22 Oct 2008
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}
(17-42){قُتِلَ
الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن
نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلا
لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ
شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا
(31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ}
وذلكَ
كُلّهُ حفظٌ منَ اللهِ لكتابهِ، أنْ جعلَ السُّفراءَ فيهِ إلى الرسلِ
الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء، ولمْ يجعلْ للشياطين عليهِ سبيلاً،
وهذا مما يوجبُ الإيمانَ بهِ وتلقيهِ بالقبولِ، ولكن معَ هذا أبى الإنسانُ
إلاَّ كفوراً، ولهذا قالَ تعالى:
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} لنعمةِ
اللهِ، وما أشدَّ معاندته للحقِّ بعدمَا تبينَ، وهوَ أضعفُ الأشياءِ،
خلقهُ اللهُ مِنْ ماءٍ مهينٍ، ثمَّ قدَّرَ خلقهُ، وسوّاهُ بشراً سويّاً،
وأتقنَ قواه الظاهرةَ والباطنةَ.
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}أي: يسَّرَ لهُ الأسبابَ الدينيةَ والدنيويةَ، وهداهُ السبيلَ، [وبيَّنَهُ] وامتحنهُ بالأمرِ والنهي، أي: أكرَمهُ.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}أي: أكرمَهُ بالدفنِ، ولم يجعلْهُ كسائرِ الحيواناتِ التي تكونُ جيفُها على وجهِ الأرضِ.
{ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ}أي: بعثَهُ بعدَ موتهِ للجزاءِ، فاللهُ هو المنفردُ بتدبيرِ الإنسانِ وتصريفهِ بهذهِ التصاريفِ،
لمْ يشاركْهُ فيهِ مشاركٌ، وهوَ - معَ هذا - لا يقومُ بِمَا أمرَهُ اللهُ،
ولم يقضِ مَا فرضَهُ عليهِ، بلْ لا يزالُ مقصِّراً تحت الطلبِ.
ثمَّ أرشدَهُ تعالى إلى النظرِ والتفكرِ في طعامِهِ، وكيفَ وصلَ إليهِ بعدمَا تكررتْ عليهِ طبقاتٌ عديدةٌ، ويسرهُ لهُ، فقالَ: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا} أي: أنزلنَا المطرَ على الأرضِ بكثرةٍ.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ} للنباتِ {شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أصنافَاً مصنفةً مِنْ أنواعِ الأطعمةِ اللذيذةِ، والأقواتِ الشهيةِ {حَبًّا} وهذا شاملٌ لسائرِ الحبوبِ على اختلافِ أصنافِهَا، {وَعِنَباً وَقَضْباً}وهوَ القتُّ.
{وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} وخصّ هذهِ الأربعةَ لكثرةِ فوائدهَا ومنافعهَا.
{وَحَدَائِقَ غُلْباً}أي: بساتينَ فيها الأشجارُ الكثيرةُ الملتفةُ. {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}الفاكهةُ: ما يتفكهُ فيهِ الإنسانُ، من تينٍ وعنبٍ وخوخٍ ورمانٍ، وغيرِ ذلكَ.
والأبُّ: ما تأكلهُ البهائمُ والأنعامُ، ولهذا قالَ: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} التي
خلقَها اللهُ وسخرهَا لكمْ، فمَنْ نظرَ في هذهِ النعمِ، أوجبَ لهُ ذلكَ
شكرَ ربِّهِ، وبذلَ الجهدِ في الإنابةِ إليهِ، والإقبالِ على طاعتهِ،
والتصديقِ بأخبارِهِ.
(33-42){فَإِذَا
جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ
مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ
الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} أي:
إذا جاءتْ صيحةُ القيامةِ، التي تصخُّ لهولِهَا الأسماعُ، وتنزعجُ لها
الأفئدةُ يومئذٍ، مما يرى الناسُ مِنَ الأهوالِ وشدةِ الحاجةِ لسالفِ
الأعمالِ.
{يَفِرُّ الْمَرْءُ}مِنْ أعزِّ الناسِ إليهِ، وأشفقهمْ لديهِ {مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
(35) وَصَاحِبَتِهِ} أي: زوجتهِ {وَبَنِيهِ} وذلكَ لأنَّهُ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي:
قَدْ أشغلتهُ نفسهُ، واهتمَّ لفكاكِهَا، ولمْ يكنْ لهُ التفاتٌإلى
غيرِهَا، فحينئذٍ ينقسمُ الخلقُ إلى فريقينِ: سعداءَ وأشقياءَ، فأمَّا
السعداءُ، فوجوههم [يومئذٍ] {مُسْفِرَةٌ} أي: قدْ ظهرَ فيها السرورُ، والبهجةُ، منْ مَا عرفُوا من نجاتهِمْ، وفوزِهمْ بالنعيمِ، {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ} الأشقياءِ {يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا} أي: تغشاهَا {قَتَرَةٌ} فهي سوداءُ مظلمةٌ مدلهمةٌ، قدْ أيستْ مِنْ كلِّ خيرٍ، وعرفَتْ شقَاءَهَا وهلاكَهَا.
{أُولَئِكَ}الذينَ بهذا الوصفِ {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي: الذينَ كفرُوا بنعمةِ اللهِ، وكذبوا بآياتِ اللهِ، وتجرؤوا على محارمِهِ.
نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ، إنَّه جوادٌ كريمٌ [والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ].
17- {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}؛ أَيْ: لُعِنَ الإِنْسَانُ الْكَافِرُ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ!
18- {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}؛ أَيْ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْكَافِرَ؟
19- {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}؛ أَيْ: مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَكَيْفَ يَتَكَبَّرُ مَنْ خَرَجَ مِن مَخْرَجِ البَوْلِ مَرَّتَيْنِ؟ {فَقَدَّرَهُ}؛
أَيْ: فَسَوَّاهُ وَهَيَّأَهُ لِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَخَلَقَ لَهُ
اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَسَائِرَ الآلاتِ
وَالحَوَاسِّ.
20- {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}؛ أَيْ: يَسَّرَ لَهُ الطَّرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ أَو الشَّرِّ.
21- {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}؛ أَيْ: جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ يُوَارَى فِيهِ؛ إِكْرَاماً لَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّا يُلْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ.
22- {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}؛ أَيْ: ثُمَّ إِذَا شَاءَ اللَّهُ إِنْشَارَهُ أَحْيَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ أَيْ: فِي الوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى.
23- {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}:بَلْ أَخَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ بالكُفْرِ، وَبَعْضُهُمْ بالعِصْيَانِ، وَمَا قَضَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلاَّ الْقَلِيلُ.
24- {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}؛ أَيْ: لِيَنْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ طَعَامَهُ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَباً لِحَيَاتِهِ؟
26 - {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}؛ أَيْ: شَقَقْنَاهَا بالنَّباتِ
الخارجِ مِنْهَا بِسَبَبِ نُزُولِ الْمَطَرِ شَقًّا بَدِيعاً لائِقاً
بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ والكِبَرِ وَالشَّكْلِ والهَيْئَةِ.
27 - {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} يَعْنِي الحبوبَ الَّتِي يُتَغَذَّى بِهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّباتَ لا يَزَالُ يَنْمُو وَيَتَزَايَدُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ حَبًّا.
28 - {وَعِنَباً وَقَضْباً} القَضْبُ:هُوَ القَتُّ الرَّطْبُ الَّذِي تُعْلَفُ بِهِ الدَّوَابُّ.
30 - {وَحَدَائِقَ غُلْباً}: النَّخْلُ الغُلْبُ: هِيَ النَّخْلُ الْكِرَامُ الغِلاظُ الْجُذُوعِ.
31 - {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}
الأَبُّ: كُلُّ مَا أَنْبَتَتِ الأَرْضُ مِمَّا لا يَأْكُلُهُ النَّاسُ
وَلا يَزْرَعُونَهُ مِنَ الكَلأِ وَسَائِرِ أنواعِ المَرْعَى.
33 - {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} يَعْنِي صَيْحَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّتِي تَصُخُّ الآذانَ؛ أَيْ: تُصِمُّهَا فَلا تَسْمَعُ.
34 –36 - {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}
وهؤلاءِ أَخَصُّ القَرَابَةِ وَأَوْلاهُم بالحُنُوِّ والرَّأْفَةِ،
فَالْفِرَارُ مِنْهُمْ لا يَكُونُ إِلاَّ لِهَوْلٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ
فَظِيعٍ.
37 - {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}: يَشْغَلُهُ عَن الأقرباءِ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُمْ، وَيَفِرُّ عَنْهُمْ؛ حَذَراً من مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا بَيْنَهُمْ؛ وَلِئَلاَّ يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ.
38 - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}:
مُشْرِقَةٌ مُضِيئَةٌ، وَهِيَ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لأَنَّهُمْ قَدْ
عَلِمُوا إِذْ ذَاكَ مَا لَهُمْ من النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ.
40 - {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}؛ أَيْ: غُبَارٌ وَكُدُورَةٌ؛ لِمَا تَرَاهُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهَا مِنَ الْعَذَابِ.
41 - {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}؛ أَيْ: يَغْشَاهَا سَوَادٌ وَكُسُوفٌ وَذِلَّةٌ وَشِدَّةٌ.
42 - {أُولَئِكَ} يَعْنِي أَصْحَابَ الوُجُوهِ المُغْبَرَّةِ، {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} الْفَجَرَةُ: هُم الْفَاسِقُونَ الْكَاذِبُونَ.
المتن :
17-قولُه تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} هذا دعاءٌ على الإنسانِ الكافر
(11) بالقتل(12)، لشدَّةِ كُفره بالله(13)، ومن لازم ذلك لعنُه وطردُه من رحمة الله.
18-قولُه تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} استفهامٌ على سبيلِ التقريرِ، والمعنى: ما أصلُ خلقِ هذا الإنسان حتى يستغني عن الإيمان بربِّه ويكفُر؟.
19-قولُه تعالى: {مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} بيَّن اللهُ في هذا أصلَ الإنسانِ، وأنَّ منشأَهُ من ماء قليل هو أصلُ هذا التناسلِ البشري، وأنه قدَّره بعد ذلك أطواراً في الخلق، حتى صار جنيناً في بطن أمِّه.
20-قولُه تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي: ثُمَّ بعدَ هذه الأطوارِ التي عاشَها في بطنِ أمه، سهَّلَ اللهُ له الخروجَ من هذا البطن(14).
21-قولُه تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي: حكمَ اللهُ عليه بالموتِ بعد أن عاشَ في هذه الحياة، وأمرَ بدفنه في باطن الأرض(15).
22-قولُه تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} أي: بعد أن يموتَ هذا الإنسان، فإن الله سيبعثُه إذا أرادَ ذلك، وهو كائنٌ يوم يُنفخُ في الصُّور(16).
23-قولُه تعالى: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} أي:
ليس الأمرُ على ما يظنُّه من اشتدَّ كُفرهُ من أنه أدَّى حقَّ الله، بل
إنه لم يؤدِّ أوامرَ الله التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم(17).
24-قولُه تعالى:{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} أي: فَلْيَعْتَبر هذا الكافر(18) مُستعيناً بما وهبَه الله من النظر بعَيْنَيْهِ إلى الأحوال التي يمرُّ بها طعامه، حتى يصل إليه، فإنه لو اعتبرَ لتَرَكَ كُفره(19).
25-قولُه تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا} هذا البدءُ بذكر أحوال الطعام، والمعنى: فلينظُر إلى إلقائِنا المطرَ من السماء إلى الأرض بغزارة وقوة(20).
26-قولُه تعالى: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} أي: لما أنزلنا هذا المطر على الأرضِ واستقرَّ بها مدَّةً، أنبتَ النباتَ، ففتقَ هذا النباتُ الأرضَ وخرجَ منها.
27-29-قولُه تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} أي: فأنبتنا في هذه الأرض المتشقِّقة: الحبوبَ، وكُرومَ العِنَبِ، والعَلَف(21)، والزيتون، والنخيل، وكلها كانت معروفة لهم يستفيدونَ من شجرها وثمرها.
30-قولُه تعالى: {وَحَدَائِقَ غُلْباً} أي: وبساتينَ قد أحيطَ عليها بسُور من شجر أو حَجَر أو غيره، وهذه البساتينُ شجرُها عظيمُ الجذعِ، ملتفٌّ بعضُها على بعضٍ لطولها(22).
31-قولُه تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} أي: وأنبتنا بهذا الماء المنصبِّ: فاكهة من ثمار هذه الأشجار يتفكَّهُ الناس بأكلِها، وعشباً تأكله أنعامُهم في المرعى(23).
32-قولُه تعالى: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} أي: جعلنا هذا الطعامَ منفعةً لكم، تنتفعونَ به أنتم وأنعامكم مدةً من الزمان، ثم ينتهي هذا الانتفاع.
33-قولُه تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} أي: تنتفعونَ بهذا المتاع الذي سُرعان ما ينتهي، وذلك بمجيء تلك الصَّيحة العظيمة التي تَصُكُّ الآذان بشدَّة صوتها
(24).
34-36-قولُه تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} أي: إذا جاءت تلك الصيحة وقعَ هروبُ الإنسان من هؤلاء القرابة، وهم الإخوة والأبوان والزوجة والأبناء.
37-قولُه تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي: يهربُ هؤلاء من بعضهم لأنَّ لكلٍّ منهم حالَه التي تشغله عن غيره(25).
38-39-قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} أي: في ذلك اليوم ينقسمُ الناس إلى فريقين: فريقٌ قد أضاء وجهُهُ واستنار، فهو منبسطٌ منشرحٌ فَرِحٌ بسبب ما سيلاقيه من النعيم.
40-42-قولُه تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي: وفريقٌ قد تغبَّرت وجوهُهُم،
وعَلاها السوادُ والظُّلمةُ بسبب ما هي صائرةٌ إليه من العذاب، وهي وجوهُ
الذين ستروا فِطَرَهُم بالكُفر، وشقُّوا رِبْقَةَ الإيمانِ بأعمال الفجور،
فجمعوا بين فسادِ الاعتقادِ والعمل، والله أعلم.
وقال الطاهر بن عاشور (30: 326): (الغالب في إطلاق لفظ الإنسان، في القرآن النازل بمكة؛ كقوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6]، {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] …). (12) عبَّر المفسِّرون عن معنى (قُتِلَ) لُعِنَ، وهو تفسير بالمعنى؛ لأن من دعا عليه الله بالقتل، فقد طرَدَه من رحمته، وهو معنى اللعن. (انظر: (تفسير ابن عطية) لقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج: 4]، ويَحْسُنُ الوقفُ في هذه الجملة على (الإنسان) والاستئناف بما بعدها، لبيان المعنى فيهما. أي: إلى دافن يدفنه في قبره. (16) يلاحظ في الآيات السابقة تكرُّر العطف بـ (الفاء) و(ثم) وأما الثاني:فللدلالة على تراخٍ وبُعْدٍ بين الحَدَثَين. -وعن قتادة من طريق سعيد: الفَصَافِص.
الحاشية :
(11) قال مجاهد من طريق الأعمش: (ما كان في القرآن {قُتِلَ الإِنْسَانُ} أو فُعل بالإنسان، فإنما عنى به الكافر).
(13) هذا التفسير على أن (ما) تَعَجُّبِيَّة، وقد جعلها بعض المفسِّرين استفهامية، ويكون تقديرُ الكلام: أيُّ شيء جعله يكفر؟.
والتعجُّب - فيما يظهر - أبلغ في هذا المقام، وهو أنسب في بيان شدَّة كفر هذا الكافر، والله أعلم.
ويكون الخلاف من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسببه: الاشتراك اللغوي، والله أعلم.
(14) السبيلُ في اللغة: الطريق،
وقد اختلف السلف في المراد بهذا السبيلِ في الآية، على قولين:
الأول: السبيل: طريق خروجه من بطن أمه، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وأبي صالح من طريق إسماعيل، والسدي من طريق سفيان، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وهذا القول يناسب السياق.
الثاني:السبيل: طريق الحق والباطل، بيَّناه وأعلمناه، وهو قول مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، وجعل الآية نظير قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]، وقول الحسن من طريق قتادة، وعبَّر عنه ابن زيد، بقوله: (والسبيل: سبيل الإسلام) وهذا القول محمول على نظير له في القرآن.
ورجَّح الطبري القول الأول بدلالة السياق، فقال: (وأوْلى التأويلين عندي بالصواب قول من قال: ثم الطريق، وهو خروجه من بطن أمه، يسَّره.
وإنما قلنا ذلك أوْلى التأويلين بالصواب؛لأنه
أشبههما بظاهر الآية، وذلك أن الخبر قبلَها وبعدها عن صفتِه خلقَه،
وتدبيرِه جسمَه، وتصريفه إياه في الأحوال، فالأوْلى أن يكون أوسط ذلك نظير
ما قبله وما بعده).
ويكون هذا الاختلافُ من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسببه التواطؤ في لفظ السبيل، والله أعلم.
(15) يسمَّى المباشر للدفن قابراً، والآمر به مُقبراً؛ فتقول: أقبره الله، وقَبَرَه فُلان، كما قال الأعشى:
لو أُسْنِدَ ميتٌ إلى صَدْرِهَا = لَعـَاشَ وَلــَمْ يـُنـْقَلْ إلــى قَابِر
فقوله تعالى:{مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)} إشارة إلى أنَّ الأطوارَ المقدَّرة تعقُبُ حالَ النطفة.
ثم قال: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)} وهذا إشارة إلى طول الزمان الذي يقرُّ فيه الجنين في البطن بعد التقدير.
ثم قال: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}
وهذا يدلُّ على تراخٍ بين خروجه من بطن أمه إلى موته، وهي فترة الحياة
التي يعيشها، أما الفترة التي بين موتهِ ودفنِه فإنها يسيرة، ولذا جاء
التعقيب بالفاء، ولمَّا كان الزمن بين الموت والبعث طويلاً، جاء التعقيب
بحرف العطف (ثم)، والله أعلم.
(17) قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: (لا يقضي أحدٌ أبداً ما افتُرض عليه).
وهو بهذا يجعل الضمير في (يقض) عامّاً للكافر والمؤمن، ويكون المؤمن على قوله هذا داخلاً في معنى هذه الآية، وهذا القول صحيح في التفسير؛ لأن الآية - وإن كانت نازلة في الكافر - تَصْدُقُ على المؤمن قياساً، والله أعلم.
(18) الخطابُ هنا للكافر، وهو وإن كان نازلاً فيه أولاً، فإنه لا يعني أنه مختصٌّ به، بل يدخلُ معه غيره؛ لأن الاعتبارَ مطلوبٌ منه ومن المؤمن، والله أعلم.
(19) قال مجاهد: (قوله: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} آية لهم).
(20) قُرِئَ: {إِنَّا}على الاستئناف؛ أي أنه استأنف الخبر مبيِّناً الأحوالَ التي يمرُّ بها الطعام.
والقراءة الأخرى {أَنَا}على البدل، وهو بدل اشتمال، وهذا يعني أن الأحوال المذكورةَ التي يمر بها الطعام، هي محلُّ النظر والاعتبار، والله أعلم.
(21) وردت عبارة السلف عن القضب كالآتي:
-وعن الضحاك من طريق عبيد: الرَّطْبَةُ.
-وعن الحسن من طريق يونس: العَلَفُ.
وقال ابن جرير: (يعني بالقَضْب: الرَّطْبَةَ، وأهل مكة يسمون القَتَّ: القَضْبَ).
وهذا يعني أن القضْبَ له أكثر من مسمَّى، فعبَّر عنه كل واحد منهم بأحد أسمائه، وهي: العَلَفُ، والرَّطْبَةُ، والقَتُّ، وهو البِرْسِيمُ كذلك.
وإن
حُمل تفسير السلف على المثال لا التعيين في هذا الموضع، فإن القضبَ يطلق
على ما يُقْضَبُ من النبات؛ أي: يُقطع ثم ينمو، ويشمل ذلك أصنافاً كثيرة
تشبه العلف في هذا الوصف؛ كالجرجير والكرَّاث والنعناع، وغيرها، والله
أعلم.
(22) قال أبو جعفر الطبري: (وقوله: {غُلْباً} يعني: غلاظاً، ويعني بقوله: {غُلْباً} أشجاراً في بساتين غِلاظ … وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل، على اختلافٍ منهم في البيان عنه) ثم ذكر الرواية عن السلف كالآتي:
1-ما التفَّ واجتمع، عن ابن عباس من طريق كُلَيْب بن شهاب.
2-الطَّيِّبة، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
3-نبت الشجر كله، عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب، ومن طريق عكرمة: الشجر يستظل به في الجنة.
4-الطِّوال، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.
5-النخل الكرام، عن قتادة من طريق سعيد ومعمر.
6-العِظام، عن ابن زيد: عظام، النخل العظيمة الجذع، وعن عكرمة: عظام الأوساط.
وإذا تأمَّلْتَ هذه الأقوال وجدتها تأتلفُ ولا تختلِف كما قال ابن جرير، فالغُلب: العظيمة الجذع، وهو تعبيرُ عكرمة، ومثَّلَ له ابن زيد بالنخل، وإذا كانت عظيمة الجذع، فإنها ستلتف وتجتمع كما قال ابن عباس، وهي نبت الشجر كله، وهو الشجر الطويل كما قال ابن عباس، فنبَّه على أن الشجر يصلح أن يكون بهذه الصفة، والعادة جرت على طيب شجر هذه الحدائق، وهو تفسير مجاهد، والله أعلم.
(23) جعل السلف الفاكهة للناس:
فقال الحسن من طريق مبارك: (الفاكهة: ما يأكل ابن آدم).
وقال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: (ما أكلَ الناس).
وقال قتادة من طريق سعيد: (أما الفاكهة فلكم).
وقال ابن زيد: (الفاكهة لنا).
أما الأبّ، فالجمهور على أنه الكلأ والعشب الذي للحيوان،وقد عبَّر السلف عن ذلك بقولهم: (الأبُّ: ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس، أو الكلأ والمرعى كله) ورَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب، وعن سعيد بن جبير، وعن العوفي، وعن مجاهد من طريق الأعمش أو غيره وسفيان وابن أبي نجيح، والحسن من طريق مبارك ومعمر ويونس، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
وعبر أبو رزين، فقال: (الأبُّ: النبات) وهذا أعمُّ من الأقوال التي ذكرت.
ووردَ عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، أنه الثمار الرطبة، وهو غريب.
ونُسب للضحاك أنه التِّبن(الدر المنثور).
ويجوز أن يعودَ إلى معنى النبات أو العشب على أنه يَبِيسُهما،
فيكون فسِّر بمآل الأبِّ لا عينِه، والله أعلم.
وأصل الأبِّ في اللغة دالٌّ على العَوْدِ؛أي:
أنه الشيء الذي يذهب ثم يعود؛ كقولهم: (أبَّ إلى وطنه) أي: عاد إليه، وهذا
المعنى متحقق فيما قاله المفسِّرون في معنى الأبِّ من أنه: النبات، أو
العشب، أو الثمار الرطبة، أو التبن؛ لأنها تجيء بعد ذهاب، غير أن الأوَّل
أَوْلى؛ لأنه قول الجمهور، وللإشارة إليه بقوله: {وَلأَنْعَامِكُمْ} على ما فسَّره أصحاب هذا القول، والله أعلم.
أما ما ورد عن صديق الأمة رضي الله عنه من أنه سُئل عن الأبِّ، فقال: (أيُّ سماء تُظِلُّني، وأي أرضٍ تُقِلُّني إن قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم) فهو منقطع الإسناد.
وما صحَّ عن عمر أنه قرأ هذه الآية، فقال: (قد عرفنا الفاكهة، فما الأبُّ؟ قال: لعمرك يا ابن الخطاب، إنَّ هذا لهو التكلُّف) وله روايات أخرى.
فإنَّ فيه أن عمر لم يعرف معنى الأبِّ، ولعلها ليست من لغة قريش، فجهِلَها.
وفيه أنه جعل طلب معرفة ذلك من التكلف، وفي هذا إشكال، وهو هل تطلُّب مثل هذا يدخل في التكلُّف؟! الله أعلم.
(24) ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة أن الصاخَّة من أسماء يوم القيامة.
(25) استشهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية لبيان انشغال كل واحد بنفسه في هذا اليوم، فقد وردَ في الحديث أنه قال: ((يُحشر
الناس حُفاةً عُراةً غُرْلاً))، فقالت عائشة: أيُبصِرُ بعضُنا بعضاً؟!
فقال: يا عائشة: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأنٌ يُغْنِيهِ)).
القارئ:
{قُتِلَ
الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن
نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلا
لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ
شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا
(28)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا (31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءتِ
الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ
وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38)
ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ
(40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
(42)}.
الشيخ:
ثم قال جل وعلا: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} أي: لعن الإنسان ما أشد كفره، والمراد به الإنسان الكافر فكلمة {قُتِلَ} معناها: لعن:
-كما قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي: لعن.
-وقال جل وعلا: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} يعني: لعنوا.
-وقوله جل وعلا: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يعني: لعنوا.
وهذه الآية -وهي أنهم كانوا شديدي الكفر- بينها الله جل وعلا في سورة الحج في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} وكلمة {كَفُورٍ} هذه صيغة مبالغة تقتضي شدة الكفر، وهي مطابقة لهذه الآية لأنه قال: {مَا أَكْفَرَهُ} يعني: ما أشد كفره، والمراد به الإنسان الكافر.
ثم قال جل وعلا: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} هذا استفهام تقريري يقرر الله -جل وعلا- فيه الكفار، وقد أجاب الله -جل وعلا- عنهم: {مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي: خلقه الله -جل وعلا- من نطفة، والمراد بالنطفة: ماء الرجل، وقد بين الله -جل وعلا- خلق الإنسان وفصله في مواضع كثيرة من كتابه:
- قال الله جل وعلا: {أَلَمْ
نَخْلُقكُّم مِن مَاء مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ
(21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}.
-{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}.
-{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
-وقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ}.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.
فهذه الآيات دلت على خلق الإنسان، فأصله مخلوق من تراب -وهو آدم عليه
السلام- ثم بعد ذلك يتزاوج الذكر والأنثى، فيطأ الرجل المرأة فيخرج منه
ماء، وهذا الماء وصفه الله جل وعلا بأنه ماء مهين أي: حقير، ثم بعد ذلك
يستقر في رحم المرأة فيختلط مع مائها، وهو الذي قال الله -جل وعلا- فيه: {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} يعني: أخلاط،
ثم بعد ذلك يكون علقة وهو الدم، ثم بعد ذلك يكون مضغة وهو قطعة اللحم، ثم
بعد ذلك يصور وتنفخ فيه الروح، ثم بعد ذلك يكسوه الله جل وعلا، يجعله
عظاماً ثم يكسوه لحماً، هذا هو خلق الإنسان الذي بينه الله -جل وعلا- في كتابه.
وفي هذه الآية قال: {مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} فقدره:
قال بعض العلماء: فقدره أي أنه -جل وعلا- لما خلقه وكان جاء عليه مائة
وعشرون يوماً بعث الله -جل وعلا- إليه الملك فنفخ فيه الروح، وأمره بكتابة
أربع: عمله، ورزقه، وأجله، شقي أو سعيد، هذا هو التقدير.
وبعض العلماء يقول: التقدير المراد به: إتمام الخلق من إخراج اليد والرجل والعينين وغيرها، وكلها دل عليها كتاب الله جل وعلا.
ثم قال جل وعلا: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} يعني: أنه -جل وعلا- لما خلقه وأتم خلقه وأخرجه إلى هذه الحياة الدنيا يسره إلى أحد السبيلين: إما سبيل السعادة، وإما سبيل الشقاوة، وهو معنى قوله جل وعلا: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} وقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}فالله -جل وعلا- بين له طريق الخير والشر،
ولكن سبق في علمه -جل وعلا- أن أهل الشقاوة ييسرون إلى عمل أهل الشقاوة؛
وأن أهل السعادة ييسرون إلى عمل أهل السعادة، ولهذا فالنبي صلى الله عليه
وسلم لما قال لأصحابه: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار، قالوا: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له))، وفي بعض الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن كان من أهل السعادة فسيصير إلى السعادة وإن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى الشقاوة)).
ثم قال جل وعلا: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} يعني: أن الله -جل وعلا- يميت العبد ثم يجعله ذا قبر يوارى فيه، وهذا من تكريم الله لبني آدم، وقد بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى أنه يميت الخلائق:
-كما في قوله تعالى في سورة المؤمنون: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}.
-وقال جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
-وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
(34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.
وأما هذا القبر فقد بين الله -جل وعلا- في موضع آخر من كتابه منشأه وابتداء أمره في قصة ابني آدم في قوله جل وعلا: {فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ} وذلك أن قابيل لما قتل هابيل؛ لا يدري قابيل أين يضع هابيل، حتى قال بعض العلماء: إنه كان يحمله طيلة عام كامل، فأراد الله -جل وعلا- أن يريه كيف يواري سوءة أخيه، فبعث الله -جل وعلا- غرابين يقتتلان فقتل أحدها الآخر؛ ثم بحث في الأرض ووضع الغراب المقتول فيه ودفنه فصنع ابن آدم - قابيل - مثلما صنع الغراب، ولهذا قال: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}.
ثم قال جل وعلا: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} أي: أن الله -جل وعلا- متى شاء أعاد هذا الميت إلى الحياة مرة أخرى، وهذا بيد الله -جل وعلا- ومشيئته:
- كما قال الله جل وعلا: {اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
-وقال جل وعلا: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}.
-وقال جل وعلا: {وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا
دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}.
-وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}.
ولهذا نفى الله -جل وعلا- في آيات أخرى أن أحداً غيره حتى ممن يجعل آلهة أنه يملك هذا النشور؛ كما قال الله جل وعلا: {وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا
يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً
وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} وقال جل وعلا: {أم اتخذوا من دونه آلهة هم ينشرون} يعني: يبعثون الموتى، فدل ذلك على: اختصاصه بالله جل وعلا.
وهذا الاختصاص بالله -جل وعلا- أيضاً مختص بأن علمه إليه لا يدري عنه أحد من الخلق؛ كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}، {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} إلى غيرها من الآيات التي تقدمت عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}.
ثم قال جل وعلا: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} يعني: أن هذا الإنسان لم يقض ما أوجب الله جل وعلا عليه،
وكل إنسان فإنه لا يقضي ما أوجب الله -جل وعلا- عليه تماماً، لابد وأن يقع
فيه خلل وتقصير؛ مهما بلغ من الحسن والكمال؛ إلا أنه لابد أن يكون فيه شيء
من الخلل؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل))، فهذا الإنسان سواء كان كافراً أو مسلماً فإنه لا يقضي ما أوجب الله -جل وعلا- عليه تماماً.
لما
بين الله -جل وعلا- في الآيات المتقدمة للمشركين أنهم يستكبرون ويستغنون
ويعرضون عن شرع الله جل وعلا، والله هو الذي خلقهم؛ وسيردهم إليه ويبعثهم،
واستدل جل وعلا على ذلك بخلقه.
شرع الله -جل وعلا- يبين برهاناً من براهين البعث والنشور الذي كانوا ينكرونه.
وبين جل وعلا جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين في هذه الآيات فقال الله جل وعلا: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا} يعني: أنزلنا الماء من السماء. {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} -عذاب نفسي.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}وذلك
أن الله -جل وعلا- يجعل هذا المطر ينزل على الأرض ويلج داخلها، ثم بعد ذلك
يفتق الزرع هذه الأرض ويخرج منها، وذلك بقدرة الله جل وعلا كما قال الله
جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}، وقال جل وعلا: {أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} إلى غيرها من الآيات التي تقدمت في سورة النبأ.
ثم قال جل وعلا: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً}القضب: هو العلف أو القَتْ وهو معروف، طعام تأكله الدواب أخضر؛ وهو الذي يسمى البرسيم.
ثم قال جل وعلا: {وَحَدَائِقَ غُلْباً}الحدائق الغلب: هي الحدائق العظام التي التف بعضها على بعض،
والآن توجد بعض الحدائق من قديم حدائق ينزل الله -جل وعلا- الماء على
الأرض فتنبت حدائق ما كان للبشر يد فيها؛ وذلك بقدرة الله جل وعلا، وما كان
للبشر يد فيها، فالله هو الذي سلطهم عليها، وهو الذي يسر لهم أسبابها.
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}الأب هذا: ورد عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال لما سئل عنه: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله جل وعلا ما لا علم لي به) ولكن هذا لا يصح عن أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - لأن في سنده انقطاعاً.
وأما عمر - رضي الله تعالى عنه - فقد ثبت عنه أنه قرأ هذه الآية فقال: (قد عرفنا الفاكهة، فما الأب؟) ثم قال: (والله يا عمر إن هذا لهو التكلف)، وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه .
والعلماء فسروا الأبّ ولم يتكلفوا، فسره بعض العلماء بأنه الأكل الذي ينبت من المطر فتأكله الدواب ولا يأكله بنو آدم، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه ، وعمر - رضي الله تعالى عنه - ما قصد بالتكلف تكلف معرفة معنى الأبّ، وإنما قصد أن التكلف في معرفة جنسه وأنواعه وعينه؛ كما بين ذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله ، ثم إنه إذا خفي على عمر - رضي الله عنه - فإنه لم يخف على ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - ترجمان القرآن؛ لأن الصحابة قد يخفى على بعضهم ما لا يخفى على الآخر.
ثم قال جل وعلا: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} وقد تقدم مثل هذه في سورة النبأ وفي سورة النازعات.
ثم قال جل وعلا: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} أي: إذا قامت القيامة،
وهذه أحد أسمائها؛ لأن لها أسماء كثيرة، والعلماء يقولون: الشيء إذا سمي
بأسماء كثيرة يدل على عظمته، ويوم القيامة يوم عظيم كما وصفه الله -جل
وعلا- بذلك في آيات كثيرة، فلذلك كثرت أسماؤه، وهذه الأسماء مأخوذة مما يحدثه ذلك اليوم، وهاهنا قال الله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} أي: قامت القيامة وسميت بهذا اليوم؛ لأن الصيحة التي تحدث معها تصخ الأذان، وتصمها وتجعلها لا تسمع لشدة نزولها على الأسماع.
ثم قال جل وعلا: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ} يعني: زوجته.
هذا
فيه بيان لوضع الخلائق يوم القيامة إذ عاينوا قيام الساعة وشاهدوها، فإن كل
نفس تشتغل بنفسها حتى الوالد الذي كان يحن على ولده فإنه في ذلك اليوم لا
يلتفت إليه؛ لأن كل نفس مشغولة بأمرها، ولهذا الأنبياء -عليهم الصلاة
والسلام- يوم القيامة كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي، والنبي -صلى الله عليه
وسلم- قال لفاطمة: ((يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ماشئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً)) يعني: لا
يغني عنها يوم القيامة من الله شيئاً؛ لأنه تنقطع الأسباب والأنساب؛ إلا
سبب واحد وهو العمل الصالح؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) فلشدة
هوله وفزعه واشتغال الناس بأنفسهم؛ كل واحد منهم يشتغل بنفسه، ويلتهي بها
عن غيره، حتى ولو اشتغل بغيره فإنه لا يملك له في ذلك اليوم شيئا، كما قال
الله جل وعلا: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
ثم قال جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} يعني: أن
وجوه المؤمنين يوم القيامة تكون مسفرة عليها بياض يجعله الله جل وعلا؛ لأن
وجوههم تبيض في ذلك اليوم وتكون مشرقة؛ كما قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال جل وعلا: {لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا
ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهم يستبشرون؛ لأن الله -جل وعلا- يبشرهم برحمة منه ورضوان، ولهذا إذا أعطي كتابه بيمينه قال مستبشراً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} يعني: خذوا فاقرأوا كتابي {إِنِّي
ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ
(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}.
وقال الله جل وعلا: {يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيم}.
ثم قال جل وعلا: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} يعني: أن هذه الوجوه - وجوه الكفار- تكون يوم القيامة عليها غبار وسواد وظلمة؛ بسبب كفرهم بالله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ
كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فهذه صفتهم إذا قدموا على الله جل وعلا.
ثم قال جل وعلا: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} يعني: أنه
-جل وعلا- إنما عاقبهم بهذا العقاب لأنهم كانوا كفرة فجرة، خرجوا عن طاعة
الله جل وعلا، وأشركوا به، ولم يؤمنوا بما جاءت به الرسل، بل جحدوا آيات
الله جل وعلا، واستهزؤا بها، وسخروا منها، فكان جزاؤهم أن عذبهم الله جل
وعلا، وجعل على وجوههم هذه السيما يوم القيامة يعذبون بها عذاباً يوم يقوم
الأشهاد.
والله -جل وعلا- قد جعل العذاب على عباده نوعين يوم القيامة:
-وعذاب حسي على الأبدان.
وكله يتألمون منه.
-{فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}.
- {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}.
-{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا}، في الآية التي قبلها قال الله جل وعلا: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ
مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} فهذا عذا ب نفسي.
والعذاب الحسي الذي يقع على الأجساد والأرواح بينه الله جل وعلا، كما تقدم عند قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تفسير قول الله تعالى : ( قتل الإنسان ما أكفره )
تفسير قول الله تعالى : ( من أي شيءٍ خلقه من نطفة خلقه فقدره )
تفسير قول الله تعالى : ( ثم السبيل يسره )
معنى السبيل لغةً
أقوال السلف في المراد بالسبيل في هذه الآية
تفسير قول الله تعالى : ( ثم أماته فأقبره )
تفسير قول الله تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره )
ما تدل عليه " الفاء " و " ثم " في العطف
تفسير قول الله تعالى : ( كلا لما يقض ما أمره )
تفسير قول الله تعالى : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه أنَّا صببنا الماء صباً )
توجيه القراءتين في " أنَّا "
تفسير قول الله تعالى : ( ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً ...) الآيات
أقوال السلف في المراد بالقضب
أقوال السلف في المراد بالغلب
ذكر السلف أن الفاكهة لبني آدم
أقوال السلف في المراد بالأب
أصل (الأب) في اللغة، وتحقق معناه على قول المفسرين له بالنبات
الإجابة عن ما ورد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من ترك التعرض لمعنى (الأب)
تفسير قول الله تعالى : ( متاعاً لكم ولأنعامكم )
تفسير قول الله تعالى : ( فإذا جاءت الصاخة )
تفسير قول الله تعالى : ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ) ...إلى قوله: (شأن يغنيه)
تفسير قول الله تعالى : ( وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة )
تفسير قول الله تعالى : ( ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة )
الأسئلة
س1: قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} فسِّر هذه الآية باختصار، وبين فوائد تعداد نعم الله تعالى على عباده في هذا الموضع.
س2: أرشد الله تعالى عباده إلى التفكر في نعمه وآلائه، اذكر من هذه السورة ما يدل على ذلك.
س3: بأي شيء يكون شق الأرض في قوله تعالى: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}؟
س4: بين المراد بالسبيل في قوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}.
س5:
تكرر في القران الكريم التخويف من أهوال يوم القيامة، بين الفوائد التربوية
في ذلك، مستشهداً بما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة.
س6: بين معاني المفردات التالية: قضباً، غلباً، أبّاً، الصاخة، صاحبته، مسفرة، غبرة، ترهقها قترة.
س7: بين المراد بقول الله تعالى: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}.
س8: ينقسم الناس يوم القيامة إلى فريقين، سعيد وشقي، تكلم بإيجاز عن أوصاف الفريقين في ضوء هذه السورة الكريمة.
تفسير ابن كثير