21 Oct 2008
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّ
يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً
(19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ
كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً (22) لاَبِثِينَ فِيهَا
أَحْقَاباً (23) لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً (24) إِلاَّ
حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاءً وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ
يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّّ
عَذَاباً (30)}
(17-30){إِنَّ
يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا
(19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ
كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا
أَحْقَابًا (23) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلا
حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاء وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا
يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا(28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا (30)}
ذكر تعالى ما يكون في يومِ القيامةِ الذي يتساءلُ عنهُ المكذِّبونَ، ويجحدهُ المعاندونَ، أنه يومٌ عظيمٌ، وأن اللهَ جعله {مِيقَاتاً} للخلق {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} ويجري فيه من الزعازع والقلاقل ما يشيب له الوليد، وتنزعج له القلوب، فتسير الجبال، حتى تكون كالهباء المبثوث، وتشقق السماء حتى تكون أبواباً، ويفصل الله بين الخلائق بحكمه الذي لا يجور، وتوقد نار جهنم التي أرصدها الله وأعدها للطاغين، وجعلها مثوى لهم ومآباً، وأنهم يلبثون فيها أحقاباً كثيرة، و(الحقب) على ما قاله كثير من المفسرين: ثمانون سنة.
وهم إذا وردوها {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} أي: لا ما يبرِّدُ جلودَهم، ولا ما يدفعُ ظمأهمْ. {وَغَسَّاقاً}وهوَ صديدُ أهلِ النارِ، الذي هوَ في غايةِ النتنِ، وكراهةِ المذاقِ،
وإنَّما استحقُّوا هذهِ العقوباتِ الفظيعةَ جزاءً لهم ووفاقاً على ما
عملوا منَ الأعمالِ الموصلةِ إليهمْ، لمْ يظلمْهُمُ اللهُ، ولكن ظلمُوا
أنفسَهمْ، ولهذا ذكرَ أعمالَهم، التي استحقوا بها هذا الجزاءَ، فقالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} أي: لا يؤمنونَ بالبعثِ، ولا أنَّ اللهَ يجازي الخلقَ بالخيرِ والشرِّ، فلذلكَ أهملوا العملَ للآخرةِ.
{إِلاَّ حَمِيماً} أي: ماءً حارّاً، يشوي وجوههم، ويقطعُ أمعاءهُمْ.
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} أي: كذَّبوا بها تكذيباً واضحاً صريحاً وجاءتهمُ البيناتُ فعاندوهَا.
{وَكُلَّ شَيْءٍ} من قليلٍ وكثيرٍ، وخيرٍ وشرٍّ {أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً}
أي: كتبناهُ في اللَّوحِ المحفوظِ، فلا يخشى المجرمونَ أنَّا عذبناهُم
بذنوبٍ لم يعملوهَا، ولا يحسبوا أنَّه يضيعُ منْ أعمالِهِم شيء، أو ينسى
منها مثقالُ ذرةٍ، كمَا قالَ تعالى: {وَوُضِعَ
الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
{فَذُوقُوا} أيها المكذِّبونَ هذا العذابَ الأليمَ والخزيَ الدائمَ.
{فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}وكلَّ وقتٍ وحينٍ يزدادُ عذابهمْ [وهذهِ الآيةُ أشدُّ الآياتِ في شدةِ عذابِ أهلِ النارِ أجارَنا اللهُ منها].
17- {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}:
وَقْتاً وَمَجْمَعاً وَمِيعَاداً للأَوَّلِينَ والآخِرِينَ يَصِلُونَ
فِيهِ إِلَى مَا وُعِدُوا بِهِ من الثَّوَابِ والعقابِ، وَسُمِّيَ يَوْمَ
الْفَصْلِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ خَلْقِهِ.
18- {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} وَهُوَ القَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ.
{فَتَأْتُونَ} إِلَى مَوْضِعِ العَرْضِ.
{أَفْوَاجاً}؛ أَيْ: زُمَراً زُمَراً وَجَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ.
19- {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} لِنُزُولِ الْمَلائِكَةِ.
{فَكَانَتْ أَبْوَاباً}: صَارَتْ ذَاتَ أبوابٍ كَثِيرَةٍ.
20- {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}؛
أَيْ: سُيِّرَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا فِي الْهَوَاءِ، وَقُلِعَتْ عَنْ
مَقَارِّهَا، فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا، يَظُنُّ الناظرُ أَنَّهَا
سَرَابٌ.
21- {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً}؛
أَيْ: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ مَوْضِعَ
رَصْدٍ يَرْصُدُ فِيهِ خَزَنَةُ النَّارِ الْكُفَّارَ؛ لِيُعَذِّبُوهُمْ
فِيهَا، أَوْ هِيَ فِي نَفْسِهَا مُتَطَلِّعَةٌ لِمَنْ يَأْتِي إِلَيْهَا
مِن الْكُفَّارِ كَمَا يَتَطَلَّعُ الراصدُ لِمَنْ يَمُرُّ بِهِ وَيَأْتِي
إِلَيْهِ.
22- {لِلطَّاغِينَ مَآباً}؛ أَيْ: مَرْجِعاً يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَالْمَآبُ: الْمَرْجِعُ.
23- {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً}؛
أَيْ: مَاكِثِينَ فِي النَّارِ مَا دَامَتِ الدُّهُورُ. وَالْحُقْبُ:
القِطْعَةُ الطويلةُ من الزَّمانِ، إِذَا مَضَى حُقْبٌ دَخَلَ آخَرُ، ثُمَّ
آخَرُ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى الأَبَدِ.
24- {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً}: لا يَذُوقُونَ فِي جَهَنَّمَ أَوْ فِي الأحقابِ بَرْداً يَنْفَعُهُمْ مِنْ حَرِّهَا، وَلا شَرَاباً يَنْفَعُهُمْ منْ عَطَشِهَا.
25- {إِلاَّ حَمِيماً}: وَهُوَ الْمَاءُ الحارُّ.
{وَغَسَّاقاً}: وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ.
26-{جَزَاءً وِفَاقاً}:
وَافَقَ الْعَذَابُ الذَّنْبَ، فَلا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ، وَلا
عَذَابَ أَعْظَمُ مِنَ النَّارِ. وَقَدْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ سَيِّئَةً،
فَآتَاهُمُ اللَّهُ بِمَا يَسُوؤُهُمْ.
27- {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً}؛ أَيْ: قَدْ كَانُوا لا يَطْمَعُونَ فِي ثَوَابٍ وَلا يَخَافُونَ منْ حِسَابٍ؛ لأَنَّهُمْ كَانُوا لا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ.
28- {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}؛ أَيْ: كَذَّبُوا بالآياتِ القرآنِيَّةِ تَكْذِيباً شَدِيداً.
29- {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً}:
كَتَبْنَاهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؛ لِتَعْرِفَهُ الْمَلائِكَةُ،
وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَتَبَهُ الْحَفَظَةُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ
أَعْمَالِهِمْ.
30- {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}
يُقَالُ لَهُمْ هَذَا؛ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالآياتِ
وَقَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ؛ أَيْ: فَهُمْ فِي مَزِيدٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ
أَبَداً.
18-قولُه تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} أي: يوم الفصل هو يوم ينفخُ إسرافيلُ عليه السلام النفخةَ الثانيةَ في البوق، فتجيئونَ أيها الناس زُمَراً زُمَراً، وجماعاتٍ جماعاتٍ(12).
19-قولُه تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} أي: صارَ في السماء فُرُوجٌ على هيئة الأبواب، حتى أنَّ الناظرَ إليها يراها أبواباً مفتَّحة(13).
20-قولُه تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} أي:
يجعل اللهُ هذه الجبالَ الأوتاد للأرض تسير، حتى تصلَ إلى مرحلةِ الهباءِ
الذي يتطاير، فيحسَبُهُ الرائي جبلاً، وإذا هو كالسَّراب الذي يراه الرائي على أنه ماء، وهو ليس كذلك(14).
21-قولُه تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً}أي: إنَّ نارَ جهنَّمَ كانت ذاتَ ارتقابٍ، ترقُبُ من يجتازُها وترصُدُهم(15).
22-قولُه تعالى: {لِلْطَّاغِينَ مَآباً}أي: إنَّ جهنَّم للذين تجاوَزوا الحدَّ في العِصيان حتى بلغوا الكُفر، مرجِعٌ ومصيرٌ يَصيرون إليه ويَستقرِّون فيه.
23-قولُه تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} أي: إنَّ هؤلاءِ الطاغينَ ماكِثونَ ومقيمونَ في النار أزماناً طويلةً تِلْوَ أزمانٍ لا انقطاع لها
(16).
24-قولُه تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} أي: لا يحسُّون ولا يُطْعَمونَ فيها هواءً يُبَرِّدُ حَرَّ السعير عنهم(17)، ولا يشربون شيئاً يروي عطشهم الذي نتجَ عن هذا الحرِّ.
25-قولُه تعالى: {إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} أي:
لا يذوقونَ البردَ والشرابَ، لكن يذوقونَ الماءَ الذي بلغَ النهايةَ في
حرارته، وصديدَ أهل النار المنتِن الذي بلغ النهايةَ في بُرودَته(18).
26-قوله تعالى: {جَزَاء وِفَاقاً}أي: ثواباً موافِقاً لأعمالهم(19).
27-قولُه تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} أي: إنَّ هؤلاء الطاغينَ كانوا في الدنيا لا يخافونَ(20) أن يُجازيَهم أحدٌ على سُوء أعمالهم، فوقعتْ منهم هذه الأعمال التي جُوزوا عليها جزاءً وِفاقاً.
28-قولُه تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}أي: كذَّبوا تكذيباً شديداً، ولم يصدِّقوا بالقرآن وغيره من الآيات.
29-قولُه تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي: ضَبَطْنا وعدَدْنا عليهم كلَّ شيء عَمِلوه، فكتبناهُ وحفِظناهُ عليهم(21).
30-قولُه تعالى: {فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} أي: ذوقوا أيها الكفار الطاغون من عذابِ هذه الأحقاب، فلن نزيدَكم إلا عذاباً من جنسِ عذاب النار(22)؛ كما قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} والعياذُ بالله، وهذه الآيةُ من أشدِّ ما نزلَ في عذاب الكفَّار(23).
الحاشية :
(11)أكَّد الخبر بـ(إن) لأنه مما كان يخالف فيه المشركون، وقد وقعت هذه الآية بعد قوله تعالى:
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ: 14-16]، للمشابهة التي بين خروج النبات وخروج الناس من قبورهم يوم البعث.
(12)جاء الفعل (ينفخ) مبنياً للمفعول اهتماماً بالحدث،
وهو النفخ في الصُّور، وطُوي ذكر قيامهم من قبورهم، وسَيْرهم إلى أرض
المحشر تنبيهاً على سرعة هذا الحدث، وأن الفاصل بين البعث والإتيان يسيرٌ
جداً، والله أعلم.
(13)بُني الفعل (فُتحت) للمفعول للاهتمام بالحدث،وقرئ بتشديد التاء، وفيه مبالغة: إما لكثرة الفتح، وإما لشدَّته.
وجاء الفعل ماضياً، والحدث لم يقع بعد، لتأكُّد وقوعه وتحقُّقه،وفي هذا الحدث فساد لنظام هذا الجِرم العظيم، وهو إيذانٌ بنهاية هذا العالم الفاني.
وقد ورد هذا المعنى في غير ما آية:
-كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً}[الفرقان: 25].
-وقوله: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37].
-وقوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة: 16].
-وقوله: {وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ}[المرسلات: 9].
-وقوله: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ}[الانفطار: 1].
- وقوله: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]. -{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُنبَثًّا}[الواقعة: 5-6].
-وقوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة: 5].
-وقوله: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل: 14].
وبين هذين الحالين أحوالٌ تمر بها في هذا اليوم؛ كالدَّكِّ، والنَّسف، والرَّجف، ذكرَها الله في مواضعَ من القرآن.
(15)لما كان المقامُ مُقامَ وعيدٍ وتهديدٍ للمختلِفين في النبأ قُدِّم ذكرُ جهنم، التي هي اسمٌ من أسماء دار العذاب الأخروي.
والمِرصاد: مكان
الرصد والترقُّب، وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من
أمر الصراط الذي يوضع على متن جهنم، فيمرُّ الناس عليه، فتختَطِفُ النار
بكَلالِيبها وخطاطيفها أهلها الذين حكمَ الله عليهم بدخولها، وقد أشار السلف في تفسير هذه الآية إلى المرور على النار؛ كالحسن، وقتادة، وسفيان الثوري.
(16)ورد عن بعض السلف - كالحسن وقتادة والربيع بن أنس
- تحديد مدة الحِقْب، ومع ذلك نبَّهوا على أن هذه الأحقاب تتوالى على
الكافرين فلا تنتهي، وهذا يرفع ما يورده بعض من استدل على فناء النار بهذه
الآية، وذلك أنه وإن كان للحِقْب مدة محدَّدة، لكن الله أطلق هذه الأحقاب
فلم يقيِّدها بعدد، فصدَقَ عليهم أنهم يمكثون في النار أحقاباً لا حصر لها،
كما لو قيل: لابثين فيها سنين، فهذا لا يمنع الخلود، فهم يصدق عليهم أنهم يلبثون سنين، لكن لا حصر لها.
وفيه توجيه آخر ذكره الطبري فقال: (وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقاباً في هذا النوع من العذاب، هو أنهم: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ: 24-25]، فإذا انقضت تلك الأحقاب، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك؛ كما قال جل ثناؤه في كتابه: {هَذَا
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا
فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 55-58]). وقد ذكر الإمام الطبري عن مقاتل بن حيان أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ: 30]، ثم قال: (ولا معنى لهذا القول؛ لأن قوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ: 23] خبر، والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ في الأمر والنهي).
ولو حُمل كلام مقاتل على مفهوم النسخ عند السلف - وهو مطلقُ الرفع لشيء من معنى الآية أو حُكمها، وهو أعمُّ من المصطلح الذي ذكره الطبري
- لَما كان في الأمر إِشكال، ويكون مراد مقاتل أن الآية الأخرى تبيِّن
أنهم إذا انتهوا من العذاب في هذه الأحقاب، فإِنه يزاد عليهم العذاب بعد
ذلك، وهذا هو معنى التوجيه الثاني الذي ذكره الطبري واختاره.
ويظهر من هذا المثال وغيرهأن الإِمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعمِل مصطلح السلف في النسخ، ولذا كان يعترض على مثل هذا المثال، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر، وهي أن تعرفَ مصطلحَ كل قوم، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم، فتقع في الخطأ،
وأعظم ما يكون الخطأ إذا حُمِلَتْ ألفاظ القرآن والسنَّة على مصطلحات
حادثةٍ مبتدَعة، فتقع بذلك الطَوَام، وتُحَرَّف نصوص الكتاب والسنة، انظر
في ذلك: (الصواعق المرسلة)لابن القيم، تحقيق: الدخيل الله (1: 189-192).
المتن :
17-قولُه تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}أي: إنَّ يومَ القيامة كان موعداً مؤقتاً للجَمْع بين هذه الخلائق، ليفصِلَ اللهُ فيه بينها(11).
(14)بُني الفعل للمفعول للاهتمام بالحدث، وقد ذكر الله في هذه الآية حالين للجبال في هذا اليوم، وهما التسيير، وتحولها إلى هيئة السَّراب، وهي مرحلة الهباء والعِهْنِ الذي ذكره الله بقوله:
بردَت مراشِفُها عليَّ فصدَّني =عـنـهـا وعــن قـُبـُلاتـهـا البـرد
يعني بالبرد: النُّعاس.
والنوم وإن كان يُبرد غَليلَ العطش، فقيل له من أجل ذلك: البرد، فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كلامِ الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره).وقد نُسب هذا القول لابن عباس (تفسير البغوي)ومجاهدوالسُّدي(تفسير الماوردي) وهو قول يحتمله السياق، غير أنه غير مترجِّحٍ للسبب الذي ذكره الطبري، وإذا كان كذلك، فإن سببَ الاختلاف: الاشتراك اللغوي، ويكون من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثرمن معنى.
(18)اختلفت عبارة السلف في تفسيرالغسَّاق:
- فقال بعضهم:الغسَّاق: هو ما سال من صديد أهل النار، ورد ذلك عن عطية العوفي، وعِكرمة، وأبي رزين، وإبراهيم النخعي، وابن زيد.وعن عبد الله بن بريدة أنه المنتِنُ بالطخارية [أي بلغة أهل طخارستان].
- وقال بعضهم:الغسَّاق: الزمهرير، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعن مجاهد من طريق ليث، وعن أبي العالية، والربيع بن أنس.
ومادة (غسق) فيها هذان المعنيان:وعلى هذا، فالتفسيران صحيحان، وجائز اجتماعهما في معنى الغسَّاق، ويكون من عذاب النار الذي يعذِّب الله به الكفار، وهذا هو ترجيح الإمام الطبري.
وعلى هذا فسبب الاختلاف: الاشتراك اللغوي، وهو من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى.ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والربيع من طريق أبي جعفر، وابن زيد الذي جعل نظيرها قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10].
(20)عبَّر مجاهد وقتادة عن جملة (لايرجون) بأنهم لا يخافون، وقد ورد عن أهل اللغة كذلك(تهذيب اللغة) (11: 182)، ويردُ الإشكال في تفسير الرجاء الذي هو ترقُّب حصول أمر محبوب للنفس، بالخوف الذي هو ضد له.
وتحرير ذلك: أن الرجاء بمعنى الخوف لا يأتي إلا منفيَّاً؛ أي: لا يرجون (انظر: (معاني القرآن)للفرَّاء: 1: 286)، وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف؛ لأن الرجاء أمل قد يُخاف ألاَّ يتم (انظر: (معاني القرآن)للزجَّاج: 2: 100).{جَزَاء وِفَاقاً} [النبأ: 26]، وما قبلها من قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} [النبأ: 21]، وتكون الجمل التي بينهما معترضة، والله أعلم. انظر:(التحرير والتنوير).
(23)أسند الطبري عن عبد الله بن عمرو قال: (لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه: {فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ: 30]، قال: فهم في مزيد من العذاب أبداً).{إِنَّ
يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا
(19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ
كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا
أَحْقَابًا (23) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلا
حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا
يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا
عَذَابًا} الشيخ: يقول الله -جل وعلا-: وقد بين -جل وعلا- في آياتٍ أخرى ما دلت عليه هذه الآية، وأيضاً أكد هذه الآية في آيات أخرى: ثم قال -جل وعلا-:
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} هذا بيان ليوم الفصل وما يكون فيه، فأخبر -جل وعلا- أنه ينفخ فيه في الصور، والنافخ هو إسرافيل عليه السلام، والصور: عبارة عن قرن ينفخ فيه الملك، فإذا نفخ فيه الملك عادت الأرواح إلى الأجساد وقام العباد لله -جل وعلا- وهذه هي النفخة الثانية، النفخة الأولى هي نفخة الصعق والفزع. أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أي ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن ما بين النفختين أربعون، فقيل لأبي هريرة: (أربعون سنة؟ قال: (أَبَيْتُ) قيل: أربعون شهراً، قال: (أبيت) قيل له: أربعين يوماً، قال: (أبيت) فيكون بين النفختين مدة أربعين ثم ينفخ في الصور فيقوم العباد لحشرهم إلى الله -جل وعلا- وهو المراد بهذه الآية. {وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً}وهذا يكون يوم الفصل، فإن السماء تفتح، وفتحها معناه: أن هذه السماء تزول، ويكون نزول الملائكة -عليهم السلام- إلى الأرض. وأخبر -جل وعلا- أن هذه السماء تُفْرَج يوم القيامة، يعني: يكون لها فروج وهو الشقوق؛ كما قال الله -جل وعلا- في المرسلات:
{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ}.
وكل هذه الآيات تدل على معنى واحد: وهذا الزوال لنزول الملائكة؛ لأن الملائكة ينزلون ثم يجيء رب العالمين لفصل القضاء بين العباد، وقد دل على أن الملائكة تنزل: قول الله -جل وعلا- في سورة الفرقان: {يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}السراب: هو ما يراه الإنسان في منتصف النهار ويظن أنه ماء وليس بكذلك، كما قال الله -جل وعلا- في سورة النور: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً
حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ
فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فالجبال يوم القيامة تكون لا شيء، ينظر إليها الناظر يعتقد أنها جبال وهي لا شيء؛ لأن الله -جل وعلا- قد سيرها وفتتها ودكها سبحانه وتعالى، وقد دل على هذه الآية آياتٌ أخرى في كتاب الله:
- كما قال الله -جل وعلا- في سورة الكهف: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً}.
- وفي سورة الطور: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً}.
-وفي سورة التكوير: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}.
والجبال يوم القيامة تكون لها أحوال متعددة، سيأتي بيانها إن شاء الله عند قوله -جل وعلا-: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} في سورة القارعة.
ثم قال الله -جل وعلا-:
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} المرصاد: هو المكان الذي يجلس فيه الرصد وهم المترقبون، فالمكان الذي يجلس فيه الشخص يترقب فيه غيره هذا يسمى المرصاد، ومعنى هذه الآية أن جهنم تكون يوم القيامة ترصد أعداء الله -جل وعلا- كما قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}.
وترقبهم كذلك كما في قوله -جل وعلا-:
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} يعني: أنها ترقب الزيادة وتنتظرها.
أو أن قوله -جل وعلا-:
{مِرْصَاداً} يعني: أن هذه النار عليها ملائكة يرصدون أعداء الله -جل وعلا- ويترقبونهم حتى يوقعوهم فيها.
أو أن قوله:
{مِرْصَاداً} يعني: أن الملائكة تكون على هذه النار يرصدون جميع الخلائق، فمن جاء بجواز من الله -جل وعلا- بمرورها فإنه يمر وإلا هلك فيها، وقد فسرها بذلك جمع من السلف.
ثم قال -جل وعلا-:
{لِلطَّاغِينَ مَآباً}الطاغون هم: الذين تجاوزوا الحد في معصية الله تبارك وتعالى، وقوله: {مَآباً} أي: مرجعاً، يعني: أن الكفار يرجعون إلى هذه النار بعد موتهم ويعذبون فيها، وقد بين الله -جل وعلا- ذلك في آيات أخرى:
- كما قال تعالى في سورة النازعات: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}.
-وقال -جل وعلا- في سورة ص:{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} فأخبر -جل وعلا- أن مرجعهم إلى النار.
ثم قال -جل وعلا-:
{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} لابثين بمعنى: ماكثين، والأحقاب: جمع حُقب،والحقب في لغة العرب هو الدهر، وقد جاء عن بعض السلف أن الحُقب ثمانون سنة، وجاء في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الحُقب بضع وثمانون سنة، وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره، ولكن هذا الحديث حديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً
أورد الحافظ ابن كثير حديثا آخر وهو أن الحقب مقداره ثلاثون ألف ألف سنة،
يعني: ثلاثين مليون سنة؛ لأن الألف ألف: مليون، لكن هذا الحديث حديث منكر
جداً، أنكره العلماء رحمهم الله، والحديث الذي قبله حديث
ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - في تفسير الحقب بأنه بضع وثمانون سنة، هذا حديثٌ منكر جداً، وصفه ابن عدي بأنه: منكر جداً، وحكم عليه الذهبي بأنه حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- أورد هذا الحديث من (مسند البزار) ولم يتعقبه بشيء ونقل كلام البزار على سليمان بن مسلم أحد رواة هذا الحديث وأنه بصري مشهور، والصحيح أنه -كما قال ابن عدي -:
(شبه مجهول، وأن هذا الحديث منكر جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن
الراوي هذا سليمان ليس بمعروف عند أهل العلم، وقد رواه عن أحد الأئمة
المشهورين وهو سليمان التيمي).
والقاعدة أو المعروف عند العلماء: -كما في سورة فاطر: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}.
- وفي سورة سبح: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} إلى غيرها من الآيات الدالة على أنهم يمكثون في النار بدون حد، وأن عذابهم لا ينقطع أبدا كما دلت على ذلك جملة آيات الكتاب العزيز.
ثم قال -جل وعلا-:
{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} بين الله جل وعلا- في هذه الآية أنهم لا يذوقون في هذه النار برداً ولا شرابا، وأخبر -جل وعلا- في
آية الأعراف أنهم يسألون أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء فيمتنعون؛
لأن الله -جل وعلا- قد قضى في سابق علمه أن هذا الماء محرم عليهم كما قال
الله -جل وعلا-: {وَنَادَى
أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} وأخبر
-جل وعلا- في هذه الآية أنهم لا يذوقون في النار إلا حميما يعني: ماءً
حاراً أو شراباً حاراً قد بلغ الغاية في الحرارة، وهذا الحميم يسقونه يوم
القيامة ويتجرعونه، ويصب من فوق رؤوسهم كما أخبر الله -جل وعلا- عن حالهم
في مواضع كثيرة:
-فقال -جل وعلا- في سورةمحمد: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}.
-وقال -جل وعلا- في سورةيونس: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}.
-وقال -جل وعلا- في الواقعة: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}.
- قال -جل وعلا- في الصافات: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} وأما صبه فوق رؤوسهم وتعذيبهم في أبدانهم حتى ينصهر مافي بطونهم ويذوب، ففي قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى
سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ
الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
وفي سورة الحج قول الله -جل وعلا-:
{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (48) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}.
فبينت هذه الآيات أن هذا الحميم يوم القيامة يسقونه ويصب فوق رؤوسهم، أعاذنا الله -جل وعلا- من ذلك.
القارئ:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} يعني:
أن يوم القيامة جعله الله -جل وعلا- وقتاً يجمع فيه الأولين والآخرين، وهو
وقت مؤقت لا يتبدل ولا يتغير ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، كما قال الله -جل
وعلا-: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إلاَّ لأجَلٍ مَعْدُودٍ}.
-قال -جل وعلا- في سورة المرسلات:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ}.
- وقال -جل وعلا- مبيناً أنه يجمع الأولين والآخرين: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
-وأكد الله جل وعلا ذلك في سورة النساء فأقسم عليه فقال سبحانه وتعالى: {اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}.
-وبين -جل وعلا- أن هذا الجمع وعد منه -جل وعلا- لا يمكن أن يتخلف كما قال سبحانه وتعالى في أوائل سورة آل عمران: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
وهذا
اليوم -يوم الفصل- سماه الله -جل وعلا- بهذا الاسم؛ لأن الله -جل وعلا-
يفصل فيه بين الخلائق فيقضي بحكمه وعدله على أهل النار بدخول النار، ويقضي
على أهل الجنة برحمته وفضله بدخولها، وقد بين الله -جل وعلا- هذا المعنى فقال جل وعلا: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.،كما بينه -جل وعلا- في سورة الحج: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
قال بعض العلماء: إن المراد أن كل أمة تقدم ومعها رسولها، وبه فسر قول الله -جل وعلا- في سورة الإسراء: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ...}.
وقد ذكر الله -جل وعلا- هذا النفخ في الصور في مواضع كثيرة من كتابه، كما قال الله -جل وعلا: في سورة الزمر: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}.
-وقال -جل وعلا- في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} يعني: يخرجون من القبور مسرعين إلى الله جل وعلا.
-وقال -جل وعلا- في سورة النازعات:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}.
-وقال -جل وعلا- في أوائل الصافات:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ}.
ثم قال الله -جل وعلا-:
وأخبر -جل وعلا- في آيات كثيرة أن السماء تنفطر وهو معنى هذه الآية التي معنا؛ كما قال الله تعالى:
{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ}.
بذلك تبين أنه لا يصح في تفسير الحقب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء، لكن أكثر العلماء على أن الحقب ثمانون سنة، وقد أخبر الله -جل وعلا- في هذه الآية أنهم يمكثون في النار أحقابا عديدة، وأطلق الله -جل وعلا- في هذه الآية ولم يقيدها بعدد من الأحقاب، لم يقل ثلاثة أحقاب ولا أربعة أحقاب ولاخمسة أحقاب، ومن هنا: استفاد بعض العلماء أن المراد بهذه الآية أنهم خالدون في النار أبدا لا يخرجون منها؛ كما دل على ذلك كتاب الله -جل وعلا- في آيات كثيرة:
- كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً}.
- قال -جل وعلا- في سورة الجن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}.
- وقال -جل وعلا- في البقرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}.
- وقال -جل وعلا- في المائدة: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} في آيات كثيرة يبين الله -جل وعلا- أنهم خالدون مخلدون فيها، فدل ذلك على أن قوله في هذه الآية {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} أي لابثين فيها دهوراً عديدة طويلة، بين الله -جل وعلا- في آيات أخرى أنها لا تنقطع ولا تنقضي بل هم في النار {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} ولا يموتون فيها ولا يحييون، كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في آيات كثيرة:
وقوله -جل وعلا-: {غَسَّاقاً} وقال بعض العلماء: بحيث لا يستطيعون شربه، فهو يجمع بين شيئين نتن الرائحة كما أنه بارد جداً لا يستطيعون أن يشربوه. فأخبر -جل وعلا- أنه يجزيهم على أعمالهم على وفقها؛ لا يظلمهم جل وعلا. وكل ذلك تكذيب بهذا القران العظيم، وهو داخل في هذه الآية: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} يعني:
أن الله -جل وعلا- قد أحصى كل شيء وضبطه من أعمال العباد، فلا ينسى الله
شيئاً، ولا يضل، ولا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، بل هو -جل وعلا- قد
علمها وضبطها وأحصاها، ويقيم -جل وعلا- عليهم الحجة بها، كما قال الله -جل وعلا-: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}وقد أكد الله -جل وعلا- وبين معنى هذه الآية في آيات كثيرة: -وقال -جل وعلا- في سورة ق: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. {يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فكل شيء مضبوط ومحصى بعدد لا يزاد فيه ولا ينقص؛ لأنه محفوظ بعلم الله جل وعلا، ولهذا قال الله تعالى في آخر سورة القمر: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} يعني: أن كل شيءٍ فعلوه فهو مكتوب في صحف الملائكة، وكل شيء فعلوه من صغير أو كبير كذلك فهو مسطور في كتب بني آدم؛ حتى إذا جاء يوم القيامة قال الله -جل وعلا-: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}. {فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} يعني:
أن الله -جل وعلا- لما ذكر في هذه الآية أصنافاً من العذاب، بين بالآية
الأخرى أن هناك أصنافاً من العذاب يعذب بها أعداء الله -جل وعلا- في النار،
وليس معنى ذلك: أن الله تعالى يزيدهم على أعمالهم، أو أنه يعذبهم بشيء لم يقترفوه، هذا ينافي عدل الله جل وعلا. -وقال -جل وعلا-: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}. والأحسن تفسيراً: يعني ذكر أشياء لا حقيقة لها، أو ذكر أشياء هي في نفسها حقيقة ولكن فيها زيادة، بحيث تخرج الكلام عن أن يكون صحيحاً تمام الصحة هذا غلط، ولا يجوز أن يقال في القرآن هذا؛ لأن القرآن {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
الغساق: قال بعض العلماء:
هو ما يجتمع من قيح وصديد أهل النار.
وقد جاء في تفسير الغساق حديثٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا)) وهذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن فيه دراجاً أبا السمح وقد
ضعفه
جمهور العلماء رحمهم الله، فالحديث بهذا ضعيف، ولا يحتمل من دراج مثل هذا
الحديث، وعلى ذلك لا يكون قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير
الغساق شيء، ولكن هذا مستفاد من كلام العلماء.
وقد أكد الله -جل وعلا- هذه الآية في سورة ص فقال -جل وعلا-: {هَذَا
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا
فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}.
ثم قال -جل وعلا-: {جَزَاءً وِفَاقاً} يعني: أن الله جل وعلا جازى أولئك الكفار على وفق أعمالهم؛ لأن الله -جل وعلا- لا يظلم احداً:
- كما قال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ}.
-{وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}.
وأما
الكافرون فمع كفرهم وشركهم بالله -جل وعلا- وطغيانهم وتكبرهم؛ فإن الله -جل
وعلا- بعدله لا يظلمهم ولا يعذبهم بما لم يصنعوه، وإنما يعذبهم على
أعمالهم، والتعذيب على الأعمال هذا من العدل وليس من الظلم في شيء، فقال الله -جل وعلا- في
هذه الآية: {جَزَاءً وِفَاقاً} يعني: موافقا لأعمالهم، لا يزيد رب العالمين الكافرين عذاباً إلا بما قدمته أيديهم، وأما ما لم تفعله أيديهم وتعمله فإن الله -جل وعلا- لا يعذبهم عليه.
ثم قال الله -جل وعلا-: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} يعني:
أن الكفار كانوا لا يؤمنون بيوم البعث والنشور، ولا يظنون أن هناك يوما
يجمعهم الله -جل وعلا- فيه فيحاسبهم على أعمالهم؛ ولهذا كانو يفعلون الشرك
بالله وسيئ الأعمال؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث والنشور كما أخبر الله
-جل وعلا- عنهم في آيات كثيرة كما تقدم، فلكونهم لا يؤمنون بأن هناك جزاءً ولا حساباً كانوا ظالمين طاغين مشركين بالله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} يعني: أن هؤلاء المشركين كانوا يكذبون بآيات الله، والله -جل وعلا- له آيات كونية في مخلوقاته، وله آيات
شرعية وهي هذا القران العظيم الذي يتلى، وبكلا النوعين كذب المشركون، لما
جاءهم -صلى الله عليه وسلم- من عند الله يخبرهم بألوهية الله وبالبعث
والنشور قالوا:
{إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني: إن هذا إلا خرافات من خرافات الأولين لا حقيقة له وإنما هي أساطير تقال هكذا، وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني: أن ما جاء به إنما هو كذب مفترى.
ووصفوه -صلى الله عليه وسلم- بأنه ساحر وشاعر وكاهن، إلى غيرها من أوصاف، ووصفوا ما جاء به -صلى الله عليه وسلم- بأنه سحر.
وأما تكذيبهم بآيات الله الكونية فهو كثير جداً، ولهذا الله -جل وعلا- أمرهم بأن ينظرو فيها، وأن يتفكروا فيها، وأن يعقلوها ويتدبروها، ومن ذلك ما ذكره الله -جل وعلا- في أوائل هذه السورة: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} إلى آخر الآيات؛ لأن تدبر مثل هذه الآيات الكونية والشرعية مما يزيد المؤمن إيمانا بربه -جل وعلا- كما قال الله -جل وعلا- في آخر التوبة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
فآيات الله - وهي القرآن - تزيد المؤمنين إيماناً، والتفكر في آيات الله
الكونية تزيد الناس ايماناً بالله جل وعلا، وإيماناً بعظيم قدرته، وإيماناً
بألوهيته، وإيماناً بقدرته -جل وعلا- على البعث والنشور والجزاء والحساب،
وقد نبه الله -جل وعلا- عباده إلى ذلك في آيات كثيرة من كتابه العظيم.
فكل شيء قد أحصاه الله -جل وعلا
- كما في آخر سورة الجن: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}.
فالله -جل وعلا- قد أحصى أعمال العباد وإن نسوها؛ كما قال تعالى في سورة قد سمع:
وإنما
المراد أن الله لما ذكر في هذه الآية أنواعاً وأصنافاً من العذاب، ذكر أن
للكفار أنواعاً من العذاب أخرى؛ كما قال الله -جل وعلا-: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} وقال الله -جل وعلا- في بيان شيءٍ من أنواع العذاب يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}.
-وقال -جل وعلا-: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}.
فجميع أنواع العذاب التي في القرآن أو ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هي التي أراد الله -جل وعلا- بقوله: {فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} والله تعالى أعلم.
هذا سائل يقول: هل في القرآن مبالغة؟
إن كان يريد (صيغ المبالغة واردة في القرآن) هذه واردة
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} غفار: هذه صيغة مبالغة، فهناك صيغ مبالغة تدل على كثرة الشيء وعلى عظمه وهذه صفات مدح.
أو
تكون أحياناً واردةً في حق المشركين لكثرة إشراكهم بالله -جل وعلا- أو في
العصاة؛ فهذه تكون مبالغة في الذم، قد تكون مبالغة في المدح، وقد تكون
مبالغة في الذم.
وهذه لا تخرج القرآن عن أن يكون حقاً؛ لأن القرآن ألفاظه هي أحسن ما يُدَلُّ به على معاني القرآن؛ كما قال الله -جل وعلا-:
{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}
فالحق: هو المعنى والمدلول من كتاب الله جل وعلا.
هي
كلام الله -جل وعلا- وهذه الألفاظ ألفاظ القرآن هي الأحسن تفسيراً؛ لأنك لا
تستطيع أن تغير كلمةً من كلمات القرآن لتدلل بها على المعنى الذي أراده الله عز وجل.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}.
وإن كان المراد أن تأتي فيه صيغ المبالغة المعروفة عند أهل اللغة فهذا في القرآن موجود، ولكنها في القرآن حق على حقيقتها، الشعراء
والبشر قد يبالغون في وصف الناس، وقد يبالغون في وصف الأشياء، وقد يبالغون
في ذم الناس ويخرجون بها عن الحقيقة، ولهذا وصف الله -جل وعلا- طائفةً
منهم قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}.
فالذين
يقولون الحق بدون مبالغة هؤلاء شعرهم ممدوح، والذين يقولون شيئاً لا
يُفعل، أو شيئاً لا حقيقة له، أو زائداً عن الحقيقة فهذا شيءٌ مذموم،
والقرآن بحمد الله -جل وعلا- ألفاظه مطابقة لمدلولاته ومعانيه.
تفسير قول الله تعالى: ( إن يوم الفصل كان ميقاتاً) تفسير قول الله تعالى: ( وسيرت الجبال فكانت سراباً ) تفسير قول الله تعالى: ( إن جهنم كانت مرصاداً ) ما يدل عليه وصف جهنم بأنها مرصاد تفسير قول الله تعالى: ( لابثين فيها أحقابا )
تفسير قول الله تعالى: ( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً )
تفسير قول الله تعالى: ( وفتحت السماء فكانت أبواباً )
ذكر نظائر هذه الآية في القرآن الكريم
تفسير قول الله تعالى: ( للطاغين مآبا )
حكم الأحاديث التي وردت في تفسير (الأحقاب)
قول الجمهور في تفسير (الحقب)
ما يستفاد من هذه الآية ( لابثين فيها أحقاباً )
تفسير قول الله تعالى: ( لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً )
بيان معنى البرد
تفسير البرد بالنوم والرد عليه
تفسير قول الله تعالى: ( إلا حميماً وغساقاً )
أقوال السلف في معنى الغسَّاق
تفسير قول الله تعالى: ( جزاء وفاقاً )
تفسير قول الله تعالى: ( إنهم كانوا لا يرجون حساباً )
تفسير قول الله تعالى: ( وكذبوا بآياتنا كذابا )
تفسير قول الله تعالى: ( وكل شيء أحصيناه كتاباً)
تفسير قول الله تعالى: ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً )
الأسئلة س1: بين معاني المفردات التالية: ميقاتاً ، الصور ، أفواجاً ، سراباً ، مرصاداً ، لابثين ، أحقاباً ، وفاقاً .
س2:
من أصول المواعظ الربانية: الوعظ باليوم الآخر وما فيه من أهوال عظيمة،
تحدث باختصار عن فوائد هذا الأسلوب الحكيم في حمل النفس الإنسانية على
الاستقامة.
س3: تضمنت هذه الآيات العظيمة جملة من الفوائد السلوكية الجليلة، اذكر ما تعرفه منها.
س4: فسر الآيات التي درستها تفسيراً إجمالياً مختصراً.
س5: اذكر أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: {إلا حميماً وغساقاً}.
س6: اذكر ما يفيده قوله تعالى: {جَزَاء وِفَاقاً} بعد ذكره تعالى لعذاب أهل الجحيم.
س7: ما معنى الرجاء في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} ؟
س8: ورد في الآيات التي درستها آية قال عنها بعض أهل العلم: إنها أشد الآيات في عذاب أهل النار، اذكرها، وبين وجه كونها كذلك.
تفسير ابن كثير
بردت مراشفها عليّ فصدّني ....... عنها وعن قبلاتها البرد
لقد طال ما ثبّطتني عن صحابتي ....... وعن حوجٍ قضّاؤها من شفائيا.