1 Nov 2008
الاجْتِهَادُ
قال إمام الحرمين: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت ٤٧٨هـ) : (وَأَمَّا الاجْتِهَادُ: فَهُوَ بَذْلُ الوُسْعِ في بُلُوغِ الغَرَضِ.
فَالمُجْتَهِدُ
إِنْ كَانَ كَامِلَ الآلَةِ في الاجْتِهَادِ؛ فَإِن اجْتَهَدَ في
الفُرُوعِ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِن اجْتَهَدَ فِيهَا وَأَخْطَأَ
فَلَهُ أَجْرٌ واحِدٌ.
وَمِنْهُم مَنْ قَالَ:كُلُّ مُجْتَهِدٍ في الفُرُوعِ مُصِيبٌ.
وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:كُلُّ مُجْتَهِدٍ في الأُصُولِ الكَلاَمِيَّةِ
مُصِيبٌ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلى تَصْوِيبِ أَهْلِ الضَّلاَلَةِ مِن
(النَّصَارَى) وَ(المَجُوسِ) وَ(الكُفَّارِ) والمُلْحِدِينَ).
وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ في الفُرُوعِ مُصِيبًا، قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنِ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)).
وَجْهُ الدَّلِيلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّأَ المُجْتَهِدَ تارةً وَصَوَّبَهُ أُخْرَى).
شرح الورقات للعلامة: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي
قال جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (ت ٨٦٤هـ): ( (3) (وَأَمَّا الاجْتِهَادُ فَهُو:َ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي بُلُوغِ الْغَرَضِ) الْمَقْصُودِ مِن الْعِلْمِ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ.
(4) (فَالْمُجْتَهِدُ إِنْ كَانَ كَامِلَ الآلَةِ فِي الاجْتِهَادِ) كَمَا تَقَدَّمَ، (فَإِن اجْتَهَد فِي الْفُرُوعِ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ) عَلَى اجْتِهَادِهِ وَإِصَابَتِهِ.
(وَإِن اجْتَهَدَ فِيهَا وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ) عَلَى اجْتِهَادِهِ. وَسَيَأْتِي دَلِيلُ ذَلِكَ. (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مُقَلِّدِهِ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.
(وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الأُصُولِ الْكَلاَمِيَّةِ) أَي: الْعَقَائِدِ، (مُصِيبٌ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَصْوِيبِ أَهْلِ الضَّلاَلَةِ مِن النَّصَارَى) فِي قَوْلِهِمْ ِالتَّثْلِيثِ.
(وَالْمَجُوسِ) فِي قَوْلِهِمْ بِالأَصْلَيْنِ لِلْعَالَمِ: (النُّورِ وَالظُّلْمَةِ).
(وَالْكُفَّارِ) فِي نَفْيِهِم (التَّوْحِيدَ) وَبَعْثَةَ الرُّسُلِ وَالْمَعَادَ فِي الآخِرَةِ.
(وَالْمُلْحِدِينَ)
فِي نَفْيِهِمْ صِفَاتِهِ تَعَالَى؛ (كَالْكَلاَمِ) وَخَلْقِهِ أَفْعَالَ
الْعِبَادِ، وَكَوْنِهِ مَرْئِيًّا فِي الآخِرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبًا) قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)).
وَجْهُ الدَّلِيلِ:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَّأَ الْمُجْتَهِدَ تَارَةً، وَصَوَّبَهُ أُخْرَى. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَحَكَمَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)) ).
شرح الورقات لابن الفركاح الشافعي
قال تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري ابن الفركاح الشافعي (ت: 690هـ): ( (3) (وأمَّا
الاجتهادُ: فهوَ بَذْلُ الوُسْعِ في بلوغِ الغَرَضِ، والمجتهِدُ وإنْ كانَ
كاملَ الأدِلَّةِ فإن اجْتَهَدَ في الفروعِ وأصابَ فَلَهُ أَجرانِ، وإن
اجْتَهَدَ وأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ واحدٌ).
(4) (ومِنهم مَنْ قالَ: كُلُّ مُجتَهِدٍ في الفُروعِ مُصِيبٌ).
- الاجتهادُ: افْتِعَالٌ مِن الْجُهْدِ في الأمْرِ، بمعنى: المبالَغَةِ فيهِ.
- والمرادُ بالوُسْعِ: ما يُمْكِنُ الإنسانَ مِن الاجتهادِ.
- والغرَضُ هنا: هوَ الحكْمُ المطلوبُ بالاجتهادِ.
(وكَمالُ آلةِ المجتَهِدِ)
باستجماعِهِ ما تَقَدَّمَ بيانُهُ، فإذا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ واجتَهَدَ
وأصابَ، كانَ لهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ الاجتهادِ وأَجْرُ الإصابةِ، وإنْ
أَخْطَأَ كانَ لهُ أَجْرٌ واحدٌ، وهوَ أَجْرُ الاجتهادِ.
- وهذا
هوَ المشهورُ مِنْ مَذهبِ الشافعيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ المُصِيبَ
مِن المُجْتَهِدَيْنِ المختلِفَيْنِ واحدٌ، ولا إِثْمَ على الْمُخْطِئِ.
- وقالَ بعضُ أصحابِنا: لا قولَ للشافعيِّ سِوَى هذا.
- وقالَ قومٌ: لهُ قَولانِ؛ أحدُهما هذا، والثاني: تَصويبُ الجميعِ.
ومَنْ قالَ ذلكَ، مِنْ
دليلِهِ أنَّ كُلَّ واحدٍ يَجِبُ عليهِ الأخْذُ باجتهادِهِ، فلوْ كانَ
خَطَأً لمْ يَجُز الأَخْذُ بهِ فَضْلاً عن الوُجوبِ، وأيضًا فإنَّ الصحابةَ
رَضِيَ اللهُ عنهم يَخْتَلِفونَ في الوقائعِ ويُقَلِّدُ كلاًّ منهم
أَتْبَاعُهُ وغيرُهم، فلا يُنْكِرُ أحَدٌ منهم ذلكَ، ولو اعْتَقَدَ أحَدٌ
منهم الْخَطَأَ في غيرِ قولِهِ لأَنْكَرَ على مَنْ يَأْخُذُ بهِ.
- ومِنْ دليلِ القولِ الأوَّلِ ما سَنَذْكُرُهُ مِن الحديثِ.
- ومِنْ لطيفِ ما احْتُجَّ بهِ لهذا القولِ
قولُ مَنْ قالَ: القولُ بأنَّ كلَّ مُجْتَهِدٍ مُصيبٌ، يَلْزَمُ منهُ
صِحَّةُ قولِ مَنْ قالَ: ليسَ كُلُّ مُجتَهِدٍ مُصيبًا، أوْ بُطلانُهُ في
نفسِهِ؛ لأنَّ المجتَهِدَ القائلَ باجتهادِهِ ليسَ كُلُّ مُجتَهِدٍ
مُصيبًا.
- إمَّا أنْ يَعتقدَ القائلُ:
كلُّ مُجتَهِدٍ مصيبٌ،
بُطلانَ قولِهِ أوْ صِحَّتَهُ، فإن اعْتَقَدَ بُطلانَهُ فقدْ نَقَضَ
قَوْلَهُ، وحَكَمَ بخطأِ المجتَهِدِ، فليسَ كلُّ مُجْتَهِدٍ مُصيبًا
عندَهُ، فَبَطَلَ قولُهُ.
- وإن اعتَقَدَ صِحَّةَ قولِهِ، فقدْ سَلَّمَ أنَّ الحقَّ يُخْطِؤُهُ بعضُ المجتَهِدِينَ.
- وأُجيبَ عنْ هذا، بأنَّ هذا الخِلافَ إنَّما هوَ في مَسائلِ الفروعِ دُونَ مَسائلِ الأصولِ.
- ومسألةُ
تَصويبِ المجتَهِدينَ مَسألةٌ أُصولِيَّةٌ، وهوَ مُغالَطَةٌ؛ فإنَّ
المرادَ بمسائلِ الأصولِ التي اتَّفَقَ الجمهورُ على خروجِها عنْ هذا
الْخِلافِ، إنَّما هيَ المسائلُ الكلاميَّةُ التي مِنْ أصولِ العقائدِ.
- ومِنْ دليلِ هذا القولِ:
أنَّ الصحابةَ رَضِيَ
اللهُ عنهم كانوا يَتناظَرُونَ عندَ الاختلافِ في أَحكامِ الوقائعِ، وكانَ
كلٌّ منهم يَطلُبُ رجوعَ مُناظِرِهِ إلى قولِهِ.
- فلولا
اعتقادُهم أنَّ المصيبَ واحدٌ، وإلاَّ لمْ يُناظِرُوا، وكانَ كلُّ واحدٍ
منهم يَقتصِرُ على العمَلِ بما أدَّاهُ إليهِ اجتهادُهُ مِنْ غيرِ
مُناظَرَةٍ، ولا دعا غيرَهُ إلى مَذْهَبِهِ.
- ومِنْ دليلِ هذا القولِ:
أنَّ الاجتهادَ قدْ يُفْضِي بالمُجْتَهِدِينَ إلى قَولَيْنِ
مُتناقِضَيْنِ، كقولِ الشافعيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: لا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ
بالعيبِ بِوَطْئِ الثَّيِّبِ، وقولِ أبي حَنيفةَ: يَمتنِعُ. فلوْ كانا
مُصِيبَيْنِ لَزِمَ الجمْعُ بينَ النقيضَيْنِ.
(5) (ولا
يَجوزُ أنْ يُقالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ في الأصولِ مُصيبٌ؛ لأنَّ ذلكَ
يُؤَدِّي إلى تصويبِ أهلِ الضلالةِ مِن النَّصَارَى والمَجُوسِ والكُفَّارِ
والْمُلْحِدِينَ). هذا هوَ المشهورُ عندَ عُلماءِ الإسلامِ، أنَّ الصوابَ في مَسائلِ الْخِلافِ في العقائدِ واحدٌ.
- ونُقِلَ عنْ عُبيدِ اللهِ بنِ الْحَسَنِ العَنْبَريِّ أنَّهُ قالَ: كلُّ مُجتهِدٍ في الأصولِ مُصيبٌ.
فمِن الناسِ مَنْ حَمَلَ هذا منْهُ على إطلاقِهِ، وأَلْزَمَهُ تصويبَ أهلِ الضلالاتِ كلِّهم:
- مِن (النَّصَارى) القائلينَ: بالتَّثْلِيثِ.
- و(المَجُوسِ) القائلينَ: بالأصْلَيْنِ للعالَمِ؛ النورِ والظُّلْمَةِ.
- وسائرِ أصنافِ (الكُفَّارِ) المخالِفينَ في التوحيدِ، وبَعْثَةِ الرسُلِ، والْمَعادِ في الآخِرَةِ.
- (والْمُلْحِدِينَ) الذينَ أَلْحَدُوا في أسماءِ البَارِي كالقائلينَ: إنَّهُ ليسَ خالقًا لأفعالِ العِبادِ.وفي صِفاتِهِ كالقائلينَ: إنَّهُ ليسَ مَرْئِيًّا في الدارِ الآخِرَةِ، وأنَّهُ غيرُ مُتكلِّمٍ بكلامٍ قديمٍ.
- ومِن الناسِ مَنْ قالَ:
مَذهَبُ العَنْبَرِيِّ:
أنَّ الْخِلافَ الواقِعَ في مَسائلِ العقائدِ بينَ المسلمينَ وغيرِهم مِن
الْمِلَلِ والنِّحَلِ، الحَقُّ فيهِ واحدٌ، ولا يَجوزُ غيرُ ذلكَ، وإنَّما
أَرادَ بما أَطْلَقَهُ مِن التصويبِ في مَسائلِ الأصولِ الخِلافَ الواقعَ
بينَ أهلِ القِبلةِ مِنْ ذلكَ:
- كالخِلافِ الواقعِ بينَ المعتزِلةِ، والأشعرِيَّةِ في إثباتِ صفاتِ اللهِ تعالى مِن الكلامِ والإرادةِ وغيرِهما.
- فقالت الأشاعرةُ بثُبُوتِ الصفاتِ، وأَنْكَرَ المعتزِلَةُ ذلكَ.
- وكذلكَ الخِلافُ بينَ القائلينَ:
بالجِهةِ للبَارِي تعالى وغيرِهم، والقائلينَ: بقِدَمِ الحُرُوفِ
والأصواتِ والمخالِفينَ لهم، ونحوِ ذلكَ؛ فإنَّ هذهِ الاختلافاتِ لمْ يكُن
الحاملَ عليها إلاَّ اعتقادُ كلِّ واحدٍ مِن الطائفتَيْنِ إِفْضَاءَ قولِ
مخالِفِهِ إلى نِسبةِ ما لا يَجوزُ نِسبتُهُ إلى الباري تعالى، فهوَ
مَعذورٌ حيثُ قَصَدَ تعظيمَ الإلهِ تعالى.
- وهذا
التمَسُّكُ يَلْزَمُ منهُ تصويبُ المخالِفينَ مِنْ غيرِ أهلِ القِبلةِ
أيضًا؛ فإنَّ كُلاًّ منهم يَزْعُمُ أنَّهُ إنَّما قَصَدَ الحقَّ، وتَعظيمَ
خالِقِهِ تعالى. وحُجَّةُ القولِ الصحيحِ ما ظَهَرَ مِنْ إنكارِ الصحابةِ
رَضِيَ اللهُ عنهم على الْمُبْتَدِعَةِ مِن القَدَرِيَّةِ والخوارجِ،
والنهْيِ عن اتِّبَاعِهم، واسْتِتَابَتِهم عنْ بِدْعَتِهم، بخِلافِ
رَأْيِهم في الأحكامِ الفرعيَّةِ؛ فإنَّهُم كانوا يُوَسِّعُونَ القولَ فيها
ولا يُنْكِرونَ على مَن اتَّبَعَ قولَ بعضِهم.
- وخالَفَ آخرينَ، فدَلَّ ذلكَ على اعتقادِهم أنَّ الحقَّ في مسائلِ الاعتقادِ واحدٌ، وما عَدَاهُ باطلٌ حرامٌ اعتقادُهُ. (ودليلُ مَنْ قالَ: ليسَ كلُّ مُجتَهِدٍ في الفروعِ مُصيبًا) قولُهُ عليهِ السلامُ: ((مَنِ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ))
- وجهُ الدليلِ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خَطَّأَ المجتَهِدَ تارةً وصَوَّبَهُ أُخْرَى).
(6)
(وجهُ الدَّلالةِ مِنْ هذا ظاهرٌ كما ذَكَرَهُ) وهوَ حديثٌ مشهورٌ
خَرَّجَهُ مُسلِمٌ مِنْ حديثِ عمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، ولفظُهُ
في الصحيحِ: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَحَكَمَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)). وهذا آخِرُهُ واللهُ أَعْلَمُ).
الأنجم الزاهرات للشيخ: محمد بن عثمان المارديني
قال شمس الدين محمد بن عثمان بن علي المارديني (ت: 871هـ): ( (2)
أقولُ: لمَّا فَرَغَ مِنْ بيانِ رسمِ التَّقليدِ: شَرَعَ في بيانِ
الاجْتِهَادِ، وَهُوَ البابُ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَهُوَ خَتْمُ الأَبْوابِ.
فقولُهُ: (بَذْلُ الوُسْعِ في بلوغِ الغَرَضِ) أيْ: في إدراكِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ.
وقولُهُ: (كاملَ الأدلَّةِ) أيْ: يُشيرُ إلى مَا سَبَقَ منْ شروطِ المجتهدِ.
فإذَا كانَ كذلكَ واجتهدَ
فأصابَ كانَ لهُ أجرانِ؛ أجرُ الاجتهادِ وأجْرُ الإصابةِ، وإنْ أخطأَ كانَ
لهُ أجرٌ؛ لامتثالِ أمرِهِ عليْهِ السَّلامُ، ولاَ إثمَ عليْهِ.
(3) (ومنهمْ مَنْ قالَ: كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ)
وهذَا ضعيفٌ؛ لاجتماعِ النَّقيضَيْنِ في مسألةٍ واحدةٍ وهُمَا: النَّفْيُ،
والإثْبَاتُ قبلَ الاجْتِهادِ، بلْ لا بُدَّ أنْ يكونَ المصيبُ واحدًا؛
إذْ لاَ يجوزُ أنْ تكونَ المسألةُ الواحدةُ منفيَّةً ثابتةً. واللهُ أعلمُ.
أقولُ: لَمَّا فَرَغَ منْ بيانِ جوازِ الاجتهادِ في المسائلِ الفُرُوعيَّةِ شَرَعَ في بيانِ عدمِ الاجْتهادِ في المسائلِ الأُصوليَّةِ؛ لأنَّهَا اعْتقاديَّةٌ.
ولوْ جازَ الاجْتهادُ فيهَا لأدَّى إلى تصويبِ مَنْ أخطأَ منَ المللِ:
- كقولِ (النَّصارى بالصَّليبِ).
- و(المجوسِ بالظُّلْمَةِ والنُّورِ لخلقِ العالَمِ).
- و(الكافرينَ المُخالفِينَ في التَّوحيدِ).
- وبعثِهِ عليْهِ السَّلامُ، الملحدينَ القائلينَ بعدمِ خلْقِ الأفعالِ.
وهذَا باطلٌ، تعالى اللهُ عمَّا يقولونَ عُلُوًّا كَبيرًا.
ونُقِلَ عنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ العَنْبَريِّ: جوازُ الاجتهادِ في الأُصُولِ.
والظَّاهرُ منْ إطلاقِهِ
(أنَّهُ) أرادَ الخلافَ الواقعَ بيْنَ أهْلِ القِبْلةِ كالخلافِ الواقعِ
بيْنَ الأشعريَّةِ في ثبوتِ الأفْعالِ للهِ تعالى عندَ الأشْعَريَّةِ دونَ
المعتزلةِ، ورؤيتِهِ تعالى في الآخرةِ، وغيرِ ذلكَ.
فهوَ جائزٌ عنْهُ، وقالَ: هُمْ معذُورُونَ؛ لأنَّهُمْ قَصَدُوا تعظيمَهُ تعالى.
والحقُّ: مَا سَبَقَ؛ لأنَّ المِلَلَ -أيْضًا- مَا قَصَدُوا -بِزَعْمِهِمْ- إلاَّ الحقَّ وتعظيمَهُ تعالى.
- والدَّليلُ على بطلانِ مَا قالَ:
إنكارُ الصَّحابةِ على المُبْتَدِعَةِ، والقدريَّةِ، والخوارجِ، ولمْ
يُنْكِرُوا عَمَّنْ خَالَفَ بعضَهُمْ بَعْضًا في الفروعِ واللهُ أعْلَمُ.
والحمدُ للهِ وحْدَهُ
وصَلَّى اللهُ على سيِّدِ الأوَّلينَ والآخرينَ محمَّدٍ وعَلَى آلِهِ
وصَحْبِهِ أجمعينَ، وسلَّمَ تَسْليمًا دائمًا إلى يومِ الدِّينِ، يومَ
يقومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ).
قرة العين للشيخ: محمد بن محمد الرعيني الحطاب
قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المالكي [المعروف: بالحطاب] (ت: 954هـ): ( (3) ولمَّا ذكَرَ أنَّ الاجْتَهادَ يجبُ علَى منِ اجْتَمَعَتْ فيهِ شروطُهُ؛ عرَّفَهُ بقولِهِ: (وأمَّا الاجْتِهَادُ؛ فهُوَ بَذْلُ الوُسْعِ) أي: تمَامُ الطَّاقَةِ، (في بُلُوغِ الغَرَضِ)
المَقصُودِ منَ العِلْمِ لتَحصِيلِهِ؛ بأنْ يَبْذُلَ تمامَ طاقَتِهِ في
النَّظَرِ في الأدلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ ليَحْصُلَ الظَّنُّ بالحكمِ
الشَّرْعيِّ.
(فَالمُجْتَهِدُ إِنْ كانَ كامِلَ الآلَةِ في الاجْتَهادِ)
الَّذي تقدَّمَ ذكْرُهُ؛ فهُوَ المُجْتَهِدُ المُطْلَقُ، ودونَهُ مجتَهِدُ
المذْهَبِ، وهوَ المتمكِّنُ من أنْ يُخَرِّجَ الدَّليلَ منصوصًا زائدًا
علَى نصوصِ إمامِهِ، ودونَهُ مجتهِدُ الفتْوَى، وهوَ المجتهدُ المتبحِّرُ
في مذهبِ إمامِهِ المتمكِّنُ منْ تخريجِ ترجيحِ قولٍ آخرَ.
(فإنِ اجْتَهَدَ) كلُّ واحدٍ منْ هؤلاءِ (في الفُرُوعِ فأصابَ؛ فلهُ أجرانِ) أجرٌ علَى اجتهادِهِ، وأجرٌ علَى إصابتِهِ. (وإِنِ اجْتَهَدَ) في الفروعِ (وأَخْطَأَ؛ فلهُ أجْرٌ واحِدٌ)
علَى اجتهادِهِ، وسيأتي دليلُ ذلكَ، ولا إثمَ عليهِ لخطئهِ علَى
الصَّحيحِ؛ إلا أنْ يُقصِّرَ في اجْتهادِهِ، فَيَأْثَمُ لتَقصيرِهِ
وفَاقًا.
(4) (وَمِنْهُمْ) أي: منْ عُلَمَائِنَا (منْ قالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ في الفُرُوعِ) الَّتي لا قَاطِعَ فيهَا (مُصِيبٌ) بناءً علَى أنَّ حكمَ اللَّهِ في حقِّهِ وحقِّ منْ قلَّدَهُ مَا أدَّاهُ إليهِ اجتهادُهُ.
- وهذَا قولُ الشَّيخِ أبي الحَسَنِ، والقاضي أبي بكرِ البَاقِلانيِّ منَ المالكيَّةِ، وغيرِهِمَا.
والمنقولُ عنْ مالكٍ أنَّ المُصيبَ واحدٌ.
- وأمَّا
الفروعُ الَّتي فيهَا قَاطِعٌ: منْ نصٍّ أو إجماعٍ؛ فالمصيبُ فيهَا واحدٌ
وفاقًا، فإنْ أخطأَ فيهَا المجتهدُ لعدمِ وقوعِهِ عليهِ؛ لمْ يأْثَمْ علَى
الأصَحِّ.
(وَلا يَجُوزُ) أنْ يُقالَ: (كُلُّ مُجْتَهِدٍ في الأُصولِ الكَلامِيَّةِ) أي: العقائدِ الدِّينيَّةِ، (مُصيبٌ؛ لأنَّ ذلكَ يؤدِّي إلَى تصويبِ أهلِ الضَّلالةِ) مِنَ النَّصارَى القائِلينَ بالتَّثْلِيثِ، (والمَجُوسِ) القائِلينَ (بالأصْلَيْنِ) للعالَمِ: النُّورِ والظُّلْمَةِ.
- (وَالكُفَّارِ) في نفْيِهِمُ التَّوحيدَ وبَعثةَ الرُّسُلِ والمعادَ في الآخرةِ، وهوَ مِنْ عطفِ العَامِّ علَى الخاصِّ.
- وكذلكَ قولُهُ: (وَالُملْحِدينَ) إنْ أُريدَ بالإِلحادِ معناهُ اللُّغَويُّ، وهوَ: مطلقُ الميلِ عنِ الحقِّ.
- وإنْ أُريدَ بالملْحِدِ اصطلاحًا:
وهوَ مَنْ يدَّعِي أنَّهُ منْ أهلِ ملَّةِ الإِسْلامِ، ويَصْدُرُ عنهُ ما
يُنَافِيهِ؛كالمعتزلةِ ونحوِهِمْ في نَفْيهِمْ صفاتِ اللَّهِ تعالَى:
(كالكلامِ، وخلقِ اللَّهِ لأفعالِ العبادِ، وكونهِ مَرْئيًّا في
الآخِرَةِ)، وغيرِ ذلكَ؛ فليسَ منْ عطفِ العامِّ علَى الخاصِّ.
(ودَليلُ مَنْ قالَ: ليسَ كُلُّ مُجتَهدٍ في الفرُوعُ مصيبًا: قولُهُ صلَى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: ((وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ؛ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ))) رواهُ الشَّيخَانِ، ولفظُ البخاريِّ: ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحِدٌ)).
- ذَكَرهُ في (كتابِ الاعتِصَامِ)، ولفظُ مُسْلمٍ مثلُهُ؛ إلا أنَّهُ قالَ: ((فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ….)) إلَى آخِرِهِ، ذَكَرهُ في (كتابِ القضَاءِ).
(5) (ووجْهُ الدَّلِيلِ) منَ الحديثِ: (أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطَّأَ المُجْتَهِدَ تارةً، وصَوَّبَهُ أُخْرَى).
فإِنْ قيلَ:
قولُهُ في الحديثِ: ((مَنِ اجْتَهَدَ)): أعمُّ منْ أنْ يكونَ كامِلَ الآلةِ في اجتِهَادِهِ أولاً، والمصِّنفُ خَصَّهُ بكونِهِ كاملَ الآلَةِ.
فالجوابُ
-واللَّهُ أعلمُ-: أنَّ مَنْ لمْ يكُنْ كاملَ الآلةِ فيمَا اجْتَهَدَ،
فليسَ منْ أهلِ الاجْتِهَادِ، وفرضُهُ التَّقْليدُ؛ فهوَ متَعَدٍّ
باجتهادِهِ، فيكونُ آثمًا غيرَ مأجورٍ، واللَّهُ أعلمُ.
- ووقعَ الحديثُ المذكورُ عندَ الحاكمِ بلفظِ: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ)) وقالَ: ( صحيحُ الإِسنادِ ).
وهذا مَا يَسَّرَ اللَّهُ
سبحانَهُ وتعالَى جمْعَهُ في (شرْحِ الورَقاتِ)؛ جعلَ اللَّهُ ذلكَ خالصًا
لوجههِ الكريمِ، ونَفَعَ بهِ في الحياةِ وبعْدَ الممَاتِ؛ إنَّهُ سميعٌ
قريبٌ مجيبُ الدَّعواتِ.
ونعوذُ باللَّهِ منْ علمٍ
لا ينْفعُ، وقلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، ونفسٍ لا تَشْبَعُ؛
أعوذُ بكَ اللَّهُمَّ منْ شَرِّ هؤلاءِ الأَرْبعِ.
ونسألُ اللَّهَ العظيمَ:
أنْ يُصْلِحَ فسادَ قلوبِنَا، وَيُوَفِّقَنَا لما يُرْضيهِ عنَّا،
وَيَغْفِرَ لنَا، وَلوَالِدينَا، ولمشَايخِنَا ووَالِديهمْ،
وَلإِخْوَانِنَا، وَأَصْحَابِنَا، وَأَحْبَابِنَا، ولجميعِ المُسْلمينَ).
شرح الورقات للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان
قال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان: ( (2)
وهوَ أَنَّنَا إذَا قُلْنَا: (إِنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَجُوزُ لهُ أنَّهُ يَحْكُمُ بالقياسِ) أيْ: بالاجتهادِ كما
عَبَّرَ بهِ المُصَنِّفُ فِي (البرهانِ) (2/888) (فَيَجُوزُ أنْ يُسَمَّى قبولُ قولِهِ تَقْلِيدًا) لِعَدَمِ دِرَايَتِنَا مَأْخَذَ قولِهِ من الاجتهادِ أوْ مِن الوَحْيِ.
وإنْ قُلْنَا بِعَدَمِ
جوازِ الاجتهادِ منهُ فلا يُسَمَّى قَبُولُهُ تَقْلِيدًا؛ لأنَّا نَعْلَمُ
أنَّ مَا يَقُولُهُ يَقُولُهُ عنْ وَحْيٍ.
- والصحيحُ
أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ لهُ الاجتهادُ،
ولا يُسَمَّي قَبُولُ قولِهِ تقليدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
أمَّا الاجتهادُ: فِي أَمْرِ الدنيا فهوَ بالإجماعِ.
- مثلَ: قِصَّةِ اجتهادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْبِيرِ النخلِ.
- وأمَّا أمرُ الشَّرْعِ: فَعَلَى أَصَحِّ الأقوالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}.
وطريقُ المشاورةِ:
الاجتهادُ، ولأنَّهُ قدْ وَقَعَ كما فِي قِصَّةِ أُسَارَى بدرٍ، وكما فِي
رجوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقولِ العَبَّاسِ فِي قولِهِ:
(إِلا الإِذْخِرَ) كَمَا تَقَدَّمَ، ولوْ كانَ ذَلِكَ بوحيٍ لم
يَتَغَيَّرْ، فَدَلَّ علَى أنَّهُ باجتهادِهِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
(3)
لَمَّا تَكَلَّمَ عن التقليدِ، وشروطِ المجتهدِ، وأنَّ الاجتهادَ يَجِبُ
علَى مَن اجْتَمَعَتْ فيهِ شروطُهُ؛ ذَكَرَ تَعْرِيفَ الاجتهادِ؛ لأنَّ
الاجتهادَ يُقَابِلُ التقليدَ.
- وهوَ لُغَةً: بَذْلُ الجُهْدِ واسْتِفْرَاغُ الوُسْعِ لإدراكِ أَمْرٍ شَاقٍّ.
ولا يُسْتَعْمَلُ إلا فيما فيهِ مَشَقَّةٌ. تَقُولُ: اجْتَهِدْ فِي حملِ الصخرةِ. ولا تَقُولُ: اجْتَهِدْ فِي حَمْلِ العَصَا.
- واصْطِلاحًا: بَذْلُ الوُسْعِ فِي بلوغِ الغَرَضِ.
وهذا تَعْرِيفٌ عامٌّ، فلا
بُدَّ منْ تَقْيِيدِهِ بالحُكْمِ الشرعيِّ؛ لأنَّ المُرَادَ البَحْثُ فِي
الاجتهادِ الذي هوَ طريقٌ لإثباتِ حُكْمٍ شرعيٍّ، فيكونُ المرادُ
بالغَرَضِ: الحُكْمَ الشرعيَّ المطلوبَ.
- ولوْ قَيَّدَهُ بالفَقِيهِ، وقالَ: بَذْلُ الفقيهِ وُسْعَهُ لبلوغِ الغرضِ؛ لكانَ كَافِيًا كما فِي ( جمعِ الجوامعِ) (2/379)؛ لأنَّ الفقيهَ لا يَتَكَلَّمُ إلا فِي الأحكامِ الشرعيَّةِ.
- والمجتهدُ لهُ شروطٌ: تَقَدَّمَ بَعْضُهَا عندَ الكلامِ علَى المُفْتِي.
(4) وأشارَ إليها بقولِهِ: (فالمجتهدُ إنْ كانَ كاملَ الآلةِ..) وعليهِ فإذا اجْتَهَدَ فِي المسائلِ الفرعيَّةِ -والمرادُ بها المسائلُ الفِقْهِيَّةُ الظنيَّةُ التي ليسَ فيها دليلٌ قاطعٌ- فإنْ أَصَابَ فلهُ أجرانِ:
- أَجْرٌ علَى اجتهادِهِ.
- وأجرٌ
علَى إصابتِهِ الحقَّ، لكونِهِ سَنَّ سُنَّةً يُقْتَدَى بها فَيَتَّبِعُهُ
المُقَلِّدُونَ ويَظْهَرُ الحقُّ، وإن اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فلهُ أَجْرٌ
واحدٌ علَى اجتهادِهِ، ولا إِثْمَ عليهِ فِي خَطَئِهِ؛ لأنَّهُ غيرُ مقصودٍ
إلا إنْ قَصَّرَ فِي الاجتهادِ.
- وهذا هوَ القولُ الصحيحُ
فِي المسألةِ أنَّهُ ليسَ كلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، بل المُصِيبُ واحدٌ،
ومَنْ عَدَاهُ مُخْطِئٌ، وهوَ قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ فِي قولٍ،
والشافعيَّةِ، والحنابلةِ.
- والقولُ الثاني:
أنَّ كلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الفروعِ مُصِيبٌ، وهوَ قولٌ عندَ أبي حنيفةَ.
- وهذهِ المسألةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ (تَصْوِيبِ المُجْتَهِدِ).
- ومَنْشَأُ
الخلافِ: هلْ للَّهِ تَعَالَى فِي كلِّ واقعةٍ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي نفسِ
الأمرِ قبلَ اجتهادِ المُجْتَهِدِ؟ أوْ ليسَ لهُ حكمٌ مُعَيَّنٌ، وإنَّمَا
الحُكْمُ فيها ما وَصَلَ إليهِ المُجْتَهِدُ باجتهادِهِ؟
- فأصحابُ القولِ الثاني قالُوا:
لا حُكْمَ للَّهِ قبلَ اجتهادِ المُجْتَهِدِ، بلْ حُكْمُهُ ما أَدَّى
إليهِ اجتهادُ المجتهدِ فما غَلَبَ علَى ظَنِّهِ فهوَ حُكْمُ اللَّهِ.
- وقالَ الجمهورُ:
إنَّ للَّهِ تَعَالَى فِي كلِّ مسألةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا قبلَ الاجتهادِ،
فمَنْ وَافَقَهُ فهوَ مُصِيبٌ، ومَنْ لم يُوَافِقْهُ فهوَ مخطئٌ.
وفَصْلُ النزاعِ فِي المسألةِ قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)).
(5) ووجهُ الدلالةِ: أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ المُجْتَهِدِينَ قِسْمَيْنِ:
قِسْمًا مُصِيبًا، وَقِسْمًا مُخْطِئًا،
ولوْ كانَ كلٌّ منهم مُصِيبًا لمْ يكنْ لهذا التقسيمِ مَعْنًى.
- وكذا
المسائلُ المُتَعَلِّقَةُ بالعقيدةِ، ليسَ كلُّ مُجْتَهِدٍ فيها مُصِيبًا،
بل المُصِيبُ واحدٌ؛ لأنَّنَا لوْ قُلْنَا بتصويبِ كلِّ مجتهدٍ.
- لأََدَّى ذلكَ إلَى تَصْوِيبِ أهلِ الضلالةِ من (النَّصَارَى) فِي قولِهِم بالتثليثِ.
- (والمَجُوسِ) فِي قولِهِم بأنَّ العالَمَ لهُ أصلانِ: النورُ والظلمةُ.
- (والكُفَّارِ) فِي إنكارِهِم وحدانيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَفْيِهِم بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وإنكارِهِم البعثَ،
- (والمُلْحِدِينَ) الذينَ يَنْفُونَ الأسماءَ والصفاتِ، وَيَنْفُونَ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْعَالَ العبادِ، ونحوَ ذلكَ منْ مسائلِ العقيدةِ.
واللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ علَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ).
شرح الورقات للشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاسم (مفرَّغ)
القارئ: (وأما الاجتهاد: فهو بذل الوُسع في بلوغ الغرض) فالمجتهد
إن كان كامل الأدلة في الاجتهاد فإن اجتهد في الفروع وأصاب فله أجران، وإن
اجتهد وأخطأ خطأ، فله أجر واحد، ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب،
ولا يجوز أن يُقال: كل مجتهد في الأصول مصيب، لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل
الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين).
قال الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاسم: (الاجتهاد في اللغة:
بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا فيما فيه
مشقه، يقال اجتهد في حمل الصخرة، ولا يُقَال اجتهد في حمل العصا، أو النواة
مثلاً، والجَهْد بالفتح المشقة.
وفي الاصطلاح:
بذل الوسع في النظر في الأدلة للحصول على القطع أو الظن بحكم شرعي.
والاجتهاد فرض كفاية.
- والأصل فيه قوله سبحانه: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً}.
- وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران..)) الحديث.
- ولقوله لمعاذ: لما سأله ((بم تقضي؟)) قال: بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: بسنة رسول الله، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال عليه الصلاة والسلام: ((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسول الله)).
- وباب
الاجتهاد مفتوح ولم يُغلق على الصحيح، ولا يجوز خلو الزمان من مجتهد قائم
لله بحجته، يبين للناس ما نُزّل إليهم، خلافاً لمن قال بإغلاق باب
الاجتهاد.
وللمجتهد شروط منها:
1- أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة التي لها تعلق بما يجتهد فيه من الأحكام.
2- وأن
يكون عالماً بمسائل الإجماع والخلاف لئلا يعمل ويُفتي بخلاف ما وقع
الإجماع عليه ، وأن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ، لئلا يعمل ويُفتي
بالمنسوخ.
3- وأن يكون عارفاً بما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث وما لا يصلح.
4- وأن يكون عالماً بالقدر اللازم لفهم الكلام من اللغة والنحو.
5- وأن يكون على علم بأصول الفقه، لأن هذا الفن الذي هو الأصول هو الدعامة التي يعتمد عليها الاجتهاد.
والمجتهدون أقسام:
- مجتهد مُطلق.
- ومجتهد مذهب.
-ومجتهد فتوى وترجيح، إلى غير ذلك، لكن إذا اجتهد اثنان في مسألة، فهل هذا قوله صواب، وهذا قوله صواب؟ أو أحدها فقط؟
الصواب في هذه المسألة أن الحق في قول واحد من المجتهدين المختلفين، أو المجتهدين إذا كانوا أكثر من اثنين
- ولكن المخطئ في الفروع التي ليس فيها دليل قطعي معذور غير آثم، بل له أجر على اجتهاده، هذا هو الصواب في هذه المسألة.
- خلافاً لمن قال: إن كل مجتهد مصيب، وذلك أنه ثبت في الحديث الصحيح ((أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر))،
فهذا الحديث صريح في أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيُقال له
مُصيب مأجورٌ أجرين على اجتهاده وإصابته، وبعض المجتهدين يُخالفه فيُقال له
مخطئ مأجور مرة واحدة على اجتهاده، واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه
مصيباً، فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - جعل المجتهدين قسمين:
- قسماً مصيباً.
- وقسماً مخطئاً.
ولو كان كل منهم مصيباً كما ذهب إليه بعضهم لم يكن لهذا التقسيم معنىً.
- والاجتهاد
يتجزأ، يقبل التجزؤ والانقسام على الصحيح فيكون الرجل مجتهداً في نوع من
العلم مُقلّداً في غيره، (كمن استفرغ وسعه في علم الفرائض مثلاً وأدلتها
واستنباطها من الكتاب والسنة)، دون غيره من العلوم.
- فيجوز
له أن يُفتي في النوع الذي اجتهد فيه، لأنه قد عرف الحق بدليله، وقد بذل
فيه جهده في معرفة الصواب، فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر
الأنواع، ولا يجوز له الإفتاء في مالم يجتهد فيه، فإن القاصر في فنٍّ
كالعامي فيه.
- وعلى
المجتهد أن يبذل وسعه في معرفة الحق ثم يحكم أو يُفتي بما ظهر له، فإن
أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجرٌ واحد، وإن لم يظهر له الحكم وجب عليه
التوقف وجاز له التقليد في هذه الحالة للضرورة، وبهذا ننتهي من متن
(الورقات)، ونسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل
الصالح، وأن يجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه).
العناصر
الاجتهاد:
تعريف (الاجتهاد)
تعريف (الاجتهاد) لغةً
تعريف (الاجتهاد) اصطلاحًا
باب الاجتهاد مفتوح ولم يُغلق
حكم الاجتهاد
الاجتهاد فرض كفاية
الأدلة على فرضية الاجتهاد على الكفاية:
1 - قوله سبحانه: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث...) الآية
2 - قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران..) الحديث
3 - إقراره صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين قال: (أجتهد رأيي ولا آلو)
شروط المجتهد:
1 - أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة
2 - أن يكون عالماً بمسائل الإجماع والخلاف
3 - أن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ
4 - أن يكون عارفاً بما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث وما لا يصلح
5 - أن يكون عالماً بالقدر اللازم لفهم الكلام من اللغة والنحو
6 - أن يكون على علم بأصول الفقه
أقسام المجتهدين:
القسم الأول: مجتهد مطلق
القسم الثاني: مجتهد مذهب
القسم الثالث: مجتهد فتوى
مسألة: هل كل مجتهد مصيب؟
هذه المسألة تسمى مسألة (تصويب المجتهد)
أقوال العلماء في هذه المسألة:
القول الأول: ليس كل مجتهد مصيبًا، وهو قول الجمهور
القول الثاني: كل مجتهد في الفروع مصيب، وهو قول عند الحنفية
منشأ الخلاف في هذه المسألة
فصل النزاع في هذه المسألة
المجتهد المخطئ معذور مأجور
مسألة: تجزئ الاجتهاد
قد يكون الرجل مجتهداً في نوع من العلم مُقلّداً في غيره
اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام:
اجتهاده عليه الصلاة والسلام في أمر الدنيا جائز بالإجماع:
مثاله: اجتهاده في تأبير النخل
اجتهاده عليه الصلاة والسلام في أمر الشرع جائز على أصح الأقوال
الأسئلة
س4: عرف (الاجتهاد) لغة واصطلاحاً.
س5: اذكر الأدلة على فرضية (الاجتهاد) على الكفاية.
س6: بين شروط المجتهد.
س7: ما أقسام المجتهدين؟
س8: هل كل مجتهد مصيب؛ بين أقوال العلماء في ذلك؟
س9: هل يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الشرع؟