22 Oct 2008
سورةُ عَبَسَ
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{عَبَسَ
وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى
(7) وأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ
تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي
سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}
تفسير سورة عبس
(1-10) {بسم
الله الرحمن الرحيم عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الأَعْمَى (2) وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ
الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ
يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} أنهُ جاءَ رجلٌ مِنَ المؤمنينَ أعمَى يسألُ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ويتعلمُ منهُ. أي: يتذكرُ ما ينفعُهُ، فيعملُ بتلكَ الذكرَى.
وسببُ نزولِ هذهِ الآياتِ الكريماتِ:
وجاءَهُ
رجلٌ مِنَ الأغنياءِ، وكانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حريصاً على هدايةِ
الخلقِ، فمالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ [وأصغَى] إلى الغني، وصدّ عَنِ
الأعمَى الفقيرِ، رجاءً لهدايةِ ذلكَ الغنيِّ، وطمعاً في تزكيتهِ، فعاتبهُ اللهُ بهذا العتابِ اللطيفِ، فقالَ: {عَبَسَ} [أي: ] في وجههِ {وَتَوَلَّى} في بدنهِ؛ لأجلِ مجيء الأعمَى لهُ، ثمَّ ذكرَ الفائدةَ في الإقبالِ عليهِ، فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ} أي: الأعمى {يَزَّكَّى} أي: يتطهرُ عن الأخلاقِ الرذيلةِ، ويتصفُ بالأخلاقِ الجميلةِ؟
{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}
وهذهِ فائدةٌ كبيرةٌ، هيَ المقصودةُ منْ بعثةِ الرسلِ، ووعظِ الوعَّاظِ، وتذكيرِ المذكِّرينَ، فإقبالكَ على مَنْ جاءَ
بنفسهِ مفتقراً لذلكَ منكَ، هوَ الأليقُ الواجبُ، وأمَّا تصديكَ وتعرضكَ
للغنيِّ المستغني الذي لا يسألُ ولا يستفتي لعدَم رغبتهِ في الخير، معَ
تركِكَ مَنْ هوَ أهمُّ منهُ فإنَّهُ لا ينبغي لكَ، فإنَّهُ ليسَ عليكَ أنْ
لا يزكَّى، فلو لمْ يتزكَّ، فلستَ بمحاسبٍ على مَا عملهُ مِنَ الشرِّ.
فدلَّ هذا على القاعدةِ المشهورةِ، أنَّهُ: (لا يتركُ أمرٌ معلومٌ لأمرٍ موهومٍ، ولا مصلحةٌ متحققةٌ لمصلحةٍ متوهمةٍ) وأنَّهُ ينبغي الإقبالُ على طالبِ العلمِ، المفتقرِ إليهِ، الحريصِ عليهِ أزيدَ منْ غيرِهِ.
(11-16){كَلاَّ
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ}.
يقولُ تعالىَ: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي: حقّاً إنَّ هذه الموعظةَ تذكرةٌ مِنَ اللهِ، يذكِّرُ بهَا عبادَهُ، ويبيِّنُ لهمْ في كتابهِ ما يحتاجونَ إليهِ، ويبيِّنُ الرشدَ مِنَ الغيِّ، فإذا تبينَ ذلكَ {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي: عملَ بهِ، كقولهِ تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
ثمَّ ذكرَ محلَّ هذهِ التذكرةِ وعظمهَا ورفعَ قدرهَا، فقالَ: {في صحفٍ مكرمةٍ (14) مرفوعة} القدرِ والرتبَةِ {مُطَهَّرَةٍ} [من الآفات و] عَنْ أنْ تنالهَا أيدي الشياطين أو يسترقوهَا، بلْ هيَ {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}: وهمُ الملائكةُ [الذينَ همُ] السُّفراءُ بينَ اللهِ وبينَ عبادهِ، {كِرَامٍ} أي: كثيري الخير والبركة، {بَرَرَةٍ} قلوبهُمْ وأعمالهُمْ.
سُورَةُ عَبَسَ
1- {عَبَسَ وَتَوَلَّى}؛ أَيْ: كَلَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ وَأَعْرَضَ.
2- {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}؛
أَيْ: لأَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى. سَبَبُ نُزُولِ السُّورَةِ أَنَّ قَوْماً
مِنْ أشرافِ قُرَيْشٍ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَدْ طَمِعَ فِي إسلامِهِم، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ
أَعْمَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكَرِهَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ ابْنُ
أُمِّ مَكْتُومٍ كلامَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ؛ فَنَزَلَتْ.
3- {وَمَا يُدْرِيكَ} يَا مُحَمَّدُ، {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}؛ أَيْ: لَعَلَّ الأَعْمَى يَتَطَهَّرُ مِنَ الذُّنوبِ بالعملِ الصالحِ؛ بِسَبَبِ مَا يَتَعَلَّمُهُ مِنْكَ.
4- {أَوْ يَذَّكَّرُ}؛ أَيْ: يَتَذَكَّرُ فَيَتَّعِظَ بِمَا تُعَلِّمُهُ مِنَ المَوَاعِظِ، {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}؛ أَي: المَوْعِظَةُ.
5- {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}؛ أَيْ: كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى أَوِ اسْتَغْنَى عَنِ الإِيمَانِ وَعَمَّا عِنْدَكَ مِنَ الْعِلْمِ.
6- {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}؛ أَيْ: تُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ وَحَدِيثِكَ، وَهُوَ يُظْهِرُ الاستغناءَ عَنْكَ وَالإِعْرَاضَ عَمَّا جِئْتَ بِهِ.
7- {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى}
أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ عَلَيْكَ فِي أَلاَّ يُسْلِمَ وَلا يَهْتَدِيَ؛
فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغُ، فَلا تَهْتَمَّ بِأَمْرِ مَنْ
كَانَ هكذا مِنَ الْكُفَّارِ.
8- {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}؛
أَيْ: وَصَلَ إِلَيْكَ مُسْرِعاً فِي المَجِيءِ إِلَيْكَ, طَالِباً مِنْكَ
أَنْ تُرْشِدَهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَعِظَهُ بِمَوَاعِظِ اللَّهِ.
9- {وَهُوَ يَخْشَى}؛ أَيْ: يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى.
10- {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}؛ أَيْ: تَتَشَاغَلُ عَنْهُ وَتُعْرِضُ وَتَتَغَافَلُ.
11- {كَلاَّ}:
لا تَفْعَلْ بَعْدَ هَذَا الوَاقِعِ مِنْكَ مِثْلَهُ؛ مِنَ الإعراضِ عَن
الفقيرِ, والتَّصَدِّي للغَنِيِّ, وَالتَّشَاغُلِ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِ
لَيْسَ مِمَّنْ يَتَزَكَّى، عَنْ إِرْشادِ مَنْ جَاءَكَ منْ أَهْلِ
التَّزَكِّى وَالقَبُولِ للموعظةِ، {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}؛
أَيْ: إِنَّ هَذِهِ الآيَاتِ أَو السُّورَةَ مَوْعِظَةٌ، حَقُّهَا أَنْ
تَتَّعِظَ بِهَا وَتَقْبَلَهَا وَتَعْمَلَ بِمُوجَبِهَا، وَيَعْمَلَ بِهَا
كُلُّ أُمَّتِكَ.
12- {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}؛ أَيْ: فَمَنْ رَغِبَ فِيهَا اتَّعَظَ بِهَا وَحَفِظَهَا وَعَمِلَ بِمُوجَبِهَا.
13- {فِي صُحُفٍ}؛ أَيْ: إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ كَائِنَةٌ فِي صُحُفٍ,{مُكَرَّمَةٍ}: مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِمَا فِيهَا من الْعِلْمِ والحِكْمةِ، أَوْ لأَنَّهَا نَازِلَةٌ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
14- {مَرْفُوعَةٍ}: رَفِيعَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ، {مُطَهَّرَةٍ}؛ أَيْ: مُنَزَّهَةٍ لا يَمَسُّهَا إِلاَّ المُطَهَّرُونَ، مُصَانَةٍ عَنِ الشَّيَاطِينِ وَالكُفَّارِ لا يَنَالُونَهَا.
15- {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}
السَّفَرَةُ هُنَا الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ يَسْفِرُونَ بالوَحْيِ بَيْنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ. مِنَ السِّفَارَةِ؛ وَهِيَ: السَّعْيُ بَيْنَ
الْقَوْمِ.
16- {كِرَامٍ}؛ أَيْ: كِرَامٌ عَلَى رَبِّهِمْ، كِرَامٌ عَنِ الْمَعَاصِي، {بَرَرَةٍ}؛ أَيْ: أَتْقِيَاءُ مُطِيعُونَ لِرَبِّهِمْ، صَادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ.
سورةُ عَبَسَ
1- 2- قولُه تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الأَعْمَى} أي: قَطَّبَ وجهَه وكَلَحَ؛ لأجل أن جاءه الأعمى يسترشِدُ عن الدِّين، وأعرضَ وانشغلَ عنه بالغني الكافر رجاءَ أن يُسلم(1). الحاشية : وفي كلا الاحتمالين إشارة لمهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنَّ عليه البلاغ، أما الهداية فمن الله، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [البقرة: 272]، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]. الثاني: أن السَّفَرة القُرَّاء، قاله قتادة من طريق سعيد، وذكر ابن كثير عن
نَزَلَتْ سورةُ عَبَسَ بِشأنِ عبد الله بن أمِّ مكتوم، قالت عائشة: (أتَى
إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلَ يقول: أَرْشِدْني، وعندَه من
عُظماء المشركين، قالت: فجعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عنه،
ويُقْبِلُ على الآخر، ويقول: أترى بما أقولُه بأساً؟ فيقول: لا، ففي هذا أُنزلت: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}).
3-قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}أي: وما يُعلمُك لعلَّ هذا الأعمى الذي عَبَسْتَ في وجهه يتطهَّر من ذنوبه بموعظتِك، فيُسْلِم؟(2).
4-قولُه تعالى: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} أي: فإن لم يقع منه تزكٍّ، حصلَ الاتِّعاظ بالموعظة، فتنفعَه ولو بعد حين؟(3).
5- 6- قولُه تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} أمَّا من عدَّ نفسَه غنيَّاً عنكَ، وعن الإيمانِ بكَ(4)، فأنت تتعرَّضُ له.
7- قولُه تعالى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} أيْ: أيُّ شيءٍ سيلحقُكَ إذا لم يُسلم هذا الكافر؟(5).
8-10- قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي: أمَّا هذا الأعمى الذي أتى يحثُّ الخُطى إليك بنفسه، وقد وَقَرَ في قلبه الخوف من الله، فأنت تنشغل عنه بهذا الكافرِ المظنونِ إسلامُه.
11- قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي: ما الأمرُ كما فعلتَ يا محمد - صلى الله عليه وسلم - من أن تعبسَ في وجه من جاءك يسعى. إنَّ هذه الآيات موعظةٌ وتذكرةٌ لمن أرادَ أن يتذكَّر.
12- قولُه تعالى: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي: فمن أرادَ من عبادِ الله - صادقاً في إرادته - أن يتَّعِظَ بالقرآن وآياتِه حصلَ له الاتِّعاظ(6).
13- قولُه تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} أي: هذا القرآن مكتوبٌ في صُحُفِ الملائكة، وهي صُحُفٌ شريفةٌ رفيعةُ القدرِ(7).
14-قولُه تعالى: {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} أي: هي في مكانٍ عالٍ وقَدْرٍ رفيع؛ لأنها بأيدي الملائكة، ولذا فإنَّ الدَّنَسَ لا يقربها.
15- قولُه تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي: هذه الصحف التي كُتب بها القرآن بأيدي رُسل الله من الملائكة الذين يؤدُّون عنه وحيَه إلى عباده(8).
16- قولُه تعالى: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي: هؤلاء السَّفَرَةُ من الملائكة في مَرْتَبَةٍ شريفةٍ عند الله، حيث خصَّهم بِوَحْيِه(9)، وهم كثيرو الخير، كثيرو الطاعة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(10) [التحريم: 6].
(1) جاء الخطابُ على صيغة الغيبة تلطّفاً في عِتاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء ذكر عبد
الله بن أمِّ مكتومٍ بوصفه إشعاراً بعُذره في عدم معرفته بانشغال الرسول
صلى الله عليه وسلم، وترقيقاً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم لأجل علَّته،
وهي العَمَى، حيث يحتاج من الرعاية ما لا يحتاجها غيره، والله أعلم.
(2) عبَّر ابن زيد عن معنى (يزَّكى) فقال: (يُسلم) وهذا فيه إشارة إلى أن ابن أم مكتوم لم يسلم بعد، وقد سبق بيان كليَّة تفسيريَّة لهذا اللفظِ عند ابن زيد، وهي أن التزكِّي في القرآن بمعنى الإسلام.
(3) في ذكر التزكي وبعده التذكر، وهو حصول أثر التذكير احتمالان:
الثاني: أن يكون التزكِّي: كمال حصول الموعظة في القلب، والتذكر: ما يحصل في القلب من يسيرها، ويكون المعنى: إن لم يقع منه كمالُ تَزَكٍّ، وقع منه يسيرٌ ينفعه في المستقبل، والله أعلم.
(4)
يذكر بعض المفسِّرين أن معنى استغنى: استغنى بماله، ولا يمنع أن يكون هذا
الكافر غنياً بماله، غير أن المناسبَ لسبب النزول أن يكون استغنى عن
الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
(5) يذكر بعض المفسِّرين في (ما) احتمالاً آخرَ، وهو أن تكونَ نافية، ويكون المعنى: لا شيءَ عليكَ إذا لم يُسلم هذا الكافر، والأوَّلُ أنسبُ لسياق العتاب، والله أعلم.
(6) أعاد بعض المفسِّرين الضميرَ في (ذَكَرَه) إلى الله، والمعنى: فمن شاء من العباد ذكرَ الله. غير أن سياق الآيات يدل على الأوَّل؛ لأن الحديثَ عن القرآن قبل هذه الآية وبعدها، والله أعلم. (7) وقع خلافٌ في المراد بالصُّحُف، وهو مبني على الاختلاف في المراد بالسَّفَرة، على قولين:
وهب بن منبِّه، قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
والقولُ الأول أرجح؛ لدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: ((الماهرُ بالقرآن مع السَّفَرَةِ الكرام البَررة)) فوصفَهم بما ورد في هذه الآيات، وحملُه عليه أولى، ثم إن وصفَ المؤمنين في القرآن جاء على صيغة (الأبرار) لا البرَرَة، مما يُشعر أن المعني بهذا الوصف الملائكة.
(8) عبَّر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وقتادة من طريق معمر، عن السَّفَرة بأنهم الكَتَبَة، كما عبَّر قتادة من طريق سعيد بأنهم القراء، وتأويل السَّفرة بالرسل يشمل هذه المعاني،قال الإمام الطبري: (وأوْلى
الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الملائكة الذين يسفرون بين الله
ورُسُلِه بالوحي … وإذا وُجِّهَ التأويلُ إلى ما قلنا، احتمل الوجه الذي
قاله القائلون: هم الكَتبة، والذي قاله القائلون: هم القُرَّاء؛ لأن
الملائكة هي التي تقرأ الكتب، وتسفر بين الله وبين رُسُله).
(9) الكريم: هو الشريف في جنسه، وقد وصف الله الملائكة بهذا الوصف في قوله تعالى: {كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11].
(10) قال ابن كثير: (ومن هنا ينبغي لحاملِ القرآنِ أن يكونَ في أفعالِه وأقوالِه على السَّدَادِ والرَّشاد).
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{عَبَسَ
وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى
(7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ
تَلَهَّى (10) كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي
صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (13) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
(14) كِرَامٍ بَرَرَةٍ}
الشيخ:
الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه السورة عاتب الله جل وعلا فيها نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا العتاب من الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم جاء؛ لأن مقام النبوة
والرسالة مقام عظيم، يُبلِّغ فيه العبد ما أوحي إليه من ربه جل وعلا، فكان
الله جل وعلا يسدد نبيه صلى الله عليه وسلم، ويرشده إلى ما هو الأولى؛ في
بعض القضايا التي قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
كما قال الله جل وعلا في سورة التوبة: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}.
قال جل وعلا في الأنفال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}.
فهذا العتاب لا ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤثر على رسالته ولا على بلاغه؛ لأن ما بلغه النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو حق، وما وقع فيه من النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف الأولى نبهه الله -جل وعلا- عليه، فكانت هذه الشريعة كاملة بتكميل الله جل وعلا.
وصدر هذه السورة نزل في شأن عبد الله ابن أم مكتوم - رضي الله تعالى عنه - وكان رجلاً أعمى، وكان أسلم قديماً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسترشده
في أمر الدين - وكان النبي صلى الله عليه وسلم منشغلاً ببعض كبراء قريش،
يدعوهم إلى الإسلام - فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم واشتغل بدعوة
أولئك، وهذا اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم؛ وكان الأولى أن يصنع كما أمره
ربه جل وعلا بعد ذلك.
وسبب نزول هذه الآية هذا مما أجمع عليه أهل التفسير وقد ورد فيه حديثان، حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وهذا الحديث الصحيح فيه: أنه حديث مرسل رواه الإمام مالك وغيره عن هشام بن عروة عن عروة أن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أم مكتوم ليس لعائشة فيه ذكر، والذي رواه بذكر عائشة هو يحيى بن سعيد الأموي لكنه أخطأ في ذلك. ويظهر -والله أعلم-أن
الله جل وعلا ذكره بلفظ العمى مع أن الكفار الذين كان -صلى الله عليه
وسلم- يدعوهم إلى الإسلام كانوا مبصرين، ليبين -جل وعلا- أن العمى: هو عمى
القلوب، فهذا رجل أعمى في بصره ولكنه مبصر ببصيرته، وأولئك مبصرون بأبصارهم
ولكنهم أعمون بقلوبهم، فيكون في ذلك عبرة للناس إلى يوم القيامة، كما قال
الله جل وعلا: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. لما أعلم الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه يتزوج زينب؛ قضى الله -جل وعلا- في سابق علمه أن زيداً سيقضي وطره من زينب وسيطلقها،
فلما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبره أنه يريد طلاقها، قال له
-صلى الله عليه وسلم- أن يتقي الله وأن يمسكها، فعاتبه الله جل وعلا على ذلك؛ لأن الله جل وعلا إنما أراد بهذه الآية؛ وزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من زينب التي كانت تحت زيد بن حارثة
إنما يريد الله -جل وعلا- أن يبين حرمة التبني، وأن يبين أن زوجة مثل
هؤلاء حلال؛ لأن زوجة الابن من الصلب ليست بحلال على والده، كما قال الله
جل وعلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...} إلى أن قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} ولهذا قال الله جل وعلا:{فَلَمَّا
قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}. -{وَأَنْذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ
مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
والصواب:أن هذا حديث مرسل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد صحح إرساله الإمام الذهبي في (تلخيص المستدرك).
وورد حديث أنس - رضي الله تعالى عنه - أيضاً يشهد لهذا وهو حديث ظاهر إسناده أنه صحيح، والعلم عند الله جل وعلا، وفي حديث أنس: أن [النبي صلى الله عليه وسلم] كان يخاطب أو يدعو أُبي بن خَلَف، وأياً كان فالله جل وعلا قد أبهم هذين الاسمين.
قوله جل وعلا: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} يعني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه عبد الله بن أم مكتوم قَطَّب بوجهه وكَلَّحه، وهذا إشارة إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرتض قدوم عبد الله بن أم مكتوم عليه؛ لأنه كان يقطع حديثه مع أولئك الكفار.
وقوله: {وَتَوَلَّى} أي: أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه.
وقوله: {أَن جَاءهُ الأَعْمَى} أي: لأجل أن جاءه الأعمى، وعبد الله بن أم مكتوم كان رجلاً أعمى، والله جل وعلا هاهنا ذكره باللقب ولم يذكره بالاسم:
فبعض العلماء قالوا: إن
الله جل وعلا ذكره بهذه الصفة - صفة العمى -ليستعطف القلوب عليه، قلب
النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الرجل لما يقال إنه أعمى؛ فهو أجدر أن
يُرأف به وأن يرحم.
وبعض العلماء يقول: إنه ذكره بهذا اللقب - لقب العمى- ليبين عذر عبد الله بن أم مكتوم لما قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتحدث مع رؤساء قريش، فكأنه يقول: إن عبد الله بن أم مكتوم قطع هذا الحديث لكونه أعمى لا يرى.
وبعض العلماء استشكل على قوله جل وعلا: {الأَعْمَى} آية الحجرات وهي قول الله جل وعلا:{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} فهاهنا الله جل وعلا لقبه بأنه أعمى وقد قال تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} ذكر ذلك الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي في كتاب (دفع إيهام الاضطراب) ثم وجه ذلك بما أجاب به بعض العلماء من أنه قال:{الأَعْمَى} ليقدم
عذره في قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك التلقيب لا يؤذيه حينئذ؛
لأنه مثلاً الإنسان لما يقال: فلان أعرج -تأخر مثلاً في إيصال المعاملات -
يقال: فلان أعرج، يعني: لا يؤاخذ، هو لا يقصد ذمه ولا تلقيبه وإنما يقصد
بيان العذر الذي يجعله يتأخر، فهذه لا تحدث في نفس هذا الأعرج شيئاً، وكذلك
هذا الأَعْمَى لما قدم الله جل وعلا عذره؛ فإن هذا التلقيب لا يحدث في نفسه شيئاً.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الآيتين ليس بينهما تعارض أصلاً لاختلاف جهة القائل، فالقائل هنا والواصف هو الله رب العالمين وله التصرف في خلقه.
وأما في قوله جل وعلا: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} فهو
نهي للخلق أن ينبز بعضهم بعضاً؛ لأن العبد إذا نبز أخاه بلقب فإن هذا يحدث
من الضغينة والشقاق ما جعل الله -جل وعلا- يحرم النبز، أما الله -جل وعلا-
إذا أطلقه فهو الخالق المتصرف بالمخلوقات، وله جل وعلا أن يسمي من شاء ما
شاء، وأن يلقب من شاء ما شاء، فلاختلاف جهة الصدور في الآيتين فإنه ليس
بينهما تعارض.
ثم إن بعض العلماء أيضاً ذكر أن في هذه الآية ما يعارض قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وهنا عبس بوجهه.
ويعارض أيضاً قوله تعالى في سورة الشعراء: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وفي سورة الحجر {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} والنبي -صلى الله عليه وسلم- هاهنا عبس بوجهه.
وهذه الآيات كلها آيات مكية سواء عبس أو آية الشعراء أو الحجر أو آية القلم كلها آيات مكية لا يدرى ما المتقدم منها:
-فإما أن يكون: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وما بعده أو والآيات الأخرى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} هذا واقع بعد سورة عبس وحينئذٍ لا إشكال.
- أو يقال إن قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} هذا
باقٍ، وهذه الآية التي معنا هذه محل اجتهاد له صلى الله عليه وسلم، وهذا
لا يخرجه عن أن يكون ذا خلق عظيم، ولا يخرجه عن أن يكون خافضاً جناحه
للمؤمنين؛ لأنه يحتمل أنه -عليه الصلاة والسلام- رأى في هذا الصنيع تعليماً
لعبد الله بن أم مكتوم؛ كما كان -صلى الله عليه وسلم- أحياناً يزجر بعض أصحابه،
وهذا لا يخرجه عن أن يكون على خلق عظيم؛ لأن الخلق العظيم ليس معناه ألا
يعالج المرء الأمور بحسبها، فيحزم وقت الحزم، ويلين وقت اللين، ويرفق وقت
الرفق، هذا لا ينافي أن يكون على خلق عظيم.
فالشاهد أن قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} باقٍ،
وهو صلى الله عليه وسلم خافض جناحه للمؤمنين، وهذه القضية اجتهد فيها صلى
الله عليه وسلم؛ ولعله رأى أن في هذا الصنيع منه -عليه الصلاة والسلام-
والإعراض عن عبد الله بن أم مكتوم تعليماً له، لئلا يقطع غيره أو هو الحديث عليه -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى، ثم بعد ذلك لا يكون هناك إشكال بين هذه الآيات.
ثم قال جل وعلا: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} أي: وما يدريك يا محمد أن عبد الله بن أم مكتوم يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، يعني: أنه يزكى بحيث يحصل له كمال في الإيمان وارتفاع عن الإثم واتعاظ وعبرة وتذكر وخشية؛ لأنه إذا استرشد
من النبي صلى الله عليه وسلم وأرشده؛ فإما أن تكون هذه موعظة، فينزجر
العبد عما كان واقعاً فيه من محارم الله، أو مقصراً فيه من الواجبات، أو
تكون هذه الموعظة أو هذا التذكير رافعاً للعبد عن الجهل؛ لأن العبد قد يقع
في بعض الأخطاء جهلاً منه دون أن يعلم بالحكم الشرعي، فإذا أرشد إليه وعمل
به وخاصة أنه جاء يسعى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، شديد الحرص على اتباع
النبي -عليه الصلاة والسلام- والعمل بما يقول، فإن مثل هذا إذا ذكِّر ووعظ
وعلم انتفع.
وقوله جل وعلا في هذه الآية: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} الله جل وعلا ذكره بهذه الصيغة؛ بلفظ {لَعَلَّ} وهذه تدل على الرجاء،
والرجاء يكون في الشيء الممكن القريب المتوقع الحدوث، فكأن الله -جل وعلا-
يقول: هذا تزكيته قريبة وممكنة، أما أولئك الكفار فيحتمل أن تزكيتهم بعيدة
أو غير ممكنة، وأما ابن أم مكتوم فَتَزَكِّيه قريب وممكن.
وبعض العلماء يقول: {لعل}هذه من الله واجبة إذا قال:{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} يعني: سيتزكى
ويتحقق ذلك ليست مثلها مثل ما يقع في كلام البشر؛ لأنها تقع في كلام البشر
للترجي والإشفاق، وأما في كلام الله فعند بعض العلماء هي موجبة؛ يعني
يتحقق ما بعدها {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى غيرها من الآيات؛ هذه يكون ما بعدها متحقق الوقوع ولابد.
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى}{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}
يعني: إما أن يكون استغنى بثروته وماله، أو أنه استغنى عن اتباع الحق وأعرض، وهو الظاهر؛ لأن الله -جل وعلا- قابله بالآخر ولم يقابله بالفقر والحقارة؛ لأن مقابله:{وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى} ما قال: أما من جاءك فقيراً، فدل على أن المراد:{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} يعني: استغنى عن الإيمان وأعرض عنه؛ وهو أبي بن خلف أو غيره ممن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى الإسلام في تلك اللحظة التي جاء فيها عبد الله بن أم مكتوم.
وقوله: {فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} يعني: أنت تصغي له ولما يقول، وتسمع حديثه وتتعرض له رجاء أن يسلم.
ثم قال تعالى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} أي: أن وظيفة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هي البلاغ، وأما تزكي الناس فهذا ليس للنبي -صلى الله عليه وسلم- شأن به؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بلغ فالقلوب بيد الله جل وعلا، من شاء هداه ومن شاء أضله ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه البلاغ، كما قال جل وعلا:
-{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.
-وقال جل وعلا: {قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ
تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
- وكما قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}إلى غيرها من الآيات التي تبين أن وظيفة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هي البلاغ، وأما الهداية فهي إلى الله جل وعلا، ولهذا:{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} أي: ليس عليك شيء إذا لم يتزك.
والنبي صلى الله عليه وسلم - كما بين الله جل وعلا في آيات أخرى -كان حريصاً على هداية قومه، وكان يحزنه ويسوؤه عدم إيمانهم، بل إنه -عليه الصلاة والسلام- كاد أن يهلك لما لم يجبه قومه إلى الإسلام من شدة حرصه -صلى الله عليه وسلم- عليهم، وحزنه على صنيعهم، ولهذا نهاه الله جل وعلا؛ فقال سبحانه وتعالى مبيناً حاله:
-{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
-وقال جل وعلا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}.
-وقال له جل وعلا: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
-وقال جل وعلا:{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
-وقال تعالى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
ثم قال جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} يعني: من جاءك يطلب الاسترشاد، ويطلب العلم والحكمة، ويطلب التذكر والخشية فإنك تشتغل به وتتلهى عنه بأقوام آخرين.
وهذه الآيات من الآيات التي ذكر العلماء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآيات، وقد نص على ذلك بعض السلف؛ لأن هذه الآيات فيها عتاب له صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية آية الأحزاب، الله -جل وعلا- أعلم نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه سيتزوج زينب، وكانت زينب تحت زيد بن حارثة مولاه وكانوا يدعونه ابن محمد؛ لأن التبني كان موجوداً عندهم في الجاهلية؛ وقد حرمه الله جل وعلا.
ثم قال الله جل وعلا: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} يعني: إن هذه الآيات تذكرة يتذكر بها أولوا الألباب، وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو تذكير له ولمن جاء بعده، وقد بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى أن هذا القرآن تذكرة:
- كما في قوله جل وعلا: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}.
-وقال جل وعلا: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ
لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
-وقال جل وعلا:{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}.
ثم قال جل وعلا: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ}
أي: من شاء ذكر هذا الوحي المنزل على نبينا -صلى الله عليه وسلم- فحفظه،
أو من شاء تذكر بهذا الوحي وبهذه الآيات التي أنزلها الله -جل وعلا- على
نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعليم
لمن جاء بعده من أمته.
ثم قال جل وعلا:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} أي: أن هذه الآيات في صحف مكرمة وهي: صحف الملائكة.
{مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}أي: مرفوعة القدر عند الله جل وعلا.
{مُطَهَّرَةٌ}من أن يكون فيها شيء ليس حقاً ولا صدقاً بل هي حق وصدق؛ لأنها منزلة من عند الله جل وعلا.
{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} وهم الملائكة الذين هم سفراء بين الله وخلقه، أو سفراء بين الله ورسله، فهم يحملون هذه الصحف، ويبلغون ما فيها من آيات إلى المرسلين.
{كِرَامٍ بَرَرَةٍ}وهؤلاء الملائكة وصفهم الله جل وعلا بأنهم كرام، يعني كرام على الله جل وعلا؛ وكرام عند ربهم، وقد وصفهم الله -جل وعلا- في ذلك في آيات كثيرة:
-كما قال تعالى: {كِرَاماً كَاتِبِينَ}.
- وقال جل وعلا: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}.
-وقال جل وعلا:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} فهم كرام بتكريم الله جل وعلالهم.
وقوله{بَرَرَةٍ} أي: مطيعين لله -جل وعلا- لا يعصونه؛ بل يبادرون بامتثال أوامره:
- كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
-وقال: {لا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ
ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}.
تفسير سورة عبس
سبب نزول سورة عبس
الحكم على الأحاديث الواردة في سبب نزول سورة عبس تفسير قول الله تعالى: ( عبس وتولَّى أن جاءه الأعمى )
معاتبة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تقدح في مقام الرسالة
هل في عبوس النبي صلى الله عليه وسلم في وجه الأعمى منافاة لكرم أخلاقه صلى الله عليه وسلم
الجمع بين إطلاق لفظ (الأعمى) وقوله تعالى: ( و لا تنابزوا بالألقاب )
تفسير قول الله تعالى: ( وما يدريك لعله يزكى )
تفسير قول الله تعالى: ( أو يذكر فتنفعه الذكرى )
وجهان في ذكر التَّزكّي وبعده التَّذكّر
تفسير قول الله تعالى: ( أما من استغنى فأنت له تصدَّى وما عليك ألا يزكَّى )
الإشارة إلى أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم البلاغ
تفسير قول الله تعالى : ( وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهَّى )
فائدة: لا يتركُ أمرٌ معلومٌ لأمرٍ موهومٍ، ولا مصلحةٌ متحققةٌ لمصلحةٍ متوهمة
تفسير قول الله تعالى : ( كلا إنها تذكرة )
تفسير قول الله تعالى : ( فمن شاء ذكره )
تفسير قول الله تعالى : ( في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة)
أقوال السلف في المراد بالسَّفرة
الأسئلة
س1: قال الله تعالى: {عَبَسَ
وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى
(7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ
تَلَهَّى
(10)}
أ - اذكر سبب نزول هذه الآيات.
ب- اذكر تفسيراً إجمالياً مختصراً لهذه الآيات الكريمات.
ج- بين ما في هذه الآيات الكريمات من فوائد تربوية ودعوية.
د - بين معاني المفردات التالية: عبس، يزَّكَّى، استغنى، تصدَّى، تلهَّى.
س2: ما مرجع الضمير في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}؟
س3: بين معاني المفردات التالية: صحف مكرمة، سفرة، أقبره، أنشره.
تفسير ابن كثير