16 Oct 2011
الدرسُ الحاديَ عَشَرَ: التحذيرُ من النِّفاقِ (3/3)
عُقوبةُ المُنافِقِ
جعَلَ اللهُ تعالى عُقوبةَ المُنافقينَ من أشْنَعِ العُقوباتِ في الدنيا والآخرةِ جَزَاءً وِفَاقًا لأعْمَالِهِم:
• فأمَّا في الدنيا
فإنهم يُعاقَبُونَ بالطَّبْعِ على قُلُوبِهم وحِرْمانِهم من الفِقْهِ
والعِلْمِ والهُدَى، ويُعْقِبُهم اللهُ في قُلوبِهم شَكًّا ورِيبَةً لا
تُفارِقُهُم أَبَدًا، فهم من أعظمِ الناسِ حَيْرَةً وتَرَدُّدًا؛ وذلك
لأنهم أرادُوا أن يُخادِعُوا اللهَ ويَخْدَعُوا المُؤْمِنينَ، فانقَلَبَ
خِداعُهم عليهم، وذاقوا وَبالَ أمْرِهم وعَاقِبةَ مَكْرِهم؛ فكانوا كُلَّما
عَمِلوا عَمَلاً للكيدِ للإسلامِ وأهلِه جَعَلَ اللهُ عُقوبتَه عليهم
أشنعَ من حيثُ لا يَشْعُرونَ؛ فهم يَسْتَزِيدُونَ من أعمالِ الكُفْرِ
والنِّفاقِ، والعُقوباتُ تَتَضاعَفُ وتَتْرَى عليهم.
قال اللهُ تعالى: ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ٣].
وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)﴾ [البقرة: ١٦–١٨].
–وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢]،
وخَدْعُ اللهِ إيَّاهم من باب مجازاتهم بجنسِ أعمالِهم، وهو عُقوبةٌ لهم
على قُبْحِ أقوالهم وأَفْعَالِهم، وسُوءِ ظَنِّهم باللهِ جل وعلا،
ومُخادَعَتِهم للهِ وللذينَ آمَنوا، ومُحادَّتِهم للهِ ومُحارَبَتِهم
لدينِه بمَكْرٍ وخَدِيعةٍ.
فهم بهذه الأعمالِ إنما يَخْدَعُونَ أنفسَهم كما قال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ٩]؛
فهم لا يَشْعُرونَ بأنهم يَخْدَعُون أنفسَهم؛ بل يُمَنُّون أنفسَهم
الأمانِيَّ الباطلةَ، ويَجْرُونَ وَرَاءَها حتى تَغُرَّهم وتَفْتِنَهم،
ويَسْتزِيدُونَ من الإثمِ والكُفْرِ والفُسوقِ والعِصْيانِ والضلالِ،
ويَحْسَبُونَ أنهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا.
وهم في كلِّ ذلك لم
يَضُرُّوا إلا أنفسَهم، لم يَضُرُّوا اللهَ شيئًا ولم يَضُرُّوا رسولَه ولا
المُؤمنين المُتَّبعينَ لهُدَى اللهِ جل وعلا.
–ومِمَّا يُعاقَبُونَ به في الدنيا: أنهم يُعذَّبُونَ بأموالِهم وأولادِهم حتى تَزْهَقَ أنفُسُهم، كما قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٨٥].
–ومِمَّا
يُعاقَبُونَ به أيضًا: ما يَجْعَلُه اللهُ لهم مِن البَغْضَاءِ في قُلوبِ
الناسِ مهما تَوَدَّدُوا إليهم؛ وذلك لأنَّهم طَلَبُوا رِضَا الناسِ
بسَخَطِ اللهِ، وآثَرُوا الحياةَ الدنيا على الآخرةِ، واتَّبَعوا ما
أسْخَطَ اللهَ وكَرِهوا رِضْوانَه، وأعْرَضُوا عن اتِّباعِ هُدَى اللهِ
فعَرَّضوا أنفسَهم لأنواعٍ من الخوفِ والحَزَنِ والضَّلالِ والشَّقَاءِ
الذي كَتَبَه اللهُ على مَن أعْرَضَ عن اتِّباعِ هُداهُ.
وقالَ اللهُ تعالى في طائفةٍ منهم: ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٠].
قال بعضُ المُفَسِّرِينَ: ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾
هذا استثناءٌ تَهكُّميٌّ، وهو من سُخْرِيَةِ اللهِ بهم جَزَاءً وِفاقًا
على مَكْرِهم بالمؤمنين وسُخْرِيَتِهم بهم، وكَيْدِهم لهم ليُشَبِّهوا
عليهم ويُضِلُّوهم عن سبيلِ الله، فكانَ من عُقوبتِهم أن ابْتُلوا
بالرِّيبةِ التي لا تُفارِقُ قُلوبَهم أبدًا حتى يَلْقَوا اللهَ عز وجل.
هذا معَ ما يُصِيبُهم من
العُقوباتِ الخَاصَّةِ ببَعْضِ أعمالِهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد جَعَلَ
لبعضِ الذُّنوبِ عُقوباتٍ خاصةً ليكونَ الجزاءُ من جِنْسِ العَمَلِ، كما
قال اللهُ تعالى في طائفةٍ منهم: ﴿الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: ٧٩].
فكان مِن عُقوبةِ سُخْرِيَتِهم بالمؤمنينَ أن سَخِرَ اللهُ منهم جَزَاءً وِفاقًا.
والمنافقونَ يَقَعُونَ
كثيرًا في الذنوبِ التي يكونُ جَزَاؤُها من جنسِ العملِ في الدنيا قبلَ
الآخرةِ، كما ورَدَ في السُّنةِ أن مَن تَتَبَّعَ عَوْرةَ مُسلمٍ تَتَبَّعَ
اللهُ عَوْرتَه، ومَن ضَارَّ مُسلمًا ضَارَّه اللهُ، ومَن شاقَّ مُسلِمًا
شَقَّ اللهُ عليه، ومَن خَذَلَ مُسلمًا خَذَلَه اللهُ، ومَن شَدَّدَ على
المسلمين شَدَّدَ اللهُ عليه.
والمُنافقون أصحابُ مَكْرٍ سَيِّئٍ وقد قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣].
فهذا بيانُ شَيْءٍ مِمَّا يُصِيبُهم من العذابِ في الدنيا.
• وأما في البَرْزخِ:
فإنهم إذا فارقوا هذه الحياةَ وأُدْخِلوا في قُبورِهم فإنهم في عذابٍ
عظيمٍ وشَقاءٍ دائمٍ وحَسْرةٍ لا تَنْقطِعُ؛ فعن أنسِ بنِ مالكٍ رضِي الله
عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ
العبدَ إذا وُضِعَ في قَبْرِه وتَولَّى عنه أصحابُه، وإنه لَيَسْمَعُ
قَرْعَ نِعالِهم، أتاهُ مَلَكانِ فيُقْعدانِه فيَقولانِ: ما كُنْتَ تقولُ
في الرَّجُلِ؟ لمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
فأمَّا المُؤمنُ فيَقولُ: أشْهَدُ أنه عبدُ اللهِ ورَسولُه.
فيُقالُ له: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ من النارِ قد أبْدَلَكَ اللهُ به مَقْعَدًا من الجَنَّةِ فيَرَاهما جَمِيعًا.
وأمَّا المُنافِقُ والكَافِرُ فيُقالُ له: ما كُنْتَ تَقولُ في هذا الرَّجُلِ؟
فيَقُولُ: لا أَدْرِي، كنتُ أَقولُ ما يَقولُ النَّاسُ.
فيُقالُ: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، ويُضْرَبُ بمَطَارِقَ من حديدٍ ضَرْبةً فيَصِيحُ صَيْحةً يَسْمَعُها مَن يليهِ غيرَ الثَّقَلينِ)) مُتَّفقٌ عليه.
معَ ما يُصِيبُهم من
العُقوباتِ الخاصَّةِ على بعضِ الذنوبِ، كما صحَّ في السُّنةِ أنَّ الَّذي
يَقْرَأ القُرْآنَ ويَرْفُضُهُ ويَنَامُ عن الصَّلاةِ المَكْتوبةِ
يُعَذَّبُ في قَبْرِه، وكذلك الزُّناةُ وآكِلُو الرِّبا وأهلُ الغِيبَةِ
والنَّميمةِ والكَذِبِ، ومانعو الزَّكاةِ والذين يُفْطِرونَ قبلَ تَحِلَّةِ
فِطْرِهم، كلُّ أولئك وَرَدَتْ فيهم أحاديثُ صحيحةٌ بأنهم يُعذَّبُونَ في
قُبورِهم، والمنافقون لهم النَّصِيبُ الأَوْفَرُ من هذهِ الأعمالِ.
• وأمَّا في الآخرةِ: فقد
دَلَّت الأحاديثُ الصحيحةُ على أنه إذا كانَ يومُ القيامةِ، وجَمَعَ اللهُ
الناسَ في مَوْقِفٍ واحدٍ لفَصْلِ القَضاءِ، ثم أَمَرَ بالكُفَّارِ إلى
نَارِ جَهَنَّم بَقِيَ المُؤمنونَ والمنافقونَ وغُبَّرُ أهلِ الكتابِ في
المَوْقِفِ ((
فيُكْشَفُ عن سَاقٍ فلا يَبْقَى أحَدٌ كانَ يَسْجُدُ طَائِعًا في الدنيا
إلا أُذِنَ له في السُّجودِ، ولا يَبْقَى أحَدٌ كانَ يَسْجُدُ رِياءً أو
نِفاقًا إلا صَارَ ظَهْرُه طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّما أرادَ أن يَسْجُدَ
خَرَّ لِقَفَاهُ)).
وفي الحسابِ يُؤْتَى
بالمُنافقِ فيُعَرِّفُه اللهُ نِعَمَهُ عليه، فيَقولُ المُنافِقُ: يا
رَبِّ، آمَنْتُ بكَ وبكتابِك وبرُسُلِكَ وصَلَّيْتُ وصُمْتُ وتَصَدَّقْتُ
ويُثْنِي على نفسِه بخيرٍ ما استطاعَ.
فيُقالُ له: الآنَ نَبْعَثُ شَاهِدًا عليك.
فيَتَفَكَّرُ في نفسِه مَن ذا الذي يَشْهَدُ عَلَيَّ، فيُخْتَمُ على فِيهِ، ويُقالُ لفَخِذِهِ ولَحْمِهِ وعِظَامِه: انْطِقِي.
فتَنْطِقُ فَخِذُه ولَحْمُه وعِظَامُه بعَمَلِه، وذلكَ لِيَعْذُرَ من نَفْسِه.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وذَلِكَ المُنافِقُ، وذلك الذي يَسْخَطُ اللهُ عليه)).
والحديثُ في صَحِيحِ مُسلمٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه.
فإذا نُصِبَ الصِّراطُ على
مَتْنِ جَهَنَّم وأُمِرَ بالعُبورِ عليه، وأُعْطِيَ مَن في المَوْقِفِ
نُورًا على قَدْرِ أعمالِهم أُعْطِيَ المُنافِقُونَ نُورًا مِثْلَهم
فِتْنَةً لهم؛ حتى إذا كانوا على الصِّراطِ طَفِئَ نورُ المنافقين وتَمَّ
نورُ المُؤمِنِينَ، كما قال اللهُ تعالى: ﴿يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (12)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا
انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ
فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ
فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ
الْغَرُورُ (14)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)﴾ [الحديد: ٢–١٥]
وأما عَذَابُهم في نارِ
جَهَنَّم فهو العَذابُ المُهِينُ الأليمُ والوبيلُ المُقِيمُ، كَتَبَ اللهُ
لهم الدَّرْكَ الأسْفَلَ فيها، فهم مِن أشَدِّ أهلِ النارِ عَذابًا.
قال اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء: ١٤٥].
وهم بسَبَبِ كُفْرِهم الباطِنِ ومُوالاتِهم للكُفَّارِ جَمَعَهم اللهُ بالكافرينَ في نارِ جَهَنَّم كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾[النساء: ١٤٠].
وقال تعالى: ﴿وَعَدَ
اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُقِيمٌ﴾ [التوبة: ٦٨].