16 Oct 2011
الدرس التاسع: التَّحْذِيرُ من النِّفاقِ (1/3)
النِّفاقُ هو: مُخالفةُ الظاهرِ للباطِنِ، وهو على قِسْمينِ:
· نِفاقٌ أكْبَرُ مُخْرِجٌ عن مِلَّةِ الإسلامِ.
· ونِفاقٌ أصْغَرُ لا يُخْرِجُ من المِلَّةِ.
- أما النِّفاقُ الأَكْبَرُ فهو إِظْهَارُ الإِسْلامِ وإِضْمَارُ الكُفْرِ.
- وأَمَّا النِّفاقُ الأصْغَرُ
فهو أن يَكونُ لدَى العبدِ بعضُ خِصالِ المُنافِقِينَ التي لا تُخْرِجُ من
المِلَّةِ لذاتِها كالكَذِبِ في الحديثِ وإخلافِ الوَعْدِ وخيانةِ
الأمانةِ والفُجورِ في الخُصومةِ والغَدْرِ بالعَهْدِ؛ وهذه الخصالُ
سُمِّيت نِفاقًا لما فيها من مُخادعةٍ ومُخالفةِ ظَاهِرِ الشَّخْصِ
لباطِنِه.
وأصحابُ النِّفاقِ الأكبرِ المُخْرِجِ من المِلَّةِ على صِنْفَيْنِ:
الصِّنْفُ الأوَّلُ:
مَن لم يُسْلِمْ على الحقيقةِ، وإنما أظْهَرَ الإسلامَ خَدِيعةً ومَكْرًا
ليَكِيدَ الإسلامَ وأهْلَه، ولِيَأْمَنَ على نفسِه من القتلِ والتعزيرِ
وإنكارِ المسلمين عليه، وهو في الباطنِ لا يُؤمِنُ باللهِ ولا باليومِ
الآخِرِ.
قال اللهُ تعالى: ﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾[البقرة: ٨–٩].
وقال تعالى: ﴿إِذَا
جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: ١–٢].
الصِّنْفُ الثاني:
مَن يَرْتَدُّ بعدَ إسلامِه بارتكابِه ما يَنْقُضُ الإسلامَ ويُخْرِجُ من
المِلَّةِ مع إظهارِه للإسلامِ، ومنهم مَن يُعْلَمُ بكُفْرِه وانْسِلاخِه
من الدِّينِ، ومنهم مَن يَحْسَبُ أنه يُحْسِنُ صُنْعًا.
ويَكْثُرُ في أهلِ هذا
الصِّنْفِ التَّردُّدُ والتَّذَبْذُبُ والشكُّ؛ لأنهم يَعْمَلُون ببَعْضِ
أعمالِ المسلمين ويَقَعُونَ في أعمالِ الكُفْرِ والتَّكْذيبِ.
قال اللهُ تعالى:﴿إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: ١٤٢–١٤٣].
وقال تعالى: ﴿وَمَا
مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا
وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: ٥٤].
فوُقُوعُهم في أعمالِ الكُفْرِ باللهِ وبرُسولِه مَانِعٌ من قَبُولِ أعمالِهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يَقْبَلُ من كافرٍ عَمَلاً.
وكَسَلُهم عندَ القيامِ
للصلاةِ وكَرَاهَتُهم للإنفاقِ في سبيلِ اللهِ دَلِيلٌ على أنهم لم
يُصَدِّقوا بوَعْدِ اللهِ ولم يَرْجُوا لقاءَه.
وقِلَّةُ ذِكْرِهم للهِ
سَبَبُه أنهم يَذْكُرونَ اللهَ بألسنتِهم رِياءً ونِفاقًا وقُلُوبُهم
غَيْرُ مُحِبَّةٍ لدينِ اللهِ تعالى؛ فهم بذلك مُذَبْذَبونَ مُتَرَدِّدونَ
ليسوا كالكُفَّارِ ظَاهِرًا وبَاطِنًا، ولا مِن المؤمنين ظاهرًا وباطنًا.
قال ابنُ كثيرٍ: (ومنهم مَن يَعْتريهِ الشكُّ، فتَارَةً يَمِيلُ إلى هؤلاءِ، وتَارَةً يَمِيلُ إلى أولئكَ ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: ٢٠]، الآية) ا.هـ.
قال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما سَمِعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((مَثَلُ المُنافِقِ كمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرَةِ بينَ الغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً وإلى هذه مَرَّةً)). رواه مسلمٌ
وفي روايةٍ في مُسندِ الإمامِ أحمدَ: ((تَعِيرُ إلى هذهِ مَرَّةً وإلى هذه مَرَّةً، لا تَدْرِي أهذه تَتَّبِعُ أم هذه؟!)).
وقد بيَّنَ اللهُ تعالى في
كتابِه الكريمِ، وبيَّنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فِي
سُنَّتِهِ المُطهَّرةِ أعمالَ المنافقينَ وخِصالَهم وعلاماتِهم وعُقوباتِهم
في الدنيا والآخِرَةِ، وأحْكَامَ مُعامَلَتِهم، وما يَجِبُ على المُؤمنِ
من الحَذَرِ من النِّفاقِ والمنافقين؛ فهم ألدُّ الأعداءِ وأعْظَمُهم
خَطَرًا، وقد قالَ اللهُ تعالى فيهم: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: ٤].
فيَجِبُ على المُؤمِنِ أن
يَحْذَرَ من كَيْدِهم ومَكْرِهم، ويَحْذَرَ من الاغترارِ بما يُزَيِّنُونَ
من أعمالِ الكفرِ والفُسوقِ والعِصْيانِ، ويَحْذَرَ من التَّخَلُّقِ
بأخلاقِهم والاتصافِ بصِفَاتِهم.
والمنافقونَ من الصِّنْفِينِ مُتفاوِتونَ في نِفاقِهم فبَعْضُهم أعْظَمُ نِفاقًا وكُفْرًا من بَعْضٍ:
– فمنهم
المَارِدُونَ على النِّفاقِ، وهم شَدِيدُو العَداوةِ والكَيْدِ للإسلامِ
والمسلمين، الذين يَترَبَّصونَ بالمسلمين الدَّوائِرَ، ويَسْعَوْنَ
للفِتْنةِ بينَهم وتَوْهينِهم، وتَهْويلِ شَأْنِ الكُفَّارِ وتَمْكينِهم؛
فلذلك يَبُثُّونَ الشائعاتِ والأكاذيبَ والأراجِيفَ، ويُثِيرونَ
الشُّبُهاتِ، ويُزَيِّنونَ الشَّهواتِ، ويُشِيعونَ الفَوَاحِشَ، ويُؤْذُونَ
المسلمين في أنفسِهم وأعراضِهم بطُرقٍ ماكرةٍ ومكائِدَ دَنِيئَةٍ،
ويَسْعَوْنَ للتَّضْيِيقِ عليهم في أمورِ دِينِهم ودُنْياهم بما
يَسْتَطِيعونَ.
ويُنَفِّرونَ من
الدَّعْوةِ إلى اللهِ والجهادِ في سبيلِه والأمرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عن
المُنْكَرِ، ويُسَمُّونَ ما يَقُومونَ به من الفَسادِ والإفسادِ إصلاحًا،
ويَصِفُونَ المؤمنين بالسَّفَهِ والجَهْلِ وقِلَّةِ المَعْرفةِ.
ويَنْفِرونَ من تَحْكِيمِ
الشَّريعةِ، ويُرِيدُونَ أن يَتحاكَمُوا إلى الطاغوتِ، ويُبْغِضُونَ
المُجاهِدِينَ في سبيلِ اللهِ ومَن يَنْصُرُ الإسلامَ والمسلمين.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصارِ، وآيةُ النِّفاقِ بُغْضُ الأنصارِ)) متفق عليه من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضِي الله عنه.
فلأَجْلِ أنَّ الأنصارَ نَصَرُوا الدِّينَ كان بُغْضُ مَن أبْغَضَهم عَلامةً بَيِّنَةً على نفاقِه.
ويَجْمَعُ وَصْفَ أعمالِ المنافقينَ أنَّهم يَأْمُرونَ بالمُنْكَرِ ويَنْهَوْنَ عن المَعْروفِ ويَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُم.
ومن عَلاماتِ هؤلاء أنَّهم
إذا أصابَ المُؤمنين بَلاءٌ ومِحْنَةٌ سَرَّهم ذلك وفَرِحوا به، وشَمِتوا
بالمُؤْمِنينَ، وإذا أصابَ المؤمنين خَيْرٌ ونَصْرٌ ورِفْعَةٌ ساءَهم ذلك.
ولذلك كانَ من أَعْظَمِ
صِفاتِهم وألصقِها بهم أنهم يَتَّخِذُونَ الكافرينَ أولياءَ مِن دُونِ
المؤمنين، ويُفْضُون إليهم بعَوْراتِ المُسلمين، ويُحَرِّضُونَهم على
حَرْبِهم والتَّسلُّطِ عليهم، ويَسْتَنْصِرُونَ بهم على ذلك.
قال اللهُ تعالى: ﴿بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
(139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ
آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا
مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ
لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ
وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا (141)﴾ [النساء: ١٣٨–١٤١].
وهذه الأعمالُ المَذْكورةُ
هي لأصنافٍ من المنافقين؛ فمنهم مَن يَقَعُ في أكثرِها، ومنهم مَن يَقَعُ
في شَيْءٍ منها، وكلُّ مَن أظْهَرَ الإسلامَ وارْتَكَبَ ما يخرجُ بهِ من
مِلَّةِ الإِسْلامِ فهو مُنافِقٌ كَافِرٌ.
– ومن المُنافِقِينَ
مَن هو مُتَرَدِّدٌ بينَ الإسلامِ والكُفْرِ، فتَارَةً يَعْمَلُ أعمالَ
المسلمين ظاهِرًا وباطِنًا، وتَارَةً يَرْتَكِبُ ما يَخْرُجُ به من دينِ
الإسلامِ، فهو مُتَذَبْذِبٌ مُتَرَدِّدٌ، لم يُخْلِصْ دينَهُ للهِ، ولم
يَثْبُتْ قَدَمُه فِي الإسلامِ، ولم يُصَدِّقْ بوَعْدِ اللهِ.
وهؤلاء يُبَيِّنُ
الابتلاءُ حالَهُم ويَكْشِفُ عَوَارَهم ونِفَاقَهُم، ويُعاقَبُون
بالطَّبْعِ على قُلوبِهم، وبالرِّيبةِ والشَّكِّ والتَّردُّدِ في أحوالِهم
وأعمالِهم، وذلك لأنهم عَرَفوا الحقَّ فلم يَتَّبِعوه، ووَعَظَهم اللهُ فلم
يَسْتَجِيبُوا لمَوَاعِظِه ولم يَتَّبِعوا هُداه، ولم يكن لَدَيْهم
يَقِينٌ بصِدْقِ وَعْدِ اللهِ وَوَعْدِ رَسُولِه، وغَلَبَ على قُلوبِهم
التَّعَامِي عن هُدَى اللهِ، وإيثارُ الحياةِ الدنيا، واتباعُ ما تَهْوَى
الأَنْفُسُ.
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ٣].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٣٧–١٣٨].
وأهلُ هذا الصِّنْفِ من
المنافقين يَقَعُونَ في أعمالٍ كُفْريَّةٍ مُخرِجةٍ عن المِلَّةِ؛
كمُوالاةِ الكُفَّارِ في الفِتَنِ والشدائدِ، والاستهزاءِ بالدِّينِ وسَبِّ
اللهِ ورسولِه، والنُّفورِ من تَحْكيمِ الشريعةِ، وإرادةِ تَحْكيمِ
الطَّاغوتِ، والتكذيبِ بوَعْدِ اللهِ، ونحوِ ذلك من الأعمالِ والأقوالِ
والاعتقاداتِ التي تُخْرِجُ صاحبَها من مِلَّةِ الإسلامِ.
والعبدُ قد يَكْفُرُ بكلمةٍ يَقولُها، كما قال اللهُ تعالى في المنافقين: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾ [التوبة: ٧٤]؛ فهؤلاء كفروا بكلمةٍ قالوها بعدما كانوا مسلمين.
وقال حُذيفةُ بنُ اليَمَانِ رضِي الله عنه: (إنْ
كانَ الرجُلُ لَيَتكَلَّمُ بالكلمةِ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه
وسلم فيَصِيرُ مُنافِقًا، وإنِّي لأَسْمَعُها من أَحَدِكم في المَقْعَدِ
الوَاحِدِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
لَتَأمُرُنَّ
بالمعروفِ ولَتَنْهَوُنَّ عن المُنْكَرِ، ولَتَحَاضُنَّ على الخيرِ، أو
لَيُسْحِتَنَّكُمُ اللهُ جميعًا بعذابٍ، أو لَيُؤَمِّرَنَّ عليكم شِرارَكم،
ثم يَدْعو خِيارُكم فلا يُسْتجابُ لكم). رواه أحمدُ وابنُ أبي شَيْبَةَ.
وعن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ
العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوَانِ اللهِ لا يُلْقِي لها
بَالاً يَرْفَعُهُ اللهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العبدَ لَيَتكَلَّمُ بالكلمةِ
من سَخَطِ اللهِ لا يُلْقِي لها بَالاً يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ)). رواه البخاريُّ.
وعن عَلْقمةَ بنِ وَقَّاصٍ الليثيِّ عن بِلالِ بنِ الحارِثِ المُزنِيِّ رضِي الله عنه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ
الرَّجُلَ لَيتكَلَّمُ بالكلمةِ من رِضْوانِ اللهِ ما كانَ يَظُنُّ أن
تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ له بها رِضْوَانَهُ إلى يومِ
يَلْقَاهُ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمةِ مِن سَخَطِ اللهِ ما
كانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ له بها سَخَطَهُ
إلى يومِ يَلْقَاهُ)). رواه مالكٌ
في المُوَطَّإِ، وأحمدُ في مُسْندِه، وزادَ: (فكانَ عَلْقَمَةُ يَقولُ:
كَمْ مِن كَلامٍ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلالِ بنِ الحَارِثِ).
ورَوَى البَيْهقِيُّ عن
مُحمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ بنِ وَقَّاصٍ أنه قال: كانَ رَجُلٌ
بَطَّالٌ يدخُلُ على الأُمراءِ فيُضْحِكُهم، فقال له جَدِّي: (وَيْحَكَ
يا فُلانُ، لِمَ تَدْخُلُ على هؤلاءِ فتُضْحِكُهم؟! فإني سَمِعتُ بلالَ
بنَ الحارِثِ المُزنِيَّ صَاحِبَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
يُحدِّثُ...) فذكَرَ الحديثَ.
فخَطَرُ اللسانِ عَظِيمٌ،
وشأنُ الكَلامِ كَبِيرٌ، ومَن عدَّ كَلامَه من عَمَلِه احْتَرَزَ في
مَنْطِقِهِ، وظَهَرَتْ عليه أماراتُ التَّقْوَى؛ فإن العبدَ إذا تَهاوَنَ
في مَنطقِهِ مع رِقَّةِ دِيانتِه لم يَأْمَنْ أن يَتكَلَّمَ بكلمةٍ تُوجِبُ
له سَخَطَ اللهِ ومَقْتَهُ، أو يَتَكَلَّمَ بكلمةٍ يَكْفُرُ بها ويَخْرُجُ
بها من دينِ الإسلامِ، والعياذُ باللهِ.
وهذا الأمرُ يَكْثُرُ
وُقوعُه عندَ الفِتَنِ ولا سِيَّما في آخِرِ الزمانِ كما في الصحيحين من
حديثِ أبي هُريرةَ رضِي الله عنه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((بَادِرُوا
بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ الليلِ المُظْلمِ، يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا
ويُمْسِي كَافِرًا، ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبِحُ كافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ
بعَرَضٍ من الدُّنْيَا)).
نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ، وأن يُجِيرَنا من أسبابِ سَخَطِه وعقابِه.
ولذلك اشْتَدَّ خَوْفُ الصحابةِ والتابعين من الوُقوعِ في شيءٍ من أعمالِ المُنافِقينَ.
قال البخاريُّ في صحيحِه: (قال ابنُ أبي مُلَيْكَةَ: أدْرَكْتُ
ثَلاثِينَ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلُّهم يَخافُ النِّفاقَ
على نَفْسِه، ما منهم أَحَدٌ يَقولُ إنَّه على إيمانِ جِبْريلَ
ومِيكائِيلَ.
ويُذْكَرُ عن الحَسَنِ: ما خَافَهُ إلا مُؤمِنٌ، ولا أَمِنَهُ إلا مُنافِقٌ).
قال زَيْدُ بنُ وَهْبٍ: (ماتَ رَجُلٌ من المُنافِقِينَ فلم يُصَلِّ عليه حُذَيفةُ، فقال له عُمَرُ: أَمِنَ القَوْمِ هو؟
قال: نعم.
فقال له عُمَرُ: باللهِ منهم أنا؟
قال: لا، ولن أُخْبِرَ به أحَدًا بَعْدَكَ). رواه ابن أبي شيبة.
وحُذيفةُ بنُ اليَمَانِ
رضِي الله عنه كانَ قد أسَرَّ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأسماءِ
المنافقين، وهو من أعلمِ هذه الأُمَّةِ بأحوالِ المنافقين وأحكامِهم
وأعمالِ النِّفاقِ، وكان الصحابةُ يَعْرِفونَ له قَدْرَه في ذلك، ولذلك
كانَ عُمَرُ يَرْقُبُه إذا قُدِّمت جِنازةٌ، فإن رأى حُذيفةَ لا يُصَلِّي
عليها لم يُصَلِّ عليها، واستنابَ مُن يُصَلِّي عليها، لئلا يُفْشِيَ سِرَّ
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.