10 Nov 2008
الباب الثالث: في التقديم والتأخير
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (من
المعلومِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ النطْقُ بأجزاءِ الكلامِ دُفعةً واحدةً، بلْ
لا بدَّ منْ تقديمِ بعضِ الأجزاءِ وتأخيرِ البعضِ، وليسَ شيءٌ منها في
نفسِه أَوْلَى بالتقدُّمِ من الآخَرِ؛ لاشتراكِ جميعِ الألفاظِ من حيثُ هيَ
ألفاظٌ في درجةِ الاعتبارِ، فلا بدَّ منْ تقديمِ هذا على ذاك منْ داعٍ
يُوجِبُه. فمِنَ الدواعي:
1- التشويقُ إلى المتأخِّرِ إذا كان المتقدِّمُ مُشعِرًا بغَرابةٍ، نحوُ:
والذي حَارتِ البَرِيَّةُ فيه ...... حيوانٌ مستَحْدَثٌ منْ جَمادِ
2- وتعجيلُ الْمَسرَّةِ أو المساءةِ، نحوُ: (العفوُ عنكَ صدَرَ بهِ الأمرُ)، أوْ (القِصاصُ حَكَمَ بهِ القاضي). 3- وكونُ المتقدِّمِ مَحَطَّ الإنكارِ والتعجُّبِ، نحوُ: (أَبَعْدَ طولِ التجْرِبةِ تَنخدِعُ بهذه الزَّخارفِ). 4- وسلوكُ سبيلِ التَّرَقِّي، أي الإتيانُ
بالعامِّ أوَّلًا ثمَّ الخاصِّ بعدَهُ؛ لأنَّ العامَّ إذا ذُكِرَ بعدَ
الخاصِّ لا يكونُ لهُ فائدةٌ، نحوُ: هذا الكلامُ صحيحٌ فَصِيحٌ بليغٌ. فإذا
قُلْتَ: فصيحٌ بليغٌ، لا تَحتاجُ إلى ذكْرِ صحيحٌ. وإذا قُلْتَ: بليغٌ، لا
تَحتاجُ إلى ذكْرِ صحيحٌ ولا فصيحٌ. 5- ومُراعاةُ الترتيبِ الوُجوديِّ، نحوُ: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}. 6- والنصُّ على عمومِ السلْبِ، أوْ سلْبِ العمومِ. فالأوَّلُ يكونُ بتقديمِ أداةِ العمومِ على أداةِ النفيِ، نحوُ: (كلُّ ذلكَ لم يكُنْ)، أيْ: لم يَقَعْ هذا ولا ذاكَ. والثاني يكونُ بتقديمِ أداةِ النفيِ على أداةِ العمومِ، نحوُ: (لم يكُنْ كلُّ ذلكَ)، أيْ: لم يَقَع المجموعُ، فيُحْتَمَلُ ثبوتُ البعضِ، ويُحتمَلُ نفيُ كلِّ فرْدٍ. 7- وتَقويةُ الحكْمِ إذا كانَ الخبَرُ فِعْلًا، نحوَ: الهلالُ ظَهَرَ. وذلكَ لتَكرارِ الإسنادِ. 8- والتخصيصُ، نحوَ: (ما أنا قلتُ)، و{إيَّاكَ نَعبُدُ}. 9- والمحافظةُ على وَزْنٍ أوْ سَجْعٍ، فالأوَّلُ نحوَ: إذا نَطَقَ السَّفيهُ فلا تُجِبْهُ ...... فخَيْرٌ مِنْ إجابتِهِ السكوتُ والثاني، نحوُ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}. ولَمْ
يُذْكَرْ لكلٍّ من التقديمِ والتأخيرِ دواعٍ خاصَّةٌ؛ لأنَّهُ إذا
تَقدَّمَ أحَدُ رُكْنَي الجملةِ تَأَخَّرَ الآخرُ، فهما متلازمانِ).
الحواشي النقية للشيخ: محمد علي بن حسين المالكي
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): ( (البابُ الثالثُ – في التقديمِ والتأخيرِ)
من المعلومِ أنَّهُ لا يمكنُ النطْقُ بأجزاءِ الكلامِ دُفْعَةً واحدةً، بل
لا بُدَّ من تقديمِ بعضِ الأجزاءِ وتأخيرِ البعضِ، وليس شيءٌ منها في
نفسِهِ أَوْلَى بالتقدُّمِ من الآخَرِ(1)؛ لاشتراكِ جميعِ الألفاظِ من حيثُ
هي ألفاظٌ في درجةِ الاعتبارِ، فلا بدَّ لتقديمِ هذا على ذلك من داعٍ
يُوجِبُهُ. فمِنَ الدَّوَاعِي:
1- التشويقُ إلى المتأخِّرِ إذا كان المتقدِّمُ مُشْعِرًا بغرابةٍ، نحوُ:
والذِي حَـارتِ البَرِيَّـةُ فيـهِ(2) ....... حيوانٌ(3) مُسْتَحْدَثٌ مـن جَمـادِ(4)
2- وتَعجيلُ المسرَّةِ أو المُساءَةِ، نحوُ: العفوُ عنكَ صَدَرَ بهِ الأمْرُ، أو القِصاصُ حَكَمَ بهِ القاضي.
3- وكَوْنُ المتقدَّمِ مَحَطَّ الإنكارِ والتعجُّبِ، نحوُ: أبَعْدَ طُولِ التجرِبةِ تَنخَدِعُ بهذهِ الزخارفِ؟
4- والنصُّ على عمومِ السلْبِ أو سلْبِ العُمومِ، فالأوَّلُ يكونُ
بتقديمِ أداةِ العمومِ على أداةِ النفيِ، نحوُ: كلُّ ذلكَ لم يكُنْ، أي لم
يَقَعْ هذا ولا ذاكَ، والثاني يكونُ بتقديمِ أداةِ النفيِ على أداةِ
العمومِ، نحوُ: لم يكنْ كلُّ ذلكَ، أي لم يَقَع المجموعُ، فيَحتَمِلُ ثبوتَ
البعضِ، ويَحتمِلُ نفيَ كلِّ فردٍ.
5- والتخصيصُ، نحوُ: ما أنا قلتُ – وإيَّاكَ نَعبُدُ.
ولم يُذْكَرْ لكلٍّ من التقديمِ والتأخيرِ دواعٍ خاصَّةٍ؛ لأنَّهُ إذا
تَقدَّمَ أحدُ رُكْنَي الجملةِ تَأخَّرَ الآخَرُ، فهما متلازمانِ).
___________________
قال الشيخ محمد علي بن حسين بن إبراهيم المالكي (ت: 1368هـ): ( (1) قولُه: (أَوْلَى بالتقَدُّمِ من الآخَرِ)، هذا بعدَ مُراعاةِ ما تَجِبُ له الصدارةُ كألفاظِ الشرْطِ وألفاظِ الاستفهامِ.
(2) قولُه: (حارَتِ البَرِيَّةُ فيه)، أي: اخْتَلَفَت الخلائِقُ في أنه يُعادُ أو لا يُعادُ، بدليلِ ما قبلَه وهو:
بان أمْرُ الإلهِ واختلَفَ النا * سُ فداعٍ إلى ضلالٍ وهادِي
(3) وقوله: ( حيوانٌ)، أي: مَعادُ حيوانٍ.
(4) قولُه: (مستحْدَثٌ من جَمادِ)، أرادَ
بالجمادِ إمَّا النُّطفةَ بِناءً على أنه ما ليس بحيوانٍ وإن انفَصَلَ عنه،
وإمَّا طينةَ آدمَ الذي هو أصلُه بِناءً على أنَّه ما ليسَ بحيوانٍ ولا
منْفَصِلٍ عنه، وإمَّا الترابَ الذي تَنْبُتُ منه الأجسامُ الخارجةُ من
القبورِ).
دروسُ البلاغةِ الصُّغْرى
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (البابُ الثالثُ: في التقديمِ والتأخيرِ
من
المعلومِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ النطْقُ بأجزاءِ الكلامِ دُفعةً واحدةً، بلْ
لا بدَّ منْ تقديمِ بعضِ الأجزاءِ وتأخيرِ البعضِ، وليسَ شيءٌ منها في
نفسِه أَوْلَى بالتقدُّمِ من الآخَرِ؛ لاشتراكِ جميعِ الألفاظِ من حيثُ هيَ
ألفاظٌ في درجةِ الاعتبارِ، فلا بدَّ منْ تقديمِ هذا على ذاك منْ داعٍ
يُوجِبُه. فمِنَ الدواعي:
1- التشويقُ إلى المتأخِّرِ إذا كان المتقدِّمُ مُشعِرًا بغَرابةٍ، نحوُ:
والذي حَارتِ البَرِيَّةُ فيه..... حيوانٌ مستَحْدَثٌ منْ جَمادِ
2- وتعجيلُ الْمَسرَّةِ أو المساءةِ، نحوَ: (العفوُ عنكَ صدَرَ بهِ الأمرُ)، أوْ (القِصاصُ حَكَمَ بهِ القاضي).
3- وكونُ المتقدِّمِ مَحَطَّ الإنكارِ والتعجُّبِ، نحوُ: (أَبَعْدَ طولِ التجْرِبةِ تَنخدِعُ بهذه الزَّخارفِ).
6- والنصُّ على عمومِ السلْبِ، أوْ سلْبِ العمومِ.
فالأوَّلُ يكونُ بتقديمِ أداةِ العمومِ على أداةِ النفيِ، نحوُ: (كلُّ ذلكَ لم يكُنْ)، أيْ: لم يَقَعْ هذا ولا ذاكَ.
والثاني: يكونُ بتقديمِ أداةِ النفيِ على أداةِ العمومِ، نحوُ: (لم يكُنْ كلُّ ذلكَ)، أيْ: لم يَقَع المجموعُ، فيُحْتَمَلُ ثبوتُ البعضِ، ويُحتمَلُ نفيُ كلِّ فرْدٍ.
8- والتخصيصُ، نحوُ: (ما أنا قلتُ)، و{إيَّاكَ نَعبُدُ}.
ولَمْ يُذْكَرْ لكلٍّ من التقديمِ والتأخيرِ دواعٍ خاصَّةٌ؛ لأنَّهُ إذا
تَقدَّمَ أحَدُ رُكْنَي الجملةِ تَأَخَّرَ الآخرُ، فهما متلازمانِ).(دروس البلاغة الصغرى)
حسن الصياغة للشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (البابُ الثالثُ(1) في التقديمِ والتأخيـرِ(2)
من المعلومِ أنه لا يُمكِنُ النطْقُ بأجزاءِ الكلامِ(3) دُفعَةً واحدةً بل
لابدَّ من(4) تقديمِ بعضِ الأجزاءِ وتأخيرِ البعضِ(5)، وليس شيءٌ منها(6)
في نفسِه(7) أَوْلَى بالتقدُّمِ(8) من(9) الآخرِ لاشتراكِ جميعِ الألفاظِ
من حيث هي ألفاظٌ(10) في درجةِ الاعتبارِ(11) فلا بدَّ لتقديمِ هذا(12) على
ذاك(13) من داعٍ(14) يُوجِبُه، فمِن الدواعي:
التشويقُ(15) إلى(16) المتأخِّرِ إذا كان المتقدِّمُ(17) مُشعِرًا بغَرابةٍ(18)
نحوُ:(19)
والذي حَارَت الْبَرِيَّةُ فيه(20) ....... حيوانٌ مُسْتَحْدَثٌ(21) من جمادِ(22)
وتَعجيلُ المسَرَّةِ(23) أو(24) الْمَسَاءَةِ(25) نحوُ: العفوُ عنكَ صدَرَ به الأمرُ(26)، أو القِصاصُ حكَمَ به القاضي(27).
وكونُ المتقدِّمِ مَحَطَّ(28) الإنكارِ والتعجُّبِ(29)، نحوُ: أبَعْدَ طولِ التجْرِبَةِ تَنخدِعُ(30) بهذه الزخارفِ؟(31)
والنصُّ على عمومِ السلْبِ(32).
أو(33) سلْبِ العمومِ(34) فالأوَّلُ(35) يكونُ بتقديمِ أداةِ العمومِ(36)
على أداةِ النفيِ(37)، نحوُ(38): كلُّ ذلك لم يكنْ(39). أى لم يقعْ
هذا(40) ولا ذاك(41) والثاني(42) يكونُ بتقديمِ أداةِ النفيِ على أداةِ العمومِ(43)، نحوُ: لم
يكنْ كلُّ ذلك. أي لم يقعْ المجموعُ(44) فيَحتمِلُ ثبوتَ البعضِ(45)
ويَحتمِلُ نفيَ كلِّ فردٍ(46). والتخصيصُ(47)، نحوُ: ما أنا قلتُ،(48) و(49) إياكَ نعبدُ(50). ولم يُذكرْ(51) لكلٍّ من التقديمِ والتأخيرِ دواعٍ خاصَّةٌ(52)؛لأنه
إذا تَقدَّمَ أحـدُ رُكنَي الجملةِ تأخَّرَ الآخَرُ(53) فهما متلازمان(54) ). _________________ قال الشيخ علم الدين محمد ياسين بن محمد عيسى الفاداني المكي (ت: 1410هـ): ( (1) (البابُ الثالثُ) من الستَّةِ (2) (فى التقديمِ والتأخيرِ) العارِضَيْن
للمسنَدِ أو المسنَدِ إليه أو متعلَّقاتِهما والمرادُ بالتقديمِ والتأخيرِ
هنا إيرادُ اللفظِ ابتداءً أوَّلَ النطقِ أو آخرَه, لا أنه كان مُقدَّماً
ثم أُخِّرَ, ولا كان مؤخَّراً ثم قُدِّمَ. (3) (من المعلومِ أنه لا يُمكِنُ النطقُ بأجزاءِ الكلامِ) أي: بالألفاظِ والكلماتِ التي هي أجزاؤُه. (4) (دُفعةً واحدةً بل لابدَّ من) ترتيبِها. (5) و(تقديمِ بعضِ الأجزاءِ وتأخيرِ البعضِ) ويَجبُ أن يكونَ ترتيبُها الوضعيُّ حسبَ ترتيبِها الطبيعيِّ. (6) (وليس شيء منها) أي: من تلك الأجزاءِ. (7) (فى نفسِه) أي: حدِّ ذاتِه. (8) (أَوْلَى بالتقدُّمِ) أي: بوقوعِه مقدَّماً. (9) (من) الشيءِ. (10) (الآخرِ لاشتراكِ جميعِ الألفاظِ من حيثُ هي ألفاظٌ) قوالبَ المعانى. (11) (فى درجةِ الاعتبارِ), ومن البيِّنِ أنَّ
رُتبةَ المسنَدِ إليه التقديمُ؛ لأنه المحكومُ عليه, ورُتبةَ المسنَدِ
التأخيرُ؛ لأنه المحكومُ به, وما عداهما فهو متعلِّقاتٌ وتوابعُ تأتى
تاليةً لهما في الرُّتبةِ. وحيث جاءَ هذا الأصلُ مغيَّراً. (12) (فلابدَّ لتقديمِ هذا) أي: المتقدِّمِ الذي كان حقُّه التأخيرَ بموجِبِ هذا الأصلِ. (13) (على ذاك) أي: المتأخِّرِ الذي كان حقُّه التقديمَ بمُوجِبِه. (14) (من داعٍ) أي: مزِيَّةٍ يَدعو اعتبارُها إلى التقديمِ ليُشْعِرَ المقدَّمَ بالغرَضِ الذي يُومِئُ المتكلِّمُ إليه. (15) (فمن الدواعى التشويقُ) أي: تشويقُ المتكلِّمِ نفسَ السامعِ. (16) (إلى) العلْمِ بخبرِ (17) (المتأخِّرِ إذا كان المتقدِّمُ) مشتمِلاً على وصْفٍ موجِبٍ لذلك بأن كان. (18) (مشعِراً بغَرابةٍ ) أو كان مشتمِلاً على
تطويلٍ ما، فإذا وَرَدَ خَبَرُ المتأخِّرِ تَمَكَّنَ في النفسِ؛ لأن
الحاصلَ بعدَ الطلبِ أعزُّ من المُنْسَاقِ بلا تَعَبٍ. (19) (نحوُ) قولِ المعريِّ. (20) (والذى حارَت البريَّةُ فيه) أي: الذي اختلَفَت الخلائقُ في أنه يُعادُ أو لا يُعادُ. (21) (حيوانٌ مستحدَثٌ) أي: مخلوقٌ. (22) (من جمادِ) أي: نُطفةِ أو طينةِ آدمَ،
فتقديمُ المسنَدِ إليه وهو الذي، موصوفاً بِحَيْرَةِ البَرِيَّةِ فيه،
يوجِبُ الاشتياقَ إلى أنَّ الخبرَ عنه ما هو، وقولُه حيوانٌ إلخ أي:
إنسانٌ، خبرٌ مَسُوقٌ بعدَ التشويقِ إليه فيتَمَكَّنُ في ذهْنِ السامعِ،
والمرادُ باستحداثِ الإنسانِ من الجمادِ البعثُ والمعادُ للأجسامِ
الحيوانيَّةِ يومَ القيامةِ. ويَدلُّ عليه قولُه قبلَ هذا البيتِ: بان أمْرُ الإلهِ واختلَفَ النا .... سُ فداعٍ إلى ضلالٍ وهادي (23) (وتعجيلُ المسرَّةِ)
أي: السرورِ للسامعِ؛ لأنه يَحْصُلُ بسماعِ اللفظِ المشعِرِ بالسرورِ
سرورٌ فيَتفاءلُ به أي: يَتبادَرُ لفَهْمِ السامعِ حصولُ الخيرِ. (24) (أو) تعجيلُ. (25) (الْمَسَاءَةِ) أي: السوءِ للسامع فيَتَطَيَّرُ به, ويَتبادَرُ لفَهمِه حصولُ الشرِّ. (26) (نحوُ: العفوُ عنك صَدَرَ به الأمْرُ) مثالٌ لتعجيلِ المسرَّةِ. (27) (أو القِصاصُ حكَمَ به القاضى) لتعجيلِ الْمَسَاءَةِ. (28) (وكونُ المتقدِّمِ مَحطَّ) أي: موضِعَ. (29) (الإنكارِ والتعجُّبِ) والغرابَةِ. (30) (نحوُ أبَعْدَ طولِ التجرِبةِ تَنخدِعُ) أي: تَنْغَشُّ أنت. (31) (بهذه الزخارفِ) أي: الزينةِ ونحوُ قولِ الشاعرِ: أبَعْدَ المشيبِ المنقضِي في الذوائبِ ....... تحاوِلُ وصْلَ الغانياتِ الكواعبِ (32) (والنصُّ على عمومِ السلْبِ) أي: إفادةِ عمومِ نفيِ الحكْمِ وشمولِه لكلِّ فرْدٍ من أفرادِ الموضوعِ والمقامِ يقتضي ذلك. (33) (أو) النصُّ على (34) (سلْبِ العمومِ) أي: نفيِ الحكْمِ عن
الأفرادِ المجمَلةِ التي لم تُفَصَّلْ ولم تُعَيَّنْ بكونِها كلاّ, أو
بعضاً, بل أُبقِيَتْ على شمولِها للأمرين حيث اقْتَضى المقامُ ذلك. (35) (فالأوَّلُ) أي: عمومُ السلْبِ, ويُسَمَّى شمولَ النفيِ. (36) (يكونُ بتقديمِ أداةِ العمومِ) ككلٍّ وجميعٍ وأل الاستغراقيَّةِ. (37) (على أداةِ النفيِ) حرفاً أو غيرَه. (38) (نحوُ) قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
لما قالَ له ذو اليدَيْنِ: أَقُصِرَت الصلاةُ – أي: الظهْرُ أو العصرُ – أم
نَسِيتَ يا رسولَ اللهِ؟ فقالَ: (39) (كُلُّ ذلك لم يكنْ) فقال ذو اليدَيْنِ: بعضُ ذلك قد كان. (40) (أي: لم يَقعْ هذا) أي: القصْرُ. (41) (ولا ذاك) أي: النسيانُ, يعنى: أنَّّ
قولَه: كلُّ ذلك لم يكنْ لَمَّا كانت أداةُ العمومِ فيه, وهي كلُّ,
مقدَّمةً على النفيِ أفادَ نفيَ القصْرِ والنسيانِ معاً, فهو في قوَّةِ أن
يُقالَ: لا شيء من ذلك بواقعٍ كما وَرَدَ في بعضِ الطُرُقِ: لم أَنْسَ ولم
تُقْصَرْ. وخيرُ ما فَسَّرْتَهُ بالواردِ، وأيضاً أنَّ ذا اليدين وهو
عربيٌّ يَفهمُ مدلولَ الخِطابِ كما هو، وقد قال: بعضُ ذلك قد كان. كما
سَبَقَ ومعلومٌ أنَّ الثبوتَ للبعضِ الذي هو موجِبةٌ جزئيَّةٌ إنما
يُناقِضُ النفيَ عن كلِّ فردٍ الذي هو السالِبةُ الكلِّيَّةُ. هذا وظهَرَ
أنَّ عمومَ السلْبِ إنما يَتحقَّقُ بشرطين: الأوَّلُ أن يكونَ المتقدِّمُ
مقروناً بأداةِ العمومِ بخلافِ ما إذا لم يكنْ كذلك فلم يَجبْ تقديمُه،
نحوُزيدٌ لم يَقُمْ ولم يَقُمْ زيدٌ لعدَمِ فواتِ العمومِ إذ لا عمومَ فيه.
الشرطُ الثانى: أن يكونَ المتأخِّرُ مقروناً بأداةِ النفيِ بخلافِ ما إذا
لم يكنْ كذلك لم يَجِبْ تقديمُه، نحوُ:كلُّ إنسانٍ قامَ, وقامَ كلُّ إنسانٍ
لعدَمِ فواتِ العمومِ فيه بالتقديمِ والتأخيرِ لحصولِه مطلَقاً, قُدِّمَ
ذلك المتقدِّمُ أو أُخِّرَ، وبَقِيَ شرطٌ ثالثٌ وهو: أن يكونَ المتقدِّمُ
بحيث لو أُخِّرَ كان فاعلاً، بخلافِ قولِك: كلُّ إنسانٍ لم يقُمْ أبوه فإنه
لو أُخِّرَ كلُّ إنسانٍ بأن قيلَ لم يَقُمْ أبو كلِّ إنسانٍ لم يَكنْ
فاعلاً لفظيًّا فلم يَجِبِ التقديمُ في تلك الحالةِ لعدمِ فواتِ العمومِ؛
لأن العمومَ حاصلٌ على كلِّ حالٍ سواءٌ قُدِّمَ المتقدِّمُ أو أُخِّرَ،
وشرطٌ رابعٌ وهو: أن تكونَ أداةُ العمومِ غيرَ معمولةٍ لما بعدَها بخلافِ
ما إذا كانت معمولةً للفعلِ بعدَها, سواءٌ تقدَّمَتْ لفظاً أو تأخرَّتْ،
نحوُكلَّ ذنْبٍ لم أصنَعْ, ولم آخُذْ كلَّ الدراهمِ، فإنَّ الكلامَ حينئذٍ
يُفيدُ سلْبَ العمومِ غالباً. (42) (والثاني) أي: سلْبُ العمومِ ويُسَمَّى نفيَ الشمولِ أيضاً. (43) (يكون بتقديمِ أداةِ النفيِ على أداةِ العمومِ) سواءٌ
كانت أداةُ النفيِ مما يصِحُّ عملُها فىأداةِ العمومِ، كـ(ما)
الحجازيَّةِ. أو مما لا يصِحُّ، كـ(لم). و(إن)، وسواءٌ كانت أداةُ العمومِ
معمولةً لأداةِ النفيِ، أو للابتداءِ، أو للفعلِ المنفيِّ، أو الوصفِ
المنفيِّ فالأُوليَانِ سواءٌ كان الخبرُ فعلاً، نحوُقولِ الشاعرِ: ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدْرِكُه ...... تَجري الرياحُ بما لا تَشتهى السفنُ فما يَحتملُ أن تكونَ حجازيَّةً فتكونُ كلٌّ معمولةً لأداةِ النفيِ،
ويَحتملُ أن تكونَ (ما) تميميَّةً, وكلٌّ معمولةً لأداةِ النفيِ، ويَحتمِلُ
أن تكونَ (ما) تميميَّةً وكلٌّ معمولةً لعاملِها, وهو الابتداءُ, أو كان
الخبرُ اسماً نحوُ ما كلُّ مُتَمَنَّى المرءِ حاصلاً أو حاصلٌ، والثالثةُ. (44) (نحوُ: لم يكنْ كلُّ ذلك. أي: لم يَقع المجموعُ) أي: مجموعُ ذلك الصادقِ بالسلْبِ عن البعضِ والسلْبِ عن جميعِ الأفرادِ. (45) (فيَحتمِلُ ثبوتَ البعضِ) أي: والسلْبَ عن البعضِ الآخَرِ. (46) (ويَحتمِلُ نفيَ كلِّ فردٍ) لأن النفيَ
توجَّه إلى شمولِ الفعلِ لكلِّ ما يَنتسبُ له خاصَّةً دونَ أصلِ الفعلِ إلا
أن المحقَّقَ السلْبُ عن البعضِ فيُحْمَلُ معنى التركيبِ عليه تفريقاً
بينَ التقديمِ والتأخيرِ، فيكونُ المعنى السلْبَ عن البعضِ, لا عن كلِّ
فردٍ، فتدَبَّرْ. والرابعةُ نحوُ قولِك: لستُ آخذاً كلَّ الدراهمِ، وقولِك:
ليس القائمُ كلَّ الرجالِ. هذا والحقُّ أن توجُّهَ النفيِ في سلْبِ العمومِ
للشمولِ أكثريٌّ لا كُلِّيٌّ؛ إذ قد جاءَ لعمومِ السلْبِ قليلاً،
نحوُقولِه تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (47) (والتخصيصُ) أي: تخصيصُ المتقدِّمِ بالمتأخِّرِ، فتخصيصُ المسنَدِ بالمسنَدِ إليه نحوُقولِه تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} وتخصيصُ
المسنَدِ إليه بالمسنَدِ إما قطْعاً وذلك حيث كان المسنَدُ إليه مسبوقاً
بنفيٍ, والمسنَدُ فعلاً سواءٌ كان المسنَدُ إليه نكِرةً نحوُما تلميذٌ
حفِظَ الدرْسَ، أو معرفةً ظاهرةً نحوُما خالدٌ فعَلَ هذا أو معرفةً
مضمَرةً. (48) (نحوُ: ما أنا قلتُ) هذا، فأنا مبتدأٌ
وقلتُ خبرٌ، وقُدِّمَ المسنَدُ إليه هنا لأجلِ إفادةِ اختصاصِه بانتفاءِ
هذا القولِ عنه، أي: لم أقُلْه وهو مقولٌ لغيرى، أعني: انتفاءُ هذا القولِ
مقصورٌ عليَّ وثابتٌ لغيري: وهذا الغيرُ الذي ثَبَتَ له ذلك القولُ ليس
كلَّ غيرٍ بل غيرُ مخصوصٍ, وهو من توهَّمَ المخاطَبُ شَرِكَتَه معكَ أو
انفرادَه به دونَك، وإما احتمالاً، وذلك حيث لم يُسْبَقْ بنفيٍ بأن تأخَّرَ
عنه أو لم يُذكَرْ أصلاً سواءٌ كان المسنَدُ إليه معرفةً ظاهرةً،
نحوُخالدٌ ما قالَ هذا أو خالدٌ قال هذا أو معرفةً مضمَرةً نحوُأنا ما
كتَبْتُ الدرسَ أو أنا كتبتُ الدرسَ، أو نكِرَةً، نحوُرجلٌ ما قالَ هذا أو
رجلٌ قالَ هذا. (49) (و) تخصيصُ المفعولِ نحوُ قولِه تعالى. (50) {إيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: لا غيرَك، ردًّا على من قال: أعبُدُ غيرَك. (51) (ولم يُذكَرْ) أي: لم يَذْكُرْ علماءُ المعاني. (52) (لكلٍّ من التقديمِ والتأخيرِ دواعٍ خاصَّةٌ) أي: بل اكتَفَوْا بذكْرِ دواعى التقديمِ. (53) (لأنه إذا تقدَّمَ أحدُ رُكْنَى الجملةِ تأخَّرَ الآخرُ) ضرورةَ أن الشيئين إذا تقدَّمَ أحدُهما على الآخَرِ فالآخَرُ متأخِّرٌ عنه. (54) (فهما متلازِمان) وحينئذٍ الدواعى والنِّكَاتُ المقتضيَةُ للتقديمِ هي بعينِها الدواعى والنِّكَاتُ المقتضيةُ للتأخيرِ, لا شيء غيرُها).
شموس البراعة للشيخ: أبي الأفضال محمد فضل حق الرامفوري
قال الشيخ أبو الأفضال محمد فضل
حق الرامفوري (ت: 1359هـ): (البابُ الثالثُ في التقديمِ والتأخيرِ
من
المعلومِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ النُّطْقُ بأجزاءِ الكلامِ دُفْعَةً واحدةً؛
لكونِه من الأمورِ الغيرِ القَارَّةِ الذَّوَاتِ التي يَستحيلُ فيها
اجتماعُ بعضِ الأجزاءِ معَ البَعْضِ، بلْ لا بُدَّ منْ تقديمِ بعضِ
الأجزاءِ وتأخيرِ البعضِ. وليسَ شيءٌ منها في نفسِه أَوْلَى بالتقدُّمِ من
الآخَرِ؛ لاشتراكِ جميعِ الألفاظِ منْ حيثُ هيَ ألفاظٌ، أيْ معَ قَطْعِ
النظَرِ عنْ عُروضِ معنًى يُوجِبُ الصدارةَ في درجةِ الاعتبارِ، كما قالَ
في الحاشيةِ: هذا بعدَ مُراعاةِ إلخ، فلا بدَّ منْ تقديمِ هذا على ذاكَ منْ
داعٍ يُوجِبُه. فمِن الدَّوَاعِي:
(1) التشويقُ إلى الْمُتَأَخِّرِ إذا كانَ الْمُتَقَدِّمُ مُشْعِرًا
بغَرابةٍ بحيثُ يُوجِبُ التشوُّقَ إلى الْمُتَأَخِّرِ، ولذا إذا ذُكِرَ
تَمَكَّنَ في ذِهْنِ السامعِ ؛ لأنَّ الحاصلَ بعدَ الشَّوْقِ كَمُنَ في
النفْسِ من الْمُنْسَاقِ بلا شوْقٍ وانتظارٍ، نحوَ: (والذي حَارَتِ الْبَرِيَّةُ)، أي: اخْتَلَفَتْ فيهِ، في أنَّهُ يُعَادُ أوْ لا يُعَادُ. (حيوانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِنْ جَمَادِ)،
والمرادُ باستحداثِ الحيوانِ منْ جَمَادٍ البَعْثُ والْمَعَادُ للأجْسامِ
الحيوانيَّةِ من القُبُورِ؛ لكونِها مُسْتَحَدَثَةً من الترابِ الذي
تَنْبُتُ منهُ. فتقديمُ الْمُسْنَدِ إليهِ ههنا يُوجِبُ الاشتياقَ إلى أنَّ
الخبَرَ عنهُ ما هوَ؛ لكونِه مُشْعِرًا بغَرَابَةٍ، وهيَ حَيْرَةُ
البَرِيَّةِ فيه.
(2) وتعجيلُ الْمَسَرَّةِ أو الْمَسَاءَةِ، يعني إذا كانَ اللفظُ
مُشْعِرًا بالْمَسَرَّةِ أو الْمَساءَةِ، وكانَ الغرَضُ حصولَ واحدٍ منهما
للسامِعِ بالتَّعَجُّلِ، قُدِّمَ هذا اللفظُ ليَحْصُلَ الْمَسَرَّةُ أو
الْمَسَاءَةُ بِمُسْتَهَلِّ الكلامِ واللفظِ المسموعِ أوَّلًا، نحوَ:
العفوُ عنكَ صَدَرَ بهِ الأمْرُ، أو القِصاصُ حَكَمَ بهِ القاضي. ففي
تقديمِ لفظِ العفوِ تعجيلُ الْمَسَرَّةِ للسامِعِ، وفي تقديمِ لفظِ
القِصاصِ تعجيلُ الْمَساءَةِ لهُ.
(3) وكونُ الْمُتَقَدِّمِ مَحَطَّ الإنكارِ والتَّعَجُّبِ، نحوَ: أَبَعْدَ
طولِ التجرِبَةِ تَنْخَدِعُ بهذهِ الزخارِفِ، فتقديمُ هذا القَيْدِ
يُفِيدُ أنَّهُ مَحَطُّ الإنكارِ ومناطُ التعجُّبِ، لا نَفْسَ الانخداعِ؛
إذ لوْ كانَ المقصودُ جَعْلَ الانخداعِ نفسَه مَنَاطَ التعجُّبِ والإنكارِ
قُدِّمَ الانخداعُ وقيلَ: أَتَنْخَدِعُ بهذهِ الزخارِفِ بعدَ طولِ
التَّجْرِبَةِ. وَيَدُلُّ على كونِ الْمُتَقَدِّمِ مناطَ التَّعَجُّبِ
والإنكارِ تصريحُهم في: أَيَنْخَدِعُ بالزَّبيبِ بعدَ الْمَشيبِ، و:
أَبِالزَّبيبِ يُنْخَدَعُ بعدَ الْمَشِيبِ، و: أَبَعْدَ الْمَشِيبِ
يُنْخَدَعُ بالزَّبيبِ، بأنَّ مَناطَ التعَجُّبِ في الأوَّلِ نفسُ
الانخداعِ، وفي الثاني كونُه بالزَّبيبِ، وفي الثالثِ كونُه بعدَ
الْمَشيبِ.
(4) وسلوكُ سبيلِ التَّرَقِّي، أي الإتيانُ بالعامِّ أوَّلًا ثمَّ الخاصِّ
بعدَه لغَرَضٍ منْ أغراضِ ذِكْرِ الخاصِّ بعدَ العامِّ، كالإيضاحِ بعدَ
الإبهامِ؛ لأنَّ العامَّ إذا لم يُقَدَّمْ بلْ ذُكِرَ بعدَ الخاصِّ لا
يكونُ لهُ فائدةٌ، نحوَ: هذا الكلامُ صحيحٌ فصيحٌ بليغٌ. ففي هذا الكلامِ
سلوكُ سبيلِ التَّرَقِّي ؛ لأنَّ قولَنا: صحيحٌ، عامٌّ شامِلٌ للفصيحِ
والبليغ ِ وغيرِهما، فيُفيدُ تقديمُه فائدةَ الإيضاحِ بعدَ الإبهامِ، فإذا
ذَكَرْتَ الخاصَّ أوَّلًا وقُلْتَ: فصيحٌ بليغٌ لا تَحتاجُ إلى ذِكْرِ
صحيحٍ؛ فَهُوَ أعمُّ منهما. وكذا إذا قُلْتَ: بليغٌ، لا تَحتاجُ إلى ذِكْرِ
ما هوَ أَعَمُّ منْهُ، فلا تقولُ صحيحٌ ولا فصيحٌ ؛ لأنَّ الحكْمَ
بالخاصِّ حُكْمٌ بالعامِّ؛ لاستلزامِه له، فلا فائدةَ في ذِكْرِ العامِّ
بعدَ الخاصِّ.
(5) ومراعاةُ الترتيبِ الوُجوديِّ، فيُقَدَّمُ في اللفظِ ما هوَ مُقَدَّمٌ في الوجودِ، نحوَ: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ }،
فَرُوعِيَ فيهِ الترتيبُ الوُجوديُّ، وقُدِّمَتِ السِّنَةُ على النومِ في
الذكْرِ ؛ لكونِها مُتقدِّمةً عليهِ في الوجودِ ؛ لأنَّ السِّنَةَ عبارةٌ
عن الْفُتُورِ الذي يَتَقَدَّمُ النومَ.
(6) والنصُّ على عمومِ السلْبِ أوْ سلْبِ العمومِ ، يعني إذا اجْتَمَعَ في
كلامٍ أداةُ العمومِ وأداةُ النفيِ، فَتَعْيِينُ أنَّ المرادَ في هذا
الكلامِ هلْ هوَ عمومُ السلْبِ وشمولُ النفيِ، أوْ سلْبُ العمومِ ونفيُ
الشمولِ، لا يَتَّضِحُ إلَّا بتقديمِ أَحَدِ أداةِ العمومِ وأداةِ النفيِ
على الآخَرِ .
فالأوَّلُ: يكونُ بتقديمِ أداةِ العمومِ على أداةِ النفيِ ودخولِها عليها؛
لكونِهِ صريحًا في الدَّلالةِ على عمومِ النفيِ وشمولِ السلْبِ، نحوَ:
كلُّ ذلكَ لم يكُنْ. فإنَّ تقديمَ كلِّ ذلكَ على لمْ يكُنْ يُفيدُ سلْبَ
الكونِ عنْ كلِّ فرْدٍ فرْدٍ، أيْ: لم يَقَعْ هذا ولا ذاكَ، وذلكَ معنى
عمومِ السلبِ .
والثاني: يكونُ بتقديمِ أداةِ النفيِ على أداةِ العمومِ ؛ لأنَّهُ صريحٌ في
إفادةِ سلْبِ العمومِ ونفيِ الشمولِ، نحوَ: لمْ يكُنْ كلُّ ذلكَ. فإنَّهُ
يُفيدُ نفيَ الحكْمِ عنْ جُملةِ الأفرادِ، أيْ: لمْ يَقَع المجموعُ لا عنْ
كلِّ فرْدٍ، فيَحْتَمِلُ ثبوتَ البعضِ ويَحْتَمِلُ نفيَ كلِّ فردٍ. فمِثْلُ
هذا التركيبِ نَصٌّ على سلْبِ العمومِ وإنْ كانَ يَحْتَمِلُ عمومَ السلْبِ
أيضًا؛ ولذا جَعَلَ المصنِّفُ السببَ الداعيَ للتقديمِ هوَ النصُّ على
أحدِ هذينِ الْمَعْنَيَيْنِ.
والحاصلُ أنَّهُ إذا اقْتَضَى مَقامُ عمومِ السلْبِ وقَصَدَ المتكلِّمُ
أنْ يُفيدَه بحيثُ يكونُ كلامُه نصًّا عليْهِ، ولا يَلْتَبِسُ على السامعِ
أصْلًا، فلا سبيلَ إلى هذهِ الإفادةِ إلَّا بتقديمِ لفظِ العمومِ على
النفيِ.
وكذا إذا اقْتَضَى مقامُ سلْبِ العمومِ فطريقُ إفادتِه على وَجْهِ النصِّ
ليسَ إلَّا بتقديمِ أداةِ النفيِ على لفظِ العمومِ ، فظَهَرَ أنَّ النصَّ
على إفادةِ عمومِ السلْبِ أوْ سلْبِ العمومِ سببٌ داعٍ لتقديمِ أداةِ
العمومِ أوْ أداةِ النفيِ في المقامِ الذي يَقْتَضِي أحدَ هذينِ
الْمَعْنَيَيْنِ .
وتقويةُ الحُكْمِ، أيْ تقريرُه في ذِهْنِ السامعِ وتثبيتُه فيهِ؛ دفعًا
لتَوَهُّمِ كونِه مِمَّا يُرْمَى بهِ منْ غيرِ تحقيقٍ إذا كانَ الخبَرُ
فِعْلًا، نحوَ: الهلالُ ظَهَرَ، وذلكَ لتَكرارِ الإسنادِ، ووجهُ تَكرارِ
الإسنادِ في هذه الصورةِ أنَّ الْمُبْتَدَأَ يَسْتَدْعِي أنْ يُسْنَدَ إليه
شيءٌ، فإذا جاءَ بعدَه ما يَصْلُحُ أنْ يُسْنَدَ إليه صَرَفَهُ إلى
نفسِهِ، فيَنْعَقِدُ بينَهما حُكْمٌ، ثمَّ إذا كانَ الخبَرُ فعلًا صَرَفَه
إليه ضميرُه ثانيًا، فصارَ الإسنادُ بهذا الاعتبارِ مُكَرَّرًا. وكأَنَّ
قولَنا: الهلالُ ظَهَرَ، بمثابةِ أنْ يُقالَ: ظَهَرَ الهلالُ ظَهَرَ
الهلالُ.
(8) والتخصيصُ، يعني تخصيصَ الفعْلِ بِمُتَعَلَّقِه وقَصْرَهُ عليهِ، نحوَ:
ما أنا قُلْتُ، فتقديمُ الْمُسنَدِ إليه في هذا الكلامِ لأَجْلِ اختصاصِه
بانتفاءِ القولِ عنهُ، أيْ: إنَّ انتفاءَ القولِ مقصورٌ عَلَيَّ. و{إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، فإنَّ تقديمَ المفعولِ ههنا لقَصْدِ التخصيصِ، والمعنى: نَخُصُّكَ بالعِبادةِ.
(9) والمحافظةُ على وَزْنٍ أوْ سَجْعٍ نحوَ:
إذا نَطَقَ السفيهُ فلا تُجِبْهُ ...... فخَيْرٌ منْ إجابتِه السُّكُوتُ
والثاني نحوَ: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ }، فإنَّ تقديمَ الخبَرِ في البيتِ، وهوَ قولُه: ( فخيرٌ منْ إجابتِه )، على المبتدأِ الذي هوَ ( السُّكُوتُ ) لمحافظةِ وزْنِ البيتِ. وتقديمَ { ثُمَّ الْجَحِيمَ }، و{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ } على الفعْلِ في الآيةِ لمحافظةِ السجْعِ. ولم يُذْكَرْ لكلٍّ من التقديمِ والتأخيرِ دواعٍ خاصَّةٌ ؛ لأنَّهُ إذا
تَقَدَّمَ أحَدُ رُكْنَي الجملةِ تَأَخَّرَ الآخَرُ، فهما متلازمانِ، فما
يكونُ داعيًا لتقديمِ أَحَدِ رُكْنَي الجملةِ يكونُ داعيًا لتأخيرِ
الآخَرِ، ففي بيانِ دواعي أحَدِ الأمرينِ من التقديمِ والتأخيرِ غُنْيَةٌ
عنْ بيانِ دواعي الآخَرِ؛ فلذا لم يَذْكُرْ لِكُلٍّ منهما دواعيَ على
حِدَةٍ).
شرح دروس البلاغة للشيخ: محمد الحسن الددو الشنقيطي (مفرغ)
قال الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي: (الباب الثالث: في التقديم والتأخير
لا شك
أن الحادث المخلوق لا يمكن أن يأتي بكل أغراضه دفعة واحدة، فلا بد أن يقدم
بعضا ويؤخر بعضا، فكل أعماله يعتريها التقديم والتأخير، فيحتاج إلى أن
يبين له الأسلوب المناسب للترتيب، وفي الكلام ما يستحق صدر الكلام دائما فيلزم تقديمه، كأدوات الشرط والاستفهام، وكم الخبرية، والمحصور أقصد وغير المحصور إذا كان فيه محصور يؤخر، وكذلك ما دخلت عليه لام الابتداء ونحو ذلك، فهذه تستحق صدر الكلام،فلا يمكن أن تؤخر، ولهذا يقول أحد الناصحين:
عليك بأرباب الصدور فمن غدى ..... مضافا لأرباب الصدور تصدرا
ولا ترضين يوما بصحبة خامل ..... فينحط قدر من علاك وتحقرا
كرفع أبو من ثم خفض مزمَّل ..... يبين قولي مغريا ومحذرا
(عليك بأرباب الصدور) أي: لا تصحب إلا من كان متصدرا متقدما، فمن غدى مضافاً لأرباب الصدور تصدرا، (ولا ترضين يوما بصحبة خامل) أي: مجهول غير معروف، فينحط قدر من علاك وتحقرا،ما مثال ذلك؟ (كرفع أبو من) إذا قلت: ما علمت أبو من زيد؟ فإن (من) تستحق صدر الكلام،فلا يعمل فيها عامل متقدم عليها،ولما أضيف إليها لفظ أب لم يعمل فيه العامل المتقدم عليه فرفع، فأصل الكلام: أن تقول ما عرفت أبا زيد مثلاً؟ لكن لما أضيف (أبو) إلى (من) استحق صدر الكلام،فلم يعمل فيه عامل متقدم عليه فرفع، فرفع أبو من؟ ثم خفض مزمل، جار بالمجاورة كخفض مزمل في قول امرئ القيس: كأنا أبانا في عرانين دبله ....... كبير أناس في بجاد مزمل بسبب المجاورة، فرفع أبو من ثم خفض مزمل يبين قولي مغرياً ومحذرا، مغريا في (أبو من) ومحذرا في خفض مزمل. قال: "ومن المعلوم أنه لا يمكن النطق بأجزاء الكلام دفعة واحدة؛ بل لابد من تقديم بعض الأجزاء وتأخير بعضها " وبعضه قد سبق أنها من الألفاظ التي لا تحلى بأل، " وليس شيء منها في نفسه أولى بالتقدم من الآخر " إلا ما يستحق الصدر كما ذكرنا كأدوات الشرط والاستفهام وكم الخبرية ، " لاشتراك
جميع الألفاظ من حيث هي ألفاظ في درجة الاعتبار " أي: أنها معتبرة جميعاً،
كل لفظ إنما جيء به ليفهم معنى، فلذلك ليس بعضها أولى بالتقديم من بعض. " فلابد لتقديم هذا على ذاك من داع يوجبه فمن دواعي التقديم: أولا: التشويق إلى المتأخر إذا كان المتقدم يشعر بغرابته " إذا كان المتقدم مشعراً أي دالا على الغرابة، على غرابة المتأخر، وذلك مثل قول أبي العلاء المعري: بان أمر الإله واختلف الناس ..... فداع إلى الضلال وهاد والذي حارت البرية فيه ...... حيوان مستخرج من رماد فهنا قوله: (والذي حارت البرية فيه) هذا للتشويق، نعم مستحدث من رماد ، أو مستخرج من رماد، هذا للتشويق إلى المحكوم عليه وهو عجز البيت فلما قال: بان أمر الإله واختلف الناس ..... فداع إلى الضلال وهاد (والذي حارت البرية فيه)
ما هو؟ لا شك أنك ستشوق إليه، والذي حارت البرية فيه حيوان مستخرج من
رماد، مستحدث من رماد، وهذا زعم لدى الهنود يزعمون أن لديهم طائراَ لا يوجد
في الدنيا منه إلا واحد، ويعيش مدة محددة مدة أربعين سنة، لا يزال يجمع الحطب خلالها، فإذا جمع الحطب وكملت المدة بكى على نفسه مدة أيضا، ويجتمع الناس حوله يسمعون بكاءه، ثم ينفخ بجناحيه على الحطب فيشتعل فيحترق هو فيكون رمادًا، ثم بعد مدة يخرج من ذلك الرماد طائر آخر، وهذا زعم خرافي. كذلك تعجيل المسرة أو المساءة، فمن أسباب التقديم تعجيل المسرة أو المساءة كذلك ، فإذا أردت أن تبشر شخصاً ببشارة
فتعجل له ما يشعر بالبشارة في أول الكلام، سواء كان محله التقديم أو
التأخير، وإذا أردت أن تسوءه. نسأل الله السلامة والعافية أيضا فتعجل له ما
يسوؤه في أول الكلام، كقولك: العفو عنك صدر به الأمر،أصل
الكلام: صدر الأمر بالعفو عنك، لكن لما أردت إدخال السرور عليه قلت له:
العفو عنك صدر به الأمر. فقدمت له ما يشعر بالسرور، والمساءة كقولك للقاتل
الذي حكم عليه:
القصاص حكم به القاضي عليك. بقصد المساءة، وهذا يحصل في مقدمات القصائد،
فمطالع القصائد يختار لها، إذا كانت في المدح مثلاً أو نحوه ما يشعر بالمسرة، كقول الشاعر: طلعت ببرجك للبرية أسعد ....... أيام جاد بك الزمان الأجود فيبدأ بما يشعر بالمسرة من بداية القصيدة، ولذلك فقد كان كثير من الخلفاء إذا كان في مقدمة القصيدة ما يخالف ذلك، ينكرون ذلك على الشعراء، كما أنكر عبد الملك على جرير مخاطبته بالقصيدة التي مطلعها: أتصحُ أم فؤادك غير صاح ...... عشية هم صحبك بالرواح فقال له : بل فؤادك يابن الفاعلة رد عليه. وكذلك قول أبي تمام. على مثلها من أربُع ومعاهدي ....... تذال مصونات الدموع الجوامد فعندما قال: على مثلها من أربُع ومعاهدي، كان بحضرة الخليفة أحد البلغاء فقال له: {لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}؛ لأنه أتى افتتح بالجار والمجرور: (على مثلها من أربع ومعاهدي) هذا الشطر لا (غير مسموع) بالمقصود، فقال: على مثلها من أربع ومعاهدي {لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}. كذلك كون المتقدم محط الإنكار والتعجب مثل قولك: لمن ينخدع بما لا ينخدع له مثله:أبعد طول التجربة وتمام العقل تنخدع بمثل هذا. وذلك مثل قول عدنان بن عبد الله الفاسي - رحمه الله- : أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب ...... وألهو بلذَّات الحياة وأطرب ولي نظر عال ونفس أبيـة ...... مقاما على هام المجرة تطلب وعندي آمال أريد بلوغهـا ..... تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد ...... سبيلا إلى العيش الذي تتطلب على أمرها أنفقت دهري تحصرا ...... فما طاب لي طُعم ولا لذ مشرب ولا راق لي نوم و إن نمت ساعة ..... فإنيعلى جمر الغضا أتقلب
كذلك النص على عموم السلب، أو النص على سلب العموم، فإذا تقدمت أداة النفي مع لفظ كل، كان ذلك للنص على عموم السلب، وإذا تأخرت كان ذلك للنص على سلب العموم، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثذي اليدين عندما قال له: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ((كل ذلك لم يقع))، فأخر أداة النفي وهي لم، فقال: ((كل ذلك لم يقع))، أتى بكل أولا، معناه لم يقع شيء من ذلك أيا كان، فهذا نص على سلب العموم، وعكسه قول أبي النجم العجلي:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ...... علي ذنبا كله لم أصنع
بأن رأت رأسا كرأس الأصلع ..... ميز عنه قنزعا عن قنزع
جدب الليالي أبطئ أو أسرعي ...... أفناه قيل الله للشمس اطلعي
حتى إذا واراك أفق فارجعي
فهنا قال: تدَّعي علي ذنبا كلَّه لم أصنع، إذا نصبته فهو في مقام التأخير، فمعنى الكلام: لم أصنع كلَّه معناه يمكن أن أكون قد صنعت بعضه، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين: لم يقع كل ذلك، لكان هذا سلباً للعموم فقط، معناه أن جميع ما قلته لم يقع، لكن يمكن أن يكون قد وقع بعضه، لكن لما قال: ((كل ذلك لم يقع)) كان هذا دليلاً على عموم السلب معناه: أن الجميع لم يقع فهمتم الفرق بين سلب العموم وعموم السلب؟ عموم السلب معناه عموم النفي لكل الجزيئات، وسلب العموم معناه أن القاعدة قد لا تشمل كل أفرادها، فهو نفي العموم، نفي التعميم، لكن لا ينافي أن يكون بعضه قد حصل.
ردا على أحد الحاضرين: تفضل.
ـ.........................
ـ نعم.
ـ........................
ـ لا، إذا قال: ((كل ذلك لم يقع)).
ـ ولكن وقع بعضه.
ـ لا ما يجوز ذلك، إذا قلت كل ذلك لم يقع لا يجوز أن تعقب ذلك بأن تقول ولكن وقع بعضه؛ لأن هذا تناقض، فقد نفيت وقوعه أولا، كما لو قلت: لم يقع من ذلك أي شيء ثم قلت: ولكن وقع بعضه، هل هذا مستقيم؟! هذا غير مستقيم؛ لأن فيه تناقضا، كل ذلك لم يقع هي مثل، لم يقع من ذلك أي شيء.
والثاني: يكون بتقديم أداة النفي على أداة العموم نحو: {لم يكن له كفوا أحد} نحو: لم يكن كل ذلك مثلاً، أو في حال النصب لو قدمت؛ لأن المنصوب في قوة التأخير مثل، كله لم أصنع في بيت أبي النجم، أي لم يقع جميعه فيحتمل ثبوت البعض ويحتمل نفي كل فرد وحده.
كذلك من نكات التقديم والتأخير التخصيص مثل قول الله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} فالتقديم هنا تقديم المعمول يفيد الاختصاص، معناه لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك، وقد حصلت قصة للبيضاوي رحمه الله عندما ألف تفسيره لكتاب الله حمله إلى أحد ملوك الروم، الروم اسم يطلق على تركيا في صدر الإسلام، والمقصود به أحد ملوك بني عثمان ليجيزه عليه، فمر في طريقه بأحد الزهاد فبات عنده ليلته فقال: ما دعاك إلى هذا السفر أيها الشيخ؟ قال: كتاب ألفته في تفسير كتاب الله أهديه إلى هذا الملك لعله يساعدني على ما يعينني على أمور دنياي. فسكت الزاهد فلما كان في الصباح سأله فقال: ماذا قلت في تفسير قول الله تعالى: {وإياك نستعين} ففهم البيضاوي أن فعله هذا ينافي تفسيره للآية؛ لأن الآية {إياك نستعين} قال فيها: تقديم المعمول يفيد الاختصاص، معناه لا نستعين إلا بك، فقال: جزاك الله خيراً. وقطع رحلته ورجع إلى بيته، فجاء عطاء الملك قبل أن يصل إلى البيت.
وكذلك قولك: ما أنا قلت ذلك، ((ما أنا بقارئ)) قالها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل قال: ((ما أنا بقارئ)).
وهذه الأسباب التي ذكرناها والدواعي هي دواعي للتقديم والتأخير معاً؛ لأنه إذا حصل التقديم فقد حصل التأخير أيضا، وإذا حصل التأخير فقد حصل التقديم، فلذلك قال: ولم يذكر لكل من التقديم والتأخير دواع خاصة؛ لأنه إذا تقدم أحد ركني الجملة تأخر الآخر فهما متلازمان، التقديم والتأخير متلازمان).
شرح دروس البلاغة الكبرى للدكتور محمد بن علي الصامل (مفرغ)
القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد الدرس الثامن:
قال المؤلفون رحمهم الله تعالى:
(الباب الثالث في التقديم والتأخير: من المعلوم أنه لا يمكن النطق بأجزاء
الكلام دفعة واحدة، بل لابد من تقديم بعض الأجزاء وتأخير البعض، وليس شيء
منها في نفسه أولى بالتقدم من الآخر لاشتراك جميع الألفاظ حيث هي ألفاظ في
درجة الاعتبار فلابد من تقديم هذا على ذاك من داع يوجبه).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهـداه إلى يـوم الديـن وبـعـد:
فهذا هو الباب الثالث عند
المؤلفين جعلوه في درس التقديم والتأخير ثم ذكروا رحمهم الله مقدمة يريدون
أن يتوصلوا من خلالها إلى بيان الأسباب التي تدعوا إلى التقديم والتأخير،
فأشاروا إلى أن الكلام لا يمكن أن ينطق مرة واحدة ولهذا فلابد أن يقدم بعضه
على بعض، فيمكن أن يسأل: لماذا قدم هذا ولماذا أخر ذاك؟
الحقيقة أن الناظر إلى الجملة
العربية يجد أنها صنفت إلى صنفين من حيث النوع، لا من حيث الإنشائية
والخبرية كما سبق أن مر بنا، ولكن من حيث الاسمية والفعلية، وكل جملة من
هذه الجمل لها ترتيب خاص في وضعها الأصلي فالجملة الاسمية يبتدئ الناس فيها
بالمبتدأ، ثم الخبر ثم ما يتلو ذلك من متعلقات أو قيود، والجملة الفعلية
تبدأ بالفعل ثم الفاعل ثم المفعول به. ثم بقية المفاعيل الأخرى التي تدخل
في نطاق القيود والمتعلقات [ غير واضح ] إذا كان ترتيب الكلام بهذا
الشكل فهذا جاء على الأصل وما يأتي على الأصل غالباً لا يبحث عن سببه لأن
العلة التي يجيب بها المسؤولون عن السبب يقولون: هذه هو الأصل ومع ذلك يمكن
أن يتبدى بتعليل آخر غير القول بأن هذا جاء وفق الأصل، ولهذا يكفي أن يكون
تعليلاً لهذا النوع أو ذاك.
لكن الذي يبحث عن تعليل هو ما
خالف الأصل، لو أننا في الجملة الاسمية وجدنا أن الخبر تقدم على المبتدأ
سيسأل لماذا تقدم الخبر على المبتدأ وكان بالإمكان أن يأتي على الأصل
فيتقدم المبتدأ على الخبر. وإذا جاء في الجملية الفعلية مثلاً فتقدم الفاعل
وهنا طبعاً تقدم الفاعل سيثير مشكلة وهي أنه إذا تقدم الفاعل ستتحول
الجملة من فعلية إلى اسمية؛ لأنها ستأخذ شكلاً جديداً لكن لو قلنا تقدم
المفعول به على الفعل ستظل الجملة فعلية ولكن يسأل لماذا تقدم المفعول به
وحقه أن يأتي متأخراً هذه أسئلة تحتاج إلى جواب، لو نظرنا إلى الترتيب في
أجزاء الجملة الفعلية الفعل الفاعل المفعول به، هذا هو الأصل لكن لو جاءت
الفعل المفعول به الفاعل إذاً هذا مخالف للأصل يمكن أن يبحث لماذا جاء
التقديم وجاء التأخير، هذه فكرة عن ظاهرة التقديم والتأخير في الكلام
العربي، أمر آخر سيشير إليه المؤلفون في آخر الدرس وهو متصل بهذه النقطة
وهو إذا بحث عن سبب التقديم في الجملة فمعنى ذلك أنه بحث في جانبين: تقديم
ما قدم وتأخير ما أخر، لو أن الحديث عن تقديم المفعول به على الفعل سينظر
إليه من زاوية أن المفعول به تقدم ولكن أيضاً هناك زاوية أخرى وهي تأخر
الفعل إذاً إذا درس التقديم في واحد من أجزاء الجملة فهو أيضاً درس للتأخير
في جزئها الآخر أو فيما بقي فيها من أجزاء.
إذاً ما يراه البلاغيون من تخصيص
التقديم لوحده بموضوع وتخصيص التأخير لوحده في موضوع، المؤلفون هنا
يخالفونه ومعهم يعني شيء من الحق في هذا الجانب وبخاصة أنهم يقدمون كتاباً
مختصراً، فدراسة التقديم هي نفسها نظرة إلى دراسة التأخير ولكن هناك شيء
من الاختلاف مجاله الكتب المبسوطة الموسعة، يتناول أيضاً ظاهرة التقديم
والتأخير. أجزاء الجملة وأجزاء الجملة في البلاغة العربية كما أسلفنا في
دروس سابقة تتصل بالمسند إليه والمسند والمتعلقات لأننا أشرنا إلى أن أجزاء
الجملة ثلاثة في البلاغة العربية مع اختلاف المصطلحات النحوية، إذاً هذا
ما يتصل بقضية ظاهرة التقديم والتأخير إجمالاً ويمكن أن يسأل عن الدواعي
التي سببت هذا التقديم أو ذاك التأخير من خلال مجيء الجملة وفق الأصل
ومجيؤها مخالفة للأصل، كما سنعرف إن شاء الله تعالى).
القارئ: (فمن الدواعي التشويق إلى المتأخر إذا كان المتقدم مشعراً بغرابة نحو:
والـذي حـارت البـــريـة فــيــة حيـوان مستحدث من جـماد).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (يلحظ هنا أن الغرض الأول أو الداعي الأول الذي دعا إلى التقديم هو التشويق إلى المتأخر وهذا أيضاً يؤكد ما سلف في المقدمة السابقة أن النظرة الآن للفظ المتأخر وليس للفظ المتأخر وليس للفظ المتقدم يعني العلة مرتبطة باللفظ الذي أخر، ولهذا يقولون: (التشويق إلى المتأخر) ومعنى ذلك أنهم لم ينظروا إلى جانب اللفظ الذي تقدم وهنا يؤكدون على أن التشويق إلى المتأخر يكون تعليلاً للتقديم والتأخير معاً وخاصة إذا كان المتقدم مشعراً بغرابة وضربوا لذلك مثلاً بقول أبي العلاء المعري في داليته الشهيرة:
والـذي حـارت البـــريـة فــيــة حيـوان مستحدث من جـماد الاسم الموصول في البداية هو المسند إليه والمبتدأ ويحتاج إلى خبر إذاً الجملة الاسمية جاءت على ظاهرها مبتدأ ثم خبر لكن هذا المبتدأ
كان من نوع خاص وسيأتي في الدرس القادم إن شاء الله وهو معرّف باسم الموصول
والتعريف بالاسم الموصول له خصيصة ستذكر هناك إن شاء الله تعالى. لكن لما
قرئ الشطر الأول: (والذي حارت البرية فيه) أين المسند إليه ليس المسند إليه هو الذي فقط [غير واضح] بل المسند إليه الذي هو جملة الصلة (حارت البرية فيه)
كل الشطر الأول مسند إليه وهو المبتدأ أين خبره؟ هذا المبتدأ بما يحمله من
مجموعة من الألفاظ فيها إشارة إلى حيرة البرية بإنسها وجنها تحار في ماذا ؟
هنا طبع الإنسان حينما يقال له مثل هذا الكلام يذهب ظنه إلى مجموعة من
الأمور فيشتاق إلى معرفة ما الذي يحدد، ما هذا الأمر الذي حارت البرية فيه
فيأتي الجواب حينما يأتي الخبر يقول: (حيوان مستحدث من جماد)
فالجواب هنا طبعاً جاء عن طريق ذكر تأخير الخبر وهو تأخير موافق لاستعمال
الأصل ولابد أن أنبه هنا في هذا البيت إلى ما يحمله من معانٍ ليست يعني
سليمة وهذه تتلاءم مع ما أتهم به أبو العلاء المعري غفر الله له وعفا عنا
وعنه حينما قيل أنه كان ينكر البعث في هذا البيت لأن معناه كأنه يقول:
الناس يحارون من حيوان يخرج من جماد، فالإنسان حينما يموت وتبلى عظامه
ويبلى جسمه يأتي ويبعث مرة ثانية فهو كأنه يستغرب استغراب منكر استغراب
لعله تعجب ليس إنكار لكن أحوال الشاعر تنبئ عن وجود مثل هذه النظرات التي
ينبغي التنبه لها من كل قارئ لشعره عفا الله عنا وعنه).
القارئ: (قوله: (مستحدث من جماد) ألا يدل على إيمانه بالنشأة؟).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هو يقول: (حارت البرية)
يعني لا ينكر قضية الاستحداث من جماد، الاستحداث من جماد هو أمر يرى أنه
ادعاء، ولهذا هو يقول: (حارت البرية) وهناك بيت ينص على أن هذا أمر قدره
الله أن هذا الأمر قدره الله ولكن الذين يعرفون شخصية أبي العلاء قد يعني
يحكمون عليه بهذا الحكم الذي يقول فيه وهو القائل كما هو معروف: قيل أنه
طلب أن يكتب على قبره: (هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد) ولعل نظرته والله أعلم بذلك، أقول عفا الله عنا وعنه خشية أن نتهمه بما لم يرد).
القارئ: (وتعجيل المسرة أو المساءة نحو: (العفو عنك صدر به الأمر أو القصاص حكم به القاضي) ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (تعجيل المسرة أو المساءة هنا طبعاً الواضح ليس في الحديث عن قضية المسرة
والمساءة لأن المسرة والمساءة يمكن أن تفهم مباشرة من احتمال الجملة ولكن
حينما قال البلاغيون: (تعجيل المسرة أو تعجيل المساءة) والعجيل يأتي من تقديم اللفظ الذي يحمل الخبر السار أو الذي يحمل الخبر السيئ، فحينما يقال: (العفو) أول كلمة تتبادر إلى الذهن هي كلمة العفو، فهذا يعني تقع موقعها من خلال سرعتها في تبليغ المقصود، (العفو عنك صدر به الأمر) ولذلك لو نظرنا إلى هذه الجملة ستجد أن ترتيبها الأصلي يمكن أن يكون: (صدر الأمر بالعفو عنك) فتحول (العفو عنك)
من آخر الجملة على أنه قيد إلى أن يكون رأساً أن يكون مسنداً إليه مبتدأ
فتحولت الجملة الآن كانت فعلية إلى أن أصبحت اسميه والغرض من ذلك هو أن
يتقدم لفظ (العفو) ليتعجل الخبر السار إلى المخاطب، ومثله: (القصاص حكم به القاضي) فالذي ينتظر حكم القاضي فكأن كلمة (القصاص) حينما تقع على مسمعه تسيئه؛ لأنه يتلقى الخبر الذي يعني سيودي بحياته، ولعل من هذا الأمر هو لفظ (السلام) حينما يواجهك إنسان فتقول له: السلام عليكم، فلفظ السلام هنا كأنه تعجيل للمسرة وللاطمئنان لمن يسمه وهذا من أسرار تحية الإسلام).
القارئ: (وكون متقدم محط الإنكار والتعجب نحو: أبعد طول التجربة تنخدع بهذه الزخارف).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (الأغراض ليست محصورة في نقاط محددة حتى عند البلاغيين؛ لأنها ممكن أن تختلف
باختلاف المعنى، ولذلك يلحظ أن هذا الغرض يقولون إنه لكون المتقدم محط
الإنكار والتعجب، ولو قرأنا مثالهم سنجد أنه يقول: أبعد طول التجربة تنخدع
بهذه الزخارف، فليس الغرض إنكار أو تعجب من الانخداع بالزخارف، وإنما من
وقوع الانخداع ممن طالت تجربته كيف يمكن أن ينخدع؟ ولهذا لو لاحظنا أن
الكلام صدر بهمزة الاستفهام وهمزة الاستفهام تدخل على المسؤول عنه، المسؤول
عنه هو الذي يلي همزة الاستفهام كما مر بنا في يعني درس الإنشاء وحتى لو
لم يكن مسؤولاً عنه فهو هنا منكر متعجب فأيضاً يدخل في هذا الجانب فالمتقدم
وهو الذي ولي أداة الاستفهام هو محط الإنكار والتعجب).
القارئ:
(وسلوك سبيل الترقي أي الإتيان بالعام أولاً ثم الخاص بعده؛ لأن العام إذا
ذكر بعد الخاص لا يكون له فائدة نحو هذا الكلام صحيح فصيح بليغ، فإذا قلت:
فصيح بليغ لا تحتاج إلى ذكر صحيح وإذا قلت بليغ لا تحتاج إلى ذكر صحيح ولا
فصيح).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (وهذا
الغرض من الأغراض التي يذكرها البلاغيون في مسألة التقديم والتأخير فإذا
كان هدف المتكلم أن يترقى في كلامه فيذكر العام أولاً ثم الخاص فيجعلونه من
أسلوب الترقي وكأن هذا الترقي يسعى من الإشارة إلى شيء عام ويترقى إلى
تخصيصه بشيءٍ محدد ولهذا حينما يجعل ذكر العام أولاً ثم الخاص فهو أيضاً
لون من ألوان الإطناب كما سيرد في حديث البلاغيين عن ظاهرة الإيجاز
والإطناب إن شاء الله تعالى.
ومنه أيضاً ما يندرج تحت الإيضاح
بعد الإبهام؛ لأن الإنسان قد يذكر كلاماً مبهماً ثم يترقى فيه حتى يتضح
هذا المبهم أما مثال المؤلفين رحمهم الله فهو قولهم: (هذا الكلام صحيح فصيح بليغ)
يقول: إذا قلت: فصيح بليغ لا تحتاج إلى ذكر صحيح، وهذا مر بنا في المقدمة
في الدرس الأول حينما أشرنا إلى أن كل بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغ، ومعنى
ذلك أن البليغ لا يطلق صفة البليغ حتى تتوافر فيه صفة الفصاحة والصحة، إذاً
الصحة أولاً ثم الفصاحة ثانياً، يمكن أن يكون صحيحاً لكنه ليس بفصيح فإذا
قيل فصيح فمعنى ذلك أنه صحيح وفصيح فإذا قيل بليغ فمعنى ذلك أنه جمع هذه
الصفات الثلاث ولذلك تأخير كلمة بليغ هو لون من الترقي لأنه لا يمكن أن
يوصف الكلام بأنه بليغ إلا بعد أن تتوافر فيه الصحة والفصاحة).
القارئ: (ومراعاة الترتيب الوجودي نحو: {لا تأخذه سنة ولا نوم} ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: ( (مراعاة الترتيب الوجودي) وقصدهم الترتيب في الوجود فحينما ورد قوله جل وعلا: {لا تأخذه سنة ولا نوم}
ووقفوا عن السنة، قالوا السنة هي: الفتور الذي يسبق النوم ن ثم بعد يأتي
بعد ذلك النوم، فالله سبحانه وتعالى نفى عن نفسه أن تأخذه هذه الصفة سواء
كانت السنة التي تسبق النوم أو النوم نفسه هو لون من الترتيب الوجودي،
والترتيب على هذا الوجه له مجموعة من الظواهر قد يراعى الجانب الزمني قد
يراعى الجانب المكاني قد يراعى الجانب الأهم جانب الأقل جانب الأكثر، ولذلك
ابن قيم الجوزية رحمه الله له حديث ممتع في هذا الجانب في كتاب بدائع
الفوائد ذكر فيه خمسة من الأسباب التي تدعوا إلى مسألة التقديم ويتفاوت
الناس في الالتزام بها لأنها تتوقف على مراد المتكلم فهل الترتيب يريد أن
ينتقل فيه من الأصغر إلى الأكبر أو من الأكبر إلى الأصغر ومن الكثير إلى
القليل أو من القليل إلى الكثير هذا يتوقف على مراد المتكلم من كلامه).
القارئ: (والنص على عموم السلب أو سلب العموم، فالأول يكون بتقديم أداة العموم على أداة النفي، نحو: (كل ذلك لم يكن) أي لم يقع هذا ولا ذاك، والثاني يكون بتقديم أداة النفي على أداة العموم، نحو: (لم يكن كل ذلك) أي لم يقع المجموع فيحتمل ثبوت البعض ويحتمل نفي كل فرد).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (يلحظ
هنا أن الغرض قالو: النص على عموم السلب أو سلب العموم، ومعنى هذا أن
عندنا قضيتين: القضية الأولى: تسمى عموم السلب والثانية تسمى سلب العموم،
وهاتان القضيتان لا تتحققان إلا من خلال استخدام ما يسمى بألفاظ العموم مع
النفي. وإذا اجتمع لفظ من ألفاظ العموم ومعه نفي وكان لفظ العموم مسنداً
إليه فمعنى ذلك أن الموضوع يدخل في هذا الحديث فلنأخذ دلالة عموم السلب أو
ما يسمونه شمول النفي، يلحظ أن العبارة حينما تكون: (كل ذلك لم يكن) نلحظ أن لفظ (كل) من ألفاظ العموم ولفظ (لم) دل على النفي، وليس فقط أن (كل)
من ألفاظ العموم بل جاءت مسنداً إليه مبتدأ وخبر المبتدأ هنا جاء منفياً
لم يكن، إذا توافر في العبارة الشروط التالية أن المسند إليه من ألفاظ
العموم وأنه جاء بصحبة النفي وتقدم لفظ العموم على النفي فإن ذلك يفيد عموم
السلب أو شمول النفي، معنى هذا: (كل ذلك لم يكن) يعني كان العموم في هذا الحكم، لو أنني أردت أن أضرب مثلاً أيسر في استحضار هذه القضية لو جئت وقلت: (كل الطلاب لم يحضروا)
فهو لفظ من ألفاظ العموم جاء بعده النفي، ولفظ العموم وقع مسنداً إليه،
هذا يعني أنه لم يحضر أي واحد من الطلاب وهذا الذي يسمى عموم السلب، لماذا
قيل عموم السلب؛ لأن لفظ العموم جاء أولاً والسلب جاء مخبراً عنه فالعموم
كان شاملاً لكل الشيء المسلوب (كل الطلاب لم يحضروا) عدم الحضور شمل جميع
الطلاب، هذا الذي يسمى عموم السلب.
أما الثاني وهو سلب العموم
فالفرق بينه وبين الأول أن يتقدم النفي على لفظ العموم، فحينما نقول: (لم
يكن كل ذلك) هنا في هذه العبارة تقدم النفي وتقدم الفعل يعني تغيرت صيغة
الجملة لكن مثلها أيضاً تقول: (لم يحضر كل الطلاب) لفظ (كل) سواء كان في عبارتنا أو في عبارة المؤلفين مسند إليه (كل الطلاب) مسند إليه، (كل الطلاب لم يحضروا) مسند إليه و (لم يحضر كل الطلاب)
مسند إليه بحكم أنه فاعل وليست القضية اختلاف موقع لفظ العموم بل هو مسند
إليه في كلتا الجملتين، ولكن السبب هو تقدم النفي على المسند إليه، ولهذا
يقولون حين تقول: (لم يحضر كل الطلاب) هذا سلب العموم، يعني العموم مسلوب ليس شاملاً لكل أفراد المسند إليه، فلو قلت: (لم يحضر كل الطلاب)
هذا حكم بأنه لم يحضر عدد منهم لكن حضر عدد قليل منهم، ولهذا ليست القضية
متوقفة على تقدم المسند إليه على النفي بلفظه فقد يكون لفظ العموم تقدم
بلفظه وربما يكون معناه التأخير، فلو قلت مثلاً: (كلَّ الدراهم لم آخذ) أو قلت: (كلُّ الدراهم لم آخذ) فرق بين العبارتين مع اتحاد لفظ العموم؛ لأن التقدير على نصب لفظ كل أن (كلَّ الدراهم لم آخذ) يعني
لم آخذ كل الدراهم، فكأن النفي تقدم ولكن صيغة العموم هي التي تقدمت في
الظاهر ولكونها مفعولاً به فمن حقها أن تأتي متأخرة، ولهذا يفيد هذا اللون
من الأساليب أن الأخذ لم يكن للجميع بل كان للبعض، ولهذا يقولون هذا من سلب
العموم. أما: (كلُّ الدراهم لم آخذ) فهذا من
عموم السلب ولذلك يكون عدم الأخذ لجميع الدراهم فلم يأخذ شيئاً منها، وعلى
هذا يقول البلاغيون تفسير قول الشاعر: عليّ ذنباً كله لم أصنع.
قـد أصبحـت أم الخـيــار تــدعـي عليّ ذنباً كله لم أصنع
لأنه يمكن أن تقرأ: (كلُّه لم أصنع) ويمكن أن تقرأ (كلَّه لم أصنع) وحتى يتلاءم مع مقصود الشاعر ينبغي أن يكون لفظ (كل) في موقع المسند إليه حتى يكون من عموم السلب وليس سلب العموم).
القارئ: (وتقوية الحكم إذا كان الخبر فعلاً، نحو: (الهلال ظهر) وذلك لتكرار الإسناد).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هذا
من المواضع المهمة في تقديم المسند إليه؛ لأنه يتحكم في مسألة الجملة ويغير
من شأنها، حينما ننظر إلى الغاية والغرض هي تقوية الحكم، تقوية الحكم
التقوية تكون بمجموعة من الأساليب وهذا يمكن أن يجعل من ضمن المؤكدات،
تقوية هي عبارة عن تأكيد للحكم الحكم هو إسناد الظهور للهلال، فكأن التعبير
حينما قيل: (الهلال ظهر) ولم يقل: (ظهر الهلال) لأنه كان بالإمكان أن يعبر عن هذه الجملة بقوله: (ظهر الهلال) فلو قلنا: (ظهر الهلال) لكانت الجملة فعلية فيها فعل ثم فاعل وينتهي الكلام عند هذا الحد، لكن حينما قلنا: (الهلال ظهر)
تغير حال الجملة فانقلبت من تصنيفها وفق الجملة الفعلية إلى تصنيفها وفق
الجملة الاسمية، وهذا دعى إلى أن يكون التعبير عن ظهور الهلال جاء مرتين،
مع أن الكلمات هي الكلمات لكنها اختلفت في مواقعها، واختلاف الموقع يدل على
اختلاف الأثر، فحينما ننظر إلى الجملة بشكلها الظاهري بـ (ظهر الهلال) مثلاً على ترتيبها في الجملة الفعلية، نقول: (ظهر) فعل و (الهلال) فاعل وتنتهي الجملة عند هذا الحد لكن حينما تغير وضعها وقيل: (الهلال ظهر) سنأتي إلى نظرة أخرى للجملة نقول: (الهلال) الآن صار مبتدأ و (ظهر)
فعل ماضي وفاعله ضمير مستتر تقديره (هو) يعود على الهلال ولهذا صار
التعبير كأن جملة (الهلال ظهر) في قوة جملتين لأن التعبير عن الهلال جاء
مرتين مرة بذكر لفظ الهلال ومرة بذكر ضمير مستتر يعود إلى الهلال، ولهذا
يقول: هذا هو تفسير عبارة البلاغيين حينما يقولون: تكرار الإسناد).
القارئ: (والتخصيص نحو: (ما أنا قلت) و {إياك نعبد}).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (التخصيص هو ما يعرف عند البلاغيين بالقصر فحينما ننظر إلى الكلام سنجد أنه
إخبار مجرد وهذا الذي أخذناه في أضرب الخبر، إخبار مجرد أي خالي من أي مؤكد
وحينما يؤكد بمؤكد سواء كان بمؤكد لفظي مثل: إن وأن أو القسم وغيره من
ألوان المؤكدات هو أعلى درجة من الكلام الذي لم يؤكد في تأكيد مضمون الخبر،
والدرجة التي تزيد على ما يسمى تقوية أو التوكيد هي التخصيص معنى انحصار
هذا الخبر في المتحدث عنه، فحينما ننظر إلى عبارة: (ما أنا قلت) نجد أن الذي تقدم هو المسند إليه (أنا) و (قلت) في موقع المسند، يعني فعل وفاعل في موقع الخبر وكان التعبير يمكن أن يتحقق بغير هذه الصيغة كأن يكون: (ما قلت) ولذلك حينما جاء الأسلوب: (ما أنا قلت) نفي
ثم مسند إليه ثم مسند فعلي وهنا سواء كان عن طريق الفعل المشتمل على فاعل
أو المشتقات التي تحمل بعض الضمائر، فإن هذا يفيد التخصيص، والتخصيص يتحقق
من خلال معرفة ثلاثة أمور، الأمر الأول: هو حصول المخبر به وهو حصول قول،
الأمر الثاني: نفيه عن المسند إليه إن الذي قال ليس المتكلم، الذي يقول: (ما أنا قلت)،
الأمر الثالث: وهو مترتب على الأمرين السابقين، إذاً لم يبق إلا حصول هذا
القول من غير المتكلم إذاً هذا هو التخصيص أن تثبت القول، أن تنفيه عن
المتكلم وهو المسند إليه هنا، أن تثبته إذا كان مثبتاً ومنفياً عن المتكلم
فلا يبقى إلا إثباته لغير المتكلم وهو الذي يسميه البلاغيون التخصيص وهذه
قضية تحتاج حقيقة إلى تنبه؛ لأن فيها حجة في الرد على المعتزلة في مسألة
الحكم على مرتكب الكبيرة، فحينما نقرأ قول الله جل وعلا: {وما هم بخارجين من النار} يوم القيامة يحصل بين المتّبعين والمتبَعين حوار يكون ختام الحديث عنهم في قوله عز وجل: {وما هم بخارجين من النار} لو لاحظنا هذا الأسلوب سنجد أنه مطابق لأسلوب: (ما أنا قلت) لأنه (ما) نافية و (هم) مسند إليه (بخارجين) مسند
فعلي وكان من المشتقات يحمل ضميراً، فهذا اللون من الأساليب تفيد التخصيص،
والتخصيص يتحقق في ثلاثة أمور في الآية يعني حصول الخروج هذا الأمر الأول،
والثاني: نفيه عن هؤلاء المتحدث عنهم، الثالث: إثبات الخروج لغيرهم. وهذا
الذي ينقض ما يراه المعتزلة، ولهذا حينما نعود مرة إلى تفسير الزمخشري
مثلاً لا يهرب من الوقوف عند الآية لأنها تنسف هذا يعني الحكم عندهم الحكم
على مرتكب الكبيرة: ولذلك يعني حينما مر بها قال: (هي مثل قولهم: (هموا يفرشون اللبد كل طمرة) وهذا شاهد عن البلاغيين على تقوية الحكم الذي مر بنا قبل قليل مثل: (الهلال ظهر) وكأنه يقول: هو تأكيد لعدم ظهورهم، لأنه قال اختصاص لغير أو لنسف أو لناقض الرأي الذي يعتقده أصحابه المعتزلة.
وهذا لون من تقديم المسند إليه في الجملة الاسمية، الجملة الاسمية: (ما أنا قلت)؛ لأنها تحولت الآن من فعلية (ما قلت) إلى (ما أنا قلت) صارت جملة اسمية، مع أن البلاغيين طبعاً يقولون إن (أنا)
في هذا هي فاعل، لكنه الفاعل في المعنى، لكن البلاغيون لا يتعاملون مع
قضية الفاعل والمبتدأ، يتعاملون مع مسند إليه ومسند فالمسند إليه سواء كان
فاعلاً أو مبتدأ فهو مسند إليه. أما اللون الثاني الذي مثل به المؤلفون فهو
التقديم في الجملة الفعلية (إياك نعبد) (فإياك)
الآن هو ضمير منفصل في موقع مفعول به تقدم على الفعل، تقدم المفعول به على
الفعل في هذه الحالة لا يفيد الاختصاص ولنأخذ على قضية الاختصاص الأمور
الثلاثة التي ذكرناها قبل قليل، مع أن هذا ليس فيه نفي، لم يرد النفي فيه
ولكن لأنه أفاد الاختصاص سيأتي الحديث أو سيتضمن الحديث إشارة إلى نفي ما،
فالأمر الأول: إثبات العبادة، الأمر الثاني: اتجاهها لله جل وعلا، الأمر
الثالث: نفي العبادة لغير الله عز وجل، (فإياك نعبد) كأنه في قوة: (لا نعبد إلا أنت) (لا نعبد إلا إياك) ).
القارئ: (والمحافظة على وزن أو سجع، فالأول نحو:
إذا نـطـق السـفيـه فـلا تـجبـه فخير من إجابته السكوت).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هذا غرض اجتهد المؤلفون في ذكره وكما أسلفت في موضع سابق مسألة المحافظة على الوزن أو السجع هذه قضايا تتجه إلى الجانب الشكلي أكثر منها إلى الجانب المعنوي، وإن كان الأمر جائزاً في الشعر وفي المنثور من كلام الناس فلا يجوز أن نحمل ذلك كما سيأتي في على ما يرد في القرآن الكريم، فاستشهاد المؤلفين في قول الشاعر:
إذا نـطـق السـفيـه فـلا تـجبـه فخير من إجابته السكوت والتقدير هنا طبعاً يقولون إن السكوت مسند إليه ومتأخر، التقدير أنه (السكوت خير من إجابته) ولو نظرنا إلى هذه الجملة سنجد أن السبب ربما يكون في تقديم لفظ (خير)
وفي تعجيل وفي تعجيل أيضاً المسرة لمن يسلك هذا السبيل، فليس شرطاً أن
يكون الغرض يعني المحافظة على الوزن، ربما يتحقق الوزن ويكون تابعاً،
والشاعر الذي يلجأ إلى التقديم لغاية الوزن فقط عنده الوزن فقط يشك في
قدرته الشعرية).
القارئ: (والثاني نحو: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه}).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هنا
المأخذ الكبير الذي يتعامل به البلاغيين مع كتاب الله عز وجل وكأنما يريدون
أن يأتي الكلام على لغاية المحافظة على السجع، مسألة السجع يسمى سجع أو
فاصلة هذا خلاف بين البلاغيين لعلنا نشير إليه في الحديث عن البديع إن شاء
الله تعالى. قولهم: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه} يعني كان على حد زعمهم أن العبارة تصح أن تقول: (ثم صلوه الجحيم)، (ثم اسلكوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً)
ولكن تأخير الفعل لتتلاءم الفواصل. هنا نقول تلاءمت الفواصل وكانت يعني
تابعة لمعنى مهم جداً وهو مسألة الاختصاص الذي مر بنا قبل قليل {ثم الجحيم صلوه}
ويعني تقديم المفعول به على الفعل يحقق الاختصاص، كأنه من شدة الوعيد لهذا
أنه لا يوجه إلا إلى الجحيم، وهذا لون من المعاني العظيمة التي يسعى إليها
مثل هذا الأسلوب، يأتي بعد ذلك تبعاً الجانب اللفظي ويعد مسألة (غلوه، صلوه، فاسلكوه) هذا تأتي تبعاً لكن التقدم الذي يحقق التخصيص هو الأولى بالاعتبار من النظر إلى الجانب الشكلي).
القارئ: (ولم يذكر لكل من التقديم والتأخير دواعٍ خاصة؛ لأنه إذا تقدم أحد ركني الجملة تأخر الآخر، فهما متلازمان).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (وهذا
ما أشرنا إليه في مقدمة الحديث أن الحديث عن تقديم جزء يقتضي بالضرورة
الحديث عن تأخير الآخر، فالجملة وحدة واحدة إذا نظرنا إليها نظرة شاملة
فنظرتنا إلى تقديم أحد أجزائها هي عينها النظرة في تأخير الجزء الآخر، ولكن
من خلال حديث البلاغيين نجد أن عندهم من الأسباب التي تدعوا إلى تخصيص
التقديم وتخصيص التأخير ما يدعو إلى التأمل في المطولات وليس في المختصرات).
القارئ: (بارك الله فيكم.
س: فضيلة الشيخ /
هل هناك ضوابط لمعرفة المراد من التقديم والتأخير أو معنى التقديم
والتأخير في الجملة، لأنا إذا أجرينا هذه القواعد والضوابط على معرفة
التقديم والتأخير على كتاب الله عز وجل سيحمل ذلك نوعاً من أنواع التفسير؟).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (نعم،
الضوابط التي يتوصل إليها البلاغيون نتيجة استقراء أساليب العرب، واستقراء
أساليب العرب تعني أن تقديمهم لشيء في أمر مضطرد يعني تحقق الغرض من هذا
الشيء، فلو أننا نظرنا إلى قضية سلب العموم وعموم السلب، كما أسلفنا أن
المسند إليه إذا كان من ألفاظ العموم إذا كان المسند إليه وأنا هنا أؤكد
على أنه المسند إليه لماذا؟ لأنه قد يرد لفظ العموم ولكن ليس من ألفاظ
المسند إليه فتختلف القاعدة، فتختلف القاعدة في هذه الحالة، لكن إذا كان
المسند إليه من ألفاظ العموم وتقدم المسند إليه على النفي فإنه يفيد عموم
السلب، أن السلب يشمل عموم أفراد المسند إليه، وإذا تقدم على النفي على لفظ
العموم الذي وقع مسنداً إليه فيكون من سلب العموم في هذا الجانب. حتى يدرك
المتلقي الكريم لو أخذنا مثلاً قول الله عز وجل: {والله لا يحب كل مختار فخور} لو
أننا أردنا أن نطبق القاعدة التي وردت وخشية السامع الكريم من أن تكون
قاعدة يعتمد عليها في التفسير سينظر إلى: أولاً النفي تقدم ولفظ العموم ورد
ولاحظ كلمة ورد عندي، فهل يفيد سلب العموم؟
إذا قلنا بإفادته سلب العموم {والله لا يحب كل مختار فخور}
معناه على سلب العموم، أن الله لا يحب يعني الكل، لكنه يحب البعض، هذا على
تفسير سلب العموم، منهم من وجه هذه الآية بأن الاختيال والفخر في بعض
المواضع يحبه الله عز وجل، المعارك يمكن أن يحب[انقطع الصوت] ولذلك لا
إشكال في هذه الآية؛ لأنها يمكن أن تخرج على هذا، ومع ذلك سأبقي الأمر
معلقاً، لو أنا جئنا بآية أخرى مشابهة: {إن الله لا يحب كل كفار أثيم} هذه
التي لا تحتمل يعني الاختيال والفخر يمكن أن يكون مقبولاً لأن الله عز وجل
يحب من يختال ويفخر في موقع معين فتكون القاعدة مطردة، لكن الكَفّار
الأثيم هل يحبه الله عز وجل؟ هل يحب بعضهم؟ ما يمكن، إذاً كيف نخرج من هذه؟
نخرج من هذه نقول أصلاً الآيتان لا تدخلان عندنا، لماذا، لأن لفظ العموم
لم يأتي مسنداً إليه، قد جاء مفعولاً به ولذلك القاعدة مطردة ولا إشكال
فيها، ولذلك هنا مادام لم يقع مسنداً إليه فهو لا يدخل في نطاق القاعدة، لا
يدخل في نطاق القاعدة، ويمكن أن يحمل على عموم السلب في هذه الحالة، إن
الله لا يحب من اتصف بأنه كفار أثيم).
القارئ: (ما هو توجيه التقديم في قول امرئ القيس:
فلـو كان ما أسـعـى لأدنـى معيشـة كفاني ولم أطلب قليل من المال
الاختلاف المعني باختلاف مراده في التقديم والتأخير (قليل من المال) بالرفع.
فلـو كان ما أسـعـى لأدنـى معيشـة كفاني ولم أطلب قليل من المال). قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (المشكلة هنا في ما يعرف عند البلاغيين بالاحتراز ليس فيه قضية تقديم وتأخير هنا ، لأن التقديم [ كفاني قليل من المال ] بين قوسين بين شرطتين جملة معترضة [ لم أطلب ] هو لم يطلب قليل ليس معمولاً للفعل [ أطلب ] وإنما للفعل [ كفاني ] ولهذا هذا ما يسميه البلاغيون (الاحتراس)
الاحتراس حتى يترفع عن أنه يقدم على الطلب . وهذا سيأتي إن شاء الله
التفصيل فيه في قضايا البديع بشكل أو ربما يأتي الاعتراض أيضاً في علم
المعاني في آخر علم المعاني إن شاء الله تعالى).
القارئ : (ألم يأتي بالاعتراض لأجل المحافظة على الوزن ؟).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (أما
وقد كان شعراً فالأمر يعني يمكن أن يحدث ، لكن أنا أضرب هنا مثال ببيت ذكره
أبو الطيب المتنبي يخاطب فيه نسيت من يخاطب يقول :
وتحـتقــر الدنيـا احتـقـار مـجـربٍ يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
فكلمة ( وحاشاك ) جاءت معترضة لأن التقدير : ( يرى كل ما فيها فانياً وحاشاك ) لكن الشعر قال بعض النقاد : هذا من الحشو يعني هذا من الزيادة وقال بعضهم تعليقاً على ذلك : قال هذا من حشو اللوزنيج ، اللوزنيج لون من الحلوى اللذيذة فيقول : هذا فيه وإن تحقق فيه جانب الوزن نعم لكنه أضاف إلى المعنى ، فكل لفظ يرد إن حمل معه معنىً جديداً أو معنىً إضافياً فهذا دلالة على ثراء هذا اللفظ وأنه يضيف إلى النص معنىً جديداً وإن لم يضف فسيكون مثل مسألة النقص فالزيادة بغير فائدة كالنقص .
القارئ : (نختم بسؤال عن بيت لعمر بن أبي ربيعة في قوله : رب ورقاء هتوف بالضحى (الصوت غير واضح). ربما أبــكــــى فلا أفـهمـها وهي قـد تبــكي فلا تـفهمني غـيـر أنـي بالجــوى أعـرفـها وهي أيضاً بالجوى تعرفني). قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (عمر
بن أبي ربيعة شاعر الغزل رقيق الشعر في هذا الجانب ويلحظ هذه المقابلة بين
حالته وحالتها ولذلك ربما يكون الغرض الجانب في تصوير الحالتين تصوير
حالته وتصوير حالتها وهذا يعني فيه بالإضافة إلى تحقق الوزن بإضافة أيضاً
كما أشار السائل الكريم ولكن الموضوع ليس مرتبطاً بالوزن فقط وإنما مرتبط
بالصورتين هنا صورة وهنا صورة أخرى تقابلها (هنا انقطع الشريط). هذا الذي يحضرني في هذا الموضوع).
غـيـر أنـي بالجــوى أعـرفـها وهي أيضاً بالجوى تعرفني
الكشاف التحليلي
- الباب الثالث: في التقديم والتأخير.
الحادث المخلوق ومنه كلام المخلوق لا يمكن أن يأتي بكل أغراضه دفعة واحدة، فلا بد أن يقدم بعضا ويؤخر بعضا
- والمرادُ بالتقديمِ والتأخيرِ هنا: إيرادُ اللفظِ ابتداءً أوَّلَ النطقِ أو آخرَه, لا أنه كان مُقدَّماً ثم أُخِّرَ, ولا كان مؤخَّراً ثم قُدِّمَ
- ليس شيء من الألفاظ أولى بالتقديم من الآخر في حد ذاتها
- من البين أن رتبة المسند إليه التقديم لأنه المحكوم عليه، ورتبة المسند التأخير لأنه المحكوم به، ولا يتغير الأصل إلا لداع:
- من دواعي تقديم المسند وتأخير المسند إليه:
- الداعي الأول: التشويق، ومثاله: والذي حارت البرية فيهِ حيوان مستحدث من جمادِ
- الداعي الثاني: تعجيل المسرة، ومثاله:العفو عنك صدر به الأمر، أو المساءة، ومثاله:القصاص حكم به القاضي
- الداعي الثالث: كون المتقدم محط الإنكار والتعجب، ومثاله:أبعد طول التجربة تنخدع؟
- الداعي الرابع: النص على عموم السلب أو سلب العموم.
- شرح معنى: عموم السلب وسلب العموم.
- الأمر الأول:عموم السلب، ويسمى شمول النفي.
- عموم السلب يكون بتقديم أداة العموم على أداة النفي، ومثاله: (كل ذلك لم يكن)
- شروط تحقق عموم السلب:
- الشرط الأول: أن يكون المتقدم مقروناً بأداة العموم، بخلاف:زيد لم يقم
- الشرط الثاني: أن يكون المتأخر مقروناً بأداة النفي؛ بخلاف:كل إنسان قام.
- الشرط الثالث: أن يكون المتقدم بحيث لو أخر كان فاعلاً، بخلاف:كل إنسان لم يقم أبوه.
- الشرط الرابع: أن تكون أداة العموم غير معمولة لما بعدها، بخلاف:لم آخذ كل درهم.
- الأمر الثاني:سلب العموم، ويسمى نفي الشمول.
سلب العموم يكون بتقديم أداة النفي على أداة العموم.
الصواب أن توجه النفي في سلب العموم للشمول أكثري لا كلي؛ بدليل: {إن الله لا يحب كل مختال فخور}
- الحاصل أنه إذا اقتضى المقام عموم السلب فلا سبيل إلى الإفادة به إلا بتقديم لفظ العموم على النفي، والعكس.
- الداعي الخامس: التخصيص، وهو أقسام:
- القسم الأول:تخصيص المسند بالمسند إليه، ومثاله: {لله ملك السموات والأرض}
- القسم الثاني: تخصيص المسند إليه بالمسند، وهو نوعان:
- إما قطعاً، إذا كان المسند إليه مسبوقاً بنفي، والمسند فعلاً سواء كان
نكرة مثل:ما تلميذ حفظ الدرس، أو معرفة ظاهرة مثل:ما خالد فعل هذا، أو
معرفة مضمرة مثل:ما أنا قلت.
- وإما احتمالاً، إذا كان المسند إليه لم يسبق بنفي بأن تأخر أو لم
يذكر؛ سواء كان المسند إليه معرفة ظاهرة مثل:خالد ما قال هذا، أو معرفة
مضمرة، مثل:أنا ما كتبت الدرس.
القسم الثالث: تخصيص المفعول، ومثاله: {إياك نعبد}
- الداعي السادس للتقديم: سلوك سبيل الترقي، كذكر الخاص بعد العام، مثاله:هذا الكلام صحيح فصيح بليغ
- الداعي السابع: مراعاة الترتيب الوجودي، ومثاله:{لا تأخذه سنة ولا نوم}
- الداعي الثامن: تقوية الحكم، ومثاله:الهلال ظهر
- الداعي التاسع: المحافظة على وزن أو سجع، ومثاله..
- لم يذكر علماء المعاني دواعي التأخير اكتفاء بدواعي التقديم.