22 Oct 2008
{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
(18-27) {كَلَّا
إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ
(23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن
رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ}.
لما ذكرَ أنَّ كتابَ الفجارِ في أسفلِ الأمكنةِ وأضيقِها، ذكرَ أنَّ كتابَ
الأبرارِ في أعلاها وأوسعِهَا، وأفسحِها وأنَّ كتابهَم المرقومَ {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} من الملائكةِ الكرامِ، وأرواحِ الأنبياءِ والصِّدِّيقين والشهداءِ، ويُنوِّه اللهُ بذكرِهم في الملأِ الأعلى.
و{عِلِّيُّونَ} اسمٌ لأعلى الجنةِ، فلمَّا ذكرَ كتابهَم، ذكرَ أنهم في نعيمٍ، وهو اسمٌ جامعٌ لنعيمِ القلبِ والروحِ والبدنِ.
{عَلَى الأَرَائِكِ}أي: السررِ المزينةِ بالفرشِ الحسانِ.
{يَنْظُرُونَ}
إلى ما أعدَّ اللهُ لهمْ منَ النعيمِ، وينظرونَ إلى وجهِ ربّهم الكريمِ،{تَعْرِفُ} أيُّها الناظرُ إليهم {فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي: بهاءَ النعيمِ ونضارتَهُ ورونقه، فإنَّ توالي اللذةِ والسرورِ، يكسبُ الوجهَ نوراً وحسناً وبهجةً.
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} وهو منْ أطيبِ ما يكونُ منَ الأشربةِ وألذِّها، {مَخْتُومٍ} ذلكَ الشرابُ {خِتَامُهُ مِسْكٌ}يحتملُ أنَّ المرادَ مختومٌ عنْ أن يداخلَه شيءٌ ينقصُ لذتَهُ، أو يفسدُ طعمَهُ، وذلكَ الختامُ الذي ختمَ به مسكٌ.
ويحتملُ أنَّ المرادَ أنَّهُ يكونُ في آخرِ الإناءِ، الذي يشربونَ منه
الرحيقَ حثالةٌ، وهي المسكُ الأذفرُ، فهذا الكدرُ منهُ، الذي جرتِ العادةُ
في الدنيا أنَّه يراقُ، يكونُ في الجنةِ بهذهِ المثابةِ، {وَفِي ذَلِكَ}النعيمِ المقيمِ، الذي لا يعلمُ مقدارَهُ وحسنَهُ إلا اللهُ، {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}
أي: يتسابقوا في المبادرةِ إليه والأعمالِ الموصلةِ إليه، فهذا أولى ما
بذلتْ فيه نفائسُ الأنفاس، وأحرى ما تزاحمتْ للوصولِ إليه فُحُولُ الرجالِ.
(29-36) {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ
يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ
فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ
(32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ
آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ
(35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
لمَّا ذكرَ تعالى جزاءَ المجرمينَ وجزاء المؤمنينَ، و ما بينهما من
التفاوتِ العظيمِ، أخبرَ أنَّ المجرمينَ كانوا في الدنيا يسخرونَ
بالمؤمنينَ، ويستهزؤونَ بهمْ، ويضحكونَ منهمْ، ويتغامزونَ بهمْ عندَ
مرورِهم عليهمُ، احتقاراً لهم وازدراءً، ومعَ هذا تراهُمْ مطمئنينَ، لا
يخطرُ الخوفُ على بالِهم، {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ} صباحاً أو مساءً {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}
أي: مسرورينَ مغتبطينَ، وهذا من أعظمِ ما يكونُ من الاغترارِ، أنهَّم
جمعوا بينَ غاية الإساءةِ والأمنِ في الدنيا، حتى كأنهَّمْ قدْ جاءهُمْ
كتابٌ منَ اللهِ وعهدٌ،أنهَّم منْ أهلِ السعادةِ، وقدْ حكمُوا لأنفسهمْ
أنهَّمْ أهلُ الهدى، وأنَّ المؤمنينَ ضالونَ، افتراءً على اللهِ، وتجرؤاً
على القولِ عليه بلا علمٍ.
قالَ تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}
أي: وما أرسلُوا وكلاءَ على المؤمنينَ ملزمينَ بحفظِ أعمالهِم، حتىَّ
يحرصوا على رميِهم بالضلالِ، وما هذا منْهم ألا تعنُّتٌ وعنادٌ وتلاعبٌ،
ليسَ له مستندٌ ولا برهانٌ، ولهذا كانَ جزاؤُهم في الآخرةِ منْ جنسِ عملِهم
قالَ تعالى: {فَالْيَوْمَ} أي: يومَ القيامةِ، {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} حينَ يرونهَم في غمراتِ العذابِ يتقلبونَ، وقد ذهبَ عنْهم ما كانُوا يفترونَ، والمؤمنونَ في غايةِ الراحةِ والطمأنينةِ {عَلَى الأَرَائِكِ} وهي السررُ المزينةُ، {يَنْظُرُونَ} إلى ما أعدَّ اللهُ لهم من النعيمِ، وينظرونَ إلى وجهِ ربِّهم الكريمِ.
{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي: هلْ جوزُوا منْ جنسِ عملِهم؟
فكما ضحكُوا في الدنيا من المؤمنينَ ورموهُم بالضلالِ، ضحكَ المؤمنونَ
منْهم في الآخرةِ، ورأوهم في العذابِ والنكالِ، الذي هو عقوبةُ الغيِّ
والضلالِ.
نعم، ثوِّبُوا ما كانُوا يفعلونَ، عدلاً من الله وحكمة، والله عليمٌ حكيمٌ.
18- {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}؛
أَيْ: إِنَّهُمْ مَكْتُوبُونَ فِي أَهْلِ عِلِّيِّينَ، وَهِيَ الْجَنَّةُ
أَوْ أَعَالِي الْجَنَّةِ، وَالأبرارُ: هُم المُطِيعُونَ.
19- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}؛ أَيْ: وَمَا أَعْلَمَكَ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَيْءٍ عِلِّيِّونَ؟ عَلَى جِهَةِ التَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ لِعِلِّيِّينَ.
20- {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}؛ أَي: الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ أَسْمَاؤُهُم كِتَابٌ مَسْطُورٌ.
21- {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلائِكَةَ يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ المَرْقُومَ وَيَرَوْنَهُ، وَقِيلَ: يَشْهَدُونَ بِمَا فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
22- {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}؛ أَيْ: إِنَّ أَهْلَ الطاعةِ لفي تَنَعُّمٍ عَظِيمٍ لا يُقَادَرُ قَدْرُهُ.
23- {عَلَى الأَرَائِكِ}
الأَرَائِكُ: الأَسِرَّةُ الَّتِي فِي الحِجَالِ، وَلا تُطْلَقُ
الأَرِيكَةُ عَلَى السَّرِيرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي حَجَلَةٍ؛ وَهِيَ
الْكِلَّةُ.{يَنْظُرُونَ} إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ من الكَراماتِ، وَقِيلَ: يَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِهِ جَلَّ جَلالُهُ.
24- {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}: إِذَا رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ؛لِمَا
تَرَاهُ فِي وُجُوهِهِمْ من النُّورِ وَالْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ
وَالبَهْجَةِ وَالرَّوْنَقِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ زَادَ فِي جَمَالِهِمْ
وَفِي أَلْوَانِهِمْ مَا لا يَصِفُهُ وَاصِفٌ.
25- {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ}. الرَّحِيقُ مِنَ الْخَمْرِ: مَا لا غِشَّ فِيهِ وَلا شَيْءَ يُفْسِدُهُ، وَالمَخْتُومُ: الَّذِي لَهُ خِتَامٌ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ منْ أَنْ تَمَسَّهُ يَدٌ إِلَى أَنْ يُفَكَّ خَتْمُهُ للأَبْرَارِ.
26- {خِتَامُهُ مِسْكٌ}؛
أَيْ: آخِرُ طَعْمِهِ رِيحُ المِسْكِ: إِذَا رَفَعَ الشارِبُ فَاهُ منْ
آخِرِ شَرَابِهِ وَجَدَ رِيحَهُ كَرِيحِ المِسْكِ، وَقِيلَ: مَخْتُومٌ
أَوَانِيهِ مِنَ الأكوابِ وَالأباريقِ بِمِسْكٍ، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}؛
أَيْ: فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ، وَالتَّنَافُسُ: التَّشَاجُرُ عَلَى
الشَّيْءِ وَالتَّنَازُعُ فِيهِ، فَيُرِيدُهُ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ،
وَيَنْفَسُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ أَيْ: يَضِنُّ بِهِ.
27- {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ}؛
أَيْ: وَمِزَاجُ ذَلِكَ الرَّحِيقِ منْ تَسْنِيمٍ، وَهُوَ شَرَابٌ
يَنْصَبُّ عَلَيْهِمْ منْ عُلُوٍّ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ الْجَنَّةِ.
28- {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}؛ أَيْ: يُسْقَوْنَ الرَّحِيقَ أَو التَّسْنِيمَ مِنْ عَيْنٍ يَمْزِجُونَ بِهَا كُؤُوسَهُمْ.
29- {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}: وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}: يَسْتَهْزِئُونَ بِالمُؤْمِنِينَ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ.
30- {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} مِنَ الْغَمْزِ، وَهُوَ الإشارةُ بالجُفُونِ والحواجبِ، يُعَيِّرُونَهُمْ بِالإِسْلامِ وَيَعِيبُونَهُمْ بِهِ.
31- {وَإِذَا انْقَلَبُوا}؛ أَيْ: رَجَعَ الْكُفَّارُ {إِلَى أَهْلِهِمُ} مِنْ مَجَالِسِهِمْ، {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}؛
أَيْ: مُعْجَبِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مُتَلَذِّذِينَ بِهِ، يَتَفَكَّهُونَ
بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ والاستهزاءِ بِهِمْ.
32- {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} فِي اتِّبَاعِهِمْ مُحَمَّداً، وَتَمَسُّكِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَرْكِهِمُ التَّنَعُّمَ الحَاضِرَ.
33- {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}:
لَمْ يُرْسَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ مُوَكَّلِينَ
بِهِمْ يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أَحْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ.
34- {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا} الْمُرَادُ باليَوْمِ: الْيَوْمُ الآخِرُ.{مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}؛
أَيْ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَضْحَكُونَ من
الْكُفَّارِ حِينَ يَرَوْنَهُمْ أَذِلاَّءَ مَغْلُوبِينَ قَدْ نَزَلَ
بِهِمْ مَا نَزَلَ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا ضَحِكَ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ فِي
الدُّنْيَا.
35- {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ}؛ أَيْ: يَنْظُرُونَ إِلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَالمُؤْمِنُونَ مُتَنَعِّمُونَ عَلَى الأَرَائِكِ.
36- {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}؛
أَيْ: قَدْ وَقَعَ الْجَزَاءُ للكُفَّارِ بِمَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي
الدُّنْيَا مِنَ الضَّحِكِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ.
المتن :
18-20-قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ}
أي: ليس الأمرُ كما تقولونَ من تكذيبكم بالجزاء والعذاب، ثم أخبرَ عن
كتابِ الذين أطاعوا ربَّهم فأكثروا، وعبَدوه فأحسنوا، أخبرَ أنَّ كتابَهم
عالٍ قدرُهُ في السماء السابعة(1).
ولتعظيمِ أمرِهذا الكتابِ
استفهم عن موضع كتابِهم على طريقة القرآنِ في الاستفهام، فقال: (وما أعلمكَ
ما عِلِّيُّون؟) ثم بيَّنَ أن كتابَهم قد فُرِغَ منه، فلا يُزادُ فيه ولا
يُنقصُ منه، ولا يَزولُ رَقْمُهُ كما لا يزولُ الخيطُ الذي على الثوب،
والله أعلم.
21-قولُه تعالى: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} أي: يحضرُ كتابَ هؤلاء الأبرارِ مقرَّبو كلِّ سماءٍ(2).
22- 24-قولُه تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}
إنَّ الذين برُّوا باتِّقاء الله وأداءِ فرائضِه لفي تنعُّم دائم لا يزول،
وذلك في الجنَّة، التي يجلسونَ على سُرُرِها المزيَّنة في الغُرَفِ(3)،
ينظرونَ - وهم عليها - إلى ما آتاهم الله من النَّعيم، وأعلى هذا النَّعيم
رؤية الباري جلَّ وعزَّ(4)، وإذا رأيتَهم، فإنك ترى أَثَرَ التنعُّم على
وجوهِهِم بما يظهرُ عليها من الحُسْنِ والبهاء.
25- 26-قولُه تعالى: {يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} أي: يسقيهم خَدَمُهُم من خمرِ الجنة(5) الذي قد خُلِطَ بالمِسك، وجُعِلَ في نهايته(6)، فهم يشمُّونه من أوَّلِ شُربهم إلى آخره.
وفي طلب هذا التنعُّم يجبُ أن يَتبارَى ويَتسابقَ في الحصولِ عليه الذين يريدون النعيمَ الأبديَّ(7).
27- 28-قولُه تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}
أي: وهذا الرحيقُ المختومُ بالمسكِ يُخْلَطُ به ماءٌ من عَيْنِ تسنيم،
التي ينزلُ عليهم ماؤها من أعلى الجنة، فيشربُه(8) المقرَّبونَ صِرْفاً غير
مخلوطٍ، ويشربه سائرُ المؤمنينَ مخلوطاً بغيره(9).
29-قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} أي: إنَّ الكفارَ الذين اكتسبوا المآثم، كانوا في الدنيا يهزؤون بالمؤمنين ويضحَكون منهم(10).
30-قولُه تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} أي: وإذا مرَّ الكفَّار بالمؤمنين، أشاروا إليهم: إمَّا باليد، وإمَّا بالعينِ، سُخْرِيةً واستِهزاءً(11).
31-قولُه تعالى: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} أي: وإذا عادَ هؤلاءِ الكفارُ إلى بيوتهم بعد أعمالهم هذه التي عَملوها للمؤمنين، عادوا وهم متلذِّذون بما فعلوا.
32-قولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ} أي:
وإذا قابلَ هؤلاءِ الكفار المؤمنين، فرأَوْهُم، قالوا مُصْدِرينَ الحكمَ
عليهم: إنَّ هؤلاء الذين آمنوا لتائِهونَ عن الحق؛ لأنهم ليسوا على ديننا.
33-قولُه تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}
هذا تعقيبٌ من الله على هؤلاء الكفارِ الذين يُصْدِرونَ مِثْلَ هذه
الأحكام، بأنَّ الله لم يبعثهم رسلاً ليسَجِّلوا على المؤمنين أعمالَهم!.
34-قولُه تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}
أي: فاليوم الذي هو يوم القيامة يضحكُ المؤمنون من الكفارِ لِما يَرَوْنهم
فيه من الخِزْي، وهذا مقابلُ ضَحِكِ الكفارِ عليهم في الدنيا.
35-قولُه تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} أي:
هؤلاء المؤمنونَ جالسونَ على سُرُرٍ في مكانٍ مزيَّن لهم ينظرونَ إلى
الكفار وهم يعذَّبون، فَيُسَرُّون بذلك، ويضحَكون من أعداء الله الذين
كانوا يضحكون منهم في الدنيا(12)
36- قولُه تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي: هل جُوزِيَ الكفارُ بهذا العذابِ الذي رآه المؤمنون بما فعلوا؟ ولا شكَّ أنهم قد جُوزوا بسوء عملِهم، والله أعلم.
القارئ:
{كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ
(18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن
تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى
أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ
هَؤُلاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى
الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ (36)} .
الشيخ:
لما ذكر الله -جل وعلا- ما أعده للفجار، ثنى الله -جل وعلا- بما أعده
لعباده الأبرار، والأبرار هؤلاء هم المطيعون وقد جاء في حديثٍ: ((أنَّ
سيماهم أنهم يبرون الآباء والأبناء)) ولكن هذا حديث لا يثبت ولا يصح عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نبهنا عليه لئلا ينظر إليه بعض الناس
فيعتقد صحته.
أما الأبرار هاهنا فهم المطيعون لله؛ الذين استجابوا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله -جل وعلا-: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ} يعني: أن كتاب الأبرار يكون في عليين؛ في السماء السابعة أو في الجنة.
ثم عظم الله -جل وعلا- شأن هذا الكتاب فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ} يعني: أنه كتاب مسطور مختوم {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} يعني: يشهده الملائكة المقربون عند الله جل وعلا.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله-: (أن الله -جل وعلا- لما ذكر الفجار لم يذكر
الشهادة هناك، ثم ذكرها هاهنا مع المقربين، وقال: إن المقربين يحضرون ختم
ذلك الكتاب وتوقيعه، وهذا يدل على أن هذا البارَّ صار له ذكر في الملأ
الأعلى من الملائكة، وهو من أنواع الصلاة؛ أو من آحاد صلاة الملائكة على
العباد، والله تعالى أعلم).
ثم قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} يعني: أن الأبرار في نعمة وخير كثير.
{عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} الأرائك هي:السرر تحت الحجال.
وقد ذكر العلماء أن السرر لا تسمى أرائك إلا بثلاثة أشياء:
الأول: أن تكون سرراً.
والثاني:أن يكون عليها فرش.
والثالث: أن تكون في بيت، أو في قبةٍ مزينة،
وهي التي يعبر عنها أهل التفسير والعلماء (الحجال) وهي كذلك في لغة العرب،
فإن العرب يطلقون الحجلة على البيت المزين بالستور لمريد الزواج.
فأهل الجنة يوم القيامة يكونون على سرر وهذه السرر عليها فرش؛ في بيوتٍ مزينةٍ معدةٍ لهم من عند الله جل وعلا، وقوله: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} أي: ينظرون إلى الله -جل وعلا- وذلك أعلى نعيم أهل الجنة.
والحديث الذي ورد فيه: ((أنهم ينظرون إلى الله -جل وعلا- في اليوم مرتين أو بكرة وعشياً))
فننبه إلى أن هذا حديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله
أعلم بعدد ما ينظر العباد إلى ربهم، ولكن المؤمنين سينظرون إلى الله -جل
وعلا- كما وعدهم.
ثم قال -جل وعلا-: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}
أي: أن هؤلاء الأبرار يعرف الرائي إليهم في وجوههم النضارة من النعيم الذي
هم فيه مقيمون، ولهذا الإنسان في الدنيا إذا جاءه ما يسره ظهر ذلك على
وجهه، وكذلك أهل الجنة يتنعمون في الجنة ولا يأتيهم شيء ينغصهم فيظهر ذلك
على أثر وجوههم.
ثم قال -جل وعلا-: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ}
أي: يسقون من الخمر، والرحيق: هو أعلى أنواع الخمر؛ لأنه طيب غير فاسد
ولأنه شراب يتلذذون به؛ ولأنه شراب طيب الرائحة طيب المنظر، وهو من أعلى
أشربة أهل الجنة، بل هو أفضل خمور أهل الجنة.
ثم قال -جل وعلا-: {مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ}
يعني: أن في أسفل هذا الخمر المسك؛ لأن شراب الدنيا ما يتساقط فيه أو ينزل
من عكرٍ ولوثٍ ونحوها يقع في أسفل الشراب، وأما شراب أهل الجنة فإن أسفله
يكون المسك، وذلك دليل على طيب هذا الشراب وعلوه.
ثم قال -جل وعلا-: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} أي: أن المتنافسين حقاً هم الذين يتنافسون فيما أعده الله -جل وعلا- لأوليائه في الدار الآخرة، وذلك يكون بالعمل الصالح:
-كما قال الله -جل وعلا-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.
-وقال -جل وعلا-: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}.
-وقال -جل وعلا-: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} إلى غيرها من الآيات التي يأمر الله -جل وعلا- فيها بالمسابقة إلى الخيرات.
والمسابقة إلى الخيرات معناها: أن يسابق العبد إلى العمل الصالح في هذه
الدنيا؛ لأنه إذا سابق إليه وسبق كان من السابقين عند الله، ومن المقربين
ومن الأبرار.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ}
أي: أن هذا الخمر الذي يشربه الأبرار مخلوط من تسنيم، وتسنيم: هذه عين من
عيون الجنة، هي أكملها وأفضلها وأعلاها، فالأبرار أهل اليمين يشربون هذا
الرحيق ممزوجاً من شرابٍ من عينٍ تسمى في الجنة (تَسْنِيمٍ) .
ثم قال -جل وعلا-: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}
أي: أن المقربين يشربون من تسنيم شراباً خالصاً لا يمازجه شيء؛ لأنهم
ينعمون بالنعيم العالي من نعيم أهل الجنة؛ غير النظر إلى وجه الله جل وعلا،
فالمقربون يشربون من تسنيم شراباً لا يخالطه شيء.
وأما الأبرار فإنهم يشربون من هذه العين، ولكن شرابهم يكون مخلوطاً بالرحيق
الذي هو الخمر؛ وإنما كان أمرهم كذلك؛ لأنهم أقل منزلةً عند الله -جل
وعلا- من المقربين، لأن الله -جل وعلا- قسم عباده المؤمنين إلى ثلاثة أقسام:
- منهم: الأبرار وأصحاب اليمين.
- ومنهم: السابقون المقربون.
- ومنهم: الظالمون لأنفسهم.
كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ} فأعلاهم المقربون، ثم بعد ذلك أصحاب اليمين الأبرار، ثم
بعد ذلك الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فبتفاوت منازلهم يتفاوت
نعيمهم عند الله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)}
يعني: أن المجرمين من الكفار يسخرون من أولياء الله جل وعلا، الذين قبلوا
وآمنوا وصدقوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، يضحكون منهم، ويسخرون
بهم، ويستهزؤن، وإذا مروا بهم يتغامزون، يغمز بعضهم لبعضٍ بأجفانهم
وحواجبهم وعيونهم سخريةً بالمؤمنين.
{وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ}يعني:
إذا انقلب الكفار إلى أهلهم، ورجعوا إلى بيوتهم؛ انقلبوا معجبين بأنفسهم،
معجبين بتصرفاتهم مع المؤمنين، ويظنون أنهم على هُدى، ويظنون أن صنيعهم هذا
لن يورثهم عذاب الآخرة؛ لأنهم يكذبون بيوم الدين.
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ}يعني:
إذا رأى الكفار المؤمنين وهم متمسكون بدين الله الذي بعث الله -جل وعلا-
به نبيه صلى الله عليه وسلم؛ قالوا: إنهم ضالون؛ يعني: ليسوا على شيء،
وليسوا على هدى بل في ضلال؛ لأنهم يعبدون إلهاً لا يرونه، ولأنهم يصدقون
بيوم وعدهم به هذا النبي، ولأنهم يستمعون إلى هذه الآيات التي يتلوها عليهم
هذا النبي الذي وصفوه بأنه مجنون، وبأنه ساحر، وبأنه كاهن، وبأنه شاعر.
قال الله -جل وعلا-: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}
أي: أن هؤلاء الكفار لم يرسلوا على المؤمنين ليحفظوا أعمالهم، ويحصوها،
ويعدوها، ويضبطوها عليهم؛ لم يرسل الله -جل وعلا- الكفار كذلك حتى يصيروا
يترقبون للمؤمنين، ويحصون أعمالهم، ويحصون ما هم عليه من اتباع النبي صلى
الله عليه وسلم.
وقد بين الله -جل وعلا- سخريتهم بالمؤمنين في مواضع كثيرة، وبين -جل وعلا-
أنَّ هذه السخرية من عباد الله المؤمنين تورثهم النار يوم القيامة، كما قال
تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} وقال -جل وعلا-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} يعني: لو كان ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- خيراً لكنا السابقين إليه ولم يسبقنا إليه هؤلاء الفقراء والضعفاء.
وهذا الاستهزاء ذكره الله -جل وعلا- عن أقوام المرسلين قبل نبينا صلى الله
عليه وسلم، فدل ذلك على أن هذا من سَنن الكفار، كما قال الله -جل وعلا-:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}.
وفي هذه الآيات تحذير لجميع الخلائق من الاستهزاء بالمؤمنين، ذلك الاستهزاء
الذي جاء نتيجةً لتمسكهم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن
سخر من المؤمن لكونه مستقيماً على دين الله -جل وعلا- فهو حري به أن يحشر
مع هؤلاء، وأن يعذب معهم، بل من استهزأ بمسلم من أجل تمسكه بدين الله وشرع
الله -جل وعلا- فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه مستهزئ بدين الله -جل وعلا-
قبل ذلك: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}
فهؤلاء الذين ذكرهم الله -جل وعلا- في سورة التوبة كانوا يستهزؤون بأصحاب
النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب
بطوناً ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء) فأنزل الله -جل وعلا- هذه
الآيات، وكفَّرهم مع أنهم كانوا يُظهرون الإسلام.
ثم قال الله -جل وعلا-: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}
يعني: أن الله -جل وعلا- إذا كان يومُ القيامة صار المؤمنون يضحكون من
الكافرين؛ الذين كانوا يضحكون ويستهزؤون بهم في الدنيا، كما قال الله -جل
وعلا-: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا
فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقد تقدم شيء من الآيات دالٌ على هذه الآية.
ثم قال -جل وعلا-: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} وهذا فيه تكرار لما أعده الله -جل وعلا- لعباده المؤمنين من النظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم.
ثم قال -جل وعلا-: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} هذا استفهام تقريري، يقول الله فيه: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
أي: هل جُوزي الكفار يوم القيامة ما كانوا يفعلونه بالمؤمنين، وما كانوا
يفعلونه من الكفر بالله والاستهزاء بآياته، والاستهزاء باليوم الآخر،
والاستهزاء من المؤمنين، وجواب هذا الاستفهام واضح لا غموض فيه ولا شك؛
وهو: نعم، جوزوا يوم القيامة بما كانوا يفعلون.
تفسير قول الله تعالى : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ، وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون )
أقوال السلف في معنى (عليّين)
تفسير قول الله تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم )
تفسير قول الله تعالى : ( على الأرائك ينظرون )
تفسير قول الله تعالى : ( تعرف في وجوههم نضرة النعيم )
تفسير قول الله تعالى : ( يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (مختوم ختامه)
تفسير قول الله تعالى : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )
تفسير قول الله تعالى : ( ومزاجه من تسنيم )
المراد بـ " تسنيم "
تفسير قول الله تعالى : ( عيناً يشرب بها المقربون )
تفسير قول الله تعالى : ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون )
تفسير قول الله تعالى : ( وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون )
تفسير قول الله تعالى : ( وما أرسلوا عليهم حافظين )
تفسير قول الله تعالى : ( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ، على الأرائك ينظرون )
تفسير قول الله تعالى : ( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون )
الأسئلة
س1: بين معاني المفردات التالية: عِلِّيين، مرقوم، الأرائك، نضرة النعيم، رحيق مختوم، مزاجه، تسنيم، يتغامزون، فكِهِين، ثُوِّب.
س2: اختلف العلماء في المراد بعليين على أقوال، اذكرها مع بيان القول الراجح.
س3: قال الله تعالى: {كَلاَّ
إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} فسِّر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً، مع بيان ما تضمَّنته من فوائد سلوكية جليلة.
س4: اذكر ما يفيده حذف المعمول في قوله تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}.
س5: قال الله تعالى:
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (21) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (22)
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(23) يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ
مَخْتُومٍ (24) خِتَامُهُ مِسْكٌ (25) وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ}، فسِّر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً مع بيان ما تضمَّنته من فوائد سلوكية جليلة.
س6: اختلف السلف في تفسير قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}على أقوال، اذكرها مع بيان القول الراجح.
س7: ذكر الله عز وجل حال
المجرمين المستهزئين بأوليائه في الحياة الدنيا، تكلم بإيجاز عن أوصافهم
المذكورة في السورة، وكيف يقابلها المؤمن؟
س8: من سمات أهل الضلال
تزكيتُهم أنفسَهم، ورميُهم أهلَ الحقِّ بالألقاب الشنيعة، وعيبُهم،
والسخريةُ منهم، تكلَّم بإيجاز عن هذا الأمر من خلال دراستك لتفسير هذه
الآيات.
س9: من السنن الكونية الجزائية أن (العبد كما يدين يدان)، تكلم عن هذا الأصل في ضوء دراستك لتفسير هذه الآيات.
س10: بين من خلال قراءتك لهذه الآيات مظاهر محبة الله العظيمة لأوليائه.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (يقول تعالى: حقًّا إنّ كتاب الأبرار، وهم بخلاف الفجّار، {لفي علّيّين} . أي: مصيرهم إلى علّيّين، وهو بخلاف سجّينٍ. قال الأعمش، عن شمر بن عطيّة، عن هلال بن يسافٍ قال: «سأل ابن عبّاسٍ كعباً وأنا حاضرٌ عن: {سجّينٍ} قال: «هي الأرض السّابعة، وفيها أرواح الكفّار». وسأله عن: {علّيّين}. فقال: «هي السّماء السّابعة، وفيها أرواح المؤمنين». وهكذا قال غير واحدٍ إنّها السّماء السّابعة. وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: «{كلاّ إنّ كتاب الأبرار لفي علّيّين} يعني الجنّة وفي رواية العوفيّ عنه: «أعمالهم في السّماء عند اللّه». وكذا قال الضّحّاك. وقال قتادة: «علّيّون: ساق العرش اليمنى». وقال غيره: {علّيّون}: عند سدرة المنتهى. والظّاهر أنّ {علّيّين} مأخوذٌ من العلوّ، وكلّما علا الشّيء وارتفع عظم واتّسع. ولهذا قال اللّه تعالى معظّماً أمره ومفخّماً شأنه: {وما أدراك ما علّيّون}. ثمّ قال مؤكّداً لما كتب لهم: {كتابٌ مرقومٌ يشهده المقرّبون}. وهم الملائكة، قاله قتادة. وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: «يشهده من كلّ سماءٍ مقرّبوها». ثمّ قال تعالى: {إنّ الأبرار لفي نعيمٍ}. أي: يوم القيامة هم في نعيمٍ مقيمٍ وجنّاتٍ فيها فضلٌ عميمٌ. {على الأرائك}: وهي السّرر تحت الحجال، {ينظرون}. قيل: معناه: ينظرون في ملكهم وما أعطاهم اللّه من الخير والفضل الّذي لا ينقضي ولا يبيد. وقيل معناه: {على الأرائك ينظرون} إلى اللّه عزّ وجلّ، وهذا مقابلٌ لما وصف به أولئك الفجّار: {كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون}. فذكر عن هؤلاء أنّهم يباحون النّظر إلى اللّه عزّ وجلّ، وهم على سررهم وفرشهم، كما تقدّم في حديث ابن عمر: «إنّ
أدنى أهل الجنّة منزلةً لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنةٍ، يرى أقصاه كما
يرى أدناه، وإنّ أعلاهم لمن ينظر إلى اللّه في اليوم مرّتين» . وقوله: {تعرف في وجوههم نضرة النّعيم}.
أي: تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النّعيم، أي: صفة التّرافة
والحشمة والسّرور والدّعة والرّياسة، ممّا هم فيه من النّعيم العظيم. وقوله: {يسقون من رحيقٍ مختومٍ}. أي: يسقون من خمرٍ من الجنّة، والرّحيق من أسماء الخمر، قاله ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والحسن وقتادة وابن زيدٍ. قال
الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا زهيرٌ، عن سعدٍ أبي المجاهد الطّائيّ،
عن عطيّة بن سعدٍ العوفيّ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، أراه قد رفعه إلى النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أيّما مؤمنٍ سقى مؤمناً
شربةً على ظمأٍ سقاه اللّه من الرّحيق المختوم. وأيّما مؤمنٍ أطعم مؤمناً
على جوعٍ أطعمه اللّه من ثمار الجنّة، وأيّما مؤمنٍ كسا مؤمناً ثوباً على
عريٍ كساه اللّه من خضر الجنّة» . وقال ابن مسعودٍ في قوله: {ختامه مسكٌ}. أي: خلطه مسكٌ. وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: «طيّب اللّه لهم الخمر، فكان آخر شيءٍ جعل فيها مسكٌ ختم بمسكٍ». وكذا قال قتادة والضّحّاك. وقال إبراهيم والحسن: {ختامه مسكٌ}. أي: عاقبته مسكٌ. وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا يحيى بن واضحٍ، حدّثنا أبو حمزة، عن جابرٍ، عن عبد الرّحمن بن سابطٍ، عن أبي الدّرداء: {ختامه مسكٌ}. قال: «شرابٌ أبيض مثل الفضّة يختمون به شرابهم، ولو أنّ رجلاً من أهل الدّنيا أدخل أصبعه فيه ثمّ أخرجها لم يبق ذو روحٍ إلاّ وجد طيبها». وقال ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ: {ختامه مسكٌ}. قال: «طيبه مسكٌ». وقوله: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}. أي: وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباه ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون؛ كقوله: {لمثل هذا فليعمل العاملون}. وقوله: {ومزاجه من تسنيمٍ}.
أي: ومزاج هذا الرّحيق الموصوف من تسنيمٍ. أي: من شرابٍ يقال له: تسنيمٌ.
وهو أشرف شراب أهل الجنّة وأعلاه، قاله أبو صالحٍ والضّحّاك. ولهذا قال: {عيناً يشرب بها المقرّبون}. أي: يشربها المقرّبون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، قاله ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ ومسروقٌ وقتادة وغيرهم. يخبر
تعالى عن المجرمين أنّهم كانوا في الدّار الدّنيا يضحكون من المؤمنين، أي:
يستهزئون بهم ويحتقرونهم، وإذا مرّوا بالمؤمنين يتغامزون عليهم، أي:
محتقرين لهم، {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين}.
أي: وإذا انقلب - أي: رجع - هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها
فاكهين، أي: مهما طلبوا وجدّوا ومع هذا ما شكروا نعمة اللّه عليهم، بل
اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحتقرونهم ويحسدونهم. {وإذا رأوهم قالوا إنّ هؤلاء لضالّون}. أي: لكونهم على غير دينهم. قال اللّه تعالى: {وما أرسلوا عليهم حافظين}.
أي: وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من
أعمالهم وأقوالهم، ولا كلّفوا بهم، فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم؟ كما قال تعالى: {اخسؤوا
فيها ولا تكلّمون إنّه كان فريقٌ من عبادي يقولون ربّنا آمنّا فاغفر لنا
وارحمنا وأنت خير الرّاحمين فاتّخذتموهم سخريًّا حتّى أنسوكم ذكري وكنتم
منهم تضحكون إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا أنّهم هم الفائزون}. ولهذا قال ههنا: {فاليوم}. يعني: يوم القيامة، {الّذين آمنوا من الكفّار يضحكون}. أي: في مقابلة ما ضحك بهم أولئك. {على الأرائك ينظرون}.
أي: إلى اللّه عزّ وجلّ في مقابلة من زعم فيهم أنّهم ضالّون وليسوا
بضالّين، بل هم من أولياء اللّه المقرّبين ينظرون إلى ربّهم في دار كرامته. وقوله: {هل ثوّب الكفّار ما كانوا يفعلون}. أي: هل جوزي الكفّار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتّنقّص أم لا؟ يعني: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمّه وأكمله. آخر تفسير سورة المطفّفين، وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/ 352-354]