22 Oct 2008
{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ(33) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا(43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}
(27-34){أَأَنتُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)وَالأَرْضَ
بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31)
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} يقولُ تعالى مبيِّناً دليلاً واضحاً لمنكري البعثِ ومستبعدي إعادةِ اللهِ للأجسادِ: {أَأَنْتُمْ} أيُّها البشرُ {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ}ذاتُ الجرْمِ العظيم، والخلقِ القوي، والارتفاعِ الباهِر {بَنَاهَا} اللهُ، {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي: جرمهَا وصورتهَا، {فَسَوَّاهَا} بإحكامٍ وإتقانٍ يحيرُ العقولَ، ويذهلُ الألبابَ. {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ}أي: بعد خلق السماءِ {دَحَاهَا}أي: أودعَ فيها منافعهَا، وفَسَّرَ ذلكَ بقولهِ {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} أي: ثبَّتَها في الأرضِ. (34-41) {فَإِذَا
جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا
سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى
(37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي:
إذا جاءتِ القيامةُ الكبرى، والشدةُ العظمى، التي تهونُ عندَها كلُّ شدةٍ،
فحينئذٍ يذهلُ الوالدُ عن ولدهِ، والصاحبُ عن صاحبه [وكلُّ محبٍّ عنْ
حبيبهِ]. ويعلمُ إذ ذاكَ أنَّ مادَّةَ ربحِهِ وخسرانهِ ما سعاهُ في الدنيا، وينقطعُ كلُّ سببٍ وصلةٍ كانتْ في الدنيا، سوى الأعمالِ. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} أي: جعلتْ في البرازِ، ظاهرةً لكلِّ أحدٍ، قدْ برزتْ لأهلِهَا، واستعدتْ لأخذِهمْ، منتظرةً لأمرِ ربِّها.
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}أي: أظلَمهُ، فعمتِ الظلمةُ [جميعَ] أرجاءِ السماء، فأظلمَ وجهُ الأرضِ، {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}أي: أظهرَ فيهِ النورَ العظيمَ، حينَ أتى بالشمسِ، فامتدَّ النَّاسُ في مصالحِ دينهِمْ ودنياهمْ.
فَدَحْيُ الأرضِ بعدَ خلق السماءِ،كما هوَ نصُّ هذه الآياتِ [الكريمةِ].
وأمَّا خْلقُ الأرضِ فمتقدِّمٌ على خلقِ السماءِ؛ كما قالَ تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى أنْ قالَ: {ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
فالذي
خلقَ السماواتِ العظامَ وما فيهَا منَ الأنوارِ والأجرامِ، والأرضَ
الكثيفةَ الغبراءَ، وما فيهَا منْ ضرورياتِ الخلقِ ومنافعهمْ، لا بدَّ أنْ
يبعثَ الخلقَ المكلَّفينَ، فيجازيَهمْ على أعمالِهمْ، فمنْ أحسنَ فلهُ
الحسنى، ومنْ أساءَ فلا يلومَنَّ إلاَّ نفسَهُ، ولهذا ذكرَ بعدَ هذا القيامِ الجزاءَ، فقالَ:
و{يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} في الدنيا، مِنْ خيرٍ وشرٍّ، فيتمنى زيادةَ مثقالِ ذرةٍ في حسناتهِ، ويغمّه ويحزنُ لزيادةِ مثقالِ ذرةٍ في سيئاتهِ.
{فَأَمَّا مَن طَغَى}أي: جاوزَ الحدَّ بأَنْ تجرَّأَ علَى المعاصي الكبارِ، ولمْ يقتصرْ علَى ما حدَّهُ اللهُ.
{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} علَى الآخرةِ، فصارَ سعيُهُ لهَا، ووقتُهُ مستغرقاً في حظوظِهَا وشهواتِها، ونسيَ الآخرةَ وتركَ العملَ لهَا.
{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[لهُ] أي: المقرُّ والمسكنُ لِمَنْ هذهِ حالُهُ.
(42-46){يَسْأَلُونَكَ
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا
(43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن
يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ
عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي: يسألُكَ المتعنتونَ المكذبونَ بالبعثِ {عَنِ السَّاعَةِ} متَى وقوعهَا؟ و{أَيَّانَ مُرْسَاهَا}؟ فأجابهمُ اللهُ بقولِهِ: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} أي: ما الفائدةُ لكَ ولهمْ في ذكرهَا ومعرفةِ وقتِ مجيئِها؟ فليسَ تحتَ ذلكَ نتيجةٌ، ولهذا لمَّا كانَ علمُ العبادِ
للساعةِ ليسَ لهمْ فيهِ مصلحةٌ دينيةٌ ولا دنيويةٌ، بلِ المصلحةُ في
خفائِهِ عليهمْ، طوَى علمَ ذلكَ عنْ جميعِ الخلقِ، واستأثرَ بعلمهِ فقالَ: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} أي: إليهِ ينتهي علمُهَا، كمَا قالَ في الآيةِ الأخرى: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ
رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ
حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}أي:
إنَّمَا نذارتُك [نفعُها] لمنْ يخشى مجيءَ الساعةِ، ويخافُ الوقوفَ بينَ
يديهِ، فهمُ الذينَ لا يهمهمْ سوى الاستعدادِ لها والعملِ لأجلِهَا.
27- {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ}؛
أَيْ: أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبَعْثُكُمْ أَشَدُّ عِنْدَكُمْ
وَفِي تَقْدِيرِكُمْ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ؟ لأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى
خَلْقِ السَّمَاءِ الَّتِي لَهَا هَذَا الجِرْمُ الْعَظِيمُ،
وَفِيهَا مِنْ عَجَائِبِ الصُّنْعِ وبدائعِ القُدْرةِ مَا هُوَ بَيِّنٌ
للنَّاظِرِينَ، كَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ إعادةِ الأَجْسَامِ الَّتِي
أَمَاتَهَا بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؟
28- {رَفَعَ سَمْكَهَا}؛ أَيْ: جَعَلَهَا كَالبناءِ المُرْتَفِعِ فَوْقَ الأَرْضِ،
{فَسَوَّاهَا}: فَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَةَ الْخَلْقِ مُعَدَّلَةَ الشَّكْلِ، لا تَفَاوُتَ فِيهَا وَلا اعْوِجَاجَ، وَلا فُطُورَ وَلا شُقُوقَ.
29- {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}؛ أَيْ: جَعَلَهُ مُظْلِماً،
{وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}؛ أَيْ: أَبْرَزَ نَهَارَهَا المُضِيءَ بِإِضَاءَةِ الشَّمْسِ.
30- {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أَيْ: بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ،
{دَحَاهَا}؛ أَيْ: بَسَطَهَا.
31- {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}؛ أَيْ: فَجَّرَ مِنَ الأَرْضِ الأنهارَ والبِحارَ والعُيونَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مَرْعَاهَا؛ أَي: النَّبَاتَ الَّذِي يُرْعَى.
32- {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}:وَجَعَلَهَا كالأوتادِ للأرضِ؛ لِئَلاَّ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا.
34- {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى}؛
أَي: الدَّاهيةُ الْعُظْمَى الَّتِي تَطُمُّ عَلَى سَائِرِ الطَّامَّاتِ،
وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تُسْلِمُ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِلَى
الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ.
35- {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى}: يَتَذَكَّرُ مَا عَمِلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؛ لأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ مُدَوَّناً فِي صَحَائِفِ عَمَلِهِ.
36- {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى}؛ أَيْ: أُظْهِرَتْ إِظْهَاراً لا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: يُكْشَفُ
عَنْهَا الغِطاءُ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا الْخَلْقُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ
فَيَعْرِفُ بِرُؤْيَتِهَا قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بالسلامةِ
مِنْهَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَزْدَادُ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ،
وَحَسْرَةً إِلَى حَسْرَتِهِ.
37- {فَأَمَّا مَنْ طَغَى}؛ أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.
38- {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أَيْ: قَدَّمَهَا عَلَى الآخِرَةِ، وَلَمْ يَسْتَعِدَّ لَهَا وَلا عَمِلَ عَمَلَهَا.
39- {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}: الْمَكَانُ الَّذِي سَيَأْوِي إِلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ.
40- {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}؛ أَيْ: حَذِرَ مَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}؛ أَيْ: زَجَرَهَا عَن المَيلِ إِلَى المعاصِي والمحارِمِ الَّتِي تَشْتَهِيهَا.
41- {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} الَّذِي يَنْزِلُهُ، والمكانُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ، لا غَيْرُهَا.
42- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}؛ أَيْ: مَتَى وُصُولُهَا وَوُقُوعُهَا؟ كَرُسُوِّ السَّفِينَةِ.
43- {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا}؛
أَيْ: فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ منْ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ
وَالسُّؤَالِ عَنْهَا؟ وَالْمَعْنَى: لَسْتَ فِي شَيْءٍ منْ عِلْمِهَا
وَذِكْرِهَا، إِنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
44- {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا}؛
أَيْ: مُنْتَهَى عِلْمِهَا، فَلا يُوجَدُ عِلْمُهَا عِنْدَ غَيْرِهِ،
فَكَيْفَ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا وَيَطْلُبُونَ مِنْكَ بَيَانَ وَقْتِ
قِيَامِهَا؟
45- {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}؛ أَيْ: مُخَوِّفٌ لِمَنْ يَخْشَى قِيَامَ السَّاعَةِ.
46- {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}؛
أَيْ: إِلاَّ قَدْرَ آخِرِ نَهَارٍ أَوْ أَوَّلِهِ، أَوْ قَدْرَ الضُّحَى
الَّذِي يَلِي تِلْكَ العَشِيَّةَ، وَالْمُرَادُ: تَقْلِيلُ مُدَّةِ
الدُّنْيَا فِي نُفُوسِهِمْ إِذَا رَأَوْا أهوالَ الْقِيَامَةِ.
المتن :
27-قولُه تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} يقول تعالى للمكذِّبين بالبعثِ القائلينَ: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} أأنتم أيها الناسُ أصعبُ في الإيجاد، أم إيجادُ السماء وابتداعها أصعب؟ ولا شك أنَّ خلقَ السماء أصعب، وفي هذا دلالةٌ على وقوعِ البعثِ الذي أنكروه.
ثم بيَّن كيفيةَ خلقِهِ للسماء بجُمَلٍ متعاقِبة، فقال: {بَنَاهَا} أي: شيَّدَها.
28-قولُه تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} بيَّن كيف بِناؤها بقوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي جعل ارتفاعَها ارتفاعاً عالياً في البناء، معتدلَةَ الأرجاء، لا فُطور فيها، ولا تفاوت.
29-قولُه تعالى:{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي: جعلَ ليلَ السماءِ مظلماً، وأظهرَ ضُحاها بنور الشمس(1).
30-قولُه تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي: بسَطَ الأرضَ(2) بعد خلقِ السماء وإغطاشِ ليلِها وإخراجِ ضُحاها(3).
31-قولُه تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} أي: أظهرَ من الأرضِ ماءها وكلأها من النبات(4).
32-قولُه تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} أي: ثبَّتَ الجبالَ في الأرض، فهي مثبِّتةٌ للأرض، والأرض مثبتة لها(5).
33-قولُه تعالى: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} أي: ما ذكرَهُ من خلقِ السماء ودَحْوِ الأرض وإرساءِ الجبالِ منفعةٌ لكم، تنتفعونَ به أنتم وأنعامُكم مُدةً من الزمان، ثم ينتهي هذا الانتفاع.
34-قولُه تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} أي: إذا جاءت الساعة(6) التي تَطُمُّ - أي: تغمُر - كل هائلةٍ من الأمور فتغمُرُها بعظيم هَوْلِها، حتى لا يوجد أكبر منها، عرفوا سوءَ عاقبتهم وتكذيبهم بالبعث(7).
35-قولُه تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} أي: إذا جاءت الطامَّة، كان من الإنسان المؤمنِ والكافرِ تذكُّر ما عمله في حياته من خيرٍ وشر(8).
36-قولُه تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} أي: جيء بجهنم فأُظهرت، ليراها من يُبصر في هذا اليوم، كما ورد في حديث ابن مسعود:((يُؤتى بجهنم يومئذ، لها سبعونَ ألفَ زِمام، مع كل زِمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرُّونها))(9).
37-قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى} تفصيلٌ في حال الفريقين من أهل السعي من الناس، فبدأ بالذي تجاوزَ الحدَّ في أعماله، وهو المكذِّبُ بالبعثِ؛ لأن السورة في النعي عليه، وإثباتِ ما أنكره.
38-قولُه تعالى: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: قدَّمَ الحياةَ الدنيا بما فيها من الملذَّات الزائلةِ على نعيمِ الآخرة.
39-قولُه تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} أي: مآلُ هذا المكذِّبِ بالبعثِ ومسكنُه النارُ التي قد تجحَّمَت من شدَّة الإيقاد.
40-قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} هذا الفريق الثاني، وهو من امتلأ قلبه بالخوف من قيامه أمامَ ربِّه، وكَفَّ نفسَه عن ما ترغَبه من المعاصي(10).
41-قولُه تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} هذا جوابُ أمَّا، والمعنى: أن الجنة هي مرجِعُ ومستقَر من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى.
42-قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أي: يسألُك المكذِّبونَ بالبعث متى تقع الساعة؟.
43-قولُه تعالى: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} في أي شيء أنت من ذِكْرِ الساعة والبحثِ عن وقت وقوعها؟؛ أي ليس هذا من شأنِك، بل شأنُكَ الإعداد لها، كما قال صلى الله عليه وسلم للسائل عنها: ماذا أعددتَ لها.
44-قولُه تعالى: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} أي إلى ربِّك مرجع علمِ وقوعِها، وعلم ما فيها.
45-قولُه تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} هذا بيانٌ لمَهَمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تخويفُ الناس وتحذيرُهم من الساعة وأهوالها، وخصَّ الخائفينَ منها بالذِّكر لأنهم المنتفعونَ بها.
46-قولُه تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}
أي: كأنَّ هؤلاء المكذبينَ بالبعث يوم يُعايِنون الساعةَ بأبصارهم، لم
يمكثوا في هذه الدنيا إلا زمناً يسيراً، لا يتجاوز قَدْرُه آخرَ النهارِ،
أو أوَّله، والله أعلم.
الحاشية:
(1)
لما كان طلوعُ الشمس وغروبها ينتجُ عنهما ظلمة الليل وضَوء الضُّحى، والشمس
في السماء، أضاف ظلمة الليل وضَوء الضحى إليها، هذا من قول الطبري في
تفسيره.
(2) ورد التفسير بذلك عن قتادة من طريق سعيد، والسدي من طريق أبي حمزة، وسفيان من طريق عبد الرحمن.
وعبَّر ابن زيد عن ذلك بقوله: ({دَحَاهَا} حرثها وشقَّها، وقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31]، وقرأ: {شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} حتى بلغ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 6-31] وقال: حين شقَّها أثبت هذا منه، وقرأ: {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 12]).
فجعل الدَّحو مفسَّراً بما بعدها، وكذا ورد عن ابن عباس.
وهذا من تمام الدَّحْوِ لا من تفسيرِه على لفظه، والله أعلم.
(3)
أشكل على بعض العلماء هذا النظم في سياق خلق السماء والأرض، ذلك أنَّ الله
ذكرَ في أكثرَ من موضع خلقَ الأرض قبل خلق السماء؛ مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}، وقال: {قُلْ
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ
اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء
أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9-12].
والجواب
الصحيح في ذلك ما ذهب إليه حَبْرُ الأمة ابن عباس، وفَحْوَاه: أنَّ الله
خلق الأرض في يومين غير مَدْحُوَّةٍ، ثم استوى إلى السماء فخلقها، ثم دحا
الأرض، فالخلق غير الدَّحو الذي تتحدث عنه آية النازعات.
انظر: (تفسير الطبري) و((فتح الباري) سورة فصِّلت من كتاب التفسير) وانظر: (تأويل مشكل القرآن) (67) و (تهذيب اللغة)
(2: 243).
وقد
جعل مجاهد والسدِّي المعنى: والأرض مع ذلك دحاها، وهذا يبين أن الإشكال قد
ورد عليهما، فخلصا منه بهذا التأويل، وهو ضعيف؛ لأن دلالة الآية واضحة على
قول ابن عباس، ولا تحتاج إلى تأويل (بعد) بمعنى (مع) وبقاء اللفظ على
معناه، مع صحة تأويل الآية، أَوْلى من جعله بمعنى لفظٍ آخر يُحمل عليه
تأويل الآية. وقد ذكر بعض اللغويين أن (بعد) بمعنى (قبل)
وهذا لتخريج الإشكال الوارد على الآية، ويقال فيه ما قيل في القول الذي
قبله. (4) هذا الإخراج من توابع دَحْوِ الأرض، والآية تُثبت أن الماء الذي
في الأرض أصله من الأرض؛ لقوله: {مِنْهَا}.
والمرعى في القرآن:مكان الكلأ والعُشب الذي تأكله البهائم، وقد ناسب ذكره هنا، لقوله بعد ذلك: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} وهو
في النهاية يرجع إليهم؛ لأن الأنعام من متاعهم، غير أن في ذكر الأنعام هنا
إشارة إلى أن الأنعام تشاركهم في التمتُّع في الأرض، وأن عليهم زيادةً في
ذلك، وهو الاعتبارُ والاتِّعاظُ بما أنعم الله عليهم به، لكيلا يكونوا كالأنعام أو أضل سبيلاً؛ كما قال تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه: 54]، والله أعلم.
(5)
تُثبت هذه الآية أن الجبال مُرساة، كما ورد في الآيات الأخرى أنها مُرْسيةٌ
للأرض، وهذا يعني أن الجبال تثبت الأرض، كما أن الجبال ثابتة - أي:
مُرْسَاة - في الأرض، فلو قُلِعَت من مكانها لما استقرت الأرض، والله أعلم.
(6) قال ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة - في الطامَّة -: (من أسماء القيامة، عظَّمَه الله، وحذَّره عباده).
(7) هذا جواب إذا، وهو مُضمَر، وذكر الطبري عن القاسم بن الوليد الكوفي القاضي (ت: 141) في قوله: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} قال: (سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار) وتفسيره هذا يُشعِر بأنه جواب إذا، ويؤخذ منه أن الجوابَ يقدَّر بما يناسب السياق، والله أعلم.
وذُكر في جوابِ إذا قولٌ آخَر، وهو مبني على قوله: {فَأَمَّا مَن طَغَى} [النازعات: 37]، وما بعدها، والتقدير: إذا جاءت الطامَّة الكبرى، كانت أحوالُ الطاغين كذا، وأحوالُ المتقينَ كذا، والله أعلم.
(8) غَلَبَ استخدامُ لفظ السعي في القرآن على ما يعمله الإنسان من خير أو شر.
(9) رواه مسلم، وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91]، وقوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:
23]، ويلاحظ في هذه الأفعال أنها جاءت على صيغة المفعول دلالة على
الاهتمام بالحدَث دون فاعلِه، كما يلاحظُ أنَّ الآية ذكرت مجيءَ النار دونَ
الجنة؛ لأن المقام مع المكذِّبين بالبعث، فناسب ذلك ذكرها تهديداً، والله أعلم.
(10) غَلَبَ اسم الهوى على ما هو مذموم.
القارئ: {أَأَنتُمْ
أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا
وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ
وَلأَِنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ
يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن
يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا
أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ
يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} فمعنى دحاها: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} يعني: أنه جعل في هذه الأرض عيوناً وأنهاراً وبحاراً، وأنه -جل وعلا- جعل فيها مرعى ترعاه البهائم والدواب، كما قال الله -جل وعلا-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}. ثم قال -جل وعلا-: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} يعني: إذا جاء يوم القيامة، وهذه العبارة تستعمل في الشيء العظيم الذي ليس شيء أدهى منه وأشد. الجواب: يراد -والله أعلم- بالحديث: أشد الناس عذاباً يوم القيامة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأشد الناس عذاباً مطلقاً آل فرعون، وفيه
فرق بين أشد الناس عذاباً وفيه فرق بين أشد العذاب؛ لأن العبد قد يقع في
النار لكن لا تمسه كثيراً وهي شديدة، الآن يمكن واحد يوقع في شيء شديد - هو
في ذاته شديد - مثلاً: الآن لو أن إنساناً،
عندنا نار وجاء إنسان وضع يده فيها لحظة - نار تتأجج - وخرجت يده، النار هي
أشد شيء موجود بالنسبة للمحرقات، وجاء إنسان على نار واطية هادئة خافتة
وضع يده ساعة عليها، تتأثر يده هنا أكثر. أشد العذاب معناه: وأما أشد الناس عذاباً يوم القيامة يعني: من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل التوحيد. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله -جل وعلا-: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} يعني: أأنتم أيها المنكرون للبعث أشد خلقاً أم السماء بناها؟
والجواب: أن السماء أشد خلقاً منهم وأكبر، وقد بين الله -جل وعلا- ذلك في قوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقال -جل وعلا-: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَنْ خَلَقْنَا}وهذا الاستخبار جوابه مقدر، وتقديره: (من خلقت يا ربنا من السماوات والأرض والملائكة والمشارق والمغارب -مما هو مذكور في صدر سورة الصافات- هؤلاء أشد خلقاً).
وإذا كانت السماوات والأرض وغيرها أكبر خلقاً من الناس؛ فذلك دليل: على قدرة الله -جل وعلا- على إعادتهم، ولهذا قال الله -جل وعلا-:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} وقال -جل وعلا-: {أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ
يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقوله في هذه الآية:{بَنَاهَا} هذه فسرتها وبينتها ما بعدها من قوله -جل وعلا-: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} يعني: أنه -جل وعلا- رفع هذه السماوات وأعلاها، وسوَّى خلقها وأحكمه، فلا يرى فيه العباد تفاوتاً، ولا يرى العباد في هذه السماوات فروجاً ولا شقوقاً، وهذا كما تقدم معنا في سورة النبأ:{وَخَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يعني: محكمات.
- وقد قال الله -جل وعلا- مبيناً رفع هذه السماوات، وما فيها من الآية والعبرة والعظة: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}.
-وقال -جل وعلا-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}:
-إما أن يكون -جل وعلا- خلقها بغير عمد أصلاً.
-أوخلقها وخلق لها عمداً لكن نحن لا ندركه ولا نراه.
وقوله:{فَسَوَّاهَا} هذه تقدم معناها وبيانها وأنه يدل عليها قول الله -جل وعلا-: {الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ
تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ
حَسِيرٌ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} يعني: أنه -جل وعلا- أظلم الليل الذي يكون في السماوات.
{وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}يعني: جعل النهار مشرقاً ومضيئاً، وهذا فيه آية من آيات الله جل وعلا.
وقال -جل وعلا-: {أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} يعني: جعل هذه الجبال رواسي في الأرض، هي في نفسها ثابتة وهي كذلك تثبت الأرض، وقد أورد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عند هذه الآية حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: ((أن
الله -جل وعلا- لما خلق الأرض وما دت، خلق -جل وعلا- الجبال فسكنت هذه
الأرض، فعجبت الملائكة من ذلك، فسألت الرب -جل وعلا- هل شيء من خلقك أكبر
من الجبال؟ قال: نعم)) وذكر الحديث إلى آخر الحديث.
وهذا الحديث حديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ الراوي عن أنس، سليمان ابن أبي سليمان: مجهول لا يعرف فالحديث ضعيف.
كما أن هناك حديثاً فات التنبيه عليه عند قوله جل وعلا: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} أورده أيضاً الحافظ ابن كثير وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج ويقول: ((جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت وما فيه)) وهذا الحديث أيضاً ضعيف، عبد الله بن محمد بن عقيل هذا سيئ الحفظ.
فالحديثان اللذان أوردهما الحافظ ابن كثير في تفسير السورة ضعيفان.
وقوله -جل وعلا-: {الْكُبْرَى} لما يقع فها من آيات الله العظام، ولما يقع فيها من الهول والشدائد.
قال الله -جل وعلا-: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} يعني: إذا قامت القيامة تذكر الإنسان ما سعى، كما في قوله -جل وعلا- في سورة الفجر:{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} يعني: أن النار تُظهر ويراها العباد، قال بعض العلماء: يراها جميع العباد المؤمن والكافر، ولكن الكافر يراها قبل أن يعذب فيها زيادة في تعذيبه، وأما المؤمن فيراها ليعلم فضل الله -جل وعلا- عليه إذ نجَّاه منها، وبعض العلماء يقول: {وبرزت الجحيم لمن يرى} أي: للكفار، وأن هذه الآية ليست على عمومها؛ لقول الله -جل وعلا- في سورة الشعراء: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}.
ثم قال -جل وعلا-: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}، وقد تقدم بيان ذلك عند قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً}.
وقوله -جل وعلا-: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} يعني: من
خاف الوقوف بين يدي الله جل وعلا، ونهى النفس عن الهوى الذي تسعى فيه،
وزمَّها وخطمها بخطام الطاعة والتوحيد، فإنه يفوز بالجنة، وتكون الجنة
مأواه؛ كما قال الله -تعالى-: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}.
ثم قال -جل وعلا-: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا
إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (43) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} يعني: أن أمر الساعة لا يعلمه إلا الله وحده، وأن وقت وقوعها قد استأثر الله -جل وعلا- بعلمه:
- كما قال الله -جل وعلا-:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}.
-وقال -جل وعلا-: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ
رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ
حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} فأمر الساعة إلى الله جل وعلا. والسؤال الذي يسأله الإنسان ماذا أعددتُ للساعة؟
رجل سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الساعة، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: ((ماذا أعددت لها))؟ قال: حب الله ورسوله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المرء مع من أحب)).
فالسؤال
عن الساعة، وعن وقت وقوعها أو محاولة معرفة وقت وقوعها هذا لا يجدي عن
الإنسان شيئاً، وإنما الذي ينفعه ما أعده للساعة، وهو السؤال الذي أرشد
إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله -جل وعلا-: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} يعني: علمها ووقت وقوعها لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-، وهذه من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وحده، ولهذا لما سأل جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الساعة، قال له عليه الصلاة والسلام: ((ماالمسؤول عنها بأعلم من السائل)) فسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم وقت وقوعها.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} يعني: إنما تنفع النذارة من يخشى الساعة، ويخشى الوقوف بين يدي الله جل وعلا، كما قال الله -جل وعلا-: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} فأهل
التوحيد والإيمان يخشونها لعلمهم أنهم يُردون إلى ربهم، وأنه -جل وعلا-
يجازيهم على أعمالهم الجزاء الأوفى، إن كانوا صالحين، وإن كانوا غير ذلك {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
ثم قال -جل وعلا-: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} يعني:
إذا رأوا الساعة كأنهم لم يلبثوا إلا شيئاً يسيراً من الوقت، يعني عشية:
أول النهار أو آخره، أو ضحاها، أو وقت من الضحى قليل، وهذا كما قال الله
-جل وعلا-:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} وقال -جل وعلا-: {فَاصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ
سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ
الْفَاسِقُونَ}.
وبهذا يتم تفسير سورة النازعات.
سؤال:
سؤال: قال: كيف نوفق بين قوله جل وعلا: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، وبين قوله جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؟
جواب: المال والبنون زينة الحياة الدنيا عند جميع الخلق، ولهذا قال الله جل وعلا: {زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} هذا
زينة عند الناس، الأصل في الناس: أنهم يعتبرون هذه الأشياء زينة، وأنهم
يتفاخرون فيما بينهم بها، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في سورة الحديد: {اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} لكن مع كونها زينة - يعتبرها الناس زينة - هي في حقيقتها فتنة وابتلاء، فيفتن العبد بها ليرى الله جل وعلا كيف يعمل؟
تفسير قول الله تعالى : ( أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها )
تفسير قول الله تعالى : ( والأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها )
إشكال في تقديم خلق السماء على خلق الأرض في سورة النازعات والجواب عليه
دلالة الآيات الكونية على البعث والجزاء
تفسير قول الله تعالى : ( متاعاً لكم ولأنعامكم )
تفسير قول الله تعالى : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى )
تفسير قول الله تعالى : ( وبرزت الجحيم لمن يرى )
تفسير قول الله تعالى : ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى )
تفسير قول الله تعالى : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى )
تفسير قول الله تعالى : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها )
تفسير قول الله تعالى : ( فيم أنت من ذكراها ، إلى ربك منتهاها )
تفسير قول الله تعالى : ( إنما أنت منذر من يخشاها )
تفسير قول الله تعالى : ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها )
الأسئلة
س1: تنوعت الدلائل في القران الكريم على إثبات البعث، تحدث عن دلالة الآيات الكونية على البعث والجزاء.
س2: تحدث عن أهمية علم الجزاء، وأثره على سلوك العبد.
س3: تحدث عن خطر إيثار الحياة الدنيا على الآخرة على سلوك العبد.
س4: بين معاني المفردات التالية: سمكها، أغطش، دحاها، أرساها، الطامة، المأوى، بُرِّزَت، مرساها، ذكراها، منتهاها.
س 5: كرر الله عز وجل الإنذار بالساعة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، تحدث عن فوائد هذا التكرار.
س6: ينبغي للمؤمن أن يشغل نفسه بالإعداد للساعة لا بالسؤال عنها، تحدث عن هذه العبارة في ضوء ما درست من الآيات الكريمات.
س7: ورد في هذه الآيات الكريمات تحديد لوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، بين ذلك، واذكر فوائد هذا التحديد.
س8: بين حُكْمَ السؤال عن الساعة.
س9:
ورد في هذه الآيات ما يدلُّ على أن الانتفاع بالمواعظ إنما يحصل لمن يخشون
الله جل وعلا، تحدث عن أهمية هذا الأمر في ضوء ما درست.
س10: ورد في هذه الآيات الكريمة فوائد جليلة ينبغي للداعية مراعاتها في دعوته، اذكر ما تعرفه منها.
تفسير ابن كثير