7 Feb 2015
رابع عشر: كتاب القضاء والشهادات
ويشتمل على بابين:
الباب الأول: في القضاء
وفيه مسائل: المسألة الأولى: في تعريف القضاء، وحكمه، وأدلة مشروعيته: 1 - تعريفه: القضاء في اللغة: الحكم والفصل. وإحكام الشيء والفراغ منه، يقال: قضى يقضي قضاءً إذا حكم وفصل. وفي الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الخصومات، وقطع المنازعات. وسمي القضاء حكما لما فيه من منع الظالم، مأخوذ من الحكمة التي توجب وضع الشيء في موضعه. 2 - حكمه والحكمة منه: القضاء فرض على الكفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإن امتنع كل الصالحين عنه أثموا؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، وهو من القرب العظيمة، ففيه نصرة المظلوم، وإقامة الحدود، وإعطاء كل مستحق حقه، والإصلاح بين الناس، وقطع المخاصمات والمنازعات؛ ليستتب الأمن، ويقل الفساد. لذا يجب على الإمام تعيين القضاة حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة، لئلا تضيع الحقوق ويعم الظلم، وفيه فضيلة عظيمة وأجر كبير لمن دخل فيه، وقام بحقه، وهو من أهله، وفيه إثم عظيم لمن دخل فيه ولم يؤد حقه ولم يكن من أهله. 3 - أدلة مشروعيته: الأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع. فدليل مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {يا داوود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقّ} [ص: 26]. ومن السنة قوله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم واجتهد ثم أخطأ فله أجر). وقد تولى النبي - صلّى اللّه عليه وسلّم - منصب القضاء، ونصّب القضاة، وكذلك فعل أصحابه من بعده والسلف الصالح. أما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاة والحكم بين، الناس. المسألة الثانية: شروط القاضي: يشترط فيمن يتولى القضاء الشروط الآتية: 1 - أن يكون مسلماً؛ لأن الإسلام شرط للعدالة، والكافر ليس بعدل، كما أن تولي الكافر القضاء رفعة له، والمطلوب إذلاله. 2 - أن يكون مكلفاً -أي: بالغاً عاقلاً-؛ لأن الصبي والمجنون غير مكلفين، وتحت ولاية غيرهما. 3 - الحرية؛ لأن الرقيق مشغول بحقوق سيده وليس له ولاية، فليس أهلاً للقضاء، كالمرأة. 4 - الذكورة؛ فلا تتولى المرأة القضاء؛ لأنها ليست من أهل الولاية، قال النبي - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة). 5 - العدالة؛ فلا يولى الفاسق؛ لقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبيّنوا}[الحجرات: 6]. فإذا كان لا يقبل خبره، فعدم قبول حكمه من باب أولى. 6 - السلامة من العاهات المزمنة كالصمم والعمى والخرس، لأنه لا يتمكن مع هذه العاهات من الفصل بين الخصوم، وفي اشتراط البصر نظر. 7 - أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية التي ولي للقضاء بها ولو في مذهبه الذي يقلد فيه إماماً من الأئمة. المسألة الثالثة: آداب القاضي وأخلاقه، وما ينبغي له ومالا ينبغي: 1 - ينبغي أن يكون القاضي قوياً ذا هيبة من غير تكبر ولا عنف، ليناً من غير ضعف؛ لئلا يطمع القوي في باطله، وييئس الضعيف من عدله. 2 - أن يكون حليما متأنياً؛ لئلا يغضب من كلام الخصم فيمنعه الحكم. 3 - أن يكون ذا فطنة ويقظة، لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة. 4 - ينبغي أن يكون القاضي عفيفاً ورعاً، نزيهاً عما حرم الله. 5 - أن يكون قنوعاً صدوقاً، ذا رأي ومشورة. قال علي - رضي الله عنه -: (لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم). 6 - يحرم على القاضي أن يسارّ أحد الخصمين، أو يحابي أحدهما، أو يلقنه حجته، أو يعلمه كيف يدّعي. 7 - يحرم على القاضي أن يقضي وهو غضبان غضباً شديداً؛ لقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (لا يقضي حاكم بين اثنين وهو غضبان). ويقاس على الغضب كل ما يشوش على الفكر من المشكلات والهموم، والجوع والعطش والتعب، والمرض وغيرها. 8 - يحرم على القاضي قبول الرشوة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم) ؛ فالرشوة تمنعه من الحكم بالحق لصاحبه، أو تجعله يحكم بالباطل للمبطل، وكلاهما شر عظيم. 9 - يحرم على القاضي قبول الهدايا من الخصمين أو من أحدهما، ومن كانت له عادة بمهاداته قبل القضاء فلا بأس، بشرط ألا يكون لهذا المهدي خصومة يحكم له فيها. ولو تورع عن ذلك كله لكان أفضل له. فالقاضي ينبغي له أن ينزه نفسه عن جميع ما يؤثر في قضائه وسمعته، حتى البيع والشراء لا ينبغي له أن يبيع ويشتري بنفسه ممن يعرفه، خشية المحاباة؛ فإن المحاباة في البيع والشراء كالهدية. وإنما يتعاطى البيع والشراء بوكيل لا يعرف أنه له. 10 - لا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه ولا لقرابته، ممن لا تقبل شهادته له، ولا يحكم على عدوه، لقيام التهمة في هذه الأحوال. 11 - لا يحكم القاضي بعلمه؛ لأن ذلك يفضي إلى تهمته. 12 - يستحب للقاضي أن يتخذ كاتباً يكتب له الوقائع، وغيره ممن يحتاجه لمساعدته، كالحاجب والمزكي والمترجم وغيرهم، لكثرة انشغاله بأمور الناس فيحتاج من يساعده. 13 - يتعين على القاضي أن يحكم بما في كتاب الله وسنة رسول الله - صلّى اللّه عليه وسلّم -، فإن لم يجد قضى بالإجماع، فإن لم يجد وكان من أهل الاجتهاد اجتهد، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يستفتي في ذلك فيأخذ بفتوى المفتي. 14 - يجب على القاضي العدل بين الخصمين في كل شيء، كتب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى - رضي الله عنه -: (واس بين الناس في وجهك، ومجلسك، وعدلك؛ حتى لا ييئس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك). المسألة الرابعة: طريق الحكم وصفته: يتوصل القاضي إلى الحكم في قضية ما باتباع الخطوات التالية: - إذا حضر عنده الخصمان أجلسهما بين يديه، وسألهما: أيّكما المدّعي؟ أو يسكت حتى يتكلم المدّعي فيستمع دعواه. - فإن جاءت الدعوى على الوجه الصحيح، سأل القاضي المدّعى عليه عن موقفه حيالها، فإن أقرّ بها قضى عليه، وإن أنكر طالب المدعي بالبينة. - فإن كانت للمدعي بينة طالبه بإحضارها، واستمع شهادتها، وحكم بها بشروطها، ولا يحكم بعلمه. - فإن لم يكن للمدّعي بينة أعلمه القاضي أن له اليمين على خصمه؛ لقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم - للحضرمي الذي ادّعى أرضاً غلبه عليها الكندي: (ألك بينة؟) قال: لا. قال: (فلك يمينه) ، ولقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (البينة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه). - فإن قبل المدّعي يمين المدعى عليه، حلفه القاضي وخلّى سبيله؛ لأن الأصل براءة الذمة. - فإن نكل المدّعى عليه عن اليمين وأبى أن يحلف، قضى عليه الحاكم بالنكول، فالنكول -يعني: الامتناع- قرينة ظاهرة دالة على صدق المدّعي، وقد حكم بالنكول عثمان - صلّى اللّه عليه وسلّم - وجماعة من أهل العلم. وذهب جماعة آخرون إلى أن اليمين ترد على المدعي إذا نكل المدعى عليه، فيحلف، ويستحق، ولا سيما إذا قوي جانبه. - فإذا حلف المدعى عليه وخلّى الحاكم سبيله، فأحضر المدّعي بينة بعد ذلك حكم له بها؛ لأن يمين المنكر لا تزيل الحق، وإنما هي مزيلة للخصومة). [الفقه الميسر: 417-421]