الدروس
course cover
تفسير سورة المطففين من آية (1- 17)
22 Oct 2008
22 Oct 2008

32568

0

0

course cover
تفسير جزء عمّ

القسم الثالث

تفسير سورة المطففين من آية (1- 17)
22 Oct 2008
22 Oct 2008

22 Oct 2008

32568

0

0


0

0

0

0

0

.........................................................................................................سورةُ المطفِّفين
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم
مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}

هيئة الإشراف

#2

22 Oct 2008

تفسيرُ سورة المطففين
(1-6) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}

{وَيْلٌ} كلمةُ عذابٍ ووعيدٍ {لِلْمُطَفِّفِينَ} وفسَّرَ اللهُ المطففينَ بقولهِ {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي: أخذوا منهمْ وفاءً عمَّا ثبتَ لهمْ قِبلَهمْ يستوفونَهُ كاملاً من غيرِ نقصٍ.
{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ}أي: إذا أعطوا الناسَ حقَّهمْ الذي للناسِ عليهم بكيلٍ أو وزنٍ، {يَخْسِرُونَ} أي: ينقصونهم ذلكَ، إما بمكيالٍ وميزانٍ ناقصينِ، أو بعدمِ ملءِ المكيالِ والميزانِ، أو نحوَ ذلكَ، فهذا سرقةٌ الناّسِ، وعدمُ إنصافٍ منهمْ.
وإذا كانَ هذا الوعيدُ على الذينَ يبخسونَ الناسَ بالمكيالِ والميزانِ، فالذي يأخذُ أموالهمْ قهراً أو سرقةً، أولى بهذا الوعيدِ منَ المطففينَ.
ودلتِ الآيةُ الكريمةُ، على أنَّ الإنسانَ كما يأخذُ من الناسِ الذي لهُ، يجبُ عليهِ أنْ يعطيهمْ كلَّ ما لهمْ منَ الأموالِ والمعاملاتِ، بلْ يدخلُ في الحججُ والمقالاتُ، فإنَّهُ كما أنَّ المتناظرينِ قدْ جرتِ العادةُ أنَّ كلَّ واحدٍ يحرصُ على ما لهُ منَ الحججِ، فيجبُ عليهِ أيضاً أن يبيِّنَ ما لخصمهِ منَ الحججِ ، وأنْ ينظرَ في أدلةِ خصمهِ كما ينظرُ في أدلتهِ هوَ، وفي هذا الموضعِ يعرفُ إنصافُ الإنسانِ من تعصبهِ واعتسافهِ، وتواضعهُ من كبرهِ، وعقلهُ من سفههِ، نسألُ اللهَ التوفيقَ لكلِّ خيرٍ.
ثمَّ وعدَ تعالى المطففينَ، وتعجَّبَ من حالهم وإقامتهم على ما همْ عليهِ، فقالَ: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فالذي جرَّأهُمْ على التطفيفِ عدمُ إيمانهمْ باليومِ الآخرِ، وإلا فلو آمنُوا بهِ وعرفُوا أنَّهمْ يقومونَ بينَ يدي اللهِ، يحاسبهمْ على القليلِ والكثيرِ، لأقلعوا عنْ ذلكَ وتابُوا منهُ.
(7-17) {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} .
يقولُ تعالَى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ} منْ أنواعِ الكفرةِ والمنافقينَ، والفاسقينَ {لَفِي سِجِّينٍ} ثمَّ فسَّرَ ذلكَ بقولهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} أي: كتابٌ مذكورٌ فيه أعمالهمُ الخبيثةُ، والسجّينُ: المحلُّ الضيقُ الضنكُ، و(سجين) ضدُّ (عليين) الذي هوَ محلُّ كتابِ الأبرارِ، كما سيأتي.
وقدْ قيلَ:إنَّ (سجين) هو أسفلُ الأرضِ السابعةِ، مأوى الفجارِ ومستقرهمْ في معادِهمْ.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
ثمَّ بيَّنَ المكذبينَ بأنَّهم {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي: يومَ الجزاءِ، يومَ يدينُ اللهُ فيهِ الناسَ بأعمالِهمْ.

{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ}
على محارمِ اللهِ، متعدٍ من الحلالِ إلى الحرامِ.
{أَثِيمٍ} أي: كثيرُ الإثمِ، فهذا الذي يحملهُ عدوانهُ على التكذيبِ، كبرُهُ ردَّ الحقِّ، ولهذا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} الدالَّةُ على الحقِّ، و صدقِ ما جاءتْ بهِ رسلُهُ، كذبَهَا، وعاندهَا، {وَقَالَ} هذا {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي: من ترهاتِ المتقدمينَ، وأخبارِ الأممِ الغابرينَ، ليسَ منْ عندِ اللهِ تكبُّراً وعناداً.
وأمَّا منْ أنصفَ، وكانَ مقصودهُ الحقُّ المبينُ، فإنَّهُ لا يكذبُ بيومِ الدينِ؛ لأنَّ اللهَ قدْ أقامَ عليهِ من الأدلةِ القاطعةِ، والبراهينِ الساطعةِ، ما يجعلهُ حقَّ اليقينِ، وصارَ لقلوبهمْ مثلَ الشمسِ للأبصارِ، بخلافِ من رانَ على قلبهِ كسبهُ، وغطتهُ معاصيهِ، فإنَّهُ محجوبٌ عن الحقِّ، ولهذا جوزيَ على ذلكَ، بأنْ حُجبَ عن اللهِ، كمَا حُجبَ قلبهُ في الدنيا عنْ آياتِ اللهِ.
{ثُمَّ إِنَّهُمْ} معَ هذهِ العقوبةِ البليغةِ {لَصَالُو الْجَحِيمِ} ثمَّ يقالُ لهمْ توبيخاً وتقريعاً {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فذكرَ لهمْ ثلاثة أنواعٍ منَ العذابِ:
-عذابَ الجحيم.
-وعذابَ التوبيخِ واللوم.
-وعذابَ الحجابِ منْ ربِّ العالمين، المتضمنُ لسخطهِ وغضبهِ عليهم، وهوَ أعظمُ عليهمْ من عذابِ النارِ.
ودلَّ مفهومُ الآيةِ،علَى أنَّ المؤمنينَ يرون ربَّهمْ يومَ القيامةِ وفي الجنةِ، ويتلذذونَ بالنظرِ إليهِ أعظمَ منْ سائرِ اللذاتِ، ويبتهجونَ بخطابهِ، ويفرحونَ بقربهِ، كما ذكرَ اللهُ ذلكَ في عدَّةِ آياتٍ منَ القرآنِ، وتواترَ فيه النقلُ عنْ رسولِ اللهِ.
وفي هذهِ الآياتِ، التحذيرُ منَ الذنوبِ، فإنهَّا ترينُ على القلبِ وتغطيهِ شيئاً فشيئاً، حتى ينطمسَ نورُهُ، وتموتَ بصيرتهُ، فتنقلبَ عليهِ الحقائقُ، فيرى الباطلَ حقّاً، والحقَّ باطلاً، وهذا منْ بعضِ عقوباتِ الذنوبِ.

هيئة الإشراف

#3

22 Oct 2008

سُورَةُ المُطَفِّفِينَ

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِن أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلاً؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فَأَحْسَنُوا الكيلَ بَعْدَ ذَلِكَ.
1- {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} التَّطْفِيفُ: الأَخْذُ فِي الكَيْلِ أَو الوزنِ شَيْئاً طَفِيفاً؛ أَيْ: نَزْراً حَقِيراً، فَالْمُطَفِّفُ هُوَ المُقَلِّلُ حَقَّ صَاحِبِهِ بِنُقْصَانِهِ عَن الْحَقِّ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ. وَرُبَّمَا كَانَ لأَحَدِهِمْ صَاعَانِ يَكِيلُ لِلنَّاسِ بِأَحَدِهِمَا، وَيَكْتَالُ لِنَفْسِهِ بالآخَرِ.
2- {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}؛ يَعْنِي: الَّذِينَ إِذَا اشْتَرَوْا لأَنْفُسِهِم اسْتَوْفَوْا فِي الكيلِ والوزنِ.
3- {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}؛ أَيْ: وَإِذَا كَالُوا لِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ يُنْقِصُونَ الكَيْلَ، وَإِذَا وَزَنُوا لِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ يُنْقِصُونَ الوَزْنَ.
4- {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}؛ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لاَ يُخْطِرُونَ بِبَالِهِمْ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ فَمَسْؤُولُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ، فَهَلاَّ ظَنُّوهُ حَتَّى يَتَدَبَّرُوا فِيهِ وَيَبْحَثُوا عَنْهُ، وَيَتْرُكُوا مَا يَخْشَوْنَ منْ عَاقِبَتِهِ.
5- {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ عَظِيمٌ لِمَا فِيهِ من الأُمُورِ العِظَامِ، مِن الْبَعْثِ والحسابِ والعقابِ، ودخولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ.
6- {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}:يَقُومُونَ وَاقِفِينَ مُنْتَظِرِينَ لأَمْرِ رَبِّ العَالَمِينَ، أَوْ لِجَزَائِهِ أَوْ لِحِسَابِهِ؛ دَلالَةً عَلَى عِظَمِ ذَنْبِ التَّطْفِيفِ وَمَزِيدِ إِثْمِهِ وَفَظَاعَةِ عِقَابِهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ منْ خِيَانَةِ الأمانةِ وَأَكْلِ حَقِّ الغيرِ.
7- {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}؛ أَيْ: إِنَّ الفُجَّارَ وَمِنْهُم الْمُطَفِّفُونَ مَكْتُوبُونَ فِي سِجِلِّ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ: فِي حَبْسٍ وَضِيقٍ شَدِيدٍ.
9- {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}؛ أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي رُصِدَتْ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ كِتَابٌ مَسْطُورٌ. وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ جَامِعٌ لأعمالِ الشَّرِّ الصَّادِرِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ. وَقِيلَ: سِجِّينٌ هِيَ فِي الأَصْلِ سِجِّيلٌ، مُشْتَقٌّ من السِّجِلِّ؛ وَهُوَ الْكِتَابُ.
10- {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}؛ أَيْ: وَيْلٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ وبما جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ.
11- {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}.
12- {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}؛أَيْ:فَاجِرٍ جَائِرٍ، مُتَجَاوِزٍ فِي الإثمِ، مُنْهَمِكٍ فِي أَسْبَابِهِ.
13- {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} المُنَزَّلَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}؛ أَيْ: أَحَادِيثُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمُ الَّتِي زَخْرَفُوهَا.
14- {كَلاَّ} للرَّدْعِ والزَّجْرِ للمُعْتَدِي الأَثِيمِ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الباطلِ، وَتَكْذِيبٌ لَهُ، {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}:كَثُرَتْ مِنْهُم المَعَاصِي والذُّنوبُ فَأَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ، فَذَلِكَ الرَّيْنُ عَلَيْهَا. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ وَيَسْوَدَّ مِنَ الذُّنوبِ، والطَّبْعُ أَنْ يُطْبَعَ عَلَى الْقَلْبِ، وَهُوَ أَشَدُّ من الرَّيْنِ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، والنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زَادَتْ حَتَّى تُغَلِّفَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ)).
15- {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}؛يَعْنِي: الْكُفَّارَ مَحْجُوبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ كَمَا يَنْظُرُ الْمُؤْمِنُونَ، فَكَمَا حَجَبَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنْ تَوْحِيدِهِ حَجَبَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَحْجُوبُونَ عَنْ كَرَامَتِهِ.
16- {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ}؛ أَيْ: دَاخِلُو النَّارِ وَمُلازِمُوهَا غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَصِلِيُّ الْجَحِيمِ أَشَدُّ مِنَ الإِهَانَةِ وَحِرْمَانِ الكَرامةِ.
17- {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}؛ أَيْ: تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ؛ تَبْكِيتاً وَتَوْبِيخاً: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوهُ وَذُوقُوهُ.

هيئة الإشراف

#4

22 Oct 2008

المتن :

سورةُ المطفِّفين


عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدِمَ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، كانوا من أخبثِ الناسِ كَيْلاً، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فحسَّنوا كَيلَهُم).
1-قولُه تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} يتوعَّدُ اللهُ سبحانَه بالهلاكِ والخسارة، الذين يبخسونَ حقَّ الناس بأخذ القليلِ منه: إما بنقصِ كَيْلِ الناس ووزنِهم، وإما بزيادتهم كيلَ أنفسِهم ووزنه على حساب الناس.
2- 3-قولُه تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} هذا بيانٌ للتطفيفِ الذي يكونُ من هؤلاء المطفِّفين، وذلك أنهم إذا أخذوا كيلَهم أو وزنَهم من الناس أخذوه تامَّاً غير ناقصٍ، وإذا أعطوا الناسَ كيلهم أو وزنهم نقصوا منه الشيءَ القليل، ظلماً منهم ولؤماً(1).
4-5-قولُه تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: ألا يقعُ في حسِّ هؤلاء المطفِّفين أنهم سيُبعثونَ يومَ القيامة الذي عَظُمَ بما يقعُ فيه من الأهوالِ، ويحاسَبونَ على تطفيفِهم؟.
6-قولُه تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} هذا بيانٌ لليوم العظيم، وهو يومُ قيامِ الناسِ أمامَ ربِّهم للحساب، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يومَ يقومُ الناسُ لربِّ العالمين، حتى يغيبَ أحدُهم في رشحهِ إلى أنصافِ أُذُنَيه)).

7- 9-قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ} رَدَّ على المطففين بأن الأمر ليس كما يعتقدونَ من عدم البعث، ثمَّ أخبرَ عن كتاب الذين فَجَروا في أعمالهم أنه في سِفَالٍ وخَسَارٍ في الأرض السُّفلى(2)، ولتهويل أمرِ هذا الكتابِ استفهمَ على طريقة القرآن في الاستفهام عن سِجِّين، وبيَّن أن كتابَهم قد فُرغَ منه، فلا يُزادُ فيه ولا يُنقص منه(3)، ولا يزولُ رَقْمُهُ كما لا يزول الخيطُ الذي على الثوب، والله أعلم.

10-11-قولُه تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي: يومَ يقومُ الناسُ لربِّ العالمينَ فالهلاك والثبور لمن كذَّبَ بيوم الجزاءِ والحساب.
12-قولُه تعالى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي: ما يقعُ التكذيبُ بيوم الدِّين إلا من كلِّ من هو متجاوزٌ لما أحلَّ الله، مرتكِبٌ لما حرَّمَ الله.
13-قولُه تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي: من صفةِ هذا المعتدي الأثيم أنه إذا قُرئت عليه آياتُ القرآنِ قال عنها: إنها شبه الأقاصيصِ المكذوبةِ والمخترَعَةِ على السابقين من الأمم.
14-قولُه تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: ليس الأمرُ كما يقول هذا المكذِّب في القرآن، ويعتقدُ في البعث، ولكن غلبَ على قلبه وغطَّاه ما كسَبَهُ من الذنوب، فجعَلَتهُ لا يُبصرُ الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أذنبَ العبدُ نُكِتَ في قلبه نُكْتَةٌ سوداء، فإن تاب، صُقلَ منها، فإن عاد، عادت، حتى تعظم في قلبه، فذلك الرَّانُ الذي يقول الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (4))).
15- 17-قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}هذا تكرارٌ للرَّدِّ على أولئك المكذِّبين، وبيانُ أنهم ممنوعونَ من رؤيةِ اللهِ سبحانه(5)، ثمَّ إنهم سيدخُلونَ النارَ التي تشويهم بحرِّها، ثم تقولُ لهم ملائكةُ العذابِ: هذا العذابُ الذي كنتم لا تصدِّقونَ به.



الحاشية :
(1) في الآية قولٌ آخرُ ذكرهُ الطبري عن عيسى بن عمر النَّحْوي، وهو أن تكون {هُمْ} من قوله: كالُوهم ووزَنُوهُم من ضمير الكائلين والوازنين، لا من ضميرِ الناس المكيل لهم، ويكون الوقف صالحاً على {كَالُوا} و{وَزَنُوا} ويكون المعنى: (إذا كالوا للناس هم يُخسرون) قال الطبري: ( … ومن وجَّه الكلام إلى هذا المعنى، جعل الوقف على {هُمْ} وجعل {هُمْ} في موضع نَصب.
وكان عيسى بن عمر - فيما ذُكر عنه - يجعلهما حرفين، ويقف على{كَالُوا}، وعلى {وَزَنُوا} ثم يبدئ: {هُمْ يَخْسَرُونَ}.
فمن وجَّه الكلام إلى هذا المعنى، جعل {هُمْ} في موضعِ رفع، وجعل {كَالُوا} و {وَزَنُوا} مكتفيين بأنفسهما.
والصوابُ في ذلك عندي،الوقف على {هُمْ} ؛ لأن {كَالُوا} و {وَزَنُوا} لو كانا مكتفيين، وكانت {هُمْ} كلاماً مستأنفاً، كانت كتابة {كَالُوا} و {وَزَنُوا} بألف فاصلة بينها وبين {هُمْ} مع كل واحدة منهما، وإذا كان بذلك جرى الكتاب في نظائر ذلك، إذا لم يكن متصلاً به شيء من كنايات المفعول، فكتابتهم ذلك في هذا الموضع بغير ألفٍ أوضح الدليل على أن قوله: {هُمْ} إنما هو كناية أسماء المفعول بهم، فتأويلُ الكلام إذا كان الأمر على ما وصَفْنا وبينَّا).
وهذا الترجيحُ من الطبري اعتمد فيه رسمَ المصحف، وهو أحد المرجِّحات في الاختلاف، والله أعلم.
(2) أصل مادة سجِّين من (سجن) وهي تدل على التضييقِ والحَبْسِ، ومنها السِّجن، وقد اختلفت عبارة السلف في (سجِّين) على أقوال:
1-الأرضُ السابعةُ السُّفلى، وردَ ذلك عن: عبد الله بن عمرو من طريق قتادة بلاغاً، وابن عباس من طريق العوفي، ومغيث بن سُمَي من طريق مجاهد، وقتادة من طريق معمر وأبي هلال، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحاك من طريق عبيد، وحكاه ابن زيد، وبه أجاب كعب الأحبار عن سؤال ابن عباس له.
2-حدُّ إبليس، ورد ذلك عن: سعيد بن جبير، وقد ورد عن مغيث بن سمي وكعب الأحبارأن حدَّ إبليسَ في الأرض السفلى.
3-صخرةٌ في الأرض السابعة، يُجعلُ كتابُ الفجَّار تحتها، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
ويشهدُ لكونِ سجِّين الأرض السفلى ما ورد في بعض طرق حديث البراء بن عازب في صعودِ روحِ الكافرِ إلى السماء، ثم أمرَ اللهُ بأن لا تدخل السماء، قال صلى الله عليه وسلم: ((فيقول الله: اكتبوا كتابَه في أسفل الأرض في سجِّين في الأرض السفلى)).
وقد وردَ في تفسير سجِّين حديثٌ يُنسبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يَصِحُّ عنه: (الفلق جُبٌّ في جهنَّم مغطَّى، وأما سجِّين فمفتوح) قال عنه ابن كثير أنه حديث غريب منكر لا يصح.
(3) قال ابن كثير: وقوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)} ليس تفسيراً لقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} وإنما هو تفسيرٌ لما كُتبَ لهم من المصير إلى سجِّين؛ أي: مرقوم: مكتوبٌ مفروغٌ منه لا يُزادُ فيه أحد، ولا يُنقصُ منه أحد، قاله محمد بن كعب القرظي.
(4) هكذا وردَ تفسيرُ السلفِ لهذه الآية، وقد ذُكر عن مجاهدٍ صفة غَشَيانِ الرَّيْنِ، قال الأعمش: (أرانا مجاهد بيده، قال: كانوا يرون القلب في مثل هذا؛ يعني: الكفَّ، فإذا أذنب العبد ذنباً ضُمَّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب، ضمَّ أصبعاً أخرى، حتى ضمَّ أصابعه كلها، ثمَّ يُطبَع عليه بطابع، قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرَّين).
وقد ورد التفسير عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، والحسن من طريق خُليد وأبي رجاء وسفيان الثوري، ومجاهدٍ من طريق منصور والأعمش وابن أبي نجيح، وعطاء من طريق طلحة، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد.
وقد وردت عنهم في تفسير الرَّين ألفاظٌ متقاربة، وهي: تغشى القلب، غمرتهُ خطاياه، يُطبع على قلبه، غُلبَ على قلوبهم.
(5) استدلَّ علماءُ السلفِ بهذه الآية على وقوع رؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة، فقالوا: لما حُجِبَ هؤلاء في حال السخطِ، دلَّ على أن قوماً يرونه في حال الرضا، ويشهدُ لهذا أن الله أثبتَ للأبرار الذين هم مقابل لهؤلاء القوم، أثبت لهم الرؤية بقوله: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} كما سيأتي، فَكَوْنُ هذهِ الآية نظيراً لتلك أَوْلى، والله أعلم.
وقد أوردابن جرير عن الحسن البصري في تفسير هذه الآية قوله: (يكشفُ الحجاب، فينظرُ إليه المؤمنونَ كلَّ يومٍ غدوة وعشيَّة) وهذه الرواية من طريق عمرو بن عبيد المعتزلي، وكأن الإمام يرمي إلى مخالفة المعتزلة لما رواه عمرو بن عبيد أحد شيوخهم في إثبات الرؤية عن الحسن الذي يَدَّعون - زوراً - أنه من المعتزلة، والله أعلم.
وقد أورد الطبري قولاً آخر وترجمَ له بقوله: (فقال بعضهم: معنى ذلك: إنهم محجوبون عن كرامته) وأورد تحت هذه الترجمة قول قتادة من طريق خليد، قال: (هو لا ينظر إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم) وقول ابن أبي مليكة: (المنَّان، والمُختال، والذي يقتطع أموال الناس بيمينه بالباطل).
وهذا القول أعمُّ من نفي رؤيتهم لربهم، والرؤيةُ أعلى كراماتِ الربِّ لعباده، وعلى هذا فإنه لا تنافي بين القولين من هذا الوجه، ولذا قال ابن جرير الطبري:(وأَوْلى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذِكره أخبرَ عن هؤلاء القوم أنهم عن رؤيته محجوبون، ويُحتمل أن يكونَ المرادُ به الحجاب عن كرامته، وأن يكون المراد به الحجاب عن ذلك كلِّه، ولا دلالةَ في الآية تدلُّ على أنه مُرادٌ بذلك الحجابِ معنى دون معنى، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت حُجته.
فالصوابُ أن يقال:
هم محجوبون عن رؤيته، وعن كرامتهِ؛ إذ كان الخبر عاماً، ولا دلالة على خصوصه).
وما ذكرته سابقاً يرجِّح المعنى الأول على الثاني، والله أعلم.
وهذا الاختلاف من قبيل اختلافِ التنوُّعِ لصحَّة القولين، واحتمال الآية لهما معاً، وسببُ الخلاف: أنَّ في الآية حذفاً،وقد اختلفوا في تقديره، فقدَّره بعضهم: محجوبون عن كرامته، وقدَّره آخرون: محجوبون عن رؤيته.
والله أعلم.

هيئة الإشراف

#5

22 Oct 2008

القارئ:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13) كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}.


الشيخ:

بِسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله -جل وعلا-: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه في سنن النَّسَائِيّ وابن ماجه قال: (لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كان أهلها أخبث الناس كيلاً فنزلت هذه الآية {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك).
قوله -جل وعلا-: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} كلمة (ويل) هذه هي كلمة عذاب وتهديد يتوعد الله -جل وعلا- بها من أساء من عباده، وهي كذلك في جميع القرآن، وأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ويل وادٍ في جهنم)) فهو حديث ضعيف في إسناده (دراج أبو السمح) وهو ضعيف، وقد جاء ذلك أيضاً من وجهٍ آخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه برواية (عطية) وعطية ضعيف، ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فسر هذه الكلمة بأنها وادٍ في جهنم، ولهذا يؤخذ معنى هذه الكلمة على ما كان معروفاً عند العرب، وأنهم كانوا يستعملون هذه الكلمة للتهديد والوعيد.

والله -جل وعلا- يتهدد في مطلع هذه السورة (المطففين)، وقد بين الله -جل وعلا- في هذه الآية من هم المطففون، فقال -جل وعلا-: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} يعني: أنهم إذا أرادوا الشراء من الناس وكالوا ووزنوا فإنهم يأخذون حقهم وافياً وزيادةً عليه، وأما إذا باعوا إلى الناس فإنهم ينقصون المكيال والميزان على أي صورةٍ صنعوا ذلك؛ لأن بخس المكاييل والموازين له صورٌ كثيرة، فعلى أي وجهٍ وقع منها كان العبد داخلاً في هذا الوعيد؛ الذي توعد الله -جل وعلا- به المطففين.
وقد قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} ولم يقل: (الذين إذا اكتالوا من الناس يستوفون) فجاء الله -جل وعلا- بحرف (على) بدلاً من (من)، وقد التمس بعض العلماء لذلك سبباً فقالوا: في هذا إشارة من الله -جل وعلا- إلى أن من فعل هذا الفعل المنكر فإنما فعله على وجه القهر والقصر والغلبة حتى ولو كان الذي طفف عليه الموازين والمكاييل ممن له سلطانٌ عليه لكن هذا المطفف إذا صنع هذه الأشياء بخفية فإنه يكون كالمستعلي على الناس وكالقاهر لهم، والله تعالى أعلم.

ولما كان بخس المكاييل والموازين أمراً محرماً في دين الله -جل وعلا- أمر الله في كتابه الكريم بإيفاء المكاييل والموازين، وحرم بخسها ونهى عن ذلك، وبين -جل وعلا- أن الوزن والكيل بحقٍ وصدقٍ أن هذا أحسن عاقبةً للعبد عند الله -جل وعلا- كما قال الله -جل وعلا-: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}.
وقال -جل وعلا-: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}.

وقال -جل وعلا-: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
وبين الله -جل وعلا- في كتابه الكريم قصة مدين قوم شعيبٍ -عليه السلام- وبيَّن أن من أسباب هلاكهم أنهم بخسوا المكاييل والموازين وفي ذلك عبرةٌ لهذه الأمة؛ كما قال الله -جل وعلا- في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}.
وقال -جل وعلا- بعد ذلك مبيناً عاقبة أمرهم: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}.
وقال الله -جل وعلا- في سورة هود: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
ثم بين -جل وعلا- عاقبة أمرهم في قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.
وقال الله -جل وعلا- في سورة الشعراء: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)} ثم بين -جل وعلا- عاقبة أمرهم في قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
قال العلماء -رحمهم الله-: جمع الله -جل وعلا- عليهم ثلاثة أصناف من العذاب:
- سمعوا الصيحة حتى تقطعت قلوبهم.
- ورجفت بهم الأرض.
- وأنزل الله -جل وعلا- عليهم عذاب يوم الظلة، وذلك أنهم رأوا سحاباً فظنوا أنه ممطرهم؛ فأنزله الله -جل وعلا- عليهم ناراً تلظى.
ثم قال الله -جل وعلا-: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني: ألا يظن أولئك المطففون الذين يبخسون المكاييل والموازين أن الله -جل وعلا- سيبعثهم وسيحشرهم إليه، وسيجازيهم على أعمالهم في يومٍ عظيم شديد الأهوال، وقد تقدم ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}يعني: أن الله -جل وعلا- يبعثهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.

والناس يقومون لرب العالمين وقد بلغ العرق منهم في الموقف إلى أنصاف آذانهم؛ كما صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيقوم الناس لرب العالمين ويجازي الله -جل وعلا- في ذلك اليوم أولئك المطففين.
وهذه الآيات تدل على عظم ذنب المطفف:
-لأن الله -جل وعلا- توعده بقوله: (وَيْلٌ) .
-ثم خوفه الله -جل وعلا- بيوم البعث والنشور.
-ثم وصف الله -جل وعلا- يوم البعث والنشور بأنه يومٌ عظيم.
-ثم ذكر الله -جل وعلا- أن الناس يقومون في هذا اليوم؛ ولم يقل -جل وعلا- يبعثون، تأكيداً منه رب العالمين على شده الموقف وهوله.
ثم قال الله -جل وعلا-: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فجاء -جل وعلا- بصفة الربوبية التي تقتضي أن الله -جل وعلا- قادرٌ على كل شيء لا يعجزه شيء.
ثم قال -جل وعلا- بعد ذلك: {كَلاَّ} وهذا فيه ردع وزجر لهم، فهذه المعاني كلها تدل على عظم التطفيف في المكاييل والموازين، وإن رآها الناس حقيرةً صغيرة، لكنها عند الله -جل وعلا- عظيمة.
ثم قال -جل وعلا-: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ} يعني جل وعلا: أنَّ كتاب الفجار -وهم الكفار- يكون في سجين، وسجين هذا موضعٌ في الأرض السفلى؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى)) في حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- وذلك في حق الكافر الفاجر، فهذا كتابه يوضع في سجين في الأرض السفلى، ويدل على هذا أن الله -جل وعلا- قابل بين (سجين) وبين (عليين) في هذه الآية، وعليون هو الموضع العالي فيكون سجين هو الموضع الأسفل.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} وهذا فيه تهويل وتعظيم من شأن سجين؛ لأن الله -جل وعلا- أعدها للكافرين.
ثم قال -جل وعلا-: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} أي: ذلك الكتاب الذي يكتب فيه عمل الفاجر هو كتاب مسطور مختوم لا يزاد فيه ولاينقص منه، حتى إذا جاء يوم القيامة فإنه يوافى به.
ثم قال -جل وعلا-: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وهذا تهديد للمكذبين.
وهؤلاء المكذبون بينهم الله -جل وعلا- بعد ذلك فقال: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي: يكذبون بيوم الجزاء والحساب، وقد بين الله -جل وعلا- هذا الوعيد في قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقد تقدم في سورة النبأ ما أعده الله -جل وعلا- للمكذبين بيوم البعث والنشور.
ثم قال: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي: أنه لا يكذب بيوم الدين إلا كل معتدٍ على حق الله جل وعلا، وعلى حق الخلق، متمرسٌ في فعل القبائح حتى أكسبته تلك آثاماً كثيرة، ولذا عبر الله -جل وعلا- عنها بقوله: {أَثِيمٍ} وهذا يدل على كثرة الآثام التي تَحصَّلها بسبب كفره بالله جل وعلا، وعدم قيامه بحق الله، كما أنه تحصلها بسبب اعتدائه على حقوق الخلق.
ثم قال -جل وعلا- في بيان صفته: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني: إذا سمع هذا القرآن يتلى قال: هذه حكايات الأولين ليست بصدقٍ وليست بحقٍ، كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في مواضع من كتابه: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .
ثم قال -جل وعلا-: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: أن هؤلاء الكفار غلب على قلوبهم وأحاط بها وأغلقها ما كانوا يكسبونه من الذنوب، فذنوبهم وسيئاتهم هي التي جعلت قلوبهم مغلقةً مغلفةً مطبوعاً عليها بسبب كفرهم ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه)) يعني: وجدت نكتةٌ سوداء في قلبه ((فإن تركها صقل منها قلبه)) أو ((فإن نزع صقل منها قلبه وإن زاد زادت)) ثم قال -صلى الله عليه وسلم- وذلك قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يعني: أن هذه الذنوب التي كانوا يكسبونها تتابعها وتواليها على قلوبهم يكسبهم هذا الران؛ الذي يؤول بهم إلى أن يطبع على قلوبهم، وأن تغلق قلوبهم، فلا يسمعوا الحق، ولا يهتدوا بعد ذلك.
وهذا فيه تعظيم لشأن الذنوب؛ لأن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا استمر في هذه الذنوب ازدادت وعظمت هذه النكتة، حتى تغطي قلبه ثم بعد ذلك يكون من الضالين؛ ولهذا كان بعض السلف يقول: (إن المعاصي بريد الكفر) وفي ذلك تحذير عظيم من الوقوع في السيئات والمعاصي؛ لأنها لا تورث إلا الضلال والنار أعاذنا الله -جل وعلا- منها.
ثم قال -جل وعلا-: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}يعني: أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن الله -جل وعلا- لا يرونه، وفي ذلك عذاب عظيم لهم؛ لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة؛ كما قال الله -جل وعلا-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}وكما قال الله -جل وعلا-: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} وأما الكفار فهم يحجبون عن الله -جل وعلا- فلا يرونه، وفي ذلك عذاب لهم.
وقد استدل الإمام الشافعي -رحمه الله- وغيره من السلف


على أن هذه الآية تدل على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة؛ لأن الله -جل وعلا- إذا أخبر أنه حجب الكفار عن رؤيته يوم القيامة فذلك دليل على أن المؤمنين يرونه، خلافاً لأهل البدع الذين ينفون رؤية الله -جل وعلا- يوم القيامة، ويستدلون بقوله-جل وعلا-: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أن هذا ليس فيه دليل على نفي الرؤية عن الله جل وعلا؛ لأن الله -جل وعلا- في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يعني: لا تحيط به الأبصار، وأما الرؤية فإنه يُرى، ولهذا قال أصحاب مُوسَى لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} يعني: خشوا أن يحيط بهم فرعون وجنوده، فقال لهم موسى: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
فهؤلاء قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} يعني: محاطٌ بنا، فموسى عليه السلام قال: {كَلاَّ} مع أن فرعون وجنوده كانوا يرونهم؛ ولهذا تبعوهم في البحر، فدل ذلك على أن هناك فرقاً بين الإدراك والرؤية؛ ولهذا أجمع علماء السلف من أهل السنة والجماعة على أن الله -جل وعلا- يراه المؤمنون في الآخرة بالأبصار عياناً؛ كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا لما ذُكر عند الإمام مالك -رحمه الله- رجلٌ ينكر الرؤية؛ فقال مالك: (السيف السيف) يعني: يُقتل، والإمام أحمد لما قيل له في رجل ينكر الرؤية قال: (كافر) وهكذا قال السلف: (إنَّ من أنكر رؤية الله -جل وعلا- في الدار الآخرة للمؤمنين فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه منافٍ لما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم).

ثم قال -جل وعلا-:{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} أي: أنَّ هؤلاء الكفار سيصلون الجحيم ويعذبون فيها؛ كما قال الله -جل وعلا-: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} وقد تقدم بيان ذلك.
{ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي: يقال للكفار يوم القيامة إذا وضعوا في النار:{هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} كما في الآية الأخرى {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وفي الآية الثانية {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} وقد جمع الله -جل وعلا- عليهم في هذه الآيات أنواعاً من العذاب، فهم محجوبون عن رؤية الله -جل وعلا- وذلك عذاب، وهم معذبون في نار جهنم عذاباً حسياً يقع على أبدانهم وأرواحهم، ثم إنهم يعذبون بالعذاب المعنوي؛ فيقال لهم: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.

هيئة الإشراف

#6

10 Feb 2009

تفسير سورة المطففين

سبب نزول سورة المطففين

تفسير قول الله تعالى: ( ويل للمطففين )
تفسير قول الله تعالى: ( الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )
الأدلة على وجوب إيفاء المكاييل والموازين وعقوبة من يبخس الناس بهما
تفسير قول الله تعالى: ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ، ليوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين )
تفسير قول الله تعالى: ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم )
أصل مادة سجِّين
أقوال السلف في معنى (سجِّين)
تفسير قول الله تعالى: ( ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين )
تفسير قول الله تعالى: ( وما يكذب به إلا كل معتد أثيم )
تفسير قول الله تعالى: ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين )
تفسير قول الله تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )
تفسير قول الله تعالى: ( كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون )
الاستدلال بهذه الآية على رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة
الأقوال في تفسير قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)
سبب الخلاف في تفسير قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)
تفسير قول الله تعالى: ( ثم إنهم لصالو الجحيم )
تفسير قول الله تعالى: ( ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون )

هيئة الإشراف

#7

10 Feb 2009

الأسئلة

س1: اذكر سبب نزول سورة المطففين.
س2: بين معنى التطفيف في ضوء دراستك لتفسير السورة.
س3: تحدث عن خطر الغفلة عن اليوم الآخر، وما تسببه من الجرأة على فعل المعاصي، مستشهداً بما درست من الآيات الكريمات.
س4: بين معاني المفردات التالية: ويل، المطففين، اكتالوا، كالوهم، وزنوهم، سجِّين، مرقوم، أثيم، أساطير الأولين، ران، صالوا الجحيم.
س5: اذكر تفسيراً إجمالياً مختصراً للآيات الكريمات التي درستها.
س6: "من عقوبةِ الذنبِ الذنبُ بعدَه" اشرح هذه العبارة مستدلاً لصحتها بما درست من الآيات الكريمات.
س7: من عقيدة أهل السنة والجماعة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، اذكر ما يدل لذلك من هذه الآيات الكريمات، مع بيان وجه الاستدلال.
س8: توعد الله عز وجل المكذبين بيوم الدين بثلاثة أنواع من العذاب، اذكرها مع الاستدلال لكل نوع.
س9: ما معنى الظن في قوله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَبْعُوثُونَ} ؟

هيئة الإشراف

#8

9 Apr 2014

تفسير ابن كثير


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة المطفّفين وهي مدنيّةٌ.
قال النّسائيّ وابن ماجه: أخبرنا محمّد بن عقيلٍ، زاد ابن ماجه وعبد الرّحمن بن بشرٍ قالا: حدّثنا عليّ بن الحسين بن واقدٍ، حدّثني أبي، عن يزيد، هو ابن أبي سعيدٍ النّحويّ مولى قريشٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «لمّا قدم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلاً؛ فأنزل اللّه: {ويلٌ للمطفّفين}. فحسّنوا الكيل بعد ذلك».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا جعفر بن النّضر بن حمّادٍ، حدّثنا محمّد بن عبيدٍ، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن عبد اللّه بن الحارث، عن هلال بن طلقٍ، قال: «بينا أنا أسير مع ابن عمر فقلت: «من أحسن هيئةً وأوفاه كيلاً، أهل مكّة والمدينة؟ قال: «حقّ لهم. أما سمعت اللّه يقول: {ويلٌ للمطفّفين}».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو السّائب، حدّثنا ابن فضيلٍ، عن ضرارٍ، عن عبد اللّه المكتب، عن رجلٍ، عن عبد اللّه قال: قال له رجلٌ: «يا أبا عبد الرّحمن، إنّ أهل المدينة ليوفون الكيل». قال: «وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال اللّه: {ويلٌ للمطفّفين}. حتّى بلغ: {يوم يقوم النّاس لربّ العالمين}».
فالمراد بالتّطفيف ههنا البخس في المكيال والميزان؛ إمّا بالازدياد إن اقتضى من النّاس، وإمّا بالنّقصان إن قضاهم، ولهذا فسّر تعالى المطفّفين الّذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله: {الّذين إذا اكتالوا على النّاس}. أي: من النّاس، {يستوفون}. أي: يأخذون حقّهم بالوافي والزّائد.
{وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} أي: ينقصون.
والأحسن أن يجعل (كالوا) و(وزنوا) متعدّياً، ويكون (هم) في محلّ نصبٍ، ومنهم من يجعلها ضميراً مؤكّداً للمستتر في قوله: (كالوا) و(وزنوا)، ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وكلاهما متقاربٌ، وقد أمر اللّه تعالى بالوفاء في الكيل والميزان، فقال: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً}.
وقال: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلّف نفساً إلاّ وسعها}.
وقال: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}. وأهلك اللّه قوم شعيبٍ وذمّهم على ما كانوا يبخسون النّاس في المكيال والميزان.
ثمّ قال اللّه متوعّداً لهم: {ألا يظنّ أولئك أنّهم مبعوثون ليومٍ عظيمٍ}. أي: أما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السّرائر والضّمائر في يومٍ عظيم الهول كثير الفزع جليل الخطب من خسر فيه أدخل ناراً حاميةً؟! .
وقوله: {يوم يقوم النّاس لربّ العالمين}. أي: يوم يقومون حفاةً عراةً غرلاً في موقفٍ صعبٍ حرجٍ ضيّقٍ ضنكٍ على المجرم، ويغشاهم من أمر اللّه ما تعجز القوى والحواسّ عنه.
قال الإمام مالكٌ عن نافعٍ، عن ابن عمر، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « {يوم يقوم النّاس لربّ العالمين} حتّى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». رواه البخاريّ من حديث مالكٍ وعبد اللّه بن عونٍ، كلاهما عن نافعٍ به، ورواه مسلمٌ من الطّريقين أيضاً، وكذلك رواه أيّوب وصالح بن كيسان وعبد اللّه وعبيد اللّه ابنا عمر ومحمّد بن إسحاق، عن نافعٍ، عن ابن عمر به.
ولفظ الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، أخبرنا ابن إسحاق، عن نافعٍ، عن ابن عمر سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «{يوم يقوم النّاس لربّ العالمين}: لعظمة الرّحمن عزّ وجلّ يوم القيامة حتّى إنّ العرق ليلجم الرّجال إلى أنصاف آذانهم».
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، حدّثنا ابن المبارك، عن عبد الرّحمن بن يزيد بن جابرٍ، حدّثني سليم بن عامرٍ، حدّثني المقداد، يعني ابن الأسود الكنديّ، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشّمس من العباد حتّى تكون قدر ميلٍ أو ميلين».
قال: «فتصهرهم الشّمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، ومنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً».
رواه مسلمٌ عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، والتّرمذيّ عن سويدٍ، عن ابن المبارك، كلاهما عن ابن جابرٍ به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا الحسن بن سوّارٍ، حدّثنا اللّيث بن سعدٍ، عن معاوية بن صالحٍ، أنّ أبا عبد الرّحمن حدّثه، عن أبي أمامة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «تدنو الشّمس يوم القيامة على قدر ميلٍ ويزداد في حرّها كذا وكذا، تغلي منها الهوامّ كما تغلي منها القدور، يعرقون فيها على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق».
انفرد به أحمد.
حديثٌ آخر قال الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا أبو عشانة حيّ بن يؤمن، أنّه سمع عقبة بن عامرٍ يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «تدنو الشّمس من الأرض فيعرق النّاس، فمن النّاس من يبلغ عرقه عقبيه، ومنهم من يبلغ إلى نصف السّاق، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العجز، ومنهم من يبلغ الخاصرة، ومنهم من يبلغ منكبه، ومنهم من يبلغ وسط فيه». وأشار بيده فألجمها فاه - رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يشير بيده هكذا- «ومنهم من يغطّه عرقه». وضرب بيده إشارةً » انفرد به أحمد.
وفي حديثٍ: أنّهم يقومون سبعين سنةً لا يتكلّمون، وقيل: يقومون ثلاثمائة سنةٍ. وقيل: يقومون أربعين ألف سنةٍ، ويقضى بينهم في مقدار عشرة آلاف سنةٍ، كما في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة مرفوعاً: «في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ».
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو عونٍ الزّياديّ، أخبرنا عبد السّلام بن عجلان، سمعت أبا يزيد المدنيّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لبشيرٍ الغفاريّ: «كيف أنت صانعٌ في يومٍ يقوم النّاس فيه ثلاثمائة سنةٍ لربّ العالمين من أيّام الدّنيا، لا يأتيهم فيه خبرٌ من السّماء ولا يؤمر فيهم بأمرٍ؟». قال بشيرٌ: المستعان اللّه. قال: «فإذا أويت إلى فراشك فتعوّذ باللّه من كرب يوم القيامة وسوء الحساب».
ورواه ابن جريرٍ من طريق عبد السّلام به.
وفي سنن أبي داود أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يتعوّذ باللّه من ضيق المقام يوم القيامة.
وعن ابن مسعودٍ: «يقومون أربعين سنةً رافعي رؤوسهم إلى السّماء، لا يكلّمهم أحدٌ، قد ألجم العرق برّهم وفاجرهم». وعن ابن عمر: «يقومون مائة سنةٍ». رواهما ابن جريرٍ.
وفي سنن أبي داود والنّسائيّ وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالحٍ، عن أزهر بن سعيدٍ الحرازيّ، عن عاصم بن حميدٍ، عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يفتتح قيام اللّيل؛ يكبّر عشراً، ويحمد عشراً، ويسبّح عشراً، ويستغفر عشراً، ويقول: «اللّهمّ اغفر لي واهدني وارزقني وعافني». ويتعوّذ من ضيق المقام يوم القيامة.
يقول: حقًّا {إنّ كتاب الفجّار لفي سجّينٍ}. أي: إنّ مصيرهم ومأواهم لفي سجّينٍ ؛؛ فعّيلٌ، من السّجن وهو الضّيق، كما يقال: فسّيقٌ وشرّيبٌ وخمّيرٌ وسكّيرٌ. ونحو ذلك.
ولهذا عظّم أمره فقال: {وما أدراك ما سجّينٌ}. أي: هو أمرٌ عظيمٌ، وسجنٌ مقيمٌ، وعذابٌ أليمٌ.
ثمّ قد قال قائلون: هي تحت الأرض السّابعة. وقد تقدّم في حديث البراء بن عازبٍ في حديثه الطّويل: يقول اللّه عزّ وجلّ في روح الكافر: اكتبوا كتابه في سجّينٍ. وسجّينٌ هي تحت الأرض السّابعة.
وقيل: صخرةٌ تحت السّابعة خضراء.
وقيل: بئرٌ في جهنّم. قد روى ابن جريرٍ في ذلك حديثاً غريباً منكراً لا يصحّ، فقال: حدّثنا إسحاق بن وهبٍ الواسطيّ، حدّثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطيّ، حدّثنا نصر بن خزيمة الواسطيّ، عن شعيب بن صفوان، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الفلق جبٌّ في جهنّم مغطًّى، وأمّا سجّينٌ فمفتوحٌ».
والصّحيح أنّ سجّيناً مأخوذٌ من السّجن وهو الضّيق، فإنّ المخلوقات كلّ ما تسافل منها ضاق، وكلّ ما تعالى منها اتّسع، فإنّ الأفلاك السّبعة كلّ واحدٍ منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون، كلّ واحدةٍ أوسع من التي دونها حتّى ينتهي السّفول المطلق والمحلّ الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السّابعة، ولمّا كان مصير الفجّار إلى جهنّم وهي أسفل السّافلين، كما قال تعالى: {ثمّ رددناه أسفل سافلين إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات}. وقال ههنا: {كلاّ إنّ كتاب الفجّار لفي سجّينٍ وما أدراك ما سجينٌ}.
وهو يجمع الضّيق والسّفول كما قال: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيّقاً مقرّنين دعوا هنالك ثبوراً}.
وقوله: {كتابٌ مرقومٌ}. ليس تفسيراً لقوله: {وما أدراك ما سجّينٌ}. وإنّما هو تفسيرٌ لما كتب لهم من المصير إلى سجّينٍ، أي: مرقومٌ مكتوبٌ مفروغٌ منه، لا يزاد فيه أحدٌ، ولا ينقص منه أحدٌ، قاله محمّد بن كعبٍ القرظيّ.
ثمّ قال: {ويلٌ يومئذٍ للمكذّبين}. أي: إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم اللّه من السّجن والعذاب المهين، وقد تقدّم الكلام على قوله: {ويلٌ}. بما أغنى عن إعادته، وأنّ المراد من ذلك الهلاك والدّمار كما يقال: ويلٌ لفلانٍ.
وكما جاء في المسند والسّنن من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ويلٌ للّذي يحدّث فيكذب ليضحك النّاس ويلٌ له ويلٌ له» .
ثمّ قال تعالى مفسّراً للمكذّبين الفجّار الكفرة: {الّذين يكذّبون بيوم الدّين}. أي: لا يصدّقون بوقوعه ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره.
قال اللّه تعالى: {وما يكذّب به إلاّ كلّ معتدٍ أثيمٍ}. أي: معتدٍ في أفعاله من تعاطي الحرام، والمجاوزة في تناول المباح، والأثيم في أقواله، إن حدّث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر.
وقوله: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوّلين}. أي: إذا سمع كلام اللّه من الرّسول يكذّب به، ويظنّ به ظنّ السّوء فيعتقد أنّه مفتعلٌ مجموعٌ من كتب الأوائل كما قال: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين}. وقال تعالى: {وقالوا أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً}.
قال اللّه تعالى: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا، أنّ هذا القرآن أساطير الأوّلين، بل هو كلام اللّه ووحيه وتنزيله على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وإنّما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرّين الّذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذّنوب والخطايا، ولهذا قال تعالى: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. والرّين يعتري قلوب الكافرين، والغيم للأبرار، والغين للمقرّبين.
وقد روى ابن جريرٍ والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه من طرقٍ عن محمّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيمٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّه: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} ».
وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ، ولفظ النّسائيّ: «إنّ العبد إذا أخطأ خطيئةً نكتت في قلبه نكتةٌ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتّى يعلو قلبه، فهو الرّان الّذي قال اللّه: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}».
وقال أحمد: حدّثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيمٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتةً سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتّى يعلو قلبه، وذاك الرّان الّذي ذكر اللّه في القرآن: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} ». وقال الحسن البصريّ: «وهو الذّنب على الذّنب حتّى يعمى القلب فيموت». وكذا قال مجاهد بن جبرٍ وقتادة وابن زيدٍ وغيرهم.
وقوله: {كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون}. أي: لهم يوم القيامة منزل ونزلٌ سجّينٌ، ثمّ هم مع ذلك محجوبون عن رؤية ربّهم وخالقهم.‌‌‌‌
قال الإمام أبو عبد اللّه الشّافعيّ: «وفي هذه الآية دليلٌ على أنّ المؤمنين يرونه عزّ وجلّ يومئذٍ». وهذا الذي قاله الإمام الشّافعيّ رحمه اللّه في غاية الحسن، وهو استدلالٌ بمفهوم هذه الآية، كما دلّ عليه منطوق قوله: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ إلى ربّها ناظرةٌ}. وكما دلّت على ذلك الأحاديث الصّحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربّهم عزّ وجلّ في الدّار الآخرة رؤيةً بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرة.
وقد قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عمّارٍ الرّازيّ، حدّثنا أبو معمرٍ المنقريّ، حدّثنا عبد الوارث بن سعيدٍ، عن عمرو بن عبيدٍ، عن الحسن في قوله: {كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون}. قال: «يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثمّ يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كلّ يومٍ غدوةً وعشيّةً». أو كلاماً هذا معناه.
وقوله: {ثمّ إنّهم لصالوا الجحيم} أي: ثمّ هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرّحمن من أهل النّيران.
{ثمّ يقال هذا الّذي كنتم به تكذّبون}. أي: يقال لهم ذلك على وجه التّقريع والتّوبيخ والتّصغير والتّحقير). [تفسير القرآن العظيم: 8/ 346-351]