22 Oct 2008
سورةُ الانشقاق
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وأذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وإِذَا
الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وأَذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى
رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ (6) فأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ
إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ
ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ
يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ
(21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونََ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}
تفسير سورة الانشقاق
(1-15){بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاء
انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ
مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي
أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَى
إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)}
يقولُ تعالَى مبيِّناً لما يكونُ في يومِ القيامةِ منْ تغيُّرِ الأجرامِ العظامِ: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} أي: انفطرتْ وتمايزَ بعضُهَا منْ بعضٍ، وانتثرتْ نجومُهَا، وخُسفَ بشمسِهَا وقمرهَا.
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا}
أي: استمعتْ لأمرهِ، وألقتْ سمعَهَا، وأصاختْ لخطابهِ، وحقَّ لهَا ذلكَ،
فإنَّهَا مسخرةٌ مدبرةٌ تحتَ مسخِّرٍ ملكٍ عظيمٍ، لا يعصَى أمرهُ، ولا
يخالفُ حكمُهُ.
{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}
أي: رجفتْ وارتجتْ، ونسفتْ عليها جبالُهَا، ودكَّ ما عليها من بناءٍ
ومعلمٍ، فسويتْ، ومدَّها اللهُ تعالَى مدَّ الأديمِ، حتى صارتْ واسعةً
جدّاً، تسعُ أهلَ الموقفِ على كثرتهِمْ، فتصيرُ قاعاً صفصفاً لا ترى فيهِ
عوجاً ولا أمتاً.
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا}من الأمواتِ والكنوزِ.{وَتَخَلَّتْ}منهمْ،
فإنَّهُ ينفخُ في الصورِ، فتخرُجُ الأمواتُ من الأجداثِ إلى وجهِ الأرضِ،
وتخرِجُ الأرضُ كنوزَهَا، حتَّى تكونَ كالأسطوانِ العظيمِ، يشاهدهُ الخلقُ،
ويتحسرونَ على ما همْ فيه يتنافسونَ.
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}أي:
إنَّكَ ساعٍ إلى اللهِ، وعاملٌ بأوامرِه ونواهِيه، ومتقربٌ إليه إما
بالخيرِ وإما بالشرِّ، ثم تلاقي اللهَ يومَ القيامةِ، فلا تعدمُ منه جزاءً
بالفضلِ إنْ كنت سعيداً، أو بالعدلِ إنْ كنت شقيّاً.
ولهذا ذكرَ تفصيلَ الجزاءِ، فقالَ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وهمْ أهلُ السعادةِ{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} وهوَ العرضُ اليسيرُ على اللهِ، فيقرِّرُه اللهُ بذنوبهِ، حتىَّ إذا ظنَّ العبدُ أنَّهُ قدْ هلكَ، قالَ اللهُ لهُ: ((إنِّي قدْ سترتهُا عليكَ في الدنيا، فأنا أسترهَا لكَ اليومَ)) . {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} في الجنةِ {مَسْرُوراً} لأنه نجا منَ العذابِ وفازَ بالثوابِ.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ}أي: بشمالهِ من خلفِه {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً}منَ الخزيِ والفضيحةِ، وما يجدُ في كتابِه منَ الأعمالِ التي قدَّمَها ولمْ يتبْ منهَا{وَيَصْلَى سَعِيراً} أي: تحيطُ به السعيرُ منْ كلِّ جانبٍ، ويقلبُ على عذابهَا، وذلكَ لأنَّهُ في الدنيا {كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} لا يخطرُ البعثُ على بالهِ، وقدْ أساءَ، ولمْ يظنَّ أنَّه راجعٌ إلى ربهِ وموقوفٌ بينَ يديه.
{بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} فلا يحسنُ أنْ يتركَهُ سدىً، لا يؤمرُ ولا ينهى، ولا يثابُ ولا يعاقبُ.
(16-25) {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ
وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا
عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) ( س ) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}.
أقسمَ في هذا الموضعِ بآياتِ الليلِ، فأقسمَ بالشفقِ الذي هوَ بقيةُ نورِ الشمسِ، الذي هوَ مفتتحُ الليلِ.
{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي: احتوى عليهِ من
حيواناتٍ وغيرهَا.{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: امتلأَ نوراً
بإبدارهِ، وذلكَ أحسنُ مَا يكونُ وأكثرُ منافعَ، والمقسَمُ عليهِ قولهُ: {لَتَرْكَبُنَّ} أيُّهَا الناسُ {طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}
أي: أطواراً متعددةً، وأحوالاً متباينةً، من النطفةِ إلى العلقةِ، إلى
المضغةِ، إلى نفخِ الروحِ، ثمَّ يكونُ وليداً، وطفلاً، ثمَّ مميزاً، ثم
يجري عليهِ قلمُ التكليفِ، والأمرُ والنهيُ، ثمَّ يموتُ بعدَ ذلكَ، ثمَّ
يبعثُ ويجازى بأعمالهِ، فهذهِ الطبقاتُ المختلفةُ الجاريةُ على العبدِ،
دالَّةٌ على أنَّ اللهَ وحدهُ هوَ المعبودُ، الموحَّدُ، المدبِّرُ لعبادهِ
بحكمتهِ ورحمتهِ، وأنَّ العبدَ فقيرٌ عاجزٌ، تحتَ تدبيرِ العزيزِ الرحيمِ،
ومع هذا، فكثيرٌ مِنَ الناسِ لا يؤمنونَ {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي: لا يخضعونَ للقرآنِ، ولا ينقادونَ لأوامرهِ ونواهيهِ.
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ}أي:
يعاندونَ الحقَّ بعدما تبينَ، فلا يستغربُ عدمُ إيمانهمْ وعدمُ انقيادهمْ
للقرآنِ، فإنَّ المكذبَ بالحقِّ عناداً، لا حيلةَ فيهِ، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي: بمَا يعلمونهُ وينوونَهُ سرّاً، فاللهُ يعلمُ سرَّهمْ وجهرهمْ، وسيجازيهمْ بأعمالهمْ، ولهذا قالَ: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}وسميتِ
البشارةُ بشارةً، لأنَّهَا تؤثرُ في البشرةِ سروراً أو غمّاً.فهذهِ حالُ
أكثرِ الناسِ، التكذيبُ بالقرآنِ، وعدمُ الإيمانِ .ومنَ الناسِ فريقٌ
هداهمُ اللهُ، فآمنوا باللهِ، وقبلُوا ما جاءَتْهمْ بهِ الرسلُ، فآمنُوا
وعملُوا الصالحاتِ.فهؤلاءِ لهمْ أجرٌ غيرُ ممنونٍ أي: غيرُ مقطوعٍ، بلْ هوَ
أجرٌ دائمٌ مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ..
تم تفسير السورة، ولله الحمد.
سُورَةُ الانْشِقَاقِ
1- {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}:انْشِقَاقُهَا منْ عَلامَاتِ الْقِيَامَةِ.
2- {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا}؛ أَيْ: أَطَاعَتْ رَبَّهَا، والأَذَنُ هُوَ الاستماعُ للشيءِ وَالإِصْغَاءُ إِلَيْهِ، {وَحُقَّتْ}؛ أَيْ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَتَنْقَادَ وَتَسْمَعَ.
3- {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}؛ أَيْ: بُسِطَتْ وَدُكَّتْ جِبَالُهَا، حَتَّى صَارَتْ قَاعاً صَفْصَفاً.
4- {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا}؛ أَيْ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الأمواتِ والكنوزِ، وَطَرَحَتْهُمْ إِلَى ظَهْرِهَا، {وَتَخَلَّتْ} مِنْ ذَلِكَ؛ أَيْ: تَبَرَّأَتْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ إِلَى اللَّهِ؛ لِيُنْفُذَ فِيهِمْ أَمْرُهُ.
5- {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا}؛ أَي: اسْتَمَعَتْ لِمَا يَأْمُرُهَا بِهِ، وَأَطَاعَتْ، {وَحُقَّتْ}؛ أَيْ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَتَخَلَّى وَتَسْتَمِعَ لِمَا يُرِيدُ رَبُّهَا أَنْ يَأْمُرَهَا بِهِ.
6- {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ} الْمُرَادُ جِنْسُ الإِنْسَانِ، فَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً}؛ الْمَعْنَى: إِنَّكَ سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ فِي عَمَلِكَ، أَوْ إِلَى لقاءِ رَبِّكَ، {فَمُلاَقِيهِ}؛ أَيْ: فَلا بُدَّ أَنَّك سوفَ تُلاقِي رَبَّكَ بِعَمَلِكَ.
7- {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وَهُم المُؤْمِنُونَ، يُعْطَوْنَ الصُّحُفَ الَّتِي فِيهَا بَيَانُ مَا لَهُمْ من الْحَسَنَاتِ بِأَيْمَانِهِمْ.
8- {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}
هُوَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُهُ، ثُمَّ يَغْفِرَهَا اللَّهُ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَاقِشَهُ الْحِسَابَ. فَذَلِكَ هُوَ الْحِسَابُ
اليَسِيرُ.
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ)). قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}؟ قَالَ: ((لَيْسَ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ)).
9- {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ}؛
أَيْ: وَيَنْصَرِفُ بَعْدَ الْحِسَابِ اليَسِيرِ إِلَى أهلِهِ الَّذِينَ
هُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الزوجاتِ والأولادِ، أَوْ إِلَى مَنْ أَعَدَّهُ
اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ من الحُورِ الْعِينِ، {مَسْرُوراً}: مُبْتَهِجاً بِمَا أُوتِيَ مِن الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ.
10- {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}؛ أَيْ: لأَنَّ يَمِينَهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ، وتَكُونُ يَدُهُ اليُسْرَى خَلْفَهُ.
11- {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً}؛ أَيْ: إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ قَالَ: يَا وَيْلاهُ! يَا ثُبُورَاهُ! وَالثُّبُورُ: الْهَلاكُ.
12- {وَيَصْلَى سَعِيراً}؛ أَيْ: يَدْخُلُهَا وَيُقَاسِي حَرَّ نَارِهَا وَشِدَّتَهَا.
13- {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} بِاتِّبَاعِ هَوَاهُوَرُكُوبِ شَهْوَتِهِ بَطِراً أَشِراً؛ لِعَدَمِ خُطُورِ الآخِرَةِ بِبَالِهِ.
14- {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}؛ الْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ السرورِ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ لا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَلا يُبْعَثُ للحِسَابِ والعِقَابِ.
15- {بَلَى}؛ أَيْ: بَلَى لَيَحُورَنَّ وَلَيُبْعَثَنَّ، {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}؛ أَيْ: كَانَ اللَّهُ بِهِ وَبِأَعْمَالِهِ عَالِماً لا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ.
16- {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}:يُقْسِمُ
اللَّهُ تَعَالَى بالشَّفَقِ، وَالشَّفَقُ: الحُمْرَةُ الَّتِي تَكُونُ
بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ صَلاةِ العشاءِ الآخِرَةِ.
17- {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ}؛
أَيْ: مَا جَمَعَ وَضَمَّ وَحَوَى وَلَفَّ، فَإِنَّهُ جَمَعَ وَضَمَّ مَا
كَانَ مُنْتَشِراً بالنهارِ فِي تَصَرُّفِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ
إِذَا أَقْبَلَ آوَى كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ.
18- {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}؛
أَي: اجْتَمَعَ وَتَكَامَلَ. وَاتِّسَاقُهُ: امْتِلاؤُهُ وَاجْتِمَاعُهُ
وَاسْتِوَاؤُهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مُنْتَصَفِ الشَّهْرِ القَمَرِيِّ.
19- {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}:
لَتَرْكَبُنَّ أَيُّهَا النَّاسُ حَالاً بَعْدَ حَالٍ، مِنَ الْغِنَى
وَالفَقْرِ، وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ والحَشْرِ والحسابِ، ودخولِ
الْجَنَّةِ أَو النَّارِ.
20- {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما جَاءَ بِهِ من الْقُرْآنِ، مَعَ وُجُودِ مُوجِبَاتِ الإِيمَانِ بِذَلِكَ؟!
21- {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ}؛
أَيْ: أَيُّ مَانِعٍ لَهُمْ منْ سُجُودِهِمْ وَخُضُوعِهِمْ عِنْدَ
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟! وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ السُّجُودِ,
الْمَعْرُوفِ بِسُجُودِ التلاوةِ.
22- {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ}؛ أَيْ: يُكَذِّبُونَ بِالْكِتَابِ المُشْتَمِلِ عَلَى إثباتِ التَّوْحِيدِ والبَعْثِ والثَّوَابِ والعقابِ.
23- {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}؛ أَيْ: بِمَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ من التَّكْذِيبِ، وَيَجْمَعُونَ من الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ والسَّـيِّئَةِ.
24- {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الْكَلامُ خارجٌ مَخْرَجَ التَّهَكُّمِ بِهِم.
25- {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}: لا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ بِهِ.
المتن :
سورةُ الانشقاق
1- 2- قولُه تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: إذا السماءُ تصَدَّعَتْ وتَقَطَّعَتْ، وسَمِعَت وأطاعَت أمْرَ ربِّها في تصدُّعها(1)، وحُقَّ لها أن تطيع، فهي أهلٌ لهذه الطاعة(2). 3- 5- قولُه تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: وإذا الأرض بُسِطت يوم القيامة(3)، فزِيدَ في سَعَتِها(4)، وأَخرَجتْ ما في بطنها من الموتى وغيرهم(5)، وسمِعَت وأطاعت أمرَ ربِّها في مَدِّها وإخراج ما في بطنها، وحُقَّ لها أن تطيع، فهي لا تعصي أمره(6). (2)ورد عن ابن عباس من طريق العوفي: (حُقَّت لطاعة ربها)، وعن سعيد بن جبير من طريق جعفر: (وحقَّ لها). -وقيل: ملاقٍ عملك. والروايةُ عن مجاهد من طريق منصور جاءت مرَّة: (وما أظلمَ عليه، وما دخلَ فيه)، ومرَّة: (وما لفَّ)، ومرة: (وما لفَّ عليه)، ومرَّة: (وما دخلَ فيه). وقد ترجم ابن جرير لقول آخر، فقال: (وقال آخرون: معنى ذلك: وما ساق، ثم ذكر الروايةَ عن ابن عباسٍ من طريق عطيَّة العوفي، قال: (وما ساق الليل من شيء جمعه: النجوم) قال عطية العوفي: (ويقال: والليل وما جمع)، وعن عكرمة من طريق حسين، قال: (وما ساق من ظُلمة، فإذا كان الليل، ذهبَ كلُّ شيءٍ إلى مأواه)، وعن الضحاك من طريق عبيد، قال: (ما ساق معه من ظُلمةٍ إذا أَقْبَلَ) ). 1-إذا استوى، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وزاد العوفي لفظة (اجتمع)، وعن عكرمة من طريق سماك، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وسعيد بن جبير من طريق أبي الهيثم، وقتادة من طريق سعيد، وتفسير الضحاك من طريق عبيد، مثل تفسير ابن عباس من طريق العوفي، وابن زيد. وقد ورد تأويلاتٌ أخرى عن السلف ذكرَها ابن كثير، وهي داخلةٌ تحتَ هذا السبب، ولا يهولَنَّكَ هذا الاختلاف؛ إذ الأمر فيه سَهْلٌ، فلا تَسْتَصْعِبه.
6-قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} أي: إنك تعملُ عملاً تلقى اللهَ به، خيراً كان أم شرَّاً(7).
7-9 قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}
هذا تفصيلٌ لأهلِ الكَدْحِ، فمن أُعْطي صحيفةَ أعمالِه بيدِه اليُمنى،
فإنَّ الله يَعْرِضُ عليه ذنوبَه ولا يُدَقِّقُ عليه، فلا يحاسِبُه بها، بل
يسهِّلُ أمرَهُ، ويتجاوزُ عنه(8)، ثمَّ ينصرفُ بعد هذا الحسابِ اليسيرِ إلى أهله في الجنة(9)، وهو فَرِحٌ بما أُعْطِيَ.
10- 12 قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً} هذا الفريقُ الثاني من أهلِ الكَدْح، وهم من يُعطَى صحيفةَ أعمالِه السيئةِ بيدِه الشِّمالِ من وراء ظهرِه(10)، فأولئك ينادُون بالهلاك على أنفسِهم(11)، ويدخلونَ نار جهنَّمَ التي أُوقِدَتْ مرَّةً بعد مرَّةٍ، فتشويَهُم وتحرقَهُم بحرِّها(12).
13- 15 قولُه تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} أي: إنَّ هذا الذي أوتي كتابه وراءَ ظهرِه كان في أهله في الدنيا(13) فَرِحاً لما هو فيه من المعاصي، وكان يعتقدُ أنه لن يرجع إلى الحياة بعد الممات(14)، ولذا كان يركَبُ المعاصي ولا يُبالي، ولكنه مخطئٌ في هذا الاعتقاد، بل سيرجع ويحاسَب على أعماله التي كان الله مطَّلِعاً عليها.
16- 18 قولُه تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} يُقْسِمُ الربُّ سبحانه بحُمْرَةِ الأُفقِ التي تظهرُ عندَ غروبِ الشمس(15)، ويقسمُ بالليلِ وما جَمَعَ فيه من الخلقِ وحَواهم(16)، ويقسِمُ بالقمرِ إذا تمَّت استدارَتُه، واجتمعَ فصار بَدْراً(17).
19- قولُه تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ}
هذا جوابُ القَسَم، والمعنى: إنكم أيها الناس ستمرُّونَ بأحوالٍ تركَبونها
حالاً بعد حال، من ابتداء أمرِكم بكونِكم نُطَفَاً في الأرحام إلى خروجِكم
من بطون أمهاتِكم، إلى معايَنَتِكم أحوالَ الدنيا ونَكَدَها، إلى وصولِكم
لأحوالِ الآخرة وهَوْلِها، حتى يدخلَ كل فريق منزلهُ: الجنة أو النار(18).
20- قولُه تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لم لا يصدِّقُ هؤلاء المشركونَ بالله، ويُقِرُّون بالبعث، مع ما قد عاينوا من حُجَجِ الله بحقيقة توحيده؟.
21- قولُه تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي: ولمَ إذا تُلِيَ عليهمْ كتابُ الله لا يخضَعون فيسجُدون لله تعالى تعظيماً واحتراماً؟.
22- 23 قولُه تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}
أي: ولكن الذين كفروا من سَجِيَّتِهِم تكذيب ما جاء عن الله تعالى، الذي
هو عالمٌ بما تحويْه صدورُهم وتُخْفِيهِ من التكذيبِ بكتابِ الله ورسولِه،
وغيره.
24- 25 قولُه تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
أي: فأخْبِرهم بما سيلقَونه بسببِ تكذيبهم من العذاب المؤلم، لكن من تابَ
منهم فآمنَ وعَمِلَ من الأعمالِ الصالحاتِ بأداء فرائضِ الله واجتنابِ
نواهيه، فإنَّ لهم ثواباً من الله لا يُنقص ولا يُقطع، بل هو دائم.
والله أعلم.
الحاشية :
(3) بيَّن مجاهد في تفسيره من طريق ابن أبي نجيحأن هذا كائنٌ يومَ القيامة.
(5) قال قتادة من طريق سعيد: (ألقَت أثقالها وما فيها) وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: (أخرجَتْ ما فيها من الموتى).
ويظهرُ أن هذا مثالٌ لما تخرجه من بطنها، ولذا ورد عن ابن عباس: (ألقت سواري الذَّهب)(الدر المنثور) عن ابن المنذر.
والنصُّ عَامٌّ ، وليس هناك ما يدل على التخصيص، ولذا يُحملُ ما ورد عنهم أنه تفسيرٌ بالمثال، وتفسير قتادة على العموم، والله أعلم.
(6) جواب قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1)} محذوف، تُرك استغناءً بمعرفة المخاطَبين به بمعناه، وتقديره: رأى الإنسان ما قدَّم من خير أو شرٍّ، وقد بيَّن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)} (انظر: تفسير الطبري).
(7)أوردَ بعض المفسِّرين في الضمير في {فَمُلاقِيهِ} احتمالين في عَودِهِ إلى الظاهر قبله:
- فقيل:ملاقٍ ربك.
وهما متلازمان؛ لأنه سيلاقي ربَّه بعملِه، كما فسَّر ابن عباس من طريق العوفي، وهذا من اختلاف التنوع الذي تحتمله الآية، وهو يرجع إلى أكثر من معنى، غير أنهما متلازمان، والله أعلم.
(8)روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (قال صلى الله عليه وسلم: ((من نوقشَ الحسابَ عُذِّب)) قالت: فقلت: أليس قال الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8)}؟، قال: ((ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العَرْض، من نوقشَ الحسابَ يوم القيامة فقد عُذِّب)) وهذا تفسيرٌ نبويٌّ صريحٌ لمعنى هذه الآية.
(9) قال قتادة من طريق سعيد: (إلى أهلٍ أعدَّهم الله له في الجنَّة).
(10) قال الإمام الطبري: (وأما
من أُعطِيَ كتابَهُ منكم أيها الناس يومئذ وراءَ ظهره، وذلك بأن جعلَ يدَه
اليُمنى إلى عنقِه، وجعلَ الشمالَ من يديه وراء ظهره، فيتناول كتابَهُ
بشماله وراء ظهره، ولذلك وصفهم - جلَّ ثناؤه - أحياناً أنهم يؤتون
كُتُبَهُم بشَمائِلِهم، وأحياناً أنهم يؤتَوْنها من وراء ظهورهم).
(11) قال الضحاك من طريق عبيد المكتب: (يدعو بالهلاك).
(12) في قوله:{يَصْلَى} قراءتان.
الأولى: بتخفيف اللام.
والثانية بتشديدها، وفائدة التَّشْدِيد كما قال الطبري: (أن الله يصليهم تَصْلِيَةً بعد تَصْلِيَة، وإنضاجَةً بعد إنضاجة …) وهذا يعني أن صيغة (فَعَّلَ) تدل على تكرُّرِ الحدَث وتكثيرِه.
أما قراءة التخفيف، فتدل على أنهم يدخلونها ويَرِدونها فقط، دون معنى التكرار، والله أعلم.
(13) قال قتادة من طريق سعيد: (أي في الدنيا).
(14) كذا ورد عن السلف: ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: (يبعث)، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح: (ألا يرجع إلينا)، وقتادة من طريق سعيد: (أن لا مَعاد ولا رَجْعة) ومن طريق معمر: (أن لن ينقلب) يقول: (لن يبعث)، وكذا قال ابن زيد، وقال سفيان الثوري من طريق مهران: (يرجع).
وهذه الأقوال متَّفِقة،وإنما بينها اختلافُ عبارة، والله أعلم.
(15) نسبَ ابنُ جريرٍ إلى بعض أهل العراق هذا القول، ولم يذكرهم، وقد وردَ تفسيره بذلك عن ابن عمر(الدر المنثور) ومكحول(تفسير عبد الرزاق) ونسبه ابن كثير في تفسيره إلى عليٍّ وابن عباس وعُبادة بن الصامت وأبي هريرة وشدَّاد بن أوس وابن عمر ومحمد بن علي بن الحسين ومكحول وبكر بن عبد الله المزني وبكير بن الأشج ومالك وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن سلمة بن الماجشون، ونقل هذا المعنى عن الخليل والجوهري من علماء اللغة.
ويلاحَظُ أنَّ هذا اللفظ مما يتعلقُ به حكمٌ شرعيٌّ، فقد ورد في (صحيح مسلم) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وقت المَغْرِبِ ما لم يغب الشفق)).
وهذا القول هو الصواب، وهو اختيار ابن جرير وابن كثير وغيرهم من المفسِّرين، والله أعلم.
وقد قال مجاهد في تفسير الشَّفَق: (النهارُ كله) ورد ذلك عنه من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقال في رواية العوَّام بن حَوْشَب: (إن الشفقَ من الشمس)، ويظهر أنه إنما حملَهُ على هذا، قَرْنُهُ بقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)}(تفسير ابن كثير) وقال عنه ابن القيم: (وهذا ضَعِيف جدّاً….) (التبيان في أقسام القرآن: 69).
وحكى ابن جرير عن بعضِهم أنه من الأضداد، فيقال للحمرة: شَفَق، وللبياض شَفَق، ولم ينسبه إلى أحد، وقد ورد عن أبي هريرة وعمر بن عبد العزيز تفسير الشفق بالبياض (تفسير عبد الرزاق)، والله أعلم.
ثم ذكرَ الروايةَ عن مفسِّري السلف: عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ومجاهد وابن أبي مليكة، والحسن من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسعيد بن جبير من طريق أبي الهيثم، وعكرمة من طريق سماك، وابن زيد.
(17) كذا ورد عن السلف في تفسير{اتَّسَقَ} ويلاحَظُ أن مادة (وسق) و(اتسق) واحدة، أما عبارات السلف فهي:
2-إذا اجتمع وامتلأ، عن الحسن من طريق حفص.
3-لثلاث عشرة - أي: صار مستديراً - عن سعيد بن جبير من طريق جعفر بن أبي المغيرة، ومجاهد من طريق منصور.
4-إذا استدار، عن قتادة من طريق معمر.
وهذه الأقوال من قَبيلِ اختلافِ التنوُّع في التعبير عن المعنى الواحدِ بعباراتٍ مختلِفة، وذلك لتقريبِ المعنى إلى ذِهْنِ السامع، ولذا وردَ عن الواحد منهم عبارتان في التفسير، والله أعلم.
(18) ورد في هذه الآية قراءتان متواتِرتان:
الأُولى: بضمِّ الباء من (تَرْكَبُنَّ) وتأويلها ما سبق ذكره.
والثانية: بفتح الباء من (تَرْكَبَنَّ) وقد اختلف السلف في المخاطَبِ بهذا الخطاب، كما اختلفوا في الطَبَقِ المركوب على أَقوال:
الأول: لتركبنَّ يامحمد حالاً بعد حالٍ، وأمراً بعد أمرٍ من الشدائد، من قول العرب: (وَقع فلانٌ في بناتِ طَبَق) إذا وقع في أمرٍ شديد، وهذا قول ابن عباس من طريق مجاهد، وقد ذكر ابن جرير تحت هذا القول أقوال بعض السلف، ولكنهم لم يصرِّحوا بأن الخطابَ للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم عكرمة والحسن ومرة وسعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة والضحاك.
وقد جعل الطبريُّ هذا القول عائداً إلى معنى ما ذكرتُه في المتن، فقال: (فالصواب من التأويل، قول من قال: لتركبنَّ يا محمد
حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر من الشدائد، والمرادُ بذلك - وإن كان
الخطابُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موجَّهاً - جميع الناس أنهم
يَلْقَوْنَ من شدائد يوم القيامة وأهوالِه أحوالاً.
وإنما قلنا:عنى بذلك ما ذكرنا، أن الكلام قبل قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)} جرى بخطاب الجميع، وكذلك بعده، فكان أشبه أن يكونَ ذلك نظيرَ ما قبلَه وما بعدَه).
الثاني: لتركبنَّ يامحمدسماءً بعد سماء، وهذا قولُ ابن مسعود من طريق علقمة، والحسن وأبي العالية من طريق قتادة، ومسروق من طريق أبي الضحى، والشعبي من طريق إسماعيل، وقد ورد وصفُ السموات بالطَّبَقِ في قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} وهذا القول فيه إشارة إلى عُروج النبي صلى الله عليه وسلم للسماء.
الثالث: لتركبنَّ السماءَ حالاً بعد حالٍ من ضُروب التغيُّر التي تَلْحَقُها، من كونها تتشقَّق، وتَحْمَرُّ فتكون وردةً كالدِّهان، وتكون كالمُهْلِ، وغيرها وهذا قول ابن مسعود من طريق مرة الهمذاني وإبراهيم النَخَعي.
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا
السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا
الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى
رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ
إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء
ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن
يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ
(21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلا الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}
الشيخ: هذه سورة الانشقاق بين الله -جل وعلا- فيها شيئاً من أهوال يوم القيامة، فقال الله -جل وعلا-: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} وهو معنى قوله:{إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} وقد تقدم ذلك. ثم قال -جل وعلا-: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: أن السماوات تستمع إلى ربها -جل وعلا- وتصغي، وتستجيب لما أمرها -جل وعلا- فتنشق وتذهب وتزول. ثم قال -جل وعلا-: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} يعني: أن الأرض يوم القيامة تمد فلا يكون فيها نتوء ولا اعوجاج، كما قال الله -جل وعلا-: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} بل هي ممتدة مستقيمة ليس فيها عروج، ولا ارتفاع، ولا انخفاض، بل هي شيء واحد، وقد جاء في حديث علي بن الحسين رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: _((إذا كان يوم القيامة فإن الأرض تمد مد الأديم)) يعني: مد الجلد؛ أورده الحافظ ابن كثير، وهذا حديث ضعيف لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لإرساله. ثم قال -جل وعلا-: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}
أي: أن الأرض يوم القيامة تخرج ما في بطنها من الأموات، لبعثهم إلى الله
-جل وعلا- وتتخلى عنهم؛ لأنه في الدنيا كانت هذه الأرض يجد فيها العبد
أحياناً ملجأً ومهرباً، ويمشي عليها، ويستقر ويبني وينتفع بها، لكن إذا كان
يوم القيامة فإن الأرض تتخلى عنه فلا يستطيع أن ينتفع منها بشيء، وإنما
تُلقي هذه الأجساد وتخرجهم على باطنها لحشرهم إلى الله -جل وعلا-. ثم قال -جل وعلا-: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: أن هذه الأرض تصغي إلى الله -جل وعلا- وتستمع أمره وحُقَّ لها ذلك؛ لأن الله -جل وعلا- هو مدبر السماوات والأرض. ثم قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}يعني:
أن الإنسان يسعى في هذه الدنيا؛ وهذا السعي سيلاقيه وسيوافى به يوم
القيامة، سيلاقيه عند الله جل وعلا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ولهذا قسم الله -جل وعلا- الناس بعد ذلك إلى فريقين، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}
يعني: إذا أُعطي الإنسان كتاب أعماله بيمنه فسوف يحاسب حساباً يسيراً؛ لأن
ذلك دليل على أنه من أهل الجنة، ولهذا بين الله -جل وعلا- فرح المؤمن
واستبشاره بذلك في سورة الحاقة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} يعني: خذوا اقرؤوا كتابيه، {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}، قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}
بين النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحساب، لما ذكر النبي -صلى الله عليه
وسلم- أن الله جل وعلا يدني العبد يوم القيامة - العبد المؤمن - فيضعه تحت
كنفه، ويقرره بذنوبه، ثم إذا أقر وظن أنه هلك، قال الله جل وعلا: ((قد سترتها عليك في الدنيا وها أنا أغفرها لك اليوم)).
عائشة-رضي الله عنها- لما سمعت هذه الآية: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وقالت: ألم يقل الله جل وعلا: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما ذلك العرض)).
فالحساب اليسير المراد به في هذه الآية: العرض على الله جل وعلا، فيعرض العبد على الله جل وعلا- العبد المؤمن- فيضعه الله -جل وعلا- تحت كنفه، ويقرره بذنوبه، ثم يغفرها -جل وعلا- له.
قال الله جل وعلا: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي: إلى أهله الذين أعدهم الله -جل وعلا- له في الجنة، سواء كانوا من أهله الذين كانوا في الدنيا معه، ثم كانوا من أهل الجنة يوم القيامة، أو أهل الجنة أيضاً الذين ينشئهم الله -جل وعلا- لعباده المؤمنين في دار النعيم، فكلهم داخلون في هذه الآية؛ لأن العبد المؤمن إذا مات على الإيمان، ومات أهله وذريته كذلك، جمعهم الله -جل وعلا- في جنات النعيم، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.
وكذلك الله -جل وعلا- ينشئ لعبده أزواجاً وأهلاً في الجنة، سواء كان هذا الإنشاء إنشاءً جديداً، أو إنشاءً في الأوصاف؛ لأن أهل الجنة يوم القيامة ليسوا كأهل الدنيا، فالمرأة إذا جمعها الله -جل وعلا- بزوجها من أهل الدنيا في الآخرة تتبدل أوصافها وتتغير، وكذلك العبد في الدنيا إذا جمع الله -جل وعلا- المرأة إلى زوجها في الآخرة تكون أوصاف زوجها هذه متغيرة ومتبدلة، وكذلك الله -جل وعلا- ينشئ للعبد المؤمن أزواجاً في الآخرة ينقلب إليهن من الحور العين، وكل ذلك داخل في هذه الآية في قوله جل وعلا: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}.
ثم قال جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً} يعني: أن من أعطى كتابه وراء ظهره فسوف يدعو بالهلاك؛ لأن الهلاك متحقق له لا محالة {وَيَصْلَى سَعِيراً} يعني: أنه يعذب في نار جهنم، وقد قال الله -جل وعلا- في سورة الحاقة: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}.
قال العلماء - رحمهم الله -: إن العبد الكافر الفاجر الذي يأخذ كتابه بشماله؛ يعطى هذا الكتاب بشماله من وراء ظهره؛ لأن يده اليمنى تكون مغلولة إلى عنقه، ويعطى كتابه بشماله وراء ظهره؛ وذلك دليل وعلامة له على أنه من أهل النار، ولهذا قال الله جل وعلا: {وَيَصْلَى سَعِيراً}.
ثم بين -جل وعلا- ما الذي أوصله إلى هذه النار، وما الذي فضحه على رؤوس الأشهاد، وما الذي أخزاه يوم الدين، قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً}
يعني: أنه كان في أهله فرحاً فَرَحَ بطر وأشر، يظن أن الساعة لا تقوم، وأن
النعيم والعذاب إنما هو في الدنيا، فهو مسرور في أهله في هذه الحياة
الدنيا، سروراً أوجب له الخلود في النار يوم القيامة.
وإلا فالسرور في ذاته ليس مذموماً، وإنما السرور والفرح الذي ينتج البطر والأشر والإعراض عن دين الله وشرعه، كما قال الله -جل وعلا- لقارون: {إِنَّ
قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ
الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي
الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ}، وإلا فالمؤمن يفرح ويُسر في هذه الحياة الدنيا،
وقد يعجل له الله -جل وعلا- بشائر الخير في الدنيا، ولكن هذا الفرح فرح
ليس فيه مذمة على المؤمن؛لأنه لا يخرجه إلى معصية الله -جل وعلا- أو الكفر
بآياته.
وأما سرور أولئك وفرحهم فإنه فرح أخرجهم عن طاعة الله إلى معصية الله، وعن الإيمان به إلى الكفر به، والكفر إلى ما جاءت به الأنبياء والرسل.
ثم قال جل وعلا: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَن يَحُورَ} يعني: أن هذا الكافر ظن أنه لن يرجع إلى ربه، ولن ينقلب إليه، وأن المصير ليس إلى الله جل وعلا.
ثم قال جل وعلا: {بَلَى} يعنى: سيكون المصير إلى الله؛ والمرجع إليه جل وعلا، كما بينا ذلك فيما تقدم.
قال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} يعني: أن الله -جل وعلا- يعلم هذا العبد، ويعلم سره ونجواه، ويكتب أعماله ويحصيها عليه.
قال الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} قد قدمنا أن قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} أي: أقسم بالشفق، و(لا) هذه كما قال العلماء: (زائدة لتأكيد المعنى) وفي هذه المسألة كلام طويل، ولكن جمهور العلماء على أن قوله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}، {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}، {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} أن معنى ذلك إقسام من الله جل وعلا، وفي هذه الآية أقسم الله -جل وعلا- فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}والشفق: هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس.
{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} يعني: ما جمع وضم؛ لأن الليل يجمع الظلمة، ويجمع أشياء كثيرة.
ثم قال جل وعلا: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} يعني: إذا تكامل وكان بدراً.
فهذه الأشياء كلها آيات من آيات الله الدالة على عظمته وقدرته، أقسم الله -جل وعلا- بها في هذه الآيات.
والمقسم عليه قوله جل وعلا: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ} يعني: لتركبن حالة بعد حالة، أو حالة على حالة؛ لأن العبد يتقلب في رحم أمه أطواراً، ثم يخرج من بطن أمه إلى الدنيا، فيتقلب في هذه الدنيا أطواراً مختلفة، وألواناً مختلفة، يكون صغيراً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، وتعتريه حالات متعددة من المرض والنوم والصحة، والطاعة، والمعصية، والضلالة، والهدى، إلى غيرها من الأحوال التي تعتري الإنسان، أقسم الله -جل وعلا- على ذلك {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ}.
ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي: إن هذا القرآن بما اشتمل عليه من آيات عظيمة؛ حري بهؤلاء الكفار أن يسجدوا لهذا القرآن لعظمته، ويؤمنوا بما فيه من الآيات، ومن هذه الآية أخذ الإمامأَبُو حَنِيفَةَ- رحمه الله - وبعض العلماء: إلى أن سجود التلاوة واجب؛ لأن الله -جل وعلا- ذم الكفار إذ لم يسجدوا، ولكن الذي عليه جمهور العلماء، وهو الذي دلت عليه النصوص أن سجود التلاوة سنة؛ وليس بواجب؛ لأن عمر -رضي الله تعالى- عنه تلا آية السجدة في سورة النحل يوم الجمعة على المنبر ثم نزل وسجد، ثم لما جاءت الجمعة الأخرى قرأها ولم يسجد، وقال: ((من شاء سجد ومن لم يشأ لم يسجد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- سجد مرةً في سورة النجم، ومرة لم يسجد، فدل ذلك على أن السجود ليس بواجب، ولو كان واجباً لسجده النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذه الآية تدل على ذم الكفار الذين لا يستجيبون لهذا القرآن، ولا يذعنون لأوامر الله -جل وعلا- ولا ينتهون عن نواهيه التي جعلها في هذا الكتاب العظيم.
ثم قال جل وعلا: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ}
أي: ما منعهم من الإيمان، وما منعهم من الإذعان لهذا القرآن، إلا لأنهم
يكذبون، وعبر الله -جل وعلا- عنهم بصيغة المضارع، وهذا يدل على أنهم في
حالهم وفي مستقبلهم يكذبون ويصرون على تكذبيهم؛ كما قال الله -جل وعلا- في
الآية الأخرى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ}.
ثم قال جل وعلا: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} يعني: أن الله -جل وعلا- محيط بهم، يعلم سرهم ونجواهم، وما يعلنونه وما يضمرونه.
{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يعني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر هؤلاء الكفار بعذاب أليم؛ لأن البشارة تكون في الخير وتكون في الشر، فإذا أطلقت فإنها تنصرف إلى الخير، وقد تقيد بالعذاب أو بغيره فتنصرف إلى الشر، وفي هذه الآية قال الله جل وعلا: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} جزاء لتكذيبهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به.
ثم قال جل وعلا: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} هذا استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع تكون: (إلا) فيه بمعنى: (لكن) أي: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون أي: غير منقطع، بل هو مستمر، كما تقدم بيان ذلك.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تفسير سورة الانشقاق
تفسير قول الله تعالى : ( وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت ) المراد بالأهل في قوله تعالى: ( وينقلب إلى أهله مسرورا )
تفسير قول الله تعالى : ( إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت )
تفسير قول الله تعالى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه )
احتمالان في عود الضمير في قوله تعالى: (فملاقيه)
بيان متى يكون السرور مذموما ومتى لا يكون مذموما
تفسير قول الله تعالى : ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ، ويصلى سعيراً)
القراءات في قوله (يصلى)
تفسير قول الله تعالى : ( إنه كان في أهله مسروراً )
تفسير قول الله تعالى : ( إنه ظن أن لن يحور )
تفسير قول الله تعالى : ( بلى إن ربه كان به بصيراً )
تفسير قول الله تعالى : ( فلا أقسم بالشفق )
صيغة ( فلا أقسم ) يراد بها الإقسام
بيان المراد بالشفق
تفسير قول الله تعالى : ( والليل وما وسق )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: ( والليل وما وسق)
تفسير قول الله تعالى : ( والقمر إذا اتسق )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (والقمر إذا اتسق)
تفسير قول الله تعالى : ( لتركبن طبقاً عن طبق )
القراءات في قوله تعالى: (لتركبن)
أقوال السلف في معنى الطبق المركوب
تفسير قول الله تعالى : ( فما لهم لا يؤمنون ، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون )
حكم سجود التلاوة
تفسير قول الله تعالى : ( بل الذين كفروا يكذبون ، والله أعلم بما يوعون )
تفسير قول الله تعالى : ( فبشرهم بعذاب أليم )
البشارة عند الإطلاق يراد بها الخير وقد يراد بها الشر عند التقييد
تفسير قول الله تعالى : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون )
ضابط الاستثناء المنقطع
الأسئلة
س1: بين جواب الشرط في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ}.
س2: بين معاني الكلمات التالية: انشقَّت، أَذِنَت، حُقَّت، تخلَّت، ثبوراً، سعيراً، يحور.
س3: قال الله تعالى:{إِذَا
السَّمَاءُ انشَقَّتْ(1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2) وَإِذَا
الأَرْضُ مُدَّتْ(3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4) وَأَذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(5)}، فسِّر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً مبيناً أثر الموعظة بأهوال يوم القيامة على سلوك العبد.
س4: بين ما يفيده الاسم الموصول في قوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}.
س5: بيِّن مرجع ضمير الغائب في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}.
س6: من أعظم العلوم نفعاً للعبد علم الجزاء. تكلم عن أهمية هذا العلم وأثره على سلوك العبد من خلال دراستك لتفسير السورة.
س7: ما معنى الحساب في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}.
س8 : أيُّهما يكون قبل الآخر؟ نشر الدواوين أم الحساب؟ استدل لما تقول.
س9: في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((حفَّت الجنة بالمكاره))، اذكر ما يشهد لهذه الجملة من الآيات التي درستها.
س10:
ورد في مواضع عدة من القرآن الكريم أن الفريق الخاسر يؤتى كتابَه بشماله،
وورد في هذه الآيات أنه يؤتى كتابَه وراء ظهره، فكيف تجمع بين هذه النصوص؟
س11: ذكر الله عز وجل أن الفريق الخاسر يؤتى كتابه وراء ظهره، بين الحكمة من إيتائه كتابه بهذه الطريقة.
س12:
التفكر في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى من أعظم الوسائل المعينة على
الاستقامة، تكلم عن هذا الأصل من خلال دراستك لهذه الآيات.
س13: بين معاني الكلمات التالية: الشفق، وسق، اتسق، طبق، يوعون، ممنون.
س14: فسر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً.
س15: كرر الله عز وجل الموعظة بالجزاء مرتين في هذه السورة، تكلم باختصار عن أهمية هذا التكرار.
س16: بين معنى تركيب القسم بصيغة {لا أُقْسِمُ}.
س17: بين جواب القسم في هذه الآيات، واشرحه بإيجاز.
س18: بين مناسبة المقسم به للمقسم عليه في هذا القسم.
س19: بين دلالة الآيات الكونية على البعث والجزاء.
س20: ما معنى السجود في قوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ}؟
س21: اذكر شروط العمل الصالح. س22: اذكر القراءتين في قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ}، مع بيان المعنى على كلا القراءتين.
تفسير ابن كثير
قال مالكٌ: عن عبد اللّه بن يزيد، عن أبي سلمة، أنّ أبا هريرة قرأ بهم: {إذا السّماء انشقّت}؛ فسجد فيها فلمّا انصرف أخبرهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سجد فيها. رواه مسلمٌ والنّسائيّ من طريق مالكٍ به. وقال البخاريّ: حدّثنا أبو النّعمان، حدّثنا معتمرٌ، عن أبيه، عن بكرٍ، عن أبي رافعٍ قال: «صلّيت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: {إذا السّماء انشقّت}؛ فسجد، فقلت له، قال: «سجدت خلف أبي القاسم صلّى اللّه عليه وسلّم فلا أزال أسجد بها حتّى ألقاه». ورواه أيضاً عن مسدّدٍ، عن معتمرٍ به، ثمّ رواه عن مسدّدٍ، عن يزيد بن زريعٍ، عن التّيميّ، عن بكرٍ، عن أبي رافعٍ فذكره. وأخرجه مسلمٌ وأبو داود والنّسائيّ من طرقٍ، عن سليمان بن طرخان التّيميّ به. وقد
روى مسلمٌ وأهل السّنن من حديث سفيان بن عيينة، زاد النّسائيّ وسفيان
الثّوريّ، كلاهما عن أيّوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال:«سجدنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في: {إذا السّماء انشقّت}، و{اقرأ باسم ربّك الّذي خلق}». يقول تعالى: {إذا السّماء انشقّت}. وذلك يوم القيامة. {وأذنت لربّها}. أي: استمعت لربّها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق، {وحقّت}. أي: وحقّ لها أن تطيع أمره؛ لأنّه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كلّ شيءٍ وذلّ له كلّ شيءٍ. ثمّ قال: {وإذا الأرض مدّت}. أي: بسطت وفرشت ووسّعت. قال
ابن جريرٍ رحمه اللّه: حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ،
عن الزّهريّ، عن عليّ بن الحسين، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إذا
كان يوم القيامة مدّ اللّه الأرض مدّ الأديم حتّى لا يكون لبشرٍ من النّاس
إلاّ موضع قدميه، فأكون أوّل من يدعي، وجبريل عن يمين الرّحمن، واللّه ما
رآه قبلها، فأقول: ياربّ، إنّ هذا أخبرني أنّك أرسلته إليّ. فيقول اللّه
عزّ وجلّ: صدق. ثمّ أشفع فأقول: ياربّ، عبادك عبدوك في أطراف الأرض. قال:
وهو المقام المحمود» . وقوله: {وألقت ما فيها وتخلّت}. أي: ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلّت منهم، قاله مجاهدٌ وسعيدٌ وقتادة، {وأذنت لربّها وحقّت}. كما تقدّم. وقوله: {يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً}. أي: ساعٍ إلى ربّك سعياً وعاملٌ عملاً، {فملاقيه}. ثمّ
إنّك ستلقى ما عملت من خيرٍ أو شرٍّ، ويشهد لذلك ما رواه أبو داود
الطّيالسيّ عن الحسن بن أبي جعفرٍ، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ قال: قال رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قال جبريل: يا محمّد، عش ما شئت؛ فإنّك ميّتٌ، وأحبب من شئت، فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنّك ملاقيه». ومن النّاس من يعيد الضّمير على قوله: {ربّك} أي: فملاقٍ ربّك، ومعناه: فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك. وعلى هذا فكلا القولين متلازمٌ. قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً}. يقول: «تعمل عملاً تلقى اللّه به، خيراً كان أو شرًّا». وقال قتادة: «{يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً}. إنّ كدحك يابن آدم لضعيفٌ، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة اللّه فليفعل، ولا قوّة إلاّ باللّه». ثمّ قال: {فأمّا من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً}. أي: سهلاً بلا تعسيرٍ، أي: لا يحقّق عليه جميع دقائق أعماله، فإنّ من حوسب كذلك يهلك لا محالة. وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، أخبرنا أيّوب، عن عبد اللّه بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من نوقش الحساب عذّب». قالت: «فقلت: أليس اللّه قال: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً}؟» قال: «ليس ذاك بالحساب، ولكنّ ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذّب». وهكذا رواه البخاريّ ومسلمٌ والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن جريرٍ من حديث أيّوب السّختيانيّ به. وقال
ابن جريرٍ: حدّثنا ابن وكيعٍ، حدّثنا روح بن عبادة، حدّثنا أبو عامرٍ
الخزّاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: «إنّه ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلاّ معذّباً». فقلت: «أليس اللّه يقول: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً}؟» قال: «ذاك العرض، إنّه من نوقش الحساب عذّب». وقال بيده على أصبعه كأنّه ينكت».
وقد رواه أيضاً عن عمرو بن عليٍّ، عن ابن أبي عديٍّ، عن أبي يونس
القشيريّ، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، فذكر الحديث، أخرجاه من
طريق أبي يونس القشيريّ، واسمه حاتم بن أبي صغيرة، به. قال ابن جريرٍ: وحدّثنا نصر بن عليٍّ الجهضميّ، حدّثنا مسلمٌ، عن الحريش بن الخرّيت أخي الزّبير، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: «من نوقش الحساب - أو: من حوسب عذّب-. قال: ثمّ قالت: «إنّما الحساب اليسير عرضٌ على اللّه عزّ وجلّ، وهو يراهم». وقال
أحمد: حدّثنا إسماعيل، حدّثنا محمّد بن إسحاق، حدّثني عبد الواحد بن حمزة
بن عبد اللّه بن الزّبير، عن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير، عن عائشة
قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول في بعض صلاته: «اللّهمّ حاسبني حساباً يسيراً». فلمّا انصرف قلت: «يا رسول اللّه ما الحساب اليسير؟» قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنّه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذٍ هلك». صحيحٌ على شرط مسلمٍ. وقوله: {وينقلب إلى أهله مسروراً}. أي: ويرجع إلى أهله في الجنّة، قاله قتادة والضّحّاك، {مسروراً}. أي: فرحاً مغتبطاً بما أعطاه اللّه عزّ وجلّ. وقد روى الطّبرانيّ عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «إنّكم تعملون أعمالاً لا تعرف، ويوشك العازب أن يثوب إلى أهله، فمسرورٌ ومكظومٌ» . وقوله: {وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره}. أي: بشماله من وراء ظهره، تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك. {فسوف يدعوا ثبوراً}. أي: خساراً وهلاكاً. {ويصلى سعيراً إنّه كان في أهله مسروراً}. أي: فرحاً لا يفكّر في العواقب، ولا يخاف ممّا أمامه، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطّويل. {إنّه ظنّ أن لن يحور}. أي: كان يعتقد أنّه لا يرجع إلى اللّه، ولا يعيده بعد موته، قاله ابن عبّاسٍ وقتادة وغيرهما. والحور: هو الرّجوع، قال اللّه: {بلى إنّ ربّه كان به بصيراً}. يعني: بلى سيعيده اللّه كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرّها؛ فإنّه كان به بصيراً، أي: عليماً خبيراً. روي
عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعبادة بن الصّامت وأبي هريرة وشدّاد بن أوسٍ وابن
عمر ومحمّد بن عليّ بن الحسين ومكحولٍ وبكر بن عبد اللّه المزنيّ وبكير بن
الأشجّ ومالكٍ وابن أبي ذئبٍ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون أنّهم
قالوا: «الشّفق: الحمرة». وقال عبد الرّزّاق عن معمرٍ، عن ابن خثيمٍ، عن أبي لبيبة، عن أبي هريرة قال: «الشّفق: البياض».
فالشّفق هو حمرة الأفق؛ إمّا قبل طلوع الشّمس، كما قاله مجاهدٌ، وإمّا بعد
غروبها كما هو معروفٌ عند أهل اللّغة، قال الخليل بن أحمد: الشّفق: «الحمرة من غروب الشّمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل: غاب الشّفق». وقال الجوهريّ: «الشّفق: بقيّة ضوء الشّمس وحمرتها في أوّل اللّيل إلى قريبٍ من العتمة». وكذا قال عكرمة: «الشّفق الذي يكون بين المغرب والعشاء». وفي صحيح مسلمٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «وقت المغرب ما لم يغب الشّفق». ففي هذا كلّه دليلٌ على أنّ الشّفق هو كما قاله الجوهريّ والخليل، ولكن صحّ عن مجاهدٍ أنّه قال في هذه الآية: {فلا أقسم بالشّفق}: «هو النّهار كلّه». وفي روايةٍ عنه أيضاً أنّه قال: «الشّفق: الشّمس». رواهما ابن أبي حاتمٍ، وإنّما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى: {واللّيل وما وسق}. {واللّيل وما وسق}. أي: جمع، كأنّه أقسم بالضّياء والظّلام. وقال
ابن جريرٍ: أقسم اللّه بالنّهار مدبراً، وباللّيل مقبلاً. قال ابن جريرٍ
وقال آخرون: الشّفق اسمٌ للحمرة والبياض، وقالوا: هو من الأضداد. قال ابن
عبّاسٍ ومجاهدٌ والحسن وقتادة: {وما وسق}: «وما جمع». قال قتادة: «وما جمع من نجمٍ ودابّةٍ»، واستشهد ابن عبّاسٍ بقول الشّاعر: مستوسقاتٌ لو يجدن سائقا وقال عكرمة: {واللّيل وما وسق}. يقول: «ما ساق من ظلمةٍ، إذا كان اللّيل ذهب كلّ شيءٍ إلى مأواه». وقوله: {والقمر إذا اتّسق}. قال ابن عبّاسٍ: «إذا اجتمع واستوى». وكذا قال عكرمة ومجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ ومسروقٌ وأبو صالحٍ والضّحّاك وابن زيدٍ، {والقمر إذا اتّسق}: «إذا استوى». وقال الحسن: «إذا اجتمع، إذا امتلأ». وقال قتادة: «إذا استدار». ومعنى كلامهم: أنّه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلاً للّيل وما وسق. وقوله: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. قال البخاريّ: أخبرنا سعيد بن النّضر، أخبرنا هشيمٌ، أخبرنا أبو بشرٍ، عن مجاهدٍ قال: قال ابن عبّاسٍ: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}: «حالاً بعد حالٍ»، قال: «هذا نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم». هكذا رواه البخاريّ بهذا اللّفظ، وهو محتملٌ أن يكون ابن عبّاسٍ أسند هذا التّفسير عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، كأنّه قال: «سمعت هذا من نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم»، فيكون قوله: نبيّكم مرفوعاً على الفاعليّة من قال، وهو الأظهر واللّه أعلم. كما قال أنسٌ:«لا يأتي عامٌ إلاّ والّذي بعده شرٌّ منه. سمعته من نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم». وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا هشيمٌ، أخبرنا أبو بشرٍ، عن مجاهدٍ أنّ ابن عبّاسٍ كان يقول: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. قال: «يعني نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم، يقول: حالاً بعد حالٍ». هذا لفظه. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {طبقاً عن طبقٍ}: «حالاً بعد حالٍ». وكذا قال عكرمة ومرّة الطّيّب ومجاهدٌ والحسن والضّحّاك. ويحتمل أن يكون المراد: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}:
حالاً بعد حالٍ، قال: هذا... يعني: المراد بهذا نبيّكم صلّى اللّه عليه
وسلّم، فيكون مرفوعاً على أنّ "هذا" و"نبيّكم" يكونان مبتدأً وخبراً،
واللّه أعلم. ولعلّ
هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثيرٍ من الرّواة كما قال أبو داود
الطّيالسيّ وغندرٌ: حدّثنا شعبة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن
عبّاسٍ: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. قال: «محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم». ويؤيّد
هذا المعنى قراءة عمر وابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وعامّة أهل مكّة والكوفة:
(لتركبنّ) بفتح التّاء والباء، وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ
الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن الشّعبيّ: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. قال: «لتركبنّ يا محمّد، سماءً بعد سماءٍ». هكذا روي عن ابن مسعودٍ ومسروقٍ وأبي العالية: {طبقاً عن طبقٍ}: «سماءً بعد سماءٍ». قلت: يعنون ليلة الإسراء، وقال أبو إسحاق والسّدّيّ عن رجلٍ، عن ابن عبّاسٍ: {طبقاً عن طبقٍ}: «منزلاً على منزلٍ». وكذا رواه العوفيّ عن ابن عبّاسٍ مثله، وزاد: ويقال: أمراً بعد أمرٍ وحالاً بعد حالٍ. وقال السّدّيّ نفسه: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}: أعمال من قبلكم منزلاً عن منزلٍ. قلت: كأنّه أراد معنى الحديث الصّحيح: «لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتّى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه». قالوا: يا رسول اللّه، اليهود والنّصارى؟ قال: «فمن؟». وهذا محتملٌ. وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدّثنا صدقة، حدّثنا ابن جابرٍ أنّه سمع مكحولاً يقول في قول اللّه: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. قال: «في كلّ عشرين سنةٍ تحدثون أمراً لم تكونوا عليه». وقال الأعمش: حدّثني إبراهيم، قال: قال عبد اللّه: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. قال: «السّماء تنشقّ، ثمّ تحمرّ، ثمّ تكون لوناً بعد لونٍ». وقال الثّوريّ عن قيس بن وهبٍ، عن مرّة، عن ابن مسعودٍ: {طبقاً عن طبقٍ}. قال:«السّماء مرّةً كالدّهان، ومرّةً تنشقّ». وروى البزّار من طريق جابرٍ الجعفيّ، عن الشّعبيّ، عن علقمة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. «يا محمّد، يعني: حالاً بعد حالٍ». ثمّ قال: ورواه جابرٌ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ. وقال سعيد بن جبيرٍ: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. قال: «قومٌ كانوا في الدّنيا خسيسٌ أمرهم، فارتفعوا في الآخرة، وآخرون كانوا أشرافاً في الدّنيا فاتّضعوا في الآخرة». وقال عكرمة: {طبقاً عن طبقٍ}: «حالاً بعد حالٍ، فطيماً بعدما كان رضيعاً، وشيخاً بعدما كان شابًّا». وقال الحسن البصريّ: {طبقاً عن طبقٍ}. يقول: «حالاً بعد حالٍ، رخاءً بعد شدّةٍ، وشدّةً بعد رخاءٍ، وغنًى بعد فقرٍ، وفقراً بعد غنًى، وصحّةً بعد سقمٍ، وسقماً بعد صحّةٍ». وقال
ابن أبي حاتمٍ: ذكر عن عبد اللّه بن زاهرٍ، حدّثني أبي، عن عمرو بن شمرٍ،
عن جابرٍ، هو الجعفيّ، عن محمّد بن عليٍّ، عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ
ابن آدم لفي غفلةٍ ممّا خلق له، إنّ اللّه إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب
رزقه، اكتب أجله، اكتب أثره، اكتب شقيًّا أو سعيداً. ثمّ يرتفع ذلك الملك،
ويبعث اللّه إليه ملكاً فيحفظه حتّى يدرك، ثمّ يرتفع ذلك الملك، ثمّ يوكّل
اللّه به ملكين يكتبان حسناته وسيّئاته، فإذا حضره الموت ارتفع ذانك
الملكان، وجاءه ملك الموت فقبض روحه، فإذا دخل قبره ردّ الرّوح في جسده،
ثمّ ارتفع ملك الموت وجاءه ملكا القبر فامتحناه ثمّ يرتفعان، فإذا قامت
السّاعة انحطّ عليه ملك الحسنات وملك السّيّئات، فانتشطا كتاباً معقوداً في
عنقه ثمّ حضرا معه، واحداً سائقاً وآخر شهيداً، ثمّ قال عزّ وجلّ: {لقد كنت في غفلةٍ من هذا} ». قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ} ». قال: «حالاً بعد حالٍ». ثمّ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ قدّامكم لأمراً عظيماً لا تقدرونه، فاستعينوا باللّه العظيم». هذا حديثٌ منكرٌ، وإسناده فيه ضعفاء، ولكنّ معناه صحيحٌ، واللّه سبحانه وتعالى أعلم. ثمّ
قال ابن جريرٍ بعدما حكى أقوال النّاس في هذه الآية من القرّاء
والمفسّرين: والصّواب من التّأويل قول من قال: لتركبنّ أنت يا محمّد، حالاً
بعد حالٍ وأمراً بعد أمرٍ من الشّدائد، والمراد بذلك وإن كان الخطاب
موجّهاً إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جميع النّاس أنّهم يلقون من
شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً. وقوله: {فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}.
أي: فماذا يمنعهم من الإيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر؟ وما لهم إذا
قرئت عليهم آيات الرّحمن وكلامه وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاماً وإكراماً
واحتراماً. وقوله: {بل الّذين كفروا يكذّبون}. أي: من سجيّتهم التّكذيب والعناد والمخالفة للحقّ. {واللّه أعلم بما يوعون}. قال مجاهدٌ وقتادة: «يكتمون في صدورهم». {فبشّرهم بعذابٍ أليمٍ}. أي: فأخبرهم يا محمّد، بأنّ اللّه عزّ وجلّ قد أعدّ لهم عذاباً أليماً. وقوله: {إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات}. هذا استثناءٌ منقطعٌ، لكنّ الّذين آمنوا، أي: بقلوبهم وعملوا الصّالحات بجوارحهم، {لهم أجرٌ}. أي: في الدّار الآخرة، {غير ممنونٍ}. قال ابن عبّاسٍ: «غير منقوصٍ». وقال مجاهدٌ والضّحّاك: «غير محسوبٍ». وحاصل قولهما أنّه غير مقطوعٍ، كما قال تعالى: {عطاءً غير مجذوذٍ}. وقال السّدّيّ: «قال بعضهم: {غير ممنونٍ}: غير منقوصٍ. وقال بعضهم: غير ممنونٍ عليهم».
وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحدٍ؛ فإنّ اللّه عزّ وجلّ له
المنّة على أهل الجنّة في كلّ حالٍ وآنٍ ولحظةٍ، وإنّما دخلوها بفضله
ورحمته، لا بأعمالهم، فله عليهم المنّة دائماً سرمداً، والحمد للّه وحده
أبداً؛ ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النّفس، {وآخر دعواهم أن الحمد للّه ربّ العالمين}. آخر تفسير سورة الانشقاق).[تفسير القرآن العظيم: 8/ 355-362]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة الانشقاق وهي مكّيّةٌ.