7 Feb 2015
عاشراً: كتاب الجنايات
ويشتمل على ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في الجنايات
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الجناية وأقسامها:
أ- تعريف الجناية:
الجناية جمعها جنايات، وهي
لغة: التعدي على بدن أو مال أو عرض، وقد جعل الفقهاء كتاب الجنايات خاصاً
بالتّعدي على البدن، وكتاب الحدود خاصاً بالتعدي على المال والعرض.
فالجناية شرعاً: التعدّي على البدن بما يوجب قصاصاً، أو مالاً، أو كفارة.
ب- أقسام الجناية: تنقسم الجناية إلى قسمين:
1 - جناية على النفس.
2 - جناية على ما دون النفس.
المسألة الثانية: الجناية على النفس:
وهي كل فعل يؤدي إلى زهوق النفس، وهي القتل. وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق؛ لقوله تعالى: {ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ} [الإسراء: 33]. ولحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى اللّه عليه وسلّم -:
(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى
ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة). فتحريم القتل بغير حق ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع.
حكم قاتل النفس بغير حق:
إذا قتل شخص شخصاً متعمداً بغير حق فحكمه أنه فاسق؛
لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب، وقد عظّم الله شأن القتل، فقال سبحانه: {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا} [المائدة: 32]. وقال - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). وقد توعده الله سبحانه، فقال: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها…} [النساء: 93]. وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لقوله تعالى: {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. فهو داخل تحت المشيئة؛ لأن ذنبه دون الشرك. هذا إن لم يتب، أما إذا تاب فتوبته مقبولة؛ لقوله عز وجل: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعًا إنّه هو الغفور الرّحيم} [الزمر: 53] ولكن لا يسقط حق المقتول في الآخرة بمجرد توبة القاتل.
المسألة الثالثة: أنواع القتل:
ينقسم القتل إلى ثلاثة أقسام: القتل العمد، وشبه العمد، والخطأ.
والخطأ والعمد ورد ذكرهما في قوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنًا إلّا خطأً ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله إلّا أن يصّدّقوا} [النساء: 92]. وقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93].
وأما شبه العمد: فثبت في السنة المطهرة أن النبي - صلّى اللّه عليه وسلّم - قال: (عقل شبه العمد مغلظ، مثل عقل العمد).
وإلى تفصيل القول في هذه الأقسام الثلاثة:
القسم الأول: قتل العمد:
حقيقته: أن يقصد القاتل
آدمياً معصوماً، فيقتله بما يغلب على الظن موته به. فعلى هذا لابد من توافر
ثلاثة شروط، حتى يكون القتل عمداً:
1 - وجود القصد من القاتل، وهو إرادة القتل.
2 - أن يعلم أن الشخص الذي قصد قتله آدمي معصوم الدم.
3 - أن تكون الآلة التي قتله بها مما تصلح أن تكون للقتل عادة، سواء أكانت محددة أم غير محددة.
فإن اختل شرط من هذه الشروط لم يكن القتل عمداً.
• صور القتل العمد:
1 - أن يضربه بمحدّد، وهو ما يقطع ويدخل في البدن؛ كالسيف والسكين والرمح وما في معناها.
2 -
أن يقتله بمثقّل كبير، كالحجر الكبير والمطرقة ونحوها؛ لحديث أنس بن مالك -
رضي الله عنه - أن جارية وجد رأسها قد رضّ بين حجرين. فسألوها: من صنع هذا
بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهودياً، فأومت برأسها، فأخذ اليهودي، فأقرّ،
فأمر به رسول الله - صلّى اللّه عليه وسلّم - أن يرض رأسه بالحجارة.
3 - أن يمنع خروج نفسه، كأن يخنقه بحبل ونحوه، أو يسد فمه، وأنفه، حتى يموت.
4 - أن يسقيه سمًّا لا يعلم به، أو يطعمه شيئاً قاتلاً، فيموت به.
5 - أن يلقيه في مهلكة يكثر فيها السباع، أو ينعدم فيها الماء.
6 - أن يلقيه في ماء يغرقه، أو نار تحرقه، ولا يمكنه التخلص منهما.
7 - أن يحبسه، ويمنع عنه الطعام والشراب زمناً يموت فيه غالباً، فيموت بذلك جوعاً أو عطشاً.
8 - أن يلقيه إلى حيوان مفترس كأسد، أو حية قاتلة، فيموت من ذلك.
9 -
أن يتسبب في قتله بما يقتل غالباً، كأن يشهد عليه بما يوجب قتله من زنى،
أو ردة، أو قتل، فيقتل، ثم يرجع الشهود عن شهادتهم ويقولون: تعمدنا قتله،
فيقتلون به.
• حكم قتل العمد:
لقتل العمد حكمان:
1 - حكم أخروي: وهو تحريم القتل، ولفاعله الإثم العظيم، والعذاب الأليم، إن لم يتب، أو يعفو الله عنه؛ لقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93].
2 - حكم دنيوي: فيترتب على قتل العمد القصاص إن لم يعف أولياء المقتول؛ لقوله تعالى: {يا
أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد
بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ
إليه بإحسانٍ} [البقرة: 178]، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يعفو وإما أن يقتل) وفي
رواية: (إما أن يقاد وإما أن يفدى). فولي الدم مخير بين القصاص، أو العفو
بلا مقابل، أو أخذ الدية وهي بدل عن القصاص وله الصلح على أكثر منها. قال
الموفق: لا أعلم فيه خلافاً؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً:
(من قتل عمداً دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا
الدية، وهي ثلاثون حقّةً وثلاثون جذعةً وأربعون خلفةً، وما صولحوا عليه فهو
لهم وذلك تشديد العقل). وعفوه بلا مقابل أفضل؛ لقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتّقوى} [البقرة: 237].
• شروط القصاص في النفس: يستحق ولي القتيل القصاص بشروط أربعة:
1 -
أن يكون القاتل مكلفاً، وهو البالغ العاقل. فلا قصاص على الصغير والمجنون
والمعتوه والنائم، لقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (رفع القلم عن ثلاثة:
عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) ، ولأن
هؤلاء ليس لهم قصد صحيح، أو لعدم وجود القصد منهم.
2 -
أن يكون المقتول معصوم الدم؛ لأن القصاص شرع لحقن الدماء، ومهدر الدم غير
محقون، فلو قتل مسلم كافراً حربياً، أو مرتداً قبل توبته، أو زانياً
محصناً، فلا قصاص عليه، ولا دية، لكنه يعزر لتعدّيه على الحاكم.
3 -
التكافؤ بين القاتل والمقتول، فيساويه في الحرية والدين والرق، فلا يقتل
مسلم بكافر، ولو كان المسلم عبداً والكافر حراً؛ لقوله - صلّى اللّه عليه
وسلّم -: (لا يقتل مسلم بكافر). ولا يقتل حر بعبد؛ لقوله تعالى: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد} [البقرة: 178]
وما سوى ذلك فلا يؤثر التفاضل في شيء منها في القصاص، فيقتل الشريف
بالوضيع، والذكر بالأنثى، والصحيح بالمجنون والمعتوه؛ لعموم قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} [المائدة: 45].
4 - عدم
الولادة، فلا يكون المقتول ولداً للقاتل ولا لولده وإن سفل، فلا يقتل أحد
الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل، لقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (لا يقتل والد بولده).
ويقتل الولد بكل من الأبوين؛ لعموم قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178].
• الحكمة من القصاص:
شرع الله سبحانه القصاص؛
رحمة بالناس، وحفظاً لدمائهم، وزجراً عن العدوان، وإذاقة للجاني ما أذاقه
لغيره، وفيه إذهاب لحرارة الغيظ من قلوب أولياء المجني عليه، وفيه حياة
للناس، وبقاء للنوع الإنساني، كما قال سبحانه: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب}[البقرة: 179].
• شروط استيفاء القصاص:
إذا توافرت شروط استحقاق القصاص ووجوبه، فإنه لا يستوفى من الجاني ولا توقع العقوبة عليه إلا بشروط ثلاثة، وهي:
1 -
أن يكون مستحق القصاص مكلفاً -بالغاً عاقلاً- فإن كان مستحقه -أو بعضهم-
صبياً أو مجنوناً، لم ينب عنهما غيرهما في استيفائه، وإنما يحبس الجاني إلى
حين بلوغ الصغير، وإفاقة المجنون. وقد فعله معاوية - رضي الله عنه -
وأقرّه الصحابة، فكان كالإجماع منهم.
2 - اتفاق
أولياء الدم المستحقين للقصاص جميعاً على استيفائه، وليس لبعضهم الانفراد
به، لئلا يكون مستوفياً لحق غيره بغير إذنه، فينتظر قدوم الغائب، وبلوغ
الصغير، وإفاقة المجنون، ومن مات من مستحقي القصاص قام وارثه مقامه. وان
عفا بعض مستحقي القصاص سقط القصاص.
3 - أن يؤمن عدم تعدي القصاص إلى غير الجاني؛ لقوله تعالى: {فلا يسرف في القتل} [الإسراء: 33].
فإن وجب القصاص على حامل لا تقتل حتى تضع حملها؛ لأن قتلها يتعدى إلى
الجنين. فإن وضعت ما في بطنها: فإن وجد من يقوم مقامها في إرضاع الولد أقيم
عليها الحدّ، وإن لم يوجد تركت حتى تفطمه لحولين؛ لقوله - صلّى اللّه عليه
وسلّم - في حديث الغامدية: (إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه) فقام رجل من الأنصار فقال: إليّ رضاعه يا نبي الله! فرجمها.
• من أحكام القصاص:
1 - ينفذ
القصاص بحضور الحاكم -الإمام- أو نائبه، فهو الذي يقيمه ويأذن فيه؛ ليمنع
من الجور فيه، ولإقامته على الوجه الشرعي، ودرءاً للفساد والتخريب والفوضى.
2 - الأصل أن يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه؛ لقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126].
ولأن النبي - صلّى اللّه عليه وسلّم - رضّ رأس اليهودي الذي قتل الجارية
بين حجرين، كما فعل بها. وكذا إن قطع يديه، ثم قتله، فعل به ذلك.
3 - لا بد أن تكون الآلة التي ينفذ بها القصاص ماضية، كسيف وسكين ونحوه؛ لقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم -: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة).
4 - إن كان ولي المقتول يحسن الاستيفاء على الوجه الشرعي، مكّنه الحاكم من ذلك، وإلا أمره أن يوكل من يقتص له، ممن يحسن ذلك.
القسم الثاني: قتل شبه العمد:
حقيقته: أن يقصد الاعتداء
على شخص بما لا يقتل غالباً، فيموت المجني عليه، ويسمى أيضاً خطأ العمد،
فهو يشبه العمد من جهة قصد ضربه، ويشبه الخطأ من جهة ضربه بما لم يقصد به
القتل، فلذلك كان حكمه متردداً بين العمد والخطأ. وسواء في ذلك قصد العدوان
عليه أو تأديبه.
• من صور قتل شبه العمد وأمثلته:
1 -
أن يضربه في غير مقتل بسوط أو حجر صغير أو عصا صغيرة، أو يلكمه أو يلكزه
في غير مقتل فيموت. واللّكم: الضرب بجمع الكف، واللّكز: الضرب بجمع الكف في
الصدر.
2 - أن يربطه ويلقيه إلى جانب ماء قد يزيد وقد لا يزيد، فيزيد الماء، ويموت منه، وكذا لو ألقاه في ماء قليل لا يغرق مثله فغرق.
3 - أن يصيح بعاقل في حال غفلته فيموت، أو يصيح بصغير، أو معتوه، على سطح، فيسقط، فيموت.
• حكم قتل شبه العمد:
لقتل شبه العمد حكمان:
1 - حكم أخروي: وهو الحرمة والإثم والعقاب في الآخرة؛ لأنه تسبب بفعله في قتل معصوم الدم، إلا أن عقابه دون قتل العمد.
2 - حكم دنيوي:
فيترتب عليه الدية مغلظة، ولا يترتب عليه قصاص كالعمد وإن طالب به ولي
الدم، وتجب الكفارة في مال الجاني، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين
متتابعين. وتثبت الدية لولي الدم على عاقلة القاتل مؤجلة في ثلاث سنوات؛
لحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلّى اللّه عليه
وسلّم - قال: (عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه) ، وحديث
المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: (ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاط،
وهي حبلى فقتلتها، فجعل رسول الله - صلّى اللّه عليه وسلّم - دية المقتولة
على عصبة القاتلة).
القسم الثالث: قتل الخطأ:
حقيقته: أن يقتل شخصاً من غير قصد لقتله.
• أنواع قتل الخطأ:
1 -
الخطأ في الفعل، وهو: أن يفعل ما يجوز له فعله فيصيب آدمياً معصوماً لم
يقصده، كأن يرمي صيداً، فيصيب إنساناً فيقتله، أو ينقلب وهو نائم على إنسان
فيموت.
2 - الخطأ في القصد، كأن يرمي ما يظنه مباحاً فيتبين آدمياً، كما لو رمى شيئاً يظنه صيداً، فيتبين آدمياً معصوماً.
3 - أن يكون القاتل عمداً صغيراً أو مجنوناً، فعمد الصبي والمجنون يجري مجرى الخطأ؛ لأنهما ليس لهما قصد.
ويلحق بقتل الخطأ: القتل بالتسبب، كما لو حفر بئراً، أو حفرة في طريق، فتلف بسبب ذلك إنسان.
• حكم قتل الخطأ:
لهذا القتل حكمان:
1 - حكم أخروي: وهو عدم الإثم والعقاب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلّى اللّه عليه وسلّم - قال: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه).
2 - حكم دنيوي: وهو وجوب الدية على عاقلة القاتل مؤجلة ثلاث سنين ومخففة في خمسة أنواع من الإبل؛ لقوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنًا إلّا خطأً ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله إلّا أن يصّدّقوا} [النساء: 92]، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (قضى
رسول الله - صلّى اللّه عليه وسلّم - في جنين امرأة من بني لحيان سقط
ميتاً بغرّةٍ: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت ،
فقضى رسول الله - صلّى اللّه عليه وسلّم - أن ميراثها لزوجها، وبنيها، وأن
العقل على عصبتها).
وتجب على من قتل خطأً مع الدية كفارة وهي كالآتي:
1 - عتق رقبة مؤمنة: وهذا إذا كان يستطيع العتق، ويشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة سليمة من العيوب؛ لقوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنًا إلّا خطأً ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبةٍ} [النساء: 92]. فإن لم يتمكن من العتق؛ لفقره أو لعدم وجود الرقيق، فإنه ينتقل إلى:
2 - صوم شهرين متتابعين إن كان يستطيع؛ لقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبةً من اللّه} [النساء: 92].
فإن عجز عن الصوم لمرض أو كبر سن بقيت الكفارة متعلقة في ذمته، ولا يجزئ
عنه الإطعام؛ لأن الله تعالى لم يذكره، والأبدال في الكفارة تتوقف على النص
دون القياس.
المسألة الرابعة: الجناية على ما دون النفس:
وهي كل أذى يقع على
الإنسان مما لا يودي بحياته، من الجراح وقطع الأعضاء ونحو ذلك، ويجب في ذلك
القصاص لثبوت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاصٌ} [المائدة: 45].
وأما السنة: فقوله - صلّى اللّه عليه وسلّم - في قصة كسر الرّبيّع ثنية جارية: (كتاب الله القصاص). وأجمع العلماء على وجوب القصاص فيما دون النفس، إن أمكن.
وهي ثلاثة أنواع:
1 - الجناية بالجرح.
2 - قطع طرف.
3 - إبطال منفعة عضو.
النوع الأول: الجناية بالجرح:
وهذه الجناية تنقسم إلى قسمين:
أ- الجراح الواقعة على الوجه والرأس وتسمى الشجاج، جمع شجة.
ب- الجراحات في سائر البدن، وتسمى جرحاً، لا شجة.
القسم الأول: الجراحات الواقعة في الرأس والوجه، وهي عشرة أنواع:
1 - الحارصة، وهي التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلاً، ولا تدميه، كالخدش، وتسمى القاشرة والمليطاء، من الحرص، وهو الشقّ.
2 - الدامية، وهي التي تدمي موضعها من الشق (تدمي الجلد) فيخرج منها دم يسير، وتسمى البازلة والدامعة، تشبيها بخروج الدمع من العين.
3 - الباضعة، وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي تشقه شقاً خفيفاً، ولا تبلغ العظم.
4 - المتلاحمة، وهي التي تغوص في اللحم، ولا تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم.
5 - السّمحاق، وهي التي تبلغ الجلدة الرقيقة بين اللحم والعظم من الرأس، سميت الجراحة باسمها.
وهذه الخمس ليس فيها قصاص
ولا دية، وإنما يجب فيها حكومة، والحكومة هي أن يقوّم المجني عليه قبل
الجناية كأنه عبد، ثم يقوّم، وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة، فللمجني
عليه مثل نسبته من الدية.
6 - الموضّحة، وهي التي تخرق السمحاق وتوضح العظم أي تكشفه، وفيها خمس من الإبل، نصف عشر الدية.
7 - الهاشمة، وهي التي توضح العظم وتهشمه أي تكسره، وفيها عشر من الإبل.
8 - المنقّلة، وهي التي تنقل العظم من موضع لآخر، سواء أوضحته، وهشمته، أو لا، وفيها خمس عشرة من الإبل.
9 - المأمومة، وهي التي تبلغ أم الدماغ أي: جلدة الدماغ المحيطة به، ويقال لها الآمّة، وفيها ثلث دية النفس.
10 - الدامغة، وهي التي تخرق جلدة الدماغ، وتصل إليه، وفيها ثلث دية النفس أيضاً.
ويضاف إلى ذلك الجائفة،
وهي التي تصل إلى باطن الجوف، مما لا يظهر للرائي، كداخل بطن، وداخل ظهر،
وصدر، وحلق، ومثانة، وهذه ليست من الشجاج، لأنها ليست في الرأس أو الوجه،
إلا أنهم يذكرونها تبعاً بجامع التقدير فيها، وفيها ثلث دية النفس.
ودليل هذه الجراح:
1 -
حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده - رضي الله عنه -: أن
النبي - صلّى اللّه عليه وسلّم - كتب إلى أهل اليمن كتاباً، وذكر فيه: (وفي المأمومة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل ... وفي الموضحة خمس من الإبل).
2 - إجماع العلماء على أن دية المنقلة خمس عشرة من الإبل.
3 - اتفاق العلماء على أن في الجائفة ثلث الدية؛ لما في حديث عمرو بن حزم: (وفي الجائفة ثلث الدية).
4 - أثر زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنه قضى في الهاشمة عشر من الإبل ، ولم يعرف له مخالف.
5 - ولما جاء في كتاب عمرو بن حزم السابق أن في المأمومة ثلث الدية، والدامغة أبلغ منها، فهي أولى منها بأن تكون فيها ثلث الدية.
وهذه الشجاج لا يجب القصاص
فيها، إلا في الموضحة فقط لتيسر ضبطها واستيفاء مثلها، بخلاف ما عداها،
فإنه لا يؤمن فيها الزيادة والنقص في طول الجراحة وعرضها، ولا يوثق
باستيفاء المثل.
القسم الثاني: الجراحات في سائر البدن:
وهذه الجراحات تختلف
باختلاف النوع، فما لا قصاص فيه إذا كان في الرأس أو الوجه فلا قصاص فيه
أيضاً، إذا كان في سائر البدن، إلا الموضحة التي تقطع جزءاً من أجزاء
البدن، كالصدر والعنق.
النوع الثاني: قطع الطرف:
تنقسم هذه الجنايه إلى ثلاثة أقسام:
1 - عمد.
2 - شبه عمد.
3 - خطأ.
ولا يجب القصاص في الخطأ وشبه العمد، وإنما يجب في العمد كالقتل بشروط ثلاثة:
1 - إمكان
الاستيفاء بلا حيف، وذلك بأن يكون القطع من مفصل، أو له حد ينتهي إليه
كالأنامل، والكوع، والمرفق. فلا قصاص في جراحة لا تنتهي إلى حد كالجائفة،
ولا قصاص في كسر عظم غير السن، كعظم الفخذ والذراع والساق.
2 - التماثل بين عضوي الجاني والمجني عليه في الاسم والموضع، فلا تؤخذ يمين بيسار، ولا خنصر ببنصر، ولا عضو أصلي بزائد.
3 - استواء العضوين من الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال، فلا تؤخذ صحيحة بشلاء، ولا كاملة الأصابع بناقصتها، وهكذا.
النوع الثالث: إبطال منفعة عضو:
إذا أبطل الجاني منفعة عضو المجني عليه فإنه لا قصاص عليه؛ لعدم إمكان الاستيفاء بلا حيف، وعليه في ذلك دية نفس كاملة.
ومن نقصت منفعة عضوه، فإن
عرف قدره وجب له من الدية قسط الذاهب، كنصف الدية أو ربعها مثلاً، إذا كان
الذاهب نصف المنفعة أو ربعها، وهكذا.
وان لم يمكن معرفة قدر الذاهب من المنفعة، وجبت حكومة، يقدرها الحاكم باجتهاده.
ومن المنافع: إزالة العقل
والسمع والبصر، وإبطال الشم، وذهاب النطق والصوت والذوق، وزوال المضغ وزوال
الإمناء، وإبطال قوة الإحبال، وغير ذلك). [الفقه الميسر: 341-353]