الدروس
course cover
علاج الحُبّ الفاسد، وبيان عشر فوائد لغضّ البصر
14 Feb 2015
14 Feb 2015

4743

0

0

course cover
عشريات ابن القيّم

القسم الأول

علاج الحُبّ الفاسد، وبيان عشر فوائد لغضّ البصر
14 Feb 2015
14 Feb 2015

14 Feb 2015

4743

0

0


0

0

0

0

0

علاج الحُبّ الفاسد، وبيان عشر فوائد لغضّ البصر


قال 
ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي: (فإن قيل: مع هذ كلِّه فهل من دواء لهذا الداء العضال؟ ورقية لهذا السحر القَتَّال؟

وما الاحتيال لدفع هذا الخبال؟
وهل من طريق قاصد الى التوفيق؟
وهل يمكن السكران بخمرة الهوى أن يفيق؟
وهل يملك العاشق قلبه والعشق قد وصل الى سويدائه؟
وهل للطبيب بعد ذلك حيلة في برئه من سوء دائه؟
إن لامه لائم التذَّ بملامه لذكره لمحبوبه، وإن عذله عذل أغراه عذلُه وسار به في طريق مطلوبه؛ ينادي عليه شاهد حاله بلسان مقاله:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متـــــــــــــأخـــــــــــــــــــر عنه ولا متقــــــــــــــــــــــدم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهــــــــــــــــــــــــــــدا ... ما من يهــــــــــــــون عليك مــــمن يكـــــرم
أشهبـــت أعدائي فصــــــــــــــــــــــرت أحبهم ... إذ كان حـــــــــــــــــظي منك حظي منهم
أجد الملامــــــــــــــــــــــــــة في هواك لذيـــــــــذة ... حبا لذكــــــــــــــــــــــــــــرك فليلــــــــــــمني اللوم

ولعل هذا هو المقصود بالسؤال الأول الذي وَقَع عليه الاستفتاءُ، والدَّاء الذي طلب له الدواءِ.
قيل: نعم الجواب من أصله: (( وما أنزل الله سبحانه من داءٍ إلا وأنزل له دواءً علمه من علمه وجهله )) ، والكلام في دواء هذا الداء من طريقين:
أحدهما: حَسْمُ مادَّتهِ قبلَ حصولِها.
والثاني: قَلْعُها بعدَ نزولها.
وكلاهما يسيرٌ على من يسَّرَه الله عليه، ومتعذّر على من لم يعنْه اللهُ؛ فإنَّ أزمّة الأمور بيديه.
وأمَّا الطريقُ المانع من حصول هذا الداء؛ فأمران:
أحدهما: غض البصر كما تقدّم فإنَّ النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ومن أطلق لحظاته دامت حسراته.

وفي غض البصر عدة منافع:

أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى، وما سَعِدَ من سَعِدَ في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره، وما شَقِيَ من شَقِيَ في الدنيا والآخرة إلا بتضييعِ أوامره.
الثاني: أنَّه يمنعُ من وُصولِ أثرِ السمّ المسموم الذي لعلَّ فيه هلاكُه إلى قلبه.
الثالث: أنه يورثُ القلبَ أُنساً بالله وجمعيَّة على الله؛ فإنَّ إطلاقَ البصرِ يفرِّقُ القلب ويشتِّتُه ويبعدِه من الله، وليس على العبد شيء أضرّ من إطلاق البصر؛ فإنه يوقع الوحشة بينَ العبدِ وبينَ ربِّه.
الرابع: أنه يقوّي القلبَ ويفرِحُه كما أنَّ إطلاقَ البصرِ يُضْعِفُه ويحزنُه.
الخامس: أنه يكسب القلب نوراً كما أنَّ إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغضِّ البصر؛ فقال: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} ثم قال إثر ذلك: {الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} أي: مَثَلُ نورِهِ في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان؛ فما شئتَ من بدعة وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة!!
فإنَّ ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب؛ فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبُه كالأعمى الذي يجوسُ في حنادِسِ الظلام.
السادس: أنه يورِثُ الفِرَاسة الصادقةَ التي يميّز بها بين المحقّ والمبطل، والصادق والكاذب، وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول: (مَنْ عَمَرَ ظاهرَه باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصرَه عن المحارم، وكفَّ نفسَه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال: لم تخطئ له فراسة).
وكان شجاعٌ هذا لا تخطئ له فراسة، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن تركَ شيئا عوضه الله خيرا منه، فإذا غضَّ بصره عن محارم الله عوَّضه الله بأن يطلق نور بصيرته؛ فعوَّضَه عن حبسه بصرَه لله، وفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تنالُ ببصيرة القلب.
وضدّ هذا ما وصف الله به اللوطيَّة من العَمَهِ الذي هو ضدُّ البصيرةِ؛ فقال تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} ؛ فوصفهم بالسَّكْرَةِ التي هي فسادُ العقلِ، والعَمَهِ الذي هو فَسَادُ البصرِ؛ فالتعلّق بالصوَرِ يوجب فسادَ العقلِ، وعَمَهُ البصيرةِ يُسْكِرُ القلبَ؛ كما قال القائل:

سُكْرانِ سُكْر هوى وسُكْر مُدَامَةٍ ... ومتى إفاقـــــــــــــــــــــــــــــــة من به سُكـــران

وقال الآخر:

قالوا جُننتَ بمن تهوى فقلت لهــــــــــــــــم ... العشق أعظم مما بالمجــــــــــــــــــانين
العشق لا يستفيق الدهــــــــــــرَ صاحـــــــــــــبُه .. وإنما يصرع المجنون في الحــــين

السابع: أنه يورثُ القلبَ ثباتاً وشجاعةً وقوَّةً، ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة، وسلطان القدرة والقوة؛ كما في الأثر: (الذي يخالف هواه يفر الشيطان من ظله).
ومثل هذا تجد في المتبع هواه من ذلّ النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها، وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه كما قال الحسن: (إنهم وان طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فإنَّ المعصية لا تفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذلَّ من عصاه).
وقد جعل الله سبحانه العزَّ قرين طاعته، والذلَّ قرين معصيته؛ فقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وقال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين}.
والايمان قول وعمل، ظاهر وباطن، وقال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} أي من كان يريد العزة فيطلبها بطاعة الله وذِكْرِه من الكلم الطيب والعمل الصالح، وفي دعاء القنوت: (( إنَّه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت )).
ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العزّ بحسب طاعته، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وله من الذل بحسب معصيته.
الثامن: أنه يسدّ على الشيطان مدخلَهَ من القلب فإنّه يدخلُ مع النظرة وينفذ معها الى القلب أسرع من نفوذ الهواءِ في المكان الخالي؛ فيمثِّلُ له صورةَ المنظورِ إليهِ ويزيّنها ويجعلها صَنَماً يعكف عليه القلب، ثم يَعِدُهُ ويمنّيه ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقى عليه حطبَ المعاصي التي لم يكن يتوصَّل إليها بدون تلك الصورة؛ فيصير القلب في اللهب؛ فَمِنْ ذلك اللهب تلك الأنفاسُ التي يَجِدُ فيها وَهَجَ النار، وتلك الزَفَرَات والحُرُقَات؛ فإنَّ القلبَ قد أحاطت به النيران من كلِّ جانب؛ فهو في وسطها كالشاة في وسط التنّور.
لهذا كانت عقوبة أصحابِ الشهواتِ بالصور المحرَّمَةِ أن جُعِلَ لهم في البرزخ تنّورٌ من نار، وأودعتْ أرواحَهم فيه إلى حَشْرِ أجسادِهم؛ كما أراها الله لنبيّه في المنامِ في الحديثِ المتَّفَق على صحته.
التاسع: أنّه يفرِّغُ القلبَ للفِكْرَةِ في مصالحه والاشتغالِ بها، وإطلاقُ البَصَر يشتِّتُ عليه ذلك، ويحول عليه بينه وبينها؛ فتنفرِطُ عليه أمورُه، ويقعُ في اتِّبَاع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربِّه؛ قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} ، واطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.
العاشر: أن بينَ العينِ والقلبِ منفذاً أو طريقاً يوجب اشتغالَ أحدِهما بالآخر، وأن يصلح بصلاحه، ويفسد بفساده؛ فإذا فسد القلبُ فسدَ النظر، وإذا فَسَدَ النظرُ فَسَدَ القلب، وكذلك في جانب الصلاح؛ فإذا خربت العين وفسدت : خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محلُّ النجاساتِ والقاذوراتِ والأوساخِ؛ فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
فهذه إشارة إلى بعض فوائد غضّ البصر تُطْلِعُكَ على ما وراءها.

فصل:

الثاني: اشتغال القلب بما يصدّه عن ذلك ويحول بينه وبين الوقوع فيه، وهو إما خوفٌ مُقْلِقٌ أو حُبٌّ مزعجٌ؛ فمتى خلا القلبُ من خوفِ ما فواتُه أضرُّ عليه من حصولِ هذا المحبوب، أو خوفِ ما حصولُه أضرُّ عليهِ من فواتِ هذا المحبوب، أو محبَّتِه ما هو أنفعُ له وخيرٌ له من هذا المحبوب، وفواتُه أضرُّ عليه من فواتِ هذا المحبوب: لم يجدْ بُدًّا من عِشْقِ الصُّوَر.
وشرح هذا: أنَّ النفسَ لا تتركُ محبوباً إلا لمحبوبٍ أعلى منه، أو خشيةَ مكروهٍ حصولُه أضرُّ عليهِ من فوات هذا المحبوب، وهذا يحتاجُ صاحبُه إلى أمرين، إن فَقَدَ واحدًا منهما لم ينتفع بنفسه:
أحدهما: بصيرةٌ صحيحةٌ يفرِّقُ بها بينَ درجاتِ المحبوبِ والمكروه؛ فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما، ويحتمل أدنى المكروهين ليتخلَّص من أعلاهما، وهذا خاصَّة العقل، ولا يُعَدُّ عاقلاً من كان بضدّ ذلك، بل قد تكون البهائم أحسن حالا منه.
الثاني: قوَّةُ عزم وصبر يتمكَّنُ بهما من هذا الفعل والترك؛ فكثيراً ما يعرف الرجل قَدْرَ التفاوُتِ، ولكن يأتي له ضعفُ نفسه وهمَّتِه وعزيمتِه على إيثارِ الأنفعِ من خِسَّتِه وحرْصِه ووضاعَةِ نفْسِه وخِسَّةِ هِمَّتِه، ومثل هذا لا ينتفع بنفسِهِ ولا ينتفع به غيرُه.
وقد منعَ اللهُ سبحانَه إمامةَ الدين إلا من أهل الصبرِ واليقين؛ فقال تعالى -وبقولِهِ يهتدِي المهتدُون-: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}
وهذا هو الذي ينتفع بعلمه وينتفع به غيره من الناس، وضدّ ذلك لا ينتفع بعلمه، ولا ينتفع به غيره، ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه ولا ينتفع به غيره:
- فالأوّل يمشي في نوره، ويمشي الناس في نوره.
- والثاني قد طَفِئ نورُه فهو يمشي في الظلمات ومن تَبِعَه.
- والثالث يمشي في نوره وحدَه).