1 Nov 2008
الإجماع
قال إمام الحرمين: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت ٤٧٨هـ) : (وَأَمَّا الإِجْمَاعُ: فَهُوَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ العَصْرِ عَلَى حُكْمِ الحَادِثَةِ.
وَنَعْنِي بِالعُلَمَاءِ الفُقَهَاءَ.
وَنَعْنِي بِالحَادِثَةِ الحَادِثَةَ الشَّرْعِيَّةَ.
وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الأُمَّةِ حُجَّةٌ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ)).
وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِعْصَمَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ).
شرح الورقات للعلامة: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي
قال جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (ت ٨٦٤هـ): ( (1) (وَأَمَّا الإِجْمَاعُ فَهُوَ: اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ) أَهْلِ (الْعَصْرِ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ) فَلاَ يُعْتَبَرُ وِفَاقُ الْعَوَامِّ لَهُمْ.
(2) (وَنَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءَ) فَلاَ يُعْتَبَرُ مُوَافَقَةُ الأُصُولِيِّينَ لَهُمْ.
(3) (وَنَعْنِي بِالْحَادِثَةِ الْحَادِثَةَ الشَّرْعِيَّةَ) لأَنَّهَا مَحَلُّ نَظَرِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلاَفِ اللُّغَوِيَّةِ مَثَلاً؛ فَإِنَّمَا يُجْمِعُ فِيهَا عُلَمَاءُ اللُّغَةِ.
(4) (وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الأُمَّةِ حُجَّةٌ دُونَ غَيْرِهَا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِعِصْمَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ لهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ).
شرح الورقات لابن الفركاح الشافعي
قال تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري ابن الفركاح الشافعي (ت: 690هـ): ( (1) (وأمَّا الإجماعُ فهوَ اتِّفاقُ عُلماءِ أهلِ العصْرِ على حُكْمِ الحادثةِ).
(ونَعْنِي بالعلماءِ الفُقهاءَ، ونَعْنِي بالحادثةِ الحادثةَ الشرعيَّةَ).
وإجماعُ هذهِ الأمَّةِ حُجَّةٌ دُونَ غيرِها؛ لقولِهِ عليهِ السلامُ: ((لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ))، والشرْعُ وَرَدَ بعِصمةِ هذهِ الأُمَّةِ)
أصْلُ الإجماعِ في كلامِ
العرَبِ: العَزْمُ، يقالُ: أَجْمَعَ على الأمرِ، بمعنى عَزَمَ عليهِ،
يُقَالُ: إنْ كُنْتَ أَجْمَعْتَ على الْمَسيرِ.
- ثمَّ
لَمَّا كانَ الأمرُ المعزومُ عليهِ مِنْ جماعةٍ يَكونُ مُتَّفَقًا عليهِ،
قيلَ بطريقِ الْمَجَازِ: أَجْمَعَ القومُ على كذا؛ أي: اتَّفَقُوا عليهِ.
- ثمَّ خُصَّ في عُرْفِ أهلِ الأصولِ باتِّفاقِ العُلماءِ على الحكْمِ الشرعيِّ.
وقولُهُ: (عُلَمَاءِ أَهْلِ الْعَصْرِ)
احترازٌ مِنْ عامَّتِهم؛ فإنَّ الْمُعْتَبَرَ في الإجماعِ قولُ
العلماءِبالشريعةِ، وهم المجتَهِدُونَالقادِرُونَ على استنباطِ الأحكامِ
الشرعيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِها.
ولا فَرْقَ بينَ أنْ يكونَ المجتَهِدُ مَشهورًا
أوْ خَامِلاً، عَدْلاً أَمِينًا أوْ فاسِقًا؛ لأنَّ المعتَمَدَ في هذهِ
الأحكامِ أهليَّةُ الاجتهادِ، فكلُّ مَنْ لهُ آلةُ الاجتهادِ فلا بُدَّ
مِنْ مُوافقَتِهِ، وإلاَّ لمْ يَكُنْ ذلكَ الحكْمُ قولَ جَميعِ
المجتهِدِينَ.
واختارَ ابنُ بَرْهَانٍ في (وَجيزِهِ) أنَّ المجتهِدَ الفاسقَ لا يُعْتَدُّ بخِلافِهِ، كما لا يُعْتَدُّ برِوَايتِهِ.
والظاهِرُ اعتبارُ قولِهِ؛
فإنَّ الإجماعَ بدُونِ قولِهِ لو انْعَقَدَ لزِمَهُ ترْكُ اجتهادِهِ إليهِ، وذلكَ مُحالٌ.
فلوْ قِيلَ: يَنعقِدُ
الإجماعُ في حقِّ غيرِهِ، ويَلْزَمُهُ الأخْذُ باجتهادِهِ، كانَ الإجماعُ
دَليلاً بالإضافةِ إلى بعضِ الأُمَّةِ دُونَ بعضٍ، وذلكَ مُحالٌ.
ولا يُعتبَرُ في انعقادِ الإجماعِ مُوافَقَةُ العوامِّ؛
لأنَّهُم لَيْسُوا مِنْ
أهلِ الاجتهادِ، ولا يُمْكِنُ الوقوفُ على قولِ كلِّ واحدٍ منهم، بخِلافِ
العُلماءِ؛ فإنَّهُم لشُهرَتِهم يُمْكِنُ مَعرِفَةُ أقوالِهم.
وقالَ قومٌ مِنْ أهلِ الأصولِ:
لا يَنعقِدُ الإجماعُ
بدونِ مُوافَقَةِ العوامِّ، واحْتَجَّ بأنَّ المحكومَ لهُ بالعِصمةِ جميعُ
الأُمَّةِ لا بعضُ الأُمَّةِ، وإذا لمْ يُوافِق العوامُّ العلماءَ، لمْ
يكُنْ قَولُ العُلماءِ قولَ كلِّ الأُمَّةِ، بلْ قولَ بعضِها، فلا يكونُ
حُجَّةً.
وأُجيبَ عنْ هذا:
بأنَّ السلَفَ رَضِيَ
اللهُ عنهم لمْ يَكونُوا يَرْجِعُونَ في الوقائعِ الشرعيَّةِ إلاَّ إلى
العلماءِ وأهلِ الاجتهادِ دُونَ العوامِّ.
وفي هذا الجوابِ ضَعْفٌ إذا سُلِّمَ أنَّ مُعْتَمَدَ الإجماعِ النَّقْلِيَّاتُ المُوجِبَةُ للعِصْمَةِ، وسيأتي الكلامُ عليها.
- ومُخَالَفَةُ
الواحدِ مِن العلماءِ مانِعَةٌ مِن انعقادِ الإجماعِ؛ فإنَّ الإجماعَ لو
انْعَقَدَ بدُونِهِ لَزِمَ أحدُ المُحَالَيْنِ، وما يَلْزَمُ منهُ أحدُ
المُحالَيْنِ مُحالٌ.
بيانُ ذلكَ أنَّ الواحدَ
المُخَالِفَ مِنْ أهلِ الاجتهادِ، إمَّا أنْ يَلْزَمَهُ حُكْمُ إجماعِ
الباقينَ أوْ لا يَلْزَمَهُ، فإنْ لَزِمَهُ كانَ مأمورًا بترْكِ ما
أَدَّاهُ إليهِ اجتهادُهُ وتقليدِ غيرِهِ، وذلكَ مُحالٌ، وإنْ لمْ
يَلْزَمْهُ كانَ الإجماعُ مُنْعَقِدًا في حقِّ بعضِ الأُمَّةِ دونَ بعضٍ،
وذلكَ أيضًا مُحالٌ؛ فإنَّ الإجماعَ إذا انعقَدَ لَزِمَ حُكْمُهُ جميعَ
المكلَّفِينَ.
وقالَ مُحَمَّدُ بنُ
جَريرٍ: (خِلافُ الواحدِ أو الاثنَيْنِ غيرُ قادحٍ في الإجماعِ)، ويُحْكَى
هذا عنْ أبي الحسينِ المعتزِلِيِّ وأبي بكرٍ الرزايِّ مِنْ أصحابِ أبي
حَنيفةَ.
وفي قولِنا:
(مُخَالَفَةُ الْوَاحِدِ تَمْنَعُ انْعِقَادَ الإِجْمَاعِ)، ما يُفيدُ أنَّ قولَ علماءِ المدينةِ وَحْدَهم لا يكونُ إجماعًا خِلافًا لِمَالِكٍ.
- وكذلكَ قولُ أهلِ الحرمَيْنِ: مكَّةَ والمدينةِ، والْمِصْرَيْنِ: البصْرَةِ والكوفةِ، لا يكونُ إجماعًا، خِلافًا لبعضِهم.
وقولُهُ:
(ونَعْنِي بالعلماءِ الفُقهاءَ)
إشارةٌ إلى أنَّ قولَ أهلِ الكلامِ والأصولِ غيرُ مُعْتَبَرٍ في انعقادِ
الإجماعِ؛ لأنَّهُم لَيْسُوا مِنْ أهلِ الاجتهادِ في الأحكامِ الشرعيَّةِ،
فهم عوامُّ بالإضافةِ إلى المُجْتَهِدِينَ.
وقالَ بعضُ الأُصولِيِّينَ: يُعْتَبَرُ قولُهم ولا يَنْعَقِدُ الإجماعُ دونَ مُوافَقَتِهم؛ لأنَّهُم يَصْدُقُ عليهم اسمُ العلماءِ.
والمرادُ بالفُقهاءِ
الْمُجتهدونَ الذينَ يُمكِنُهم استنباطُ الأحكامِ الشرعيَّةِ مِنْ
أَدِلَّتِها، لا نَقَلَةُ مذاهِبِ مُقَلِّدِيهِم مِنْ غيرِ عِلْمٍ بطُرُقِ
الأحكامِ.
وقولُهُ:
(الحادثةَ الشرعيَّةَ)
احترازٌ عن الحوادثِ غيرِ الشرعيَّةِ؛ فإنَّ الْمَرْجِعَ فيها إلى أهلِ
الْخِبرةِ بها، وعنْ كلِّ ما يَجِبُ تقديمُ العلْمِ بهِ على السَّمْعِ:
كوُجودِ الإلهِ تعالى، وحدوثِ العالَمِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا يَتَوَقَّفُ
ثُبوتُ الشرعِ على العلْمِ بهِ؛ فإنَّهُ لا يَصِحُّ إثباتُهُ بالإجماعِ.
واختلَفَ الناسُ في المُعْتَمَدِ في كونِ الإجماعِ حُجَّةً:
- فقالَ قومٌ:
المُعْتَمَدُ في ذلكَ العَقْلُ؛ فإنَّ الجماعةَ العظيمةَ مِنْ أهلِ
العِلْمِ لا يُمْكِنُ في العادةِ الْمُطَّرِدَةِ اتِّفاقُهم على الْخَطَأِ.
وهذا القائلُ يَشْتَرِطُ
أنْ يكونَ الْمُجْمِعُونَ في عددِ التواترِ، حتَّى لا يَجوزَ على خَبَرِهم
الكَذِبُ، ولا يُخَصُّ الإجماعُ بهذهِ الأُمَّةِ بلْ يَجِبُ أنْ يكونَ
حُجَّةً فيما مَضَى.
وهذا المُعْتَمَدُ ضعيفٌ؛ لأُِمُورٍ:
أحدُها:
أنَّهُ يَلْزَمُ منهُ أنْ
لا يكونَ الإجماعُ في العصرِ الأَوَّلِ حُجَّةً؛ فإنَّ العلماءَ حينئذٍ
كانوا بحيثُ لا يَبْلُغونَ عددَ التواترِ. ومَن اطَّلَعَ على ما ذَكَرَهُ
النَّقَلَةُ في أسماءِ الفُقهاءِ الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم عَرَفَ ذلكَ.
الثاني:
أنَّ الجماعةَ المقلِّدينَ
وإنْ بَلَغُوا عددَ التواتُرِ يَجوزُ عليهم الْخَطَأُ في التقليدِ، ولا
يَجِبُ عِصْمَتُهُم منهُ؛ فإنَّ مُقَلِّدِي الأئِمَّةِ الأربعةِ انْتَشَروا
في الآفاقِ بحيثُ زَادُوا على عددِ التواتُرِ، وكلُّ جَمْعٍ منهم
يَعْتَقِدُ رَأْيَ إمامِهِ، والخطأُ جائزٌ عليهِ في ذلكَ، كاعتقادِ
الشافعيَّةِ أنَّ النوافلَ لا تَلْزَمُ بالشُّرُوعِ، واعتقادِ الحنفيَّةِ
لُزومَها. وإذا جازَ على الجمْعِ الكثيرِ الخطأُ في الأحكامِ الاجتهاديَّةِ
بطريقِ التقليدِ، لمْ يكُنْ إخبارُهم عنها مُوجِبًا للعلْمِ.
الثالثُ:
أنَّهُ لوْ كانَ إجماعُ
كلِّ أُمَّةٍ حُجَّةً لَزِمَ أنْ يكونَ إجماعُ اليهودِ على أنَّ النبيَّ
الموعودِ بهِ في التوراةِ لمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وإجماعُ النَّصارَى على
التثليثِ حُجَّةً، وذلكَ مُحالٌ.
- وقالَ قومٌ: المُعْتَمَدُ
في الإجماعِ إنَّما هوَ الدلائلُ النقليَّةُ الشاهدةُ بعِصمةِ هذهِ
الأُمَّةِ، وأنَّها لا تَجتَمِعُ على الْخَطَأِ، ولا يَجوزُ مُخالفَتُهم،
فمِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سِبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}.
- قالُوا: ومُخَالَفَةُ الإجماعِ خُروجٌ عنْ سبيلِ المؤمنينَ، فكانَ مَمنوعًا بهذهِ الآيَةِ.
ويُعْزَى هذا التمَسُّكُ
إلى الشافعيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وليسَ في هذا الآيَةِ قَاطِعٌ على كونِ
الإجماعِ حُجَّةً، وإنَّما يُفيدُ ظَنًّا غيرَ غالبٍ؛ فإنَّ ظاهِرَها
تَرَتُّبُ الوعيدِ المجموعِ مِن الْمُشاقَّةِ وتَرْكِ سبيلِ المؤمنينَ،
ومُشاقَّةُ الرسولِ كُفْرٌ، وإذا تَوَجَّهَ الوَعيدُ إلى جُملةٍ لم يَلْزَم
الوعيدُ على أجزائِها.
- وكذلكَ
يَظْهَرُ مِنْ سِياقِها أنَّ المرادَ الكُفَّارُ الذينَ شَاقُّوا الرسولَ
وتَرَكُوا سبيلَ المؤمنينَ الذي صارُوا بهِ مؤمنينَ، وذلكَ هوَ الإيمانُ،
فلا يَدْخُلُ الاختلافُ في الأحكامِ الفرعيَّةِ في ذلكَ.
- ومِنْ ذلكَ الحديثُ المشهورُ: ((لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ)). وهذا الحديثُ خبرُ واحدٍ لا يُفيدُ العلْمَ، والمسألةُ فيما زَعَمَ كثيرٌ مِنْ ظَاهِرِيِّ الفُقَهاءِ يَقِينِيَّةٌ.
وأَجْوَدُ طريقٍ لهذا
الحديثِ ما خَرَّجَهُ أبوداوُدَ، عنْ أبي مالِكٍ الأشعريِّ قالَ: قالَ
رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ
اللهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ: أَلاَّ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ
نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا، وَأَنْ لاَ يَظْهَرَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَلَى
أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَلاَّ تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ)). وهذا خِطابٌ للصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم لا يَتناوَلُ مَنْ بَعْدَهم.
وأصَحُّ شيءٍ في بابِ الإجماعِ ما خَرَّجَ مسلمٌ مِنْ حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقولُ: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
ومِنْ حديثِ ثَوْبَانَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((لاَ
تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ
يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ
كَذَلِكَ)).
وهذا وإنْ كانَ مَعدودًا
في الصِّحاحِ فهوَ خَبَرُ واحدٍ، ثمَّ دَلالتُهُ على الإجماعِ ظَنِّيَّةٌ
ضَعيفةٌ؛ فإنَّها مَوقوفةٌ على أنْ يكونَ المرادُ بالحقِّ الصوابَ في كلِّ
واقعةٍ، وذلكَ إنَّما يَصِحُّ بتقديرِ أنْ يكونَ المفرَدُ المعرَّفُ
للاستغراقِ، وفي ذلكَ خِلافٌ مشهورٌ. ثمَّ الظاهرُ أنَّ المرادَ بالحَقِّ
في هذا الخبرِ أَصْلُ الإسلامِ والتوحيدِ الذي كانَ القتالُ عليهِ في
زَمَنِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
- وخَرَّجَ التِّرمذيُّ مِنْ حديثِ ابنِ عمرَ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
اللهَ لاَ يَجْمَعُ أُمَّتِي -أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَى
ضَلاَلَةٍ، وَيَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي
النَّارِ)). قالَ أبوعيسى: (هذا حديثٌ غَريبٌ).
وقالَ يَحْيَى بنُ مَعينٍ في روايَةٍ : (إنَّهُ ليسَ بشيءٍ). وضَعَّفَهُ أبوحاتمٍ وقالَ: يَرْوِي عن الثِّقاتِ أحاديثَ مُنْكَرَةً.
وقال أبو زُرْعَةَ:
مُنْكَرُ الحديثِ، ومِنْ طريقِ المسيِّب ِبنِ واضحٍ، مِنْ حديثِ ابنِ عمرَ،
عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ))، والمسيِّبُ مشهورٌ ضَعْفُهُ.
فهذهِ طُرُقُ هذا الحديثِ
الذي لَهِجَ بهِ أهلُ الأصولِ واعتَمَدُوهُ في هذهِ المسألةِ، ليسَ فيها
شيءٌ يَبْلُغُ دَرجةَ أحاديثِ الصحيحِ فَضْلاً عنْ أنْ يكونَ مُتواترًا.
وبما ذَكَرْناهُ مِن
البيانِ لطُرُقِهِ يُعْلَمُ بُطلانُ قولِ مَنْ زَعَمَ أنَّهُ وَرَدَ مِنْ
أخبارِ الآحادِ في هذا البابِ ما يَجْعَلُ المعنى مُتواتِرًا، وأنَّ كلَّ
واحدةٍ مِن الرِّوَايَاتِ جاءَتْ آحَادًا، فَتُلْحَقُ بالرواياتِ الواردةِ
في سَخَاوَةِ حاتمٍ وشَجاعةِ عَلِيٍّ؛ فإنَّ جميعَ الرِّوَاياتِ
المُتَدَاوَلَةِ تَرْجِعُ إلى هذهِ الطُّرُقِ الثلاثِ التي ذَكَرْناها، ولا
يَصيرُ أصلُ المعنى مُتواتِرًا بثلاثِ رواياتٍ، بخِلافِ سَخاوةِ حاتمٍ
وشجاعةِ عَلِيٍّ؛ فإنَّ المَرْوِيَّ مِنْ ذلكَ مِن الآحادِ لا يَكادُ
يَنحصِرُ.
- وقالَ
ابنُ بَرْهَانٍ: (هذهِ المتعلِّقاتُ ضَعيفةٌ لا تَصْلُحُ مُعْتَمَدًا،
وإنَّما الْمُعْتَمَدُ في كونِ الإجماعِ حُجَّةً أنَّ السلَفَ رَضِيَ اللهُ
عنهم كانوا يُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ على مَنْ يُخالِفُ الإجماعَ ويَخْرُجُ
عنْ قولِ الجماعةِ، ويَمْنَعُونَ مِنْ ذلكَ).
وهذا إثباتٌ للإجماعِ
بالإجماعِ؛ فإنَّ حاصلَهُ التمَسُّكُ بإجماعِهم الفِعْلِيِّ -وهوَ أضعَفُ
مِن القولِيِّ- على أنَّ إجماعَهم قولاً حُجَّةٌ.
ولْيُعْلَمْ أنَّ المشهورَ
عندَ قُدماءِ أهلِ الأصولِ أنَّ مسألةَ الإجماعِ مِن المسائلِ
القَطعيَّةِ، حتَّى حَكَمَ إمامُالحرمَيْنِ عنْ بعضِ الفُقهاءِ بِكُفْرِ
مُخالِفِ الإجماعِ، وهذا لا يَكادُ يُساعِدُهُ الدليلُ؛ فإنَّ خُلاصةَ
مُعْتَمَدِهم ما ذَكَرْناهُ، وقدْ بَيَّنَّا ما فيهِ.
فالحَقُّ ما أشارَ إليهِ
الإمامُ وصَرَّحَ بهِ مَنْ بَعْدَهُ، أنَّ هذهِ المسألةَ ظَنِّيَّةٌ، وإذا
كانتْ كذلكَ أَمْكَنَ التمَسُّكُ فيها بالعُمُومَاتِ وأخبارِ الآحادِ
وإجماعِ السلَفِ.
- وكُلُّ
مَنْ قالَ: إنَّ مُعْتَمَدَ الإجماعِ النقْلُ، قالَ: إنَّهُ مِنْ خصائصِ
هذهِ الأمَّةِ، وإجماعُ مَنْ سِواهُم ليسَ حُجَّةً، وتَعَلَّقُوا بقولِهِ: (([ لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ] أَوْ لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ)). وهذا إنما يَدُلُّ على نَفْيِ الاحتجاجِ بإجماعِ غيرِ هذهِ الأُمَّةِ بطريقِ المفهومِ، والاختلافُ في الاحتجاجِ بهِ مَشهورٌ.
واحْتَجَّ مُنْكِرُو الإجماعِ بأمرَيْنِ:
أحدُهما:
مَنْعُ تَصَوُّرِهِ؛ فإنَّ عُلماءَ العصْرِ غيرُ مَحصورينَ، وفيهم
الخامِلُ ومنهم المشهورُ، ورُبَّ امرأةٍ في خِدْرِها بَلَغَتْ دَرجةَ
الاجتهادِ ولا يُعْلَمُ بها.
- ولوْ فُرِضَ جَمْعُ أهلِ الاجتهادِ لا يُعْلَمُ اتِّفاقُهم؛ لِجَوازِ إظهارِ أَحَدِهم خِلافَ ما في نفسِهِ تَقِيَّةً.
وثانيهما: أنَّ حديثَ مُعاذٍ المشهورَ لمْ يُذْكَرْ فيهِ الإجماعُ، ولوْ كانَ حُجَّةً لذَكَرَهُ.
وأُجيبَ عن الأَوَّلِ: بأنَّ العادةَ تَقْتَضِي باشتهارِ المجتَهِدِ، وأنَّهُ لا يَخْفَى، وبأنَّ قولَهُ في الحادثةِ يَظْهَرُ.
وعن الثاني: بأنَّ حديثَ مُعاذٍ كانَ في حياةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).
الأنجم الزاهرات للشيخ: محمد بن عثمان المارديني
قال شمس الدين محمد بن عثمان بن علي المارديني (ت: 871هـ): ( (1) أقولُ: لمَّا فَرَغَ منْ بيانِ النَّسخِ: شَرَعَ في بيانِ الإِجْمَاعِ وهوَ: البابُ الحادِيَ عَشَرَ.
الإجماعُ في اللُّغَةِ: العزمُ والاتِّفاقُ، يُقَالُ: (أَجْمَعَ القَوْمُ) أيْ: عزمُوا، واتَّفقُوا، ومنْهُ قولُهُ تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس:71].
وفي الاصْطِلاحِ: اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ أَهْلِ العَصْرِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعيٍّ.
فقولُهُ: (اتِّفَاقُ العُلَمَاءِ)
ليُخْرِجَ العَوَامَّ؛ إذْ ليسُوا منْ أهلِ الاجْتِهَادِ، ولاَ يُمْكِنُ
الوقوفُ على قولِ كلِّ فردٍ منْهُمْ؛ لكثرتِهِمْ، بخلافِ العُلَمَاءِ.
وذهبَ بعضُ الأُصوليِّينَ
إلى اعْتِبَارِ موافقةِ العوامِّ؛ لأنَّهُمْ منَ الأُمَّةِ، وقدْ حُكِمَ
لهمْ بالعِصْمَةِ؛ لعدمِ اجتماعِهِمْ على الضَّلالةِ.
وقولُهُ: (علماءُ العصرِ) ليُخْرِجَ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأنَّهُمْ إذَا اجتمعُوا في العصرِ الواحدِ على حكمٍ لاَ يَضُرُّ مَنْ خالفَهُمْ بَعْدَهُ.
وقولُهُ: (وَنَعْني بالعلماءِ: الفقهاءَ) ليُخْرِجَ المتكلِّمينَ والنَّحْويِّينَ وَغَيرَهُمْ.
والمرادُ بالفقهاءِ: المجتهدُونَ المُسْتَنْبِطُونَ الأحكامَ الشَّرْعيَّةَ بالأدلَّةِ.
بخلافِ مَنْ نَقَلَ مَذْهَبَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فإنَّهُ لَمْ يكنْ منْهُمْ، وَلاَ تَضُرُّ مُخَالَفَتُهُم.
وقولُهُ: (وإجماعُ هذهِ الأمَّةِ حُجَّةٌ) إلى آخرِهِ؛ لِيُخْرِجَ غَيْرَهَا كَاليَهُودِ والنَّصارى؛ فإنَّ إجماعَهُمْ ليْسَ بِحُجَّةٍ.
وَإنَّمَا كانَ إجماعُ هذهِ الأمَّةِ حُجَّةً؛ لعدمِ إمكانِ اتِّفاقِ جماعةٍ عظيمةٍ شريفةٍ مشهودٍ لهُمْ بالعِصْمَةِ على البَاطِلِ، ولهذَا كانَ السَّلَفُ يُشَدِّدُونَ التَّنْكيرَ على مُخَالِفِ الإِجْمَاعِ واللهُ أعلمُ).
قرة العين للشيخ: محمد بن محمد الرعيني الحطاب
قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المالكي [المعروف: بالحطاب] (ت: 954هـ): ( (1) (وأمَّا الإِجمَاعُ) فهوَ ثالثُ الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ الأربعةِ؛ أَعني: الكتابَ، والسُّنَّةَ، والإِجماعَ، والقياسَ.
وهو لغةً: العزمُ؛ كما في قولِهِ تعالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}.
وأمِّا في الاصطِلاحِ: (فهُوَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ العصْرِ) من أمَّةِ مُحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (علَى حُكْمِ الحَادِثَةِ) فلا يُعتبَرُ وِفاقُ العَوامِّ مَعهمْ علَى المعروفِ، والعصرُ: الزَّمانُ.
(2) (ونَعني بالعُلمَاءِ: الفُقَهَاءَ) يَعني: المُجْتهدِينَ؛ فلا يُعتبَرُ موَافقَةُ الأصُولِييِّنَ معَهُمْ.
(3) (ونَعْنِي بِالحَادثَةِ: الحَادثَةَ الشَّرعيَّةَ) لأنَّها محلُّ نَظرِ الفُقهاءِ؛ بخلافِ غيرِ الشَّرعيَّةِ؛ كاللُّغويَّةِ مثلاً؛ فإنَّها محلُّ نظرِ علمَاءِ اللُّغَةِ).
شرح الورقات للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان
قال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان: ( (1) هذا هوَ الدليلُ الثالثُ من الأَدِلَّةِ المُتَّفَقِ عليها، وهوَ الإجماعُ بعدَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ.
والإجماعُ لُغَةً: العَزْمُ والاتِّفَاقُ.
واصطلاحًا: اتِّفَاقُ علماءِ العصرِ علَى حُكْمِ الحادثةِ.
وقولُهُ: (اتِّفَاقُ) هذا قَيْدٌ يُخْرِجُ وُجُودَ خلافٍ ولوْ كانَ المُخَالِفُ وَاحِدًا، إذا كانَ يُعْتَدُّ بهِ فلا يَنْعَقِدُ الإجماعُ.
قولُهُ: (عُلَمَاءِ العَصْرِ)
فَسَّرَهُ بأنَّ المرادَ بهم الفقهاءُ، وهم المُجْتَهِدُونَ، وهذا
القَيْدُ يُخْرِجُ المُقَلِّدِينَ والعَوَامَّ، فلا عِبْرَةَ بهم فِي
الإجماعِ وِفاقًا ولا خلافًا.
وقولُهُ: (عَلَى حُكْمِ الحَادِثَةِ) أي: الخَصْلَةِ التي مِنْ شَأْنِهَا أنْ تَحْدُثَ منْ قولٍ أوْ فعلٍ أوْ غيرِهِمَا.
والمرادُ بها هنا الحادثةُ
الشرعيَّةُ؛ لأنَّها مَحَلُّ نَظَرِ الفقهاءِ، وهذا القَيْدُ يُخْرِجُ
الاتِّفَاقَ علَى حُكْمٍ غيرِ شَرْعِيٍّ كَلُغَوِيٍّ، فلا مَدْخَلَ لهُ فِي
الإجماعِ؛ لأنَّ القصدَ البَحْثُ فِي الإجماعِ علَى أنَّهُ من الأَدِلَّةِ
الشرعِيَّةِ.
وَبَقِيَ قَيْدَانِ:
الأَوَّلُ: (عُلَمَاءُ العَصْرِ منْ هذهِ الأُمَّةِ)
لإخراجِ اتِّفَاقِ علماءِ الشرائعِ السابقةِ فلا يُعْتَبَرُ، كما ذَكَرَهُ
المُصَنِّفُ، وَلَعَلَّهُ لم يُدْخِلْهُ فِي التعريفِ اكتفاءً بِذِكْرِهِ
مُسْتَقِلاًّ.
الثاني: (بَعْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
إخراجِ اتِّفَاقِ الصحابةِ فِي عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فلا يكونُ إِجْمَاعًا منْ حيثُ كَوْنُهُ دَلِيلاً؛ لأنَّ
الدليلَ حَصَلَ بِسُنَّةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: منْ
قولٍ، أوْ فعلٍ، أوْ تقريرٍ.
-
وإذا قالَ الصحابيُّ: (كُنَّا نَفْعَلُ) أوْ (كانُوا يَفْعَلُونَ كذا علَى
عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كانَ ذلكَ من المرفوعِ
حُكْمًا وليسَ نَقْلاً للإجماعِ.
(2) (والإجماعُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ) ومن الأَدِلَّةِ علَى أنَّهُ حُجَّةٌ قولُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}،
أيْ: عُدُولاً، ومُقْتَضَى ذلكَ أنَّهُم عُصِمُوا من الخَطَأِ فيما
أَجْمَعُوا عليهِ قَوْلاً وَفِعْلاً. قالَهُ فِي (فتحِ البارِي) (13/317).
ومِن الأدلَّةِ قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ)).
أَخْرَجَهُ أبو داودَ والترمذيُّ وَغَيْرُهُمَا، وهذا لفظُ
التِّرْمِذِيِّ، وفي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، ولكنَّهُ وَرَدَ منْ طُرُقٍ يُقَوِّي
بَعْضُهَا بَعْضًا، ولهُ شواهدُ تُؤَيِّدُ مَعْنَاهُ، ذَكَرَهَا
الزَّرْكَشِيُّ فِي (المُعْتَبَرِ) (ص57).
وَوَجْهُ الدلالةِ أنَّ
عمومَ الحديثِ يَنْفِي وجودَ الضلالةِ، والخطأُ ضَلالَةٌ، فلا يَجُوزُ
الإجماعُ عليهِ، فيكونُ ما أَجْمَعُوا عليهِ حَقًّا، فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ).
شرح الورقات للشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاسم (مفرَّغ)
القارئ: (وأما
الإجماع فاتفاق علماء أهل العصر على حكم الحادثة، ونعني بالعلماء الفقهاء،
ونعني بالحادثة الحادثةَ الشرعية، وإجماع هذه الأمة حُجة دون غيرها لقوله
عليه السلام: ((لا تجتمع أمتي على الضلالة))، والشرع ورد بعصمة هذه الأمة).
قال الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاسم: (الإجماع هو الدليل الثالث من الأدلة المتفق عليها، لم يُخالف في حُجية الإجماع إلا بعض الظاهرية.
فالأدلة: الكتاب، والسنة،
والإجماع، والقياس الصحيح، وخالف في حُجيّة الإجماع النظّام وبعض الفرق،
المهم أن الإجماع دليل يُستدل به على المسائل.
وهو في اللغة: العزم والاتفاق.
أما في الاصطلاح فهو: اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي.
- فيخرج بقوله:( اتفاق)
وجود خلاف ولو من واحد، فلا ينعقد معه الإجماع، وبعضهم يقول: إذا خالف
واحد فلا يُعتبر خلافهُ ناقضاً للإجماع، كما ذهب إلى ذلك ابن جرير، ورُدَّ
عليه بنفس قوله.
- وكذلك يخرج بقوله: ( مجتهدي هذه الأمة) هذا يُخرج العوام والمُقلدين فلا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم.
- وكذلك يُعتبر إجماع أهل العلم الشرعي والفقهاء، أما غيرهم فإنه لا يعتبر بخلافهم ولا وفاقهم.
- ويخرج بقوله: (هذه الأمة) إجماع غيرها من الأمم فإنه لا يُعتبر.
- وكذلك يخرج بقوله: (بعد النبي صلى الله عليه وسلم)
اتفاقهم في عهده عليه الصلاة والسلام، فلا يُعتبر إجماعاً من حيث كونه
دليلاً، لأن الدليل حصل بسُنة النبي عليه الصلاة والسلام من قوله، أو فعله،
أو تقريره.
- ولهذا إذا قال الصحابي كنا نفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع.
و(على حكم شرعي) هذا يُخرج الاتفاق على حكم عقلي أو عادي مثلاً، فلا مدخل له هنا، لأن البحث في الإجماع على أنه دليل من أدلة الشرع.
والإجماع حُجّة لأدلة:
- منها: قوله جل وعلا: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}
- وقوله: {شهداء على الناس}، يشمل الشهادة على أعمالهم، وعلى أحكام أعمالهم، والشهيد قوله مقبول.
- وكذلك من الأدلة على حُجية الإجماع قوله سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، دل على أن ما اتفقوا عليه حق.
- وكذلك استدلوا بقوله سبحانه: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولّى}.
- وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))،
هذا من الأحاديث التي استدلوا بها على الإجماع، وهذا الحديث قد جاء عن
ثمانية من الصحابة، وقد رواه الترمذي وغيرهُ، وله طُرق كثيرة، ولهذا حسّنه
جماعة من المحدثين، نظراً لتعدد طرقه، فهو يُفيد أن هذه الأمة لا تجتمع على
ضلالة.
- وكذلك من حيث المعقول: إجماع الأمة على شيء أما أن يكون حقّاً هذا الإجماع.
- وإما أن يكون باطلاً، فإن كان حقّاً فهو حُجة، وإن كان باطلاً فلا يجوز أن تجتمع هذه الأمة على باطل، كما دلَّ عليه هذا الحديث.
والإجماع نوعان: قطعي، وظني.
فالقطعي: ما يُعلم وقوعه من الأمة بالضرورة، كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وتحريم الزنا، هذا النوع لا يُنكره أحد.
أما الظني:
ما لا يُعلم إلا بالتتبع والاستقراء، وقد اختلف العلماء في إمكان ثبوته،
وأرجح الأقوال في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - في العقيدة
الواسطية، قال:( والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم
كثر الاختلاف وانتشرت الأمة، و لا يمكن أن تجتمع الأمة على خلاف دليل صحيح
صريح غير منسوخ، فإنها لا تجمع إلا على حق).
وللإجماع شروط:
- منها: أن يثبت بطريق صحيح، بأن يكون أما مشهوراً بين العلماء أو ناقله ثقة، واسع الإطلاع.
- وكذلك يشترط أن لا يسبقه خلاف مستقر، فإن سبقه ذلك فلا إجماع، لأن الأقوال لا تبطل بموت قائليها.
لكن هل يشترط انقراض عصر المجمعين في انعقاد إجماعهم أو لا؟
بمعنى إذا حصل الإجماع من المجتهدين في زمن، فهل ينعقد إجماعهم من وقت حصوله؟ أولا بد في انعقاده من انقراض عصرهم؟
في هذا قولان هما روايتان عن الإمام أحمد.
- والصحيح أنه لا يشترط ذلك لأن أدلة الإجماع من الكتاب، والسَّنة، لا توجب اعتبار انقراضه.
- وكذلك أن التابعين قد احتجوا بإجماع الصحابة قبل انقراض عصرهم، ولو كان ذلك شرطاً لم يحتجوا به قبل انقراضهم، ولأن اشتراط انقراض العصر يوجب أن لا يكون إجماع إلى يوم القيامة؛ لأنه لا يخلو العصر من توالد أفراد، ونشأتهم، وبلوغهم درجة الاجتهاد، وقبل انقراضهم يتوالد غيرهم وهكذا، والإجماع لا ينعقد إلا عن مستند من كتاب أو سنة).
العناصر
الدليل الثالث من الأدلة المتفق عليها (الإجماع):
تعريف (الإجماع)
تعريف (الإجماع) لغةً
تعريف (الإجماع) اصطلاحًا
الإجماع: هو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة
بيان محترزات التعريف:
(اتفاق): قيد يخرج وجود خلاف ولو كان من واحد
مسألة: هل مخالفة الواحد من العلماء مانعة من انعقاد الإجماع؟
(علماء العصر): قيد يخرج المقلدين والعوام
ذهب بعض الأصوليين إلى اعتبار موافقة العوام؛ لأنهم من الأمة
الجواب: أن السلف لم يرجعوا في الوقائع الشرعية إلا إلى العلماء المجتهدين
(على حكم الحادثة): قيد يخرج الاتفاق على حكم غير شرعي كاللغوي، فلا مدخل له في الإجماع
قوله: (ونعني بالعلماء: الفقهاء)؛ ليخرج المتكلمين والنحويين وغيرهم
المراد بالفقهاء: المجتهدون المستنبطون الأحكام الشرعية بالأدلة
الأسئلة
س1: عرف (الإجماع) لغة واصطلاحاً.