الدروس
course cover
تفسير سورة التكوير من آية (15- 29)
22 Oct 2008
22 Oct 2008

10661

0

0

course cover
تفسير جزء عمّ

القسم الثاني

تفسير سورة التكوير من آية (15- 29)
22 Oct 2008
22 Oct 2008

22 Oct 2008

10661

0

0


0

0

0

0

0

{فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}

هيئة الإشراف

#2

22 Oct 2008

(15-29)
{فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}

أقسمَ تعالَى

{بِالْخُنَّسِ} وهي الكواكبُ التي تخنسُ أي : تتأخرُ عن سيرِ الكواكبِ المعتادِ إلى جهةِ المشرقِ، وهيَ النجومُ السبعةُ السيارةُ: (الشمسُ)، و(القمر)، و(الزهرة)، و(المشتري)، و(المريخ)، و(زحلُ)، و(عطاردُ)، فهذهِ السبعةُ لها سيرانِ:
-سيرٌ إلى جهةِ المغربِ معَ باقي الكواكبِ والأفلاكِ.
- وسيرٌ معاكسٌ لهذَا منْ جهةِ المشرقِ تختصُّ بهِ هذهِ السبعةُ دونَ غيرهَا.
فأقسمَ اللهُ بهَا في حالِ خنوسِهَا أي: تأخرِهَا، وفي حالِ جريانِهَا، وفي حالِ كنوسها
أي: استتارهَا بالنهارِ، ويحتملُ أنَّ المرادَ بها جميعُ النجومِ الكواكبُ السيارةُ وغيرهَا.

{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}
أي: أدبَرَ،وقيلَ:أقبلَ.

{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}
أي: بانتْ علائمُ الصبحِ، وانشقَّ النورُ شيئاً فشيئاً حتَّى يستكملَ وتطلعَ الشمسُ،

وهذهِ آياتٌ عظامٌ، أقسمَ اللهُ بها على علوِّ سندِ القرآنِ وجلالتِهِ، وحفظِهِ منْ كلِّ شيطانٍ رجيمٍ، فقالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وهوَ جبريلُ عليهِ السلامُ، نزَلَ بهِ منَ اللهِ تعالَى، كمَا قالَ تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}.
ووصفَهُ اللهُ بالكريمِ لكرمِ أخلاقِهِ، وكثرةِ خصالهِ الحميدةِ، فإنَّهُ أفضلُ الملائكةِ، وأعظمهُمْ رتبةً عندَ ربِّهِ، {ذِي قُوَّةٍ} على ما أمرهُ اللهُ بهِ، ومنْ قوتِهِ أنَّهُ قلَبَ ديارَ قومِ لوطٍ بهم فأهلكَهمْ.
{عِندَ ذِي الْعَرْشِ}
أي: جبريلُ مقربٌ عندَ اللهِ، لهُ منزلةٌ رفيعةٌ، وخصيصةٌ من اللهِ اختصَّهُ بهَا، {مَكِينٍ} أي: لهُ مكانةٌ ومنزلةٌ فوقَ منازلِ الملائكةِ كلِّهِمْ.
{مُطَاعٍ ثَمَّ}أي: جبريلُ مطاعٌ في الملأِ الأعلى، لديهِ من الملائكةِ المقربينَ جنودٌ، نافذٌ فيهم أمرهُ، مطاعٌ رأيهُ،
{أَمِينَ} أي: ذو أمانةٍ وقيامٍ بما أمرَ بهِ، لا يزيدُ ولا ينقصُ، ولا يتعدى ما حُدَّ لهُ، وهذا يدلُّ على شرفِ القرآنِ عندَ اللهِ تعالى، فإنَّهُ بُعثَ بهِ هذا الملكُ الكريمُ، الموصوفُ بتلكَ الصفاتِ الكاملةِ.
والعادةُ أن الملوكَ لا ترسلُ الكريمَ عليهَا إلاَّ في أهمِّ المهمَّاتِ، وأشرفِ الرسائلِ.
ولمَّا ذكرَ فضلَ الرسولِ الملكيِّ الذي جاءَ بالقرآنِ، ذكرَ فضلَ الرسولِ البشريِّ الذي نزلَ عليهِ القرآنُ،ودعَا إليهِ الناسَ، فقالَ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} وهوَ محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ {بِمَجْنُونٍ} كمَا يقولهُ أعداؤهُ المكذبونَ برسالتهِ، المتقولونَ عليهِ منَ الأقوالِ، التي يريدونَ أنْ يُطفؤوا بهَا ما جاءَ بهِ ما شاؤوا وقدرُوا عليهِ، بلْ هوَ أكملُ الناسِ عقلاً، وأجزلُهمْ رأياً، وأصدقهمْ لهجةً.

{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ}أي: رأى محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جبريلَ عليهِ السلامُ بالأفقِ البيِّن، الذي هو أعلى ما يلوحُ للبصرِ.

{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}
أي: وما هوَ على ما أوحاهُ اللهُ إليه بمتهمٍ يُزيدُ فيهِ أو يُنقصُ أو يكتمُ بعضَهُ، بلْ هوَ محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أمينُ أهلِ السماءِ وأهلِ الأرضِ، الذي بلَّغَ رسالاتِ ربِّهِ البلاغَ المبينَ، فلمْ يشحَّ بشيءٍ منهُ، عنْ غنيٍّ ولا فقيرٍ، ولا رئيسٍ ولا مرؤوسٍ، ولا ذكرٍ ولا أنثى، ولا حضريٍّ ولا بدويٍّ، ولذلكَ بعثهُ اللهُ في أمةٍ أميَّةٍ، جاهلةٍ جهلاء، فلمْ يمتْ محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتى كانوا علماءَ ربانيينَ، وأحباراً متفرسينَ، إليهمُ الغايةُ في العلومِ، وإليهمُ المنتهى في استخراج الدقائقِ والفهومِ، وهمُ الأساتذةُ، وغيرهمْ قصاراهُ أنْ يكونَ منْ تلاميذهمْ.

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}لمَّا ذكرَ جلالةَ كتابِهِ وفضله بذكرِ الرسولينِ الكريمينِ، اللذين وصلَ إلى الناسِ على أيديهمَا، وأثنى اللهُ عليهما بما أثنَى، دفعَ عنهُ كلَّ آفةٍ ونقصٍ مما يقدحُ في صدقهِ، فقالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي: في غايةِ البعدِ عن اللهِ وعن قربِهِ.

{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}
أي: كيفَ يخطرُ هذا ببالكم، وأينَ عزبتْ عنكمْ أذهانكم؟ حتَى جعلتمُ الحقَّ الذي هوَ في أعلى درجاتِ الصدقِ بمنزلةِ الكذبِ الذي هوَ أنزلُ ما يكونُ وأسفلُ الباطلِ؟ هلْ هذا إلاَّ منِ انقلابِ الحقائقِ.

{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}
يتذكرونَ بهِ ربهمْ، وما لَهُ منْ صفاتِ الكمالِ، وما ينزَّهُ عنهُ من النقائصِ والرذائلِ ، ويتذكرونَ بهِ الأوامرَ والنواهيَ وحكمهَا، ويتذكرونَ بهِ الأحكامَ القدريةَ والشرعيةَ والجزائيةَ، وبالجملةِ، يتذكرونَ بهِ مصالحَ الدارينِ، وينالونَ بالعملِ بهِ السعادتينِ.

{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}بعدَمَا تبيَّن الرُّشدُ من الغيِّ، والهدَى منَ الضلالِ.

{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}أي: فمشيئتهُ نافذةٌ، لا يُمكنُ أنْ تعارضَ أو تمانعَ.
وفي هذهِ الآيةِ وأمثالِهَا، ردٌّ على فرقتي القدريةِ النفاةِ، والقدريةِ المجبرةِ كمَا تقدَّمَ مثلها

هيئة الإشراف

#3

22 Oct 2008


15- {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} وَهِيَ الْكَوَاكِبُ: تَخْنِسُ بالنَّهارِ فَتَخْتَفِي تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَلا تُرَى، وَهِيَ:زُحَلُ،وَالْمُشْتَرِي،وَالمِرِّيخُ،وَالزُّهَرَةُ،وَعُطَارِدٌ؛ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: الخُنَّسُ: الْكَوَاكِبُ كُلُّهَا. لأَنَّهَا تَخْتَفِي نَهَاراً.
16- {الْجَوَارِ}: تَجْرِي فِي أَفْلاكِهَا،
{الْكُنَّسِ}: تَكْنِسُ فِي وَقْتِ غُرُوبِهَا خَلْفَ الأُفُقِ، وَالكُنَّسُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِنَاسِ الَّذِي يَخْتَفِي فِيهِ الوَحْشُ.
17- {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} الْعَرَبُ تَقُولُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ؛ إِذَا أَقْبَلَ. وَ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ؛ إِذَا أَدْبَرَ.
18- {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} وَتَنَفُّسُ الصُّبْحِ إِقْبَالُهُ؛ لأَنَّهُ يُقْبِلُ بِرَوْحٍ وَنَسِيمٍ.
19- {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يَعْنِي جِبْرِيلَ؛ لِكَوْنِهِ نَزَّلَ الْقُرْآنَ مِن جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى رسولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
20- {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}؛ أَيْ: هُوَ ذُو رِفْعَةٍ عَالِيَةٍ وَمَكَانَةٍ مَكِينَةٍ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
21- {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}:مُطَاعٌ بَيْنَ الْمَلائِكَةِ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُطِيعُونَهُ، مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ.
22- {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}:وَمَا مُحَمَّدٌ يَا أَهْلَ مَكَّةَ بِمَجْنُونٍ، وَذَكَرَهُ بِوَصْفِ الصُّحْبَةِ للإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِأَمْرِهِ وَبِأَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَكْمَلُهُمْ.
23- {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ}؛ أَيْ: قَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ بِمَطْلِعِ الشَّمْسِ مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ فِي صُورَتِهِ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُ نَحْوَ أَجْيَادٍ، وَهُوَ مَشْرِقُ مَكَّةَ.
24- {وَمَا هُوَ}؛ أَيْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
{عَلَى الْغَيْبِ}؛يَعْنِي: خَبَرِ السَّمَاءِ،
{بِضَنِينٍ}: لا يَبْخَلُ بالوَحْيِ، وَلا يُقَصِّرُ فِي التَّبْلِيغِ، بَلْ يُعَلِّمُ الْخَلْقَ كَلامَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ.
25- {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}؛ أَيْ: وَمَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ مِن الشَّيَاطِينِ المُسْتَرِقَةِ للسَّمْعِ المَرْجُومَةِ بالشُّهُبِ، فالقُرْآنُ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلا كَهَانَةٍ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ.
26- {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}: أَيَّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أَبْيَنَ منْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ؟!
27- {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}؛ أَيْ: مَا الْقُرْآنُ إِلاَّ مَوْعِظَةٌ للخَلْقِ أَجْمَعِينَ وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ.
28- {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} عَلَى الْحَقِّ وَالإِيمَانِ والطاعةِ.
29- {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}؛ أَيْ: وَمَا تَشَاؤُونَ الاسْتِقَامَةَ وَلا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ بمشيئةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ.

هيئة الإشراف

#4

22 Oct 2008

المتن :
15- 16-قولُه تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} لمَّا ذكرَ الآياتِ التي تكون في آخرِ هذا العالمِ وفي يوم القيامة، أتبعَهُ بالقَسَم على القرآن(1)، فأقسَمَ ربُّنا(2) بالنجوم التي تكون مختفيةً قبلَ ظهورِها بالَّليل، الجاريةِ في فلكِها، والداخلةِ وقتَ غروبها في النهار إذا طلع، كما تدخلُ بقرُ الوحشِ والظباءُ في كِناسِها؛ أي: بيتها(3).

17-قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي: وأقسمَ بالليلِ إذا أقبلَ أو أدبر(4).
18-قولُه تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي: وأقسمَ بالصُّبح إذا بَزَغَ ضوؤه، وانتشرت نسماته الباردة.
19-قولُه تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا جوابُ القَسَم، والمعنى: إنَّ القرآنَ تبليغُ جبريلَ أشرَفِ الملائكة(5).
20-قولُه تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ(6) مَكِينٍ} أي: جبريلُ صاحب قوةٍ عظيمة، وهو ذو مكانةٍ ومنزلةٍ عند الله سبحانه، ولذا خصَّه بوحيِه، فهو أمينُ السماء.
21-قولُه تعالى: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أي: جبريلُ المؤتَمن على الوحي، الذي لا يخونُ، يُطيعه أهلُ السموات.
22-قولُه تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} أي: وما محمدٌ الذي لازَمكم أكثرَ من أربعين عاماً، فلا تخفى عليكم دقائق أحواله، ما هو بمخبولٍ ولا بممْسوسٍ من الجنِّ كما تزعمون.
23-قولُه تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي: أقسمُ أنَّ محمداً رأى جبريلَ على صورته الملَكية في أفقِ السماءِ الواضح، مكان طلوع الشمس أو غروبها، ولم يكن ذلك رِئياً من الجن كما تزعمون.
24-قولُه تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي: ليس محمدٌ صلى الله عليه وسلم ببخيل عليكم (7) فيما بلَغه من الوحي، فيكتُمه عنكم، أو يأخذ عليه أجراً كما يأخذه الكاهن الذي يأتيه رِئيٌ من الجن(8).
25-قولُه تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي: ليس القرآنُ من كلامِ الشيطانِ الملعونِ المطرود، ولكنه كلامُ الله ووحيه.
26-قولُه تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أي: ما هو المسلكُ الذي ستسلُكونه بعد هذا البيانِ والإيضاح عن صِدْقِ القرآن؟.
27-قولُه تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي: ما هذا القرآن الذي ذكرتُ لكم أحوالَه إلا موعظة لكم أيها المكلَّفون من الإنسِ والجن.
28-قولُه تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي: هذا القرآنُ موعظةٌ لمن صَدَقَ في توجُّهه إلى الله، وأرادَ أن يكونَ مُسلِماً لله، مستقيماً على دينه، وفي هذا دلالة على أن العبدَ قد يحجبُ نفسَه عن الهداية؛ كما قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} .
29-قولُه تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: ولا تقع منكم إرادةٌ كائنة ما كانت، إلا بعد أن يأذنَ الله بوقوعِها؛ لأنه ربُّ جميعِ العوالم، فلا يقع في مُلكه إلا ما يشاء(9).



الحاشية :
(1) جاءت الفاء لتربط بين المقطعين، والأول يتحدَّث عن البعث ومبادئه، وتقديرُ الربطِ بينهما: أنهم لوكانوا آمنوا بالقرآن الذي جاء القَسَمُ عليه، لصدَّقوا بما هو من أعظم أخباره، وهو البعث، والله أعلم.
(2) وقع خلافٌ في هذا التركيب (لا أقسم) على أقوال، منها:
1- أنه نفي للقَسَم، والمعنى أن هذه القضية من الظهور بحيث لا تحتاجُ إلى قَسَمٍ عليها.
2- أن المنفيَّ محذوفٌ يقدَّر بما يناسبُ السياق، ويكون المعنى: لا ليس الأمرُ كما زعمتُم في القرآن، أُقسم بالخنَّس … إنه لقولُ رسولٍ كريم.
3- أن (لا) جاءت لتأكيد القَسَم، ويدل عليه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، ثم قال بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ، فأثبتَ أنه أَقْسَمَ، وأنهم لو كانوا يعلمون، لعلموا أنه قَسَمٌ عظيم، وهذا أقرب الأقوال للصواب، والله أعلم.
(3) اختلف السلف في المراد بهذه الأوصافِ الثلاثةِ على قولين:
الأول:أنها النجومُ أو الكواكب، وهو قولُ علي بن أبي طالب من طريق خالد بن عرعرة، ورجل من مراد، والحسن من طريق جرير بن حازمومعمر، وبكر بن عبد الله، ومجاهد من طريق الأعمش، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد.
الثانية:أنها بقرُ الوَحْشِ، وهو قول ابن مسعود من طريق أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، وجابر بن زيد، وعبد الله بن وهب، ومجاهد من طريق الصَّلت بن راشد، وإبراهيم النخعي من طريق الأعمش، ومغيرة.
وقال بعضُهم:
الظِّباء، وهم: ابن عباس من طريق العوفي، وسعيد بن جبير من طريق جعفر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحَّاك من طريق عبيد.
ومعناه قريبٌ من الذي قبله؛ لأنهما من الوحوش، ولاتفاقهما في الوصف المذكور.
قال ابن جرير: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنَّ اللهَ - تعالى ذِكْرُه - أقسمَ بأشياء تخنسُ أحياناً؛ أي: تغيب، وتجري أحياناً، وتكنِس أخرى، وكُنوسها: أن تأوي في مكانِسِها، والمكانس عند العرب: هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء … وغير مُنْكَرٍ أن يُستعارَ ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالةٌ على أن المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء، فالصوابُ أن يُعَمَّ بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحياناً، والجري أخرى، والكُنوس بآنات على ما وصف جل ثناؤه من صفتها).
وسببُ الخِلاف أن هذا الوصفَ صالحٌ لأكثرَ من موصوف، فذكر هؤلاء ما يرونه أنسب من غيره من الموصوفات، وهذه الموصوفاتُ تتواطأ على هذا الوصف، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من قولٍ، ويمكن حملُ الآية عليهما كما قال ابن جرير، غير أن في سياق الآيةِ ما يدلُّ على ترجيح أحدِ القولين، وهو أن المرادَ: النجومُ والكواكبُ، وذلك أن السياق بعدها يذكر آياتٍ كونية، وهي الليل والصبح، والنجوم ألصق بذلك من بقرِ الوحش والظباء، ثم إن الغالبَ على أقسام القرآن: أن يكونَ القسمُ بما هو ظاهرٌ للناس، أو له آثار ظاهرة، والنجومُ والكواكب أظهر لكل الناس من بقر الوحش والظباء، وبهذا يترجح القول بأنها النجوم والكواكب، والله أعلم.
(4) اختلف السلف في المراد بـ (عَسعَس) في هذا الموضع، على قولين: الأول: أدْبَر، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعلي بن أبي طالب من طريق أبي ظبيان وأبي عبد الرحمن السلمي، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
الثاني: أقبلَ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والحسن من طريق معمر، وعطية العوفي من طريق الفضيل.
وسببُ الاختلاف في هذه اللفظةِ الاشتراك اللغوي، وهو من قبيل المشترَكِ المتضادِّ، ويجوز في هذا المثال حمله على معنييه، لاختلاف الزمنِ المحمولِ عليه اللفظ، وهو أولُ الليل وآخرُه، وبهذا يكون من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وفي إيثار هذا اللفظ الدالِّ على الحالين معاً ما يُظهر بلاغةَ القرآنِ وإيجازه في الألفاظ مع اتِّساعِ المعاني، دونَ تعارضٍ بينهما؛ أي: أنه إذا قيل بأحدهما لزمَ منه انتفاءُ الآخَر؛ كما في لفظِ القُرء من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإنك لا يمكن أن تقولَ بالقولين معاً؛ لأن المطلوب من المرأة أن تتريَّثَ ثلاثةَ أطهارٍ أو ثلاثَ حِيَضٍ، والله أعلم.
(5) نسبَ إليه القول هنا لأنه المبلِّغ عن ربِّه، ولذا عبَّر عنه بلفظِ (رسول) للتنبيه على مَهَمَّتِهِ، وهي تبليغُ كلام الله للنبي صلى الله عليه وسلم.
(6) العرشُ من المخلوقات العُلوية الغيبية التي أطلعنا الله على بعض أوصافها،ومنها:

- أنه سريرٌ ذو قوائم.
- وهو أعلى المخلوقات، وأوسعُها.
- وأن الملائكةَ تحمِله.
- وعليه استوى الرحمن؛ كما قال تعالى:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}

(7) وردَ تفسيرُ هذهِ القراءة عن زر بن حبيش من طريق عاصم، وإبراهيم النخعي من طريق مغيرة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وسفيان الثوري من طريق مهران.
(8) قرئ: (بظنين) أي: متَّهم، والمعنى: ما محمدٌ صلى الله عليه وسلم بكاذبٍ فيما يبلِّغكم من الوحي، وقد وردَ تفسير هذه القراءة عن ابن عباس من طريق الضحاك والعوفي، وزِر بن حبيش من طريق عاصم، وسعيد بن جبير من طريق أبي المعلى، وإبراهيم النخعي من طريق مغيرة، والضحاك من طريق عبيد.
(9) هاتان الآيتان وردَ فيهما إثباتُ مشيئةِ العبدِ ومشيئةِ الربِّ، والمرادُ أنَّ مشيئةَ العبدِ ليست نافذةً على كلِّ حال، بل هي مقيَّدة بإذن الربِّ لها بالنَّفَاذ، وفي هذا ردٌّ على الجبرية الذين يرون أنه لا فِعل لهم البتَّة، بل كل فعل يفعلونَهُ هم مجبولون عليه ليس لهم فيه اختيار، وهذا مخالِفٌ للواقع؛ لأنك ترى من نفسِك اختياراً وتصرفاً، ولكنَّ وقوعَ هذا الاختيار بمشيئة الله تعالى.
كما أن في الآية الثانية ردّاً على الذين يزعمون أن العبدَ قادرٌ على خلقِ فعلِه، وهم المعتزلة؛ لأن الله أثبتَ أن فعلَ العبدِ لا يقع إلا بعدَ مشيئة الله، ولو كان ما قالوه صحيحاً لما لزِمَ ورودُ مشيئة الله هنا، والله أعلم.

هيئة الإشراف

#5

22 Oct 2008

القارئ:

{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}

الشيخ:
ثم قال-جل وعلا-: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} هذا قسم من الله جل وعلا، وهذا القسم من الله- جل وعلا- بشيء من مخلوقاته، والله -جل وعلا- يقسم بما شاء، وأما المخلوقون فلا يقسمون إلا بالله جل وعلا، فالله أقسم في هذه الآية بالنجوم، وهذه النجوم أقسم الله جل وعلا بها حالة طلوعها؛ وحالة اختفائها؛ وحالة جريانها؛ وحالة غيابها، فقول الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} الخُنَّسُ: جمع خَانِس، والخَنَسُ هو الاختفاء، فهذه النجوم إذا طلع النهار اختفت، وإذا زال النهار ظهرت.

وقوله جل وعلا: {الْجَوَارِ} يعني: التي تجري؛ وهذه النجوم يسيرها الله -جل وعلا- بأمره في السماء.
وقوله: {الْكُنَّسِ} الكُنّسُ: جمع كانس يقال: فلان أوى إلى كناسته، أي: إلى بيته، والمراد بذلك غروب النجوم؛ لأن النجوم لها اختفاء في النهار، ولها غروب ولها طلوع ولها جريان، فأقسم الله -جل وعلا- بهذه النجوم.
والدليل على أن المراد بهذه الآيات النجوم،
أن الله -جل وعلا- قرن هذه الآية بالليل والصبح، وهذا دليل على أن المراد بهذه الآية النجوم، وليس الظباء أو البقر كما قال بعض العلماء.
وكذلك يدل على أن المراد بقوله -جل وعلا-: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} يدل على أن المراد بها النجوم: الشبه الحاصل بين النجوم والقرآن، فالنجوم جعلها الله -جل وعلا- علامات يهتدى بها ورجوماً للشياطين، وهذا القرآن العظيم جعله الله -جل وعلا- هداية للخلق، وداحضاً ودافعاً لكل الشبهات، فناسب أن يكون المراد بقوله -جل وعلا-: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} أن المراد النجوم؛ لأن الله -جل وعلا- أقسم بذلك على كتابه الكريم في قوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}.

وقوله -جل وعلا-: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} كلمة: (عسعس) هذه من ألفاظ الأضداد في لغة العرب، فتأتي بمعنى أقبل، وتأتي بمعنى: أدبر، وبهما فسرت هذه الآية، ودل القرآن على هذين التفسيرين.
فبعض العلماء قال: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} معناه: أقبل؛ كما قال الله -جل وعلا-: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}، {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}.
وبعض العلماء يقول: {والليلِ إذا عسْعسَ} إذا أدبر؛ كما قال الله -جل وعلا- في سورة المدثر: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} .

ثم قال -جل وعلا-: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} المراد بذلك: الصبح إذا أسفر وظهر، لأنه يخرج معه نسيم في أول الصباح، كما يخرج النسيم من الجوف، وهذا معنى قوله -جل وعلا-: {وَالصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ} ومعنى قوله:{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}.

ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي: أن هذا القرآن قول رسول كريم، والمراد بَلَّغه رسول كريم وهو جبريل عليه السلام؛ لأن الإضافة هنا إضافة تبليغٍ وليست إضافة إنشاء؛ لأن جبريل مبلغ عن الله -جل وعلا- كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}.
ولا يصح أن يُستدل بهذه الآية على أن القرآن كلام جبريل، كما يصنعه أهل البدع، بل هذه الآية - بدلالة الآيات الأخرى - تدل على أن هذا القرآن من عند الله، وأن جبريل وظيفته التبليغ، فإن الله -جل وعلا- أخبرنا أن هذا القرآن كلامه؛ في قوله -جل وعلا-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} ثم إن الله -جل وعلا- أضاف القرآن في هذه السورة إلى الرسول الملكي وهو جبريل، وأضافه في آية الحاقة إلى الرسول البشري وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد دلنا على أن المراد به النبي -صلى الله عليه وسلم- في سورة الحاقة قوله -جل وعلا- بعد قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}.
والمشركون إنما وصفوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به بالشعر والكهانه، ولم يصفوا بذلك جبريل عليه السلام.
وأما هذه الآية التي معنا فدلنا على أن المراد به: جبريل عليه السلام ما ذُكِر بعدها من الأوصاف كما يأتي إن شاء الله.
فالله -جل وعلا- في سورة الحاقة أضاف هذا القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأضافه في هذه السورة إلى جبريل، ولو كان المراد إضافة إنشاء؛ يعني أن جبريل أنشأ هذا القرآن من عنده أو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنشأ هذا القرآن من عنده؛ لوقع في ذلك تناقض لاختلاف النسبتين؛ لأن الحاقة فيها نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي التكوير فيها نسبته إلى جبريل.
ثم إن الله -جل وعلا- في هذه الآية وفي الآية الأخرى قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فأضاف القول إلى الرسول، والرسول بمعنى المرسل، والمرسل: هو الذي ينقل الكلام من طرفٍ إلى طرفٍ آخر، ولهذا لم يضف الله -جل وعلا- القرآن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- باسمه، ولا إلى جبريل باسمه؛ لم يقل: (إنه لقول محمد)، ولم يقل: (إنه لقول جبريل)، وإنما جاء بالصفة وهي الرسول؛ ليدل ذلك على أن هذه الإضافة إضافة تبليغ؛ وليست إضافة إنشاء.
ثم قال -جل وعلا- في صفة جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُرَسُولٍ كَرِيمٍ} فوصف -جل وعلا- جبريل بأنه كريم، وقد تقدم لنا وصف الملائكة بالكرام.
ثم قال -جل وعلا-: {ذِي قُوَّةٍ} أي: أن جبريل عليه السلام أعطاه الله -جل وعلا- قوة لينفذ لله ما أراد، كما قال -جل وعلا- في سورة النجم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} يعني: علم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا القرآن شديد القوى؛ وهو جبريل عليه السلام.
ثم قال -جل وعلا-: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي: أن جبريل عليه السلام له مكانة عند الله جل وعلا.
ثم قال - جل وعلا -: {مُطَاعٍ ثَمَّ} يعني: أن جبريل -عليه السلام- مطاع عند الملائكة يعني: هناك؛ لأن (ثم) معناها هناك؛ أي: مطاع عند الملائكة، وهذا من فضل جبريل وشرفه؛ لأنه ينقل كلام الله -جل وعلا- الذي يهدي به الخلائق.
ثم قال -جل وعلا-: {أَمِينٍ} أي: أن جبريل عليه السلام متصف بالأمانة؛ كما قال الله -جل وعلا-: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ}.

ثم من بعد ذلك من وصف جبريل -عليه السلام- بأنه خائن للأمانة فهو ضال مضل؛ لأن بعض أهل البدع يقولون: إن جبريل -عليه السلام- خان الأمانة، فأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم؛ وكان حقه أن يُنَزَّل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فمن قال ذلك فهو ضال خاسر؛ لمخالفته كتاب الله جل وعلا.

ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} أي: ليس محمد بمجنون، وهذا رد على المشركين؛ لأنهم وصفوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنون؛ كما قال الله -جل وعلا-: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وقال -جل وعلا-: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}، ولهذا رب العالمين أقسم في كتابه على رد هذه الفرية {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}.
وهذا الوصف الذي يصف به المشركون نبينا -صلى الله عليه وسلم- ليس بدعاً منهم، وإنما هم مشاركون لإخوانهم المشركين الذين وصفوا الأنبياء قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم- بذلك، كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في قوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل على صورته التي خلقه الله تعالى عليها بالأفق؛ وهو الناحية من السماء {بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} : الواضح البين الذي لا لبس فيه ولا غموض، وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((رأى جبريل وله ستمائة جناح قد سد الأفق)) لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل عليه السلام على صورته مرتين:
المرة الأولى: هذه في مكة بالبطحاء.
والمرة الثانية: عند سدرة المنتهى لما عرج به -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء؛ كما قال الله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي: ليس النبي -صلى الله عليه وسلم- على الغيب بمتهم، والمراد بالغيب هو هذا الوحي الذي ينزله الله -جل وعلا- عليه.
وجاء في قراءة سبعية بالظاء {بِظَنِينٍ} والمراد: ليس ببخيل، وكلاهما قراءتان متواترتان.
ويستفاد منهما أن النبي-صلى الله عليه وسلم- في تبليغه لهذه الرسالة لم يكن بخيلاً بها على أحد، ولم يكن بخيلاً بها فينقص منها شيئاً، وكذلك يستفاد من القراءة الأخرى {بِضَنِينٍ} وأنه غير متهم أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بلَّغ هذا التنـزيل كما أمره ربه -جل وعلا- في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ولهذا لو أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- ظن بهذا التنـزيل لعاجله الله -جل وعلا- بالعقوبة، كما قال الله -جل وعلا-: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}.

لو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ما يكون به تهمة له في تبليغ هذه الرسالة لعجله الله -جل وعلا- بالعقوبة، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- قد حفظ هذا التنـزيل وبلغه كما أمره ربه -جل وعلا- ولهذا قال الله -جل وعلا-: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

قال الله -جل وعلا-: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي: أن هذا القرآن ليس الذي يلقيه على النبي -صلى الله عليه وسلم- شيطان، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- ليس بساحر ولا بكاهن؛ لأن الشياطين تتنزل على السحرة والكهنة بما تسترقه من السمع، وأما هذا التنـزيل الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو قطعاً من عند الله -جل وعلا- كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)} .
ولهذا نفى الله -جل وعلا- أن يكون قول ساحر أو قول شاعر أو قول كاهن كما في آياتٍ كثيرة من كتاب الله -جل وعلا- لأن هؤلاء السحرة والكهنة يتلقون هذه الأخبار من مسترقي السمع، وأما نبينا -صلى الله عليه وسلم- فهذه أخبار من عند الله -جل وعلا- بواسطة الروح الأمين جبريل عليه السلام.
ثم قال -جل وعلا-: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} لما بين الله -جل وعلا- صحة رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنها حق، وأن هذا القرآن حق من عند الله؛ قد حفظه الله -جل وعلا- قال: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} يعني: أين تذهب عقولكم عن هذا الحق؟! لأنه ليس هناك إلا حق أو باطل، والعاقل يتبع الحق ويدع الباطل، فالله -جل وعلا- يقول لهم: فأين تذهب عقولكم؟! يعني: تذهب عن الحق وتقصد الضلال؛ ولهذا قال الله -جل وعلا- في آيات أخرى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.

ثم قال -جل وعلا-: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يعني: هذا القرآن لما لم يكن متقولاً على الله، وليس بتنزيل شياطين، إنه ذكر للعالمين، أنزله الله -جل وعلا- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليتذكروا به ويتعظوا ويعتبروا، وقد تقدم لنا ذلك في سورة عبس.
ثم قال -جل وعلا-: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي: هذا القرآن أنزله الله -جل وعلا- ذكراً لمن أراد له الهداية ولمن طلب أسباب الهداية فقوله -جل وعلا-: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} فيه إثبات أن العبد له فعل وله قصد، ولكن هذا القصد لا يقع إلا إذا شاءه الله جل وعلا، ومشيئته لا تتحقق إلا بعد مشيئة الله جل وعلا.
ففي هذه الآية: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} رد على الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على أعماله.
وفي قوله -جل وعلا-: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} رد على القدرية النفاة الذين يقولون: إن الأفعال كلها منسوبة للعبد ليس لله -جل وعلا- فيها مشيئة.
وأما مذهب أهل السنة والجماعة كما دلت عليه هذه الآية، أن للعبد مشيئة؛ ولكن مشيئة تابعة لمشيئة الله جل وعلا، لأنه إذا كان فعل العبد يقع بغير مشيئة الله؛ فإنه يقع في ملك الله -جل وعلا- ما لا يشاؤه الله ولا يريده، وذلك خلاف ما وصف الله-جل وعلا- به نفسه؛ حتى في هذه الآية التي معنا بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} لأن الرب هو المالك للخلق المدبر شؤونهم.


هيئة الإشراف

#6

22 Oct 2008

تفسير قول الله تعالى: ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس )الخلاف في قوله تعالى : (لا أقسم)
الخلاف في المراد بقوله تعالى : (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس)
سبب الخلاف في المراد بهذه الأوصاف
تفسير قول الله تعالى: ( والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفَّس )
أقوال السلف في المراد بـ (عَسعَس)
سبب الخلاف في معنى (عَسعَس)
تفسير قول الله تعالى: ( إنه لقول رسول كريم )
نسبة القول للرسول الكريم نسبة بلاغ لا نسبة إنشاء
تفسير قول الله تعالى: ( ذي قوة عند ذي العرش مكين )
ذكر بعض أوصاف العرش
تفسير قول الله تعالى: ( مطاع ثم أمين )
تفسير قول الله تعالى: ( وما صاحبكم بمجنون )
تفسير قول الله تعالى: ( ولقد رآه بالأفق المبين )
تفسير قول الله تعالى: ( وما هو على الغيب بضنين )
تفسير قول الله تعالى: ( وما هو بقول شيطان رجيم )
تفسير قول الله تعالى: ( فأين تذهبون )
تفسير قول الله تعالى: ( إن هو إلا ذكر للعالمين )
تفسير قول الله تعالى: ( لمن شاء منكم أن يستقيم )
تفسير قول الله تعالى: ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين )
إثبات مشيئة الله ومشيئة العبد والرد على الجبرية والمعتزلة


هيئة الإشراف

#7

26 Jan 2009

الأسئلة


س1: اذكر مناسبة هذه الآيات لما قبلها.
س2: اذكر تفسيراً إجمالياً مختصراً لهذه الآيات.
س3: بين معاني المفردات التالية: الخُنَّس، الجوار، الكُنَّس، عسعس، تنفَّس، مكين، الأفق المبين، ضنين.
س4: يكرر الله عز وجل الإخبار بأنَّ هذا القرآن الكريم حق، لم يفترى من دونه، تحدث عن أهمية هذا التكرار.
س5: بين جواب القَسَم في هذه الآيات الكريمات.
س6: قال الله عز وجل: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} ما المراد بالصاحب هنا ؟ وما سر التعبير عنه بلفظ الصاحب مضافاً إلى ضمير المخاطبين دون سائر الأوصاف والإضافات؟
س7: اختلف المفسرون في معنى تركيب القسم بصيغة{لا أُقْسِمُ}على أقوال، اذكرها مع الترجيح.
س8: اختلف العلماء في المراد {بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} على أقوال، اذكرها مع بيان القول الراجح، وسبب الاختلاف، ونوعه.
س9: اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}على قولين، اذكرهما، مع بيان سبب الاختلاف، ونوعه.
س10: قال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} بين المراد بالرسول في هذه الآية، ومعنى نسبة القول إليه؟
س11: اذكر القراءتين في قول الله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} مع بيان المعنى على كلا القراءتين.
س12: بين دلالة هذه الآيات على بطلان مذهب الجبرية والقدرية.

هيئة الإشراف

#8

9 Apr 2014

تفسير ابن كثير



قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (روى مسلمٌ في صحيحه والنّسائيّ في تفسيره عند هذه الآية، من حديث مسعر بن كدامٍ، عن الوليد بن سريعٍ، عن عمرو بن حريثٍ قال: صلّيت خلف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الصّبح فسمعته يقرأ: {فلا أقسم بالخنّس الجوار الكنّس واللّيل إذا عسعس والصّبح إذا تنفّس}.

ورواه النّسائيّ عن بندارٍ، عن غندرٍ، عن شعبة، عن الحجّاج بن عاصمٍ، عن أبي الأسود، عن عمرو بن حريثٍ به نحوه، قال ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ من طريق الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن رجلٍ من مرادٍ، عن عليٍّ: {فلا أقسم بالخنّس}. قال: هي النّجوم تخنس بالنّهار وتظهر باللّيل.

وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ قال: حدّثنا شعبة، عن سماك بن حربٍ: سمعت خالد بن عرعرة سمعت عليًّا وسئل عن: {لا أقسم بالخنّس الجوار الكنّس}. فقال: هي النّجوم تخنس بالنّهار وتكنس باللّيل.

وحدّثنا أبو كريبٍ: حدّثنا وكيعٌ، عن إسرائيل، عن سماكٍ، عن خالدٍ، عن عليٍّ قال: هي النّجوم.

وهذا إسنادٌ جيّدٌ صحيحٌ إلى خالد بن عرعرة، وهو السّهميّ الكوفيّ.

قال أبو حاتمٍ الرّازيّ: روى عن عليٍّ، وروى عنه سماكٌ والقاسم بن عوفٍ الشّيبانيّ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فاللّه أعلم.

وروى يونس عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليٍّ أنّها النّجوم، رواه ابن أبي حاتمٍ، وكذا روي عن ابن عبّاسٍ ومجاهدٍ والحسن وقتادة والسّدّيّ وغيرهم؛ أنّها النّجوم.

وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا هوذة بن خليفة، حدّثنا عوفٌ، عن بكر بن عبد اللّه في قوله: {فلا أقسم بالخنّس الجوار الكنّس}. قال: هي النّجوم الدّراريّ التي تجري تستقبل المشرق.

وقال بعض الأئمّة: إنّما قيل للنّجوم: الخنّس. أي: في حال طلوعها، ثمّ هي جوارٍ في فلكها، وفي حال غيبوبتها يقال لها: كنّسٌ. من قول العرب: أوى الظّبي إلى كناسه إذا تغيّب فيه.

وقال الأعمش عن إبراهيم قال: قال عبد اللّه: {فلا أقسم بالخنّس}. قال: بقر الوحش، وكذا قال الثّوريّ عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عبد اللّه: {فلا أقسم بالخنّس الجوار الكنّس}. ما هي يا عمرو؟ قلت: البقر. قال: وأنا أرى ذلك.

وكذا روى يونس عن أبي إسحاق، عن أبيه، وقال أبو داود الطّيالسيّ، عن عمرٍو، عن أبيه، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {الجوار الكنّس} قال: البقر تكنس إلى الظّلّ. وكذا قال سعيد بن جبيرٍ.

وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: هي الظّباء. وكذا قال سعيدٌ أيضاً ومجاهدٌ والضّحّاك.

وقال أبو الشّعثاء جابر بن زيدٍ: هي الظّباء والبقر.

وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يعقوب، حدّثنا هشيمٌ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم ومجاهدٍ أنّهما تذاكرا هذه الآية: {فلا أقسم بالخنّس الجوار الكنّس}. فقال إبراهيم لمجاهدٍ: قل فيها بما سمعت. قال: فقال مجاهدٌ: كنّا نسمع فيها شيئاً، وناسٌ يقولون: إنّها النّجوم. قال: فقال إبراهيم: قل فيها بما سمعت. قال: فقال مجاهدٌ: كنّا نسمع أنّها بقر الوحش حين تكنس في جحرتها. قال: فقال إبراهيم: إنّهم يكذبون على عليٍّ. هذا كما رووا عن عليٍّ أنّه ضمّن الأسفل الأعلى والأعلى الأسفل، وتوقّف ابن جريرٍ في المراد بقوله: {الخنّس الجوار الكنّس}. هل هو النّجوم أوالظّباء وبقر الوحش؟ قال: ويحتمل أن يكون الجميع مراداً.

وقوله: {واللّيل إذا عسعس} فيه قولان:

أحدهما: إقباله بظلامه، قال مجاهدٌ: أظلم. وقال سعيد بن جبيرٍ: إذا نشأ. وقال الحسن البصريّ: إذا غشي النّاس. وكذا قال عطيّة العوفيّ.

وقال عليّ بن أبي طلحة والعوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {إذا عسعس}: إذا أدبر. وكذا قال مجاهدٌ وقتادة والضّحّاك.

وكذا قال زيد بن أسلم وابنه عبد الرّحمن: {إذا عسعس}. أي: إذا ذهب فتولّى.

وقال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختريّ سمع أبا عبد الرّحمن السلميّ قال: خرج علينا عليٌّ رضي اللّه عنه حين ثوّب المثوّب بصلاة الصّبح فقال: أين السّائلون عن الوتر: {واللّيل إذا عسعس والصّبح إذا تنفّس}. هذا حين أدبر حسنٌ، وقد اختار ابن جريرٍ أنّ المراد بقوله: {إذا عسعس}: إذا أدبر، قال: لقوله: {والصّبح إذا تنفس}. أي: أضاء. واستشهد بقول الشّاعر أيضاً:

حتّى إذا الصّبح لها تنفّسا = وانجاب عنها ليلها وعسعسا

أي: أدبر، وعندي أنّ المراد بقوله: {عسعس}. إذا أقبل، وإن كان يصحّ استعماله في الإدبار أيضاً، لكنّ الإقبال ههنا أنسب كأنّه أقسم تعالى باللّيل وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق كما قال: {واللّيل إذا يغشى والنّهار إذا تجلّى}. وقال: {والضّحى واللّيل إذا سجى}. وقال: {فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكناً}. وغير ذلك من الآيات.

وقال كثيرٌ من علماء الأصول: إنّ لفظة: {عسعس}. تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك فعلى هذا يصحّ أن يراد كلٌّ منهما .. واللّه أعلم.

قال ابن جريرٍ: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يزعم أنّ {عسعس}: دنا من أوّله وأظلم، وقال الفرّاء: كان أبو البلاد النّحويّ ينشد بيتاً:

عسعس حتّى لو يشاء ادّنا = كان له من ضوئه مقبس

يريد: لو يشاء إذ دنا. أدغم الذّال في الدّال، وقال الفرّاء: وكانوا يرون أنّ هذا البيت مصنوعٌ.

وقوله: {والصّبح إذا تنفّس}. قال الضّحّاك: إذا طلع.

وقال قتادة: إذا أضاء وأقبل. وقال سعيد بن جبيرٍ: إذا نشأ. وهو المرويّ عن عليٍّ رضي اللّه عنه.

وقال ابن جريرٍ: يعني: وضوء النّهار إذا أقبل وتبيّن.

وقوله: {إنّه لقول رسولٍ كريمٍ}. يعني: إنّ هذا القرآن لتبليغ رسولٍ كريمٍ .. أي: ملكٍ شريفٍ حسن الخلق بهيّ المنظر، وهو جبريل عليه الصّلاة والسّلام. قاله ابن عبّاسٍ والشّعبيّ وميمون بن مهران والحسن وقتادة والضّحّاك والرّبيع بن أنسٍ وغيرهم.

{ذي قوّةٍ}، كقوله: {علّمه شديد القوى ذو مرّةٍ}. أي: شديد الخلق شديد البطش والفعل، {عند ذي العرش مكينٍ}. أي: له مكانةٌ عند اللّه عزّ وجلّ ومنزلةٌ رفيعةٌ، قال أبو صالحٍ في قوله: {عند ذي العرش مكينٍ}. قال: جبريل يدخل في سبعين حجاباً من نورٍ بغير إذنٍ، {مطاعٍ ثمّ}. أي: له وجاهةٌ، وهو مسموع القول مطاعٌ في الملأ الأعلى.

قال قتادة: {مطاعٍ ثمّ}. أي: في السّماوات، يعني: ليس هو من أفناء الملائكة، بل هو من السّادة والأشراف، معتنًى به، انتخب لهذه الرّسالة العظيمة.

وقوله: {أمينٍ} صفةٌ لجبريل بالأمانة، وهذا عظيمٌ جدًّا أنّ الرّبّ عزّ وجلّ يزكّي عبده ورسوله الملكيّ جبريل.

كما زكّى عبده ورسوله البشريّ محمّداً صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله: {وما صاحبكم بمجنونٍ}. قال الشّعبيّ وميمون بن مهران وأبو صالحٍ ومن تقدّم ذكرهم: المراد بقوله: {وما صاحبكم بمجنونٍ}. يعني محمّداً صلّى اللّه عليه وسلّم.

وقوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين}. يعني: ولقد رأى محمّدٌ جبريل الذي يأتيه بالرّسالة عن اللّه عزّ وجلّ على الصورة التي خلقه اللّه عليها، له ستّمائة جناحٍ، {بالأفق المبين}. أي: البيّن، وهي الرّؤية الأولى الّتي كانت بالبطحاء وهي المذكورة في قوله: {علّمه شديد القوى ذو مرّةٍ فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى}. كما تقدّم تفسير ذلك وتقريره، والدّليل عليه أنّ المراد بذلك جبريل عليه السّلام، والظّاهر واللّه أعلم أنّ هذه السّورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنّه لم يذكر فيها إلاّ هذه الرّؤية وهي الأولى.

وأمّا الثّانية وهي المذكورة في قوله: {ولقد رآه نزلةً أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنّة المأوى إذ يغشى السّدرة ما يغشى}. فتلك إنّما ذكرت في سورة (النّجم) وقد نزلت بعد (الإسراء).

وقوله: (وما هو على الغيب بظنينٍ) أي: وما محمّدٌ على ما أنزله اللّه إليه بظنينٍ، أي: بمتّهمٍ، ومنهم من قرأ ذلك بالضّاد، أي: ببخيلٍ، بل يبذله لكلّ أحدٍ، قال سفيان بن عيينة: (ظنينٌ) و(ضنينٌ) سواءٌ، أي: ما هو بكاذبٍ، وما هو بفاجرٍ، والظّنين: المتّهم، والضّنين: البخيل. وقال قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله اللّه على محمّدٍ فما ضنّ به على النّاس - وكذا قال عكرمة وابن زيدٍ وغير واحدٍ- بل بلّغه ونشره وبذله لكلّ من أراده. واختار ابن جريرٍ قراءة الضّاد.

قلت: وكلاهما متواترٌ ومعناه صحيحٌ كما تقدّم.

وقوله: {وما هو بقول شيطانٍ رجيمٍ}. أي: وما هذا القرآن بقول شيطانٍ رجيمٍ، أي: لا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له، كما قال: {وما تنزّلت به الشّياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السّمع لمعزولون}.

وقوله: {فأين تذهبون}. أي: فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقًّا من اللّه عزّ وجلّ، كما قال الصدّيق رضي اللّه عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين وأمرهم فتلوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذّاب الذي هو في غاية الهذيان والرّكاكة فقال: ويحكم أين يذهب بعقولكم؟ واللّه إنّ هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ. أي: من إلهٍ، وقال قتادة: {فأين تذهبون}. أي: عن كتاب اللّه وعن طاعته.

وقوله: {إن هو إلاّ ذكرٌ للعالمين} أي: هذا القرآن ذكرٌ لجميع النّاس يتذكّرون به ويتّعظون: {لمن شاء منكم أن يستقيم}. أي: من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن؛ فإنّه منجاةٌ له وهدايةٌ، ولا هداية فيما سواه، {وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ربّ العالمين}. أي: ليست المشيئة موكولةً إليكم، فمن شاء اهتدى، ومن شاء ضلّ، بل ذلك كلّه تابعٌ لمشيئة اللّه عزّ وجلّ ربّ العالمين.

قال سفيان الثّوريّ، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى: لمّا نزلت هذه الآية: {لمن شاء منكم أن يستقيم}. قال أبو جهلٍ: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم. فأنزل اللّه: {وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ربّ العالمين}.

آخر تفسير سورة التّكوير، وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/336-340]