22 Oct 2008
سورةُ التَّكْوِير
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14)}
تفسير سورة التكوير
(1-14){بسم
الله الرحمن الرحيم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ
انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ
عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ
سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ
سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14)}أي:
إذا حصلتْ هذهِ الأمورُ الهائلةُ، تميَّزَ الخلقُ، وعلمَ كلُّ أحدٍ ما
قدَّمهُ لآخرتِهِ، وما أحضرهُ فيهَا منْ خيرٍ وشرٍّ، وذلكَ إذا كانَ يومُ
القيامةِ تُكَوَّرُ الشمسُ أي: تجمعُ وتلفُّ، ويخسفُ القمرُ، ويلقيان في
النارِ. {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}أي: تغيَّرتْ، وتساقطتْ، مِنْ أفلاكِهَا. {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ}أي: أُزيلتْ:
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}أي: صارتْ كثيباً مهيلاً، ثمَّ صارتْ كالعهنِ المنفوشِ، ثم تغيَّرتْ وصارتْ هباءً منبثاً، وسُيِّرتْ الجبالُ عنْ أماكنهَا.
{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}أي: عطَّلَ
الناسُ حينئذٍ نفائسَ أموالِهم التي كانُوا يهتمُّونَ لها ويراعونَها في
جميعِ الأوقاتِ، فجاءَهمْ ما يذهلهُمْ عنهَا، فنبّهَ بالعشارِ، وهيَ النوقُ
التي تتبعُهَا أولادُهَا، وهيَ أنفسُ أموالِ العربِ إذْ ذاكَ عندَهم، على
ما هوَ في معناهَا منْ كلِّ نفيسٍ.
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}أي:جمعتْ ليومِ القيامةِ، ليقتصَّ اللهُ منْ بعضهَا لبعضٍ، ويرَى العبادُ كمالَ عدلِهِ، حتَى إنَّهُ ليقتصُّ منَ القرناءِ للجمّاءِ، ثمَّ يقولُ لهَا: كوني تراباً.
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}أي: أوقدتْ فصارتْ - على عظمهَا - ناراً تتوقدُ.
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}أي: قرنَ
كلُّ صاحبِ عملٍ معَ نظيرهِ، فجُمعَ الأبرارُ معَ الأبرار، والفجارُ معَ
الفجارِ، وزُوِّجَ المؤمنونَ بالحورِ العينِ، والكافرونَ بالشياطين:
- وهذا كقولِهِ تعالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً}
- {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً}.
- {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}.
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ}وهيَ التي كانتْ الجاهليةُ الجهلاءُ تفعلهُ منْ دفنِ البناتِ وهنَّ أحياءٌ منْ غيرِ سببٍ، إلاَّ خشيةَ الفقرِ، فتُسألُ: {بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} ومنَ المعلومِ أنَّها ليسَ لهَا ذنبٌ، ففي هذا توبيخٌ وتقريعٌ لقاتليهَا.
- كما قالَ تعالَى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ}.
- {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}.
- {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}أي: أُوقدَ عليهَا فاستعرتْ، والتهبتْ التهاباً لمْ يكنْ لهَا قبلَ ذلكَ، {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي: قُرِّبتْ للمتقينَ.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ}أي: كلُّ نفسٍ؛ لإتيانهَا في سياقِ الشرطِ.
{مَا أَحْضَرَتْ}أي: ما حضرَ لديهَا منَ الأعمالِ [التي قدمتهَا] كمَا قالَ تعالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً}.
وهذهِ الأوصافُ التي وصفَ اللهُ بهَا يومَ القيامةِ، منَ
الأوصافِ التي تنزعجُ لهَا القلوبُ، وتشتدُّ من أجلِهَا الكروبُ، وترتعدُ
الفرائصُ، وتعمُّ المخاوفُ، وتحثُّ أولي الألبابِ للاستعدادِ لذلكَ اليومِ،
وتزجرهُمْ عنْ كلِّ ما يوجبُ اللومَ، ولهذا قالَ بعضُ السلفِ: (منْ أرادَ
أنْ ينظرَ ليومِ القيامةِ كأنَّهُ رأيُ عينٍ، فليتدبرْ سورةَ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}).
سُورَةُ التَّكْوِيرِ
أَخْرَجَ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}, وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}, وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ})).
1- {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}: كُوِّرَتْ مِثْلَ شَكْلِ الكُرَةِ، تُلَفُّ فَتُجْمَعُ فَيُرْمَى بِهَا.
2- {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ}؛ أَيْ: تَهَافَتَتْ وَانْقَضَتْ وَتَنَاثَرَتْ، وَقِيلَ: انْكِدَارُهَا: طَمْسُ نُورِهَا.
3- {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}؛ أَيْ: قُلِعَتْ عَن الأَرْضِ، وَسُيِّرَتْ فِي الْهَوَاءِ.
4- {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}
الْعِشَارُ: النُّوقُ الحواملُ الَّتِي فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا،
وَخَصَّ العِشَارَ؛ لأَنَّهَا أَنْفَسُ مَالٍ عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَعَزُّهُ
عِنْدَهُمْ. وَمَعْنَى عُطِّلَتْ: تُرِكَتْ هَمَلاً بِلا رَاعٍ؛ وَذَلِكَ
لِمَا شَاهَدُوا من الهَوْلِ الْعَظِيمِ.
5- {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}
الْوُحُوشُ: غَيْرُ المُسْتَأْنَسِ مِن دوابِّ الْبَرِّ، وَمَعْنَى
حُشِرَتْ: بُعِثَتْ حَتَّى يُقْتَصَّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ:
حَشْرُهَا: مَوْتُهَا.
6- {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}؛ أَيْ: أُوقِدَتْ، فَصَارَتْ نَاراً تَضْطَرِمُ.
7- {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}؛
أَيْ: زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بالحُورِ العِينِ، وَقُرِنَتْ
نُفُوسُ الْكَافِرِينَ بالشَّيَاطِينِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْحِقَ كُلُّ
امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ: الْيَهُودُ باليهودِ، وَالنَّصَارَى بالنَّصَارَى،
والمَجُوسُ بالمجوسِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئاً مِنْ دُونِ
اللَّهِ يَلْحَقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَالْمُنَافِقُونَ
بِالْمُنَافِقِينَ، وَيَلْحَقُ الْمُؤْمِنونَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
9،8 - {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}؛
أَي: المَدْفُونَةُ حَيَّةً، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا وُلِدَتْ
لأَحَدِهِمْ بِنْتٌ دَفَنَهَا حَيَّةً؛ مَخَافَةَ العَارِ أَو الحَاجَةِ.
يُوَبِّخُ قَاتِلُهَا؛ لأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلَتْهُ.
10- {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} يَعْنِي: صَحَائِفُ الأَعْمَالِ نُشِرَتْ لِلْحِسَابِ.
11- {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}؛ أَيْ: تَشَقَّقَتْ وَأُزِيلَتْ.
12- {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}: أُوقِدَتْ لأَعْدَاءِ اللَّهِ إِيقَاداً شَدِيداً، قَالَ قَتَادَةُ: سَعَّرَهَا غَضَبُ اللَّهِ وَخَطَايَا بَنِي آدَمَ.
13- {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}:قُرِّبَتْ
إِلَى الْمُتَّقِينَ وَأُدْنِيَتْ مِنْهُمْ. قِيلَ: هَذِهِ الأُمُورُ
الاثْنَا عَشَرَ: سِتٌّ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ
السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}، وَسِتٌّ فِي الآخِرَةِ، وَهِيَ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} إِلَى هُنَا، وَجَوَابُ الْجَمِيعِ قَوْلُهُ:
14- {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}. الْمُرَادُ: عَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْهُ عِنْدَ نَشْرِ الصُّحُفِ، يَعْنِي: مَا عَمِلَتْ منْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
المتن :
سورةُ التَّكْوِير
1- قولُه تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي: إذا جُمع جِرمُ الشمس، وذهب ضوؤها، فأُلقيت في النار(1). الحاشية : 2- ذهب ضوؤها، وهو قول أبي بن كعب من طريق أبي العالية، وقتادة من طريق شعبة، وقال ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: أظلمت. قال ابن جرير الطبري:(والصواب
من القول عندنا في ذلك أن يقال: (كُوِّرت) كما قال الله جل ثناؤه،
والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض، وذلك كتكوير العمامة، وهو
لَفُّهَا على الرأس، وكتكوير الكَارَةِ، وهي جَمْعُ الثيابِ بعضها إلى بعض
ولَفُّها، وكذلك قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إنما معناه: جُمِعَ بعضُها إلى بعض، ثم لُفَّت، فرُمي بها، وإذا فُعل ذلك بها ذهب ضوؤها، فعلى التأويل الذي تأوَّلناه وبينَّاه لكِلا القولين اللذَينِ ذكرتُ عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كوِّرت ورُمي بها ذهب ضوؤها). أمَّا من فسَّرها بذهبت واضمحلَّت فإن ذلك لازمُ لفِّها كما ذكر الطبري، وإذا ذهبت ذهبَ ضوؤها، والله أعلم. (2) ورد في تفسير الانكدار قولان: والثاني: تغيَّرت، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. والمعنى الثاني مأخوذ من الكُدرة، وهي التغيُّر،
تقول: كدرت الماء فانكدر؛ أي: تغيَّر بما يكدر صفاءَهُ، وهذا من اختلاف
التنوع الذي يرجع إلى معنيين غير متضادين، ويجوز أن يرادا في الآية، ويكون
سببُ الاختلافِ الاشتراكَ اللغويَّ في لفظ: انكدرت، والله أعلم. 1-فجعله ابن عباس من طريق عكرمة: (الموت)، وقال الربيع بن خثيم: (أتى عليها أمرُ الله). وقد رجَّح الإمام ابن
جرير قول قتادة وأردفَه بقول ابن عباس فقال: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك
بالصواب، قولُ من قال: معنى حشرت: جُمعت، فأميتت؛ لأن المعروف في كلام
العرب من معنى الحشر: الجمع؛ ومنه قول الله: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص: 19] يعني: مجموعة، وقوله: {فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 23]، وإنما يُحمل تأويلُ القرآنِ على الأغلب الظاهر من تأويله، لا على الأَنْكَرِ المجهول). الثاني: فاضت، وهو قول الربيع بن خثيم، وقال الكلبي: مُلئت، وجعلها نظير قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]. فتوسّطا عرض السري وصدعا = مــسـجـورةًمــتـجــاوراً قلاّمــها والسَّجْرُ في لغة العرب يطلق على معان ثلاثة مما ذكر في التفسير، وهي: - والإيقاد. الثاني: رُدَّتِ الأرواحُ إلى الأجسادِ، فجُعلت لها زوجاً، وهو قول عكرمة من طريق أبي عمرو، والشعبي من طريق داود. وهذه أحدُ الأحوالِ التي تمرُّ بها السماء في يوم القيامة، ومن أحوالها ما ذكرَهُ الله في قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، وقوله: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، وقوله: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وغيرها.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن ينظرَ إلى يوم القيامة كأنه رأيَ عَيْنٍ، فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، {وَإِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ}، {وَإِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ})).
وقد وردَ عن أُبي بن كعبٍ رضي الله عنه أنَّ الآيات الستَّ الأُولى تكونُ في آخرِ الزمان والناس ينظرونَ إليها، والستَّ الأخيرةَ تكون في يوم القيامة.
2- قولُه تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} أي: وإذا نجومُ السماءِ وقعت وانتثَرت، فتغيَّرت وطُمسَ ضوؤها(2).
3- قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} أي: وإذا هذه الجبالُ العظيمةُ قد أمر الله بتحريكِها من مكانها، فسَارت(3).
4-قولُه تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} أي: وإذا النُّوقُ الحوامِلُ التي بلَغت الشهرَ العاشرَ من حَمْلِها، التي هي أنفسُ أموالهم، قد أهملَها أهلها وتركوها من هَوْلِ الموقف (4)
5-قولُه تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي: وإذا الحيواناتُ البرِّيَّة التي لم تأنسْ بالإنسان جُمِعت معه وزالَ ما بينهما من الاستيحاشِ بسبب هَوْلِ الموقف(5).
6- قولُه تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي: وإذا هذه البحارُ امتلأت بالماء، ففاضت به، ثم أُوقِدت، فذهبَ ما فيها من الماء(6).
7- قولُه تعالى(7): {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي: إذا
الأشخاصُ الذين يعملونَ أعمالاً متشابهة، يُقْرَنُ بينهم، فيُقرنُ الكافرُ
مع الكافرِ، والمؤمنُ مع المؤمن، واليهوديُّ مع اليهوديِّ، والنصرانيُّ مع
النصراني، وهكذا(8).
8- 9- قولُه تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} أي: وإذا سألَ اللهُ البنتَ المدفونةَ وهي على قيد الحياة: ما الجريمةُ التي فَعلتيها حتى يدفِنكِ أهلُك، فيقتلونَكِ بهذا الدفن(9) ؟.
وهذا فيه تبكيتٌ لقاتِلها، وتهويلٌ للموقف الذي يُسأل فيه المجني عليه، فما ظنُّكَ بما يلاقيه الجاني لهذه الجنايةِ البشعة؟.
10- قولُه تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} أي: وإذا ما كُتِبَتْ به أعمالُ العبادِ من الصُّحف قد فُتحت، ليقرأَ كلٌّ كتابَ أعمالِه؛ كقوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14].
11- قولُه تعالى: {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ} أي: وإذا نُزِعَتِ السماءُ كما يُنزعُ الجلدُ من الذبيحة(10).
12- قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أي: وإذا نارُ الجحيمِ أُوقِدَت، فزاد حرُّها.
13-قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي:وإذا الجنةُ التي أُعِدَّت للمتقين، قُرِّبَت وأُدْنِيَت(11).
14- قولُه تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} أي: إذا وَقعت هذه الأحداث، فإنَّ كُلَّ نفسٍ مؤمنةٍ وكافرةٍ تعلمُ علماً يقينياً بالذي جاءت به الأعمال لهذا اليوم؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}(12) [آل عمران: 30].
(1) عبَّر السلف عن التكوير بالعبارات الآتية:
3- رُمي بها، وهو قول الربيع بن خثيم، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وفي رواية أخرى من طريق إسماعيل: نُكِّسَت.
وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين:
- ذهابها بذاتها، يلحقه ذهاب ضوئها.
- ورميها.
وعلى هذا الترجيح من الطبري
يزيد معنى اللفِّ والجمع، ولم أجِدْهُ لأحدٍ من السلف قبل الطبري، وهو
مستنبَطٌ من المعنى اللغويِّ للتكوير، كما أنَّ من قال: رُمي بها، فإنه
مأخوذٌ من معنىً لغويٍّ آخر في مادة التكوير، تقول: كوَّرتُ الرجلَ؛ أي:
طرحتَه في الأرض، وقد ورد في الحديث:((الشمسُ والقمرُ ثورانِ مكوَّران في القار)) وهذا يشهد لهذا المعنى التفسيري، ويزيد عليه بيانَ مآلِ الشمس.
وهذان القولان ليس بينهما تضاد، بل الثاني من لوازم الأول، والمعنى أنها إذا تساقطت؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار: 2]، فإنها تتغير ويذهب ضوؤها؛ كما قال تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات: 8]، وهذان القولانِ مرجِعهما اللغة:
فالأولُ جعل اللفظَ من الانكدار، أي الانصباب؛ كما قال العجاج:
تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كَسَرْ = أَبـْصـَرَغـِرْبـَانَ فَضَاءٍ فَانْكَدَرْ
(3) عبَّر مجاهد عن معنى التسيير بقوله: (ذهبت) وهذا من لوازم تسيير الجبال؛ لأنها إذا سارت فقد ذهبت، والله أعلم.
وهذه الآية كقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20)}
وجاء الفعلُ على صيغة المفعول للاهتمام بالحَدَثِ، وللدلالة على أن هذا
الفعل يكون مبدؤه بفعلِ فاعلٍ فيها، ثم إنها تنفعلُ لهذا الحدَث فتسير؛ كما
قال تعالى: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10)}، ويظهر أن هذه أولُ حالٍ من الأحوال التي تمرُّ بها الجبال في ذلك اليوم، والله أعلم.
(4) كذا قال السلف: أُبيُّ بن كعب من طريق أبي العالية، والربيع بن خثيم، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى، والحسن من طريق عوف، وقتادة من طريق معمر، والضحَّاك من طريق عبيد المكتب.
(5) اختلف السلف في تفسير عبارة الحشر هنا:
2-وقال أُبيُّ بن كعب من طريق أبي العالية: (اختلطت).
3-وفسَّره قتادة من طريق سعيد بالجمْعِ قال: (هذه الخلائقُ موافيةٌ يومَ القيامة، فيقضي الله فيها ما يشاء).
ولعلَّكَ تلاحظُ أنه استشهد لمعنى الجمع، ولم يستشهد لمعنى الموتِ الذي ذكره في أولِ كلامه! وتفسيرُ ابن عباس يظهر منه أن هذه الدلالة اللغوية للحشر مختصَّة بحشر الحيواناتِ في آخر الزمانِ، حيث قال: (حَشْرُ البهائم: موتها، وحَشرُ كل شيء: الموت، غير الجنِّ والإنس، فإنهما يوقَفان يوم القيامة).
وإن
لم تحمله على ذلك، فإنك ستلاحظ أنه أفادَ زيادةً على معنى الجمع؛ أي:
نتيجة هذا الجمع ولازمه، وهو مآل هذه الحيوانات بعد هذا الحشر، والله أعلم.
أما تفسيرُ أبي بن كعب،
فإن لم تحمله على أنه معنىً لغوي آخر للحشر، فإنه من لوازم الحشر؛ أي:
أنَّ جمعَ هذه الحيوانات جعلها تختلطُ ببعضها دون خوفٍ أو غيره مما كان من
حالها قبل ذلك، والله أعلم.
(6) قُرئ حرف (سُجِّرت) بتخفيف الجيم وتشديدها، وفي التشديد مبالغة في السَّجْرِ، وكِلا القراءتين جاءت على صيغة المفعول للاهتمام بالحدث.
الأول:أُشعلت وأُوقدت، وهذا قول أُبي بن كعب من طريق أبي العالية، وابن عباس من طريق شيخ من بجيلة، وابن زيد، وشمر بن عطية، وسفيان الثوري من طريق ابن مهران، ومن طريق سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنَّم؟ فقال: في البحر، فقال: ما أُراه إلا صادقاً){وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] مخفَّفة.
الثالث: فجِّرت، وهو قول الضحَّاك من طريق عبيد، وكأنه جعلها نظير قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3].
الرابع: ذهبَ ماؤها، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد، وقال الحسن من طريق أبي رجاء وسليمان بن المعتمر: يبسَت.
قال أبو
جعفر الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: مُلئت
حتى فاضت، فانفجرت وسالت، كما وصفها الله به في الموضع الآخر، فقال:{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3]، والعرب تقول للركِيِّ المملوء: ماء مسجور، ومنه قول لبيد:
- واليُبس.
ومن
ثمَّ فإن الآية تحتمل هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها السلف، ويمكن الجمع
بينها على أن هذه من المراحل التي تمرُّ بها البحار في ذلك الزمان، فعبَّر
بلفظٍ يدلُّ على هذه المراحل جميعها، والله أعلم.
وإذا
صحَّ ذلك، فإن الأمرَ يكون بأن تتفجَّر البحارُ ويفيضَ بعضها على بعض، حتى
تصير بحراً واحداً ممتلئاً، ثم تُوقدَ بالنار - التي ورد في بعض الآثار
أنها تحت البحر - ثم تَيْبَسَ ويذهبَ ماؤها، والله أعلم.
ويظهرُ أن سببَ الاختلاف هنا: الاشتراك اللغوي في لفظ (سُجِّرت) وهو من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من قولٍ، كما يُلاحَظُ أن بين قولي الامتلاء واليُبس تضاداً، ولكن جاز حمل الآية عليهما لاختلاف الحال والوقت الذي يكون فيه هذان المعنيان، والله أعلم.
(7) هذه الآية وما بعدها تكون بعدَ البعثِ كما ذكر أبي بن كعب، وهذا ظاهر من أمر هذه الآياتِ الستِّ القادمة، والله أعلم.
(8) اختلف السَّلف في تفسير الآية على قولين:
الأول: أُلحِقَ كلُّ إنسانٍ بشكله، وقُرِنَ بين الضُّرَباء والأمثال، وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (هما الرجُلان يعملان العمل، فيدخلان به الجنة، وقال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] قال: ضُرَباءهم).
والقول الأول هو الراجح، قال الطبري: (وأَوْلى التأويلين في ذلك بالصحَّة، الذي تأوَّلَه عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعلَّة التي اعتلَّ بها، وذلك قوله تعالى ذكره: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} [الواقعة: 7]، وقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، وذلك - ولا شك - الأمثال والأشكال في الخير والشر، وكذلك قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] بالقُرناء والأمثال في الخير والشر).
(9) لا يخفى عليك أيها القارئُ ما تَقومُ به الحضارة المعاصِرة من الوَأْد، وذلك ما يسمَّى بالإجهاض.
(11) قال الربيع بن خثيم في قوله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}: (إلى هذين ما جرى الحديث: فريق إلى الجنة، وفريق إلى النار).
وشرح الطبري قوله هذا فقال: (يعني الربيع بقوله: (إلى هذين ما جرى الحديث) أن ابتداء الخبر{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} إنما عدِّدت الأمور الكائنة التي نهايتُها أحد هذين الأمرين، وذلك المصير إما إلى الجنة، وإما إلى النار).
(12) روي عن عمر بن الخطاب قوله: (إلى هذا جرى الحديث).
وجملة {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} جواب
(إذا) في المواطن السابقة كلِّها، والتقدير: إذا الشمسُ كوِّرت، علِمت
نفسٌ ما أحضرت، وإذا النجوم انكدرت، علِمت نفسٌ ما أحضرت، وهكذا.
ولا شك أن العلمَ بما عمِلت يتفاوتُ في هذه الأزمان التي تقع فيها هذه الأحداث، غير
أنها لما كانت مترابطةً إذا حدثَ الحدثُ الأول تبعته الأحداثُ الأخرى كما
تنفرِطُ خرزات السُّبْحة من خيْطِها، جاز الجوابُ عنها بهذا الجوابِ
الشاملِ، وإن كان وقوعُ ذلك الجواب وقوعاً عينياً يكون بعد كشفِ الصحفِ
وقراءتها، والله أعلم. (انظر: التحرير والتنوير).
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا
الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا
الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ
ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاء
كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14)}
الشيخ:بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
هذه سورة التكوير يبين الله -جل وعلا- فيها حال الخلق حين تقوم الساعة، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: إذ الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت)) وهذا الحديث حسنه بعضهم، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ حَدِيثٌ لا يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن راويه عن عبد الله بن عمرو وهو عبد الرحمن بن يزيد السمعاني؛ لم يتأهل لمثل رواية هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو.
والصواب: أنه حديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه السورة قرئت عند أبي الوفاء بن عقيل فسأله سائل فقال له: (هب أن الله -جل وعلا- بعث الخلق وجازاهم؛ فلماذا يكور الشمس، ويذهب النجوم، ويسير الجبال؛ إلى غيرها ؟)
فأجاب عنه ابن عقيل: بأن الله -جل وعلا- خلق هذه الدار وخلق لها سكاناً، فلما ذهب أهلها خربت.
وكذلك
الله -جل وعلا- خلق هذا الكون ليستدل به العباد على الله جل وعلا، فإذا
كان يوم القيامة فإن هذا الكون يخرب وما فيه؛ ليظهر الله -جل وعلا-
للملحدين والكافرين أن هذه النجوم التي كانوا يعبدوها؛ أوالشمس التي كانوا
يعبدونها؛ أو الحجارة التي كانوا يعبدونها من دون الله جل وعلا؛ أنها ذهبت
وتلاشت ولم يبق إلا الله جل وعلا، ليستدل به على أن الله -جل وعلا- هو مدبر
هذا الكون وما فيه.
قال الله جل وعلا: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} يعني: أن الشمس يوم القيامة تكور وتلف كما تلف العمامة، فيذهب ضوؤها، ثم بعد ذلك تلقى في النار، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في(صحيح البخاري) أنه قال: ((الشمس والقمر يكوران يوم القيامة)) وجاء من طريقين آخرين في غير (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة، وأسانيدها ظاهرها الصحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة)) معناه: أنهما يكونان كالثورين المجروحين إذا ألقي بهما في النار يوم القيامة. والله -جل وعلا- قد بين معنى هذه الآية: وأن الشمس يذهب ضوؤها في قوله جل وعلا: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} فهما يجمعان ويلقيان في النار، وقد جاء ذلك عن غير واحد من السلف. ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} معناه: أن النجوم تتساقط وتنتثر، كما أخبر الله -جل وعلا- في قوله: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ}.
ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} وقد تقدمت هذه الآية.
{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} يعني بالعشار: الإبل التي تكون الواحدة منها قد بلغت عشرة أشهر في حملها، فإن العشار جمع عُشَرَاء والعشراء هي: الناقة الحامل إذا بلغت عشرة أشهر تسمى عشراء حتى تضع ما في بطنها بتمام العام.
ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} يعني: أن البحار يوم القيامة تسجر، ويوقد عليها حتى تكون ناراً؛ وهذا كما قال الله -جل وعلا- في سورة الطور: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} لأن
هذه البحار يوم القيامة ينفجر بعضها على بعض وتكون شيئاً واحداً ويزول
الحاجز الذي جعله الله -جل وعلا- بينها، كما في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} فإذا انفجر بعضها على بعض أججها الله -جل وعلا- ناراً، وتفجير بعضها على بعض سيأتي في سورة الانفطار إن شاء الله.
ثم قال الله جل وعلا: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي:
أن كل نفس تجمع إلى نفسها التي تشاركها في الصفة، فيجمع أصحاب اليمين إلى
أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال إلى أصحاب الشمال، والمقربون يجمعون بعضهم إلى
بعض، كما قال الله جل وعلا: {وَكُنْتُمْ
أَزْوَاجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
(9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وقال جل وعلا:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فكل
رجل وكل امرأة يجمع إلى من يشاركه في الأوصاف، فالمؤمنون يجمعون إلى
المؤمنين، والمنافقون يجمعون إلى المنافقين، والكفار يجمعون إلى الكفار،
يقرن بين كل نفس وأخرى، وقد جاء في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه
قال: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}((الظرباء يعني: الأصناف كل رجل يجمع إلى كل قوم يعملون عمله)) وهذا الحديث أورده الحافظ ابن كثير وسكت عليه، وهو حديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، في سنده الوليد بن عبد الله بن أبي ثور وهو رجل ضعيف، ولكن من السلف وكثير من السلف على تفسير هذه الآية بما تقدم.
ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)}، العرب كانوا في الجاهلية يئدون البنات بمعنى: أنهم كانوا يدفنونهن وهن أحياء فحرم الله
-جل وعلا- ذلك عليهم؛ لأنه لا يحل أن تقتل نفس إلا بحق، وهذه نفس قتلت
بغير حق، ولبشاعة هذه الجريمة سواءً في تنفيذها أو في الباعث عليها؛ فإن
الله -جل وعلا- يسأل أصحابها يوم القيامة سؤال تبكيت وتقريع لهم على رؤوس الأشهاد؛ لأنهم لا جواب عندهم، والله -جل وعلا- لا يسألهم سؤال المستعلم؛ لأنه يعلم ذلك، وإنما يسألهم -جل وعلا- ليقرعهم ويوبخهم في ذلك اليوم العظيم.
كما قال الله -جل وعلا- في سورة المائدة: {وَإِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فالله -جل وعلا- لا يسأل عيسى بن مريم يوم القيامة سؤال استعلام واستخبار، وإنما يسأله -جل وعلا- ليقيم الحجة، ويقرع ويوبخ أولئك الذين عبدوا عيسى عليه السلام.
بين الله -جل وعلا- سبب وأدهم للبنات في سورة النحل في قوله جل وعلا: {وَإِذَا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ
(58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ
عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
(59)} فهم كانوا يرون البنت عاراً على أهلها فيئدونها من أجل ذلك.
- وقال جل وعلا في سورة الإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً}.
ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} يعني: أن
الصحف يوم القيامة صحف العباد تنشر ليراها كل عبد ويقرأ ما فيها لتقام
عليه الحجة، والحجة قائمة لبعث الأنبياء والمرسلين، ولكن هذا من عدل الله
جل وعلا، وهذه الآية كما قال الله جل وعلا: {وَكُلَّ
إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى
بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}.
ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ} يعني: أن السماء يوم القيامة تكشط وتنزع؛ كما ينزع الجلد من الشاة وقد تقدم بيان ذلك في سورة النبأ.
ثم قال جل وعلا:{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} يعني: أن النار يوم القيامة يوقد عليها إيقاداً بليغاً شديداً.
قال بعض العلماء: إنها
يوقد عليها إيقاداً شديداً لغضب الرب -جل وعلا- في ذلك اليوم غضباً
عظيماً؛ لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولهذا قال بعض العلماء: إن
سبب تسجيرها وتأجيجها في ذلك اليوم هو غضب الرب جل وعلا، ولهذا رب العالمين
سمى هذه النار سعيراً في مواضع من كتابه.
ثم قال جل وعلا:{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} يعني: أن الجنة تقرب لعباد الله المؤمنين فيرونها قبل أن يدخلوها، وهذا زيادة في نعيمهم كما قال الله -جل وعلا- في سورة الشعراء: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} وقال -جل وعلا- في سورة ق: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ}.
ثم قال جل وعلا:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}وهذا هو جواب الشرط في أول السورة، فقد ذكر الله -جل وعلا- لهذا اليوم أو ذكر أنه يجري في ذلك اليوم اثنا عشر أمراً، ستة منها وقت قيام الساعة، وستة منها بعد قيامها.
وقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} أي: أن
كل نفس يوم القيامة تعلم علماً يقينياً لاشك فيه ما عملته طيلة حياتها،
سواء ما عملته في أول عمرها أو في آخره، أو ما سنَّته فعمل به بعد وفاتها،
كل ذلك من خير أو شر فإنه يحضر يوم القيامة، ويعلمه العباد ويرونه رأي العين:
- كما قال الله جل وعلا:{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
- وقال جل وعلا: {يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}.
- وقال جل وعلا: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}.
- وقال جل وعلا: {يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}.
تفسير سورة التكوير
تنبيه على بيان ضعف حديث: (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة ...) أقوال السلف في المراد بالتكوير
ما قيل في الحكمة من تكوير الشمس وانكدار النجوم يوم القيامة
تفسير قول الله تعالى: ( إذا الشمس كورت )
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا النجوم انكدرت )
أقوال السلف في المراد بالانكدار
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا الجبال سيرت )
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا العشار عطلت )
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا الوحوش حشرت )
أقوال السلف في المراد بعبارة الحشر
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا البحار سجرت )
القراءات في " سجِّرت "
أقوال السلف في المراد بالتَّسجير
إطلاقات السَّجر في اللغة ومناسبتها لأقوال المفسرين
سبب الاختلاف في معنى (سجِّرت)
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا النفوس زوجت )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى : ( وإذا النفوس زوجت )
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا الموؤودة سئلت ، بأي ذنب قتلت )
التسمية العصرية (للوَأد )
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا الصحف نشرت )
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا السماء كشطت )
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا الجحيم سعرت )
تفسير قول الله تعالى: ( وإذا الجنة أزلفت )
تفسير قول الله تعالى: ( علمت نفس ما أحضرت )
ما تضمنته هذه السورة العظيمة من التخويف من أهوال يوم القيامة
الأسئلة
س1: اذكر أقوال المفسرين رحمهم الله تعالى في معنى التكوير.
س2:
ورد في هذه الآيات اثنا عشر أمراً من أهوال اليوم الآخر، ستة منها تقع في
الدنيا والناس ينظرون، والستة الأخرى تقع يوم القيامة، عدد هذه الأهوال على
ضوء هذا التقسيم.
س3: بين معاني المفردات التالية: انكدرت، العِشَار، عُطِّلت، سُجرت، زُوِّجت، الموءودة، نُشرت، كُشطت، سُعرت، أُزلفت، أُحضرت.
س4: بين الحكمة من سؤال الموءودة.
س5: اذكر تفسيراً إجمالياً مختصراً لهذه الآيات.
س6: اذكر أقوال المفسرين في معنى الانكدار.
س7: بين الحكمة من ذكر تعطيل العشار دون سائر الأموال.
س8: اذكر أقوال المفسرين في المراد بتزويج النفوس يوم القيامة.
س9: بين لم سميت الجحيم بهذا الاسم.
س10: تحدث باختصار عن الأسلوب البلاغي الحكيم في التخويف من أهوال يوم القيامة في هذه السورة.
تفسير ابن كثير