30 Jul 2022
الباب الثاني: في الشهادات
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعريفها، وحكمها، وأدلتها:
1 - تعريفها: الشهادة في اللغة: هي الخبر القاطع، مشتقة من المشاهدة؛ لأن الشاهد يخبر عما شاهده وعاينه.
والمراد بها عند الفقهاء: الإخبار بحق للغير على الغير في مجلس القضاء.
أو: هي الإخبار بما علمه الشاهد بلفظ خاص، وهو: أشهد أو شهدت، أو ما يقوم مقامهما.
2 - حكمها: تحمّل الشهادة في غير حق الله تعالى -يعني في حق الآدميين- فرض على الكفاية، إذا وجد من يقوم بذلك كفى عن الآخرين لحصول الغرض، وإن لم يوجد إلا من يكفي تعيّن عليه؛ لقوله تعالى: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282].
وأما أداؤها وإثباتها عند الحاكم: ففرض عين على من تحملها متى دعي إلى أدائها؛ لقوله تعالى: {ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} [البقرة: 283]، وهذا وعيد شديد لمن كتمها، فدل على فرضية أدائها على من تحملها، متى دعي إلى ذلك.
ويشترط لوجوب تحملها وأدائها: انتفاء الضرر عن الشاهد، فإن كان يلحقه من ذلك ضرر في عرضه أو ماله أو نفسه أو أهله، فلا يجب عليه؛ لقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (لا ضرر ولا ضرار).
3 - أدلة مشروعيتها: دلّ على مشروعية الشهادة الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282]، وقوله تعالى: {وأقيموا الشّهادة للّه} [الطلاق: 2]. وقوله تعالى: {ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} [البقرة: 283].
وقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} [الطلاق: 2]. وقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء} [البقرة: 282].
ومن السنة: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلّى اللّه عليه وسلّم - قال: (شاهداك أو يمينه) ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلّى اللّه عليه وسلّم - قال: (البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر).
وقد أجمع العلماء على مشروعيتها؛ لإثبات الحقوق، ولأن الحاجة داعية إليها.
المسألة الثانية: شروط الشاهد الذي تقبل شهادته:
يشترط فيمن تقبل شهادته الشروط التالية:
1 - الإسلام: فلا تقبل شهادة الكافر؛ لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} [الطلاق: 2]. وقوله عز وجل: {ممّن ترضون من الشّهداء} [البقرة: 282] والكافر ليس بعدل ولا مرضي، وتقبل شهادة الكفار من أهل الكتاب في حال الوصية في السفر لأجل الضرورة، وذلك إذا لم يوجد غيرهم؛ لقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} [المائدة: 106]. قال ابن عباس وجماعة كثيرون في قوله: {أو آخران من غيركم}: من غير المسلمين، يعني أهل الكتاب.
2 - البلوغ والعقل: فلا شهادة لصغير وإن اتصف بالعدالة، لأنه غير كامل العقل، فهو ناقص الأهلية. لكن تقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجروح خاصة، وبخاصة قبل تفرقهم إذا اتفقت كلمتهم. وكذا لا تقبل شهادة المجنون والمعتوه والسكران؛ لأن شهادتهم لا تفيد اليقين الذي يحكم بمقتضاه.
3 - الكلام: فلا تقبل شهادة الأخرس، ولو فهمت إشارته؛ وإنما قبلت إشارته في الأحكام الخاصة به للضرورة. لكن لو أدى الشهادة بخطه كتابة قبلت؛ لدلالة الخط على الألفاظ.
4 - الحفظ والضبط واليقظة: فلا تقبل شهادة المغفل والمعروف بكثرة الخطأ والسهو؛ لعدم حصول الثقة بقوله؛ لاحتمال أن يكون ذلك من غلطه، لكن تقبل ممن يقلّ منه ذلك؛ لأنه لا يسلم منه أحد.
5 - العدالة: فلا تقبل شهادة الفاسق؛ لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} [الطلاق: 2]، والعدل: هو المستقيم في دينه، الذي لم تظهر منه ريبة، ذو المروءة، المؤدي للواجبات والمستحبات، المجتنب للمحرمات والمكروهات.
المسألة الثالثة: الأحكام المتعلقة بالشهادة:
1 - يجب على الشاهد أن يكون على علم بما يشهد به، فلا يجوز له أن يشهد بما لا يعلم، قال الله عز وجل: {ولا تقف ما ليس لك به علمٌ} [الإسراء: 36]. وقال تعالى: {إلّا من شهد بالحقّ وهم يعلمون} [الزخرف: 86] أي: على بصيرة وعلم.
والعلم يحصل بالسماع أو بالرؤية أو بالشهرة والاستفاضة فيما لا يحصل إلا بها غالباً كالنسب والموت.
2 - لا تقبل شهادة الأب لابنه ولا العكس؛ لحصول التهمة، وكذلك أحد الزوجين لصاحبه. وتقبل الشهادة عليهم، فلو شهد على أبيه أو ابنه أو زوجته أو شهدت عليه قبلت؛ لعدم التهمة في ذلك، قال الله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135].
3 - لا تقبل شهادة العدو على عدوه، ولا من يجر إلى نفسه نفعاً بها، أو يدفع بها ضرراً عن نفسه، أما العداوة في الدين فلا تمنع قبول الشهادة، فتقبل شهادة المسلم على الكافر، والسنيّ على المبتدع.
4 - يجب على الشاهد أن يشهد بالحق ولو على أقرب الناس إليه ولا تجوز المحاباة، قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135] أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم.
5 - تقبل الشهادة على الشهادة؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، ولكن بشرط تعذّر شهود الأصل لمرض أو موت أو غيرهما، مع ثبوت عدالة شاهد الأصل والفرع معاً.
6 - لا تقبل شهادة الزور، وهو الكذب، وهي من الكبائر لقوله تعالى: {فاجتنبوا الرّجس من الأوثان واجتنبوا قول الزّور}[الحج: 30]. وقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور. قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) ، ولأن فيها رفعاً للعدل وتحقيقاً للجور والظلم.
7 - لا يجوز للشاهد أخذ الأجرة على أداء الشهادة، لكن لو عجز عن المشي إلى محل أداء الشهادة فله أخذ أجرة الركوب.
8 - عدد الشهود يختلف باختلاف المشهود به: فالزنى واللواط لا يقبل فيهما أقل من أربعة شهود من الرجال؛ لقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور: 13]. أما بقية الحدود كالسرقة والقذف، وكذلك ما ليس بمال ولا يقصد به المال، وكان مما يطلع عليه الرجال في الغالب، كالنكاح والطلاق والرجعة والظهار والنسب والوكالة والوصية ونحو ذلك، فيقبل فيها شاهدان من الرجال. ولا تقبل فيه شهادة النساء، لقوله تعالى في الرجعة: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} [الطلاق: 2]، فيقاس عليه سائر ما ذكر، فإنه ليس بمال ولا يقصد به المال، فأشبه العقوبات.
أما المال وما يقصد به المال، كالبيع والإجارة والأجل والقرض والرهن والوديعة ونحو ذلك من العقود المالية، فيقبل فيه شهادة الرجلين أو الرجل والمرأتين؛ لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء} [البقرة: 282].
ويقبل أيضاً في المال وما يقصد به المال شهادة رجل واحد ويمين المدعي لقضاء النبي بها.
أما ما لا يطلع عليه الرجال في الغالب كعيوب النساء المستورة والثيوبة والبكارة والولادة والرضاع واستهلال المولود ونحو ذلك فتقبل فيه شهادة النساء منفردات، وتكفي امرأة واحدة عدلة.
ومن ادعى الفقر بعد أن كان غنياً، فيشترط لإثبات ذلك شهادة ثلاثة رجال؛ لقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم - في حديث قبيصة بن الخارق فيمن تحل له المسألة: (ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة).
9 - لا يشترط في أداء لفظ الشهادة أن يقول: (أشهد) أو (شهدت)، بل يكفي في ذلك قوله: رأيت كذا وكذا، أو سمعت، أو نحو ذلك؛ لعدم ورود ما يدل على اشتراط ذلك.
وبعد، فهذا ما يسّر الله -سبحانه- جمعه في هذا المختصر، نسأل الله أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به عباده المؤمنين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين). [الفقه الميسر: 422-426]