أخي، إنّك لن تحمله،
أخشى ضعفك عنه. والثّامر أبو عبد اللّه لا يظنّ إلاّ أنّ ابنه يختلف إلى
السّاحر كما يختلف الغلمان.
فلمّا رأى عبد اللّه أنّ صاحبه قد ضنّ به
وتخوّف ضعفه فيه عمد إلى أقداحٍ، فجمعها ثمّ لم يبق للّه اسماً يعلمه إلاّ
كتبه في قدحٍ، وكلّ اسمٍ في قدحٍ حتّى إذا أحصاها أوقد ناراً، ثمّ جعل
يقذفها فيها قدحاً قدحاً، حتّى إذا مرّ بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب
القدح حتّى خرج منها لم يضرّه شيءٌ، فأخذه ثمّ أتى به صاحبه فأخبره أنّه
قد علم الاسم الأعظم الذي كتمه؛ فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا. قال: وكيف
علمته؟ فأخبره بما صنع، قال: أي ابن أخي، قد أصبته فأمسك على نفسك، وما
أظنّ أن تفعل.
فجعل عبد اللّه بن الثّامر إذا دخل نجران
لم يلق أحداً به ضرٌّ إلاّ قال: يا عبد اللّه أتوحّد اللّه وتدخل في ديني
وأدعو اللّه لك فيعافيك ممّا أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم. فيوحّد اللّه
ويسلم، فيدعو اللّه فيشفى، حتّى إذا لم يبق بنجران أحدٌ به ضرٌّ إلاّ أتاه
فاتّبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتّى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال
له: أفسدت عليّ أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثّلنّ بك. قال: لا
تقدر على ذلك.
فجعل يرسل به إلى الجبل الطّويل فيطرح على
رأسه فيقع إلى الأرض ما به بأسٌ، وجعل يبعث إلى مياهٍ بنجران، بحورٍ لا
يلقى فيها شيءٌ إلاّ هلك، فيلقى به فيها فيخرج ليس به بأسٌ، فلمّا غلبه قال
له عبد اللّه بن الثّامر: إنّك واللّه لا تقدر على قتلي حتّى توحّد اللّه
فتؤمن بما آمنت به؛ فإنّك إن فعلت سلّطت عليّ فقتلتني.
قال: فوحّد اللّه ذلك الملك وشهد
شهادة عبد اللّه بن الثّامر، ثمّ ضربه بعصًا في يده فشجّه شجّةً غير كبيرةٍ
فقتله، وهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد اللّه بن
الثّامر، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليه السّلام من الإنجيل وحكمه،
ثمّ أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل دين
النّصرانيّة بنجران».
قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمّد بن كعبٍ القرظيّ وبعض أهل نجران عن عبد اللّه بن الثّامر، واللّه أعلم أيّ ذلك كان.
قال
فسار إليهم ذو نواسٍ بجنده، فدعاهم إلى اليهوديّة وخيّرهم بين ذلك أو
القتل، فاختاروا القتل فخدّ الأخدود فحرّق بالنّار، وقتل بالسّيف، ومثّل
بهم حتّى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواسٍ وجنده أنزل اللّه
عزّ وجلّ على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم: {قتل
أصحاب الأخدود النّار ذات الوقود إذ هم عليها قعودٌ وهم على ما يفعلون
بالمؤمنين شهودٌ وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد الّذي
له ملك السّماوات والأرض واللّه على كلّ شيءٍ شهيدٌ}».
هكذا ذكر محمّد بن إسحاق في السّيرة
أنّ الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواسٍ، واسمه زرعة، ويسمّى في زمان
مملكته بيوسف، وهو ابن تبّان أسعد أبي كربٍ، وهو تبّعٌ الذي غزا المدينة
وكسا الكعبة واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تهوّد من تهوّد من
أهل اليمن على يديهما كما ذكره ابن إسحاق مبسوطاً، فقتل ذو نواسٍ في غداةٍ
واحدةٍ في الأخدود عشرين ألفاً، ولم ينج منهم سوى رجلٍ واحدٍ يقال له: دوس
ذو ثعلبان، ذهب فارساً، وطردوا وراءه فلم يقدر عليه، فذهب إلى قيصر ملك
الشّام فكتب إلى النّجاشيّ ملك الحبشة، فأرسل معه جيشاً من نصارى الحبشة،
يقدمهم أرياط وأبرهة فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواسٍ هارباً
فلجّج في البحر فغرق.
واستمرّ ملك الحبشة في أيدي النّصارى
سبعين سنةً، ثمّ استنقذه سيف بن ذي يزنٍ الحميريّ من أيدي النّصارى لمّا
استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السّجون، وكانوا قريباً من
سبعمائةٍ، ففتح بهم اليمن، ورجع الملك إلى حمير، وسنذكر طرفاً من ذلك إن
شاء اللّه في تفسير سورة {ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل}.
وقال ابن إسحاق: وحدّثني عبد اللّه بن أبي
بكر بن محمّد بن عمرو بن حزمٍ أنّه حدّث أنّ رجلاً من أهل نجران كان في
زمان عمر بن الخطّاب حفر خربةً من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد اللّه بن
الثّامر تحت دفنٍ فيها قاعداً واضعاً يده على ضربةٍ في رأسه ممسكاً عليها
بيده، فإذا أخذت يده عنها تنثعب دماً، وإذا أرسلت يده ردّت عليها، فأمسكت
دمها، وفي يده خاتمٌ مكتوبٌ فيه: ربّي اللّه. فكتب فيه إلى عمر بن الخطّاب
يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقرّوه على حاله، وردّوا عليه الدّفن الذي
كان عليه، ففعلوا.
وقد قال أبو بكر بن عبد اللّه بن محمّد بن
أبي الدّنيا رحمه اللّه: حدّثنا أبو بلالٍ الأشعريّ، حدّثنا إبراهيم بن
محمّد بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالبٍ، حدّثني بعض أهل العلم، أنّ أبا
موسى لمّا افتتح أصبهان وجد حائطاً من حيطان المدينة قد سقط، فبناه فسقط،
ثمّ بناه فسقط؛ فقيل له: إنّ تحته رجلاً صالحاً. فحفر الأساس فوجد فيه
رجلاً قائماً معه سيفٌ، فيه مكتوبٌ أنا الحارث بن مضاضٍ، نقمت على أصحاب
الأخدود. فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت.
قلت: هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض
بن عمرٍو الجرهميّ أحد ملوك جرهمٍ، الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد نابت بن
إسماعيل بن إبراهيم، وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاضٍ، هو آخر
ملوك جرهمٍ بمكّة لمّا أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن، وهو القائل في
شعره الذي قال ابن هشامٍ: إنّه أوّل شعرٍ قاله العرب:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ....... أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ....... صروف اللّيالي والجدود العواثر
وهذا يقتضي أنّ هذه القصّة كانت قديماً
بعد زمان إسماعيل عليه السّلام بقريبٍ من خمسمائة سنةٍ أو نحوها، وما ذكره
ابن إسحاق يقتضي أنّ قصّتهم كانت في زمان الفترة التي بين عيسى ومحمّدٍ
عليهما من اللّه السّلام، وهو أشبه. واللّه أعلم، وقد يحتمل أنّ ذلك قد وقع
في العالم كثيراً.
كما قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي،
حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا صفوان، عن عبد الرّحمن بن جبيرٍ قال: كان
الأخدود في اليمن زمان تبّعٍ، وفي القسطنطينيّة زمان قسطنطين حين صرف
النّصارى قبلتهم عن دين المسيح والتّوحيد، فاتّخذوا أتّوناً وألقي فيه
النّصارى الذين كانوا على دين المسيح والتّوحيد، وفي العراق في أرض بابل
زمان بختنصّر حين صنع الصّنم وأمر النّاس أن يسجدوا له، فامتنع دانيال
وصاحباه عزريا وميشائيل، فأوقد لهم أتّوناً وألقى فيها الحطب والنّار، ثمّ
ألقاهما فيه، فجعلها اللّه عليهما برداً وسلاماً وأنقذهما منها، وألقى فيها
الذين بغوا عليه، وهم تسعة رهطٍ، فأكلتهم النّار. وقال أسباطٌ، عن
السّدّيّ في قوله: {قتل أصحاب الأخدود}. قال: كانت الأخدود ثلاثةً: خدٌّ بالشّام، وخدٌّ بالعراق، وخدٌّ باليمن. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وعن مقاتلٍ قال: كانت الأخدود ثلاثةً:
واحدةٌ بنجران باليمن، والأخرى بالشّام، والأخرى بفارس، حرّقوا بالنّار،
أمّا التي بالشّام فهو أنطنانوس الرّوميّ، وأمّا التي بفارس فهو بختنصّر،
وأمّا التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواسٍ، فأمّا التي بفارس والشّام فلم
ينزل اللّه فيهم قرآناً، وأنزل في التي كانت بنجران.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا
أحمد بن عبد الرّحمن الدّشتكيّ، حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه،
عن الرّبيع، هو ابن أنسٍ في قوله: {قتل أصحاب الأخدود}. قال: سمعنا أنّهم كانوا قوماً في زمان الفترة، فلمّا رأوا ما وقع بالنّاس من الفتنة والشّرّ وصاروا أحزاباً، {كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون}، اعتزلوا إلى قريةٍ سكنوها وأقاموا على عبادة اللّه {مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة}،
فكان هذا أمرهم حتّى سمع بهم جبّارٌ من
الجبّارين، وحدّث حديثهم فأرسل إليهم، فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي
اتّخذوا، وإنّهم أبوا عليهم كلّهم وقالوا: لا نعبد إلاّ اللّه وحده لا شريك
له. فقال لهم: إن لم تعبدوا هذه الآلهة التي عبدت فإنّي قاتلكم. فأبوا
عليه فخدّ أخدوداً من نارٍ، وقال لهم الجبّار، ووقفهم عليها: اختاروا هذه
أو الذي نحن فيه. فقالوا: هذه أحبّ إلينا. وفيهم نساءٌ وذرّيّةٌ ففزعت
الذّرّيّة فقالوا لهم: لا نار من بعد اليوم. فوقعوا فيها فقبضت أرواحهم من
قبل أن يمسّهم حرّها، وخرجت النّار من مكانها، فأحاطت بالجبّارين، فأحرقهم
اللّه بها، ففي ذلك أنزل اللّه عزّ وجلّ: {قتل
أصحاب الأخدود النّار ذات الوقود إذ هم عليها قعودٌ وهم على ما يفعلون
بالمؤمنين شهودٌ وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد الّذي
له ملك السّماوات والأرض واللّه على كلّ شيءٍ شهيدٌ}. ورواه ابن جريرٍ: حدّثت عن عمّارٍ، عن عبد اللّه ابن أبي جعفرٍ به نحوه.
وقوله: {إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات}. أي: «حرّقوا». قاله ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وقتادة والضّحّاك وابن أبزى، {ثمّ لم يتوبوا}. أي: لم يقلعوا عمّا فعلوا ويندموا على ما أسلفوا،
{فلهم عذاب جهنّم ولهم عذاب الحريق}. وذلك أنّ الجزاء من جنس العمل، قال الحسن البصريّ: «انظروا إلى هذا الكرم والجود! قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التّوبة والمغفرة» ). [تفسير القرآن العظيم: 8/ 363-371]