29 Oct 2008
طبقات الرواة وأحوالهم
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (خَـاتِمَـةٌ
وَمِنَ المُهِمِّ مَعْرِفَةُ: طَبَقَات ِالرُّوَاةِ،وَمَوَالِيدِهِمْ،وَوَفَيَاتِهِمْ، وَبُلْدَانِهِمْ.
وَأَحْوَالِهِمْ: تَعْدِيلاً وَتَجْرِيحَاً وَجَهَالَةً).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (خَاتِمَةٌ
- (وَمِنَ المُهِمِّ) عندَ المُحَدِّثِينَ.
(1) (مُعْرِفَةُ:طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ)
وفائدتُه:
- الأمْنُ من تداخُلِ المُشْتَبِهِينَ.
- وإمكانُ الاطِّلاعِ على تبْيِينِ التَّدْلِيسِ.
- والوقوفُ على حقيقةِ المُرادِ من الْعَنْعَنَةِ.
والطبقةُ في اصْطِلاحِهم: عبارةٌ عَن جماعةٍ اشتركوا في السِّنِّ ولقاءِ المشايخِ، وقد يكونُ الشَّخصُ الواحدُ مِن طَبَقَتَيْنِ باعْتِبارَيْنِ كَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
فإنَّه من حيثُ ثُبوتُ صُحْبَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ يُعَدُّ في طبقةِ الْعَشَرَةِِ مثلاً.
ومن حيثُ صِغَرُ السِّنِّ يُعَدُّ في طبقةِ مَن بعدَهم.
فمَنْ نَظَرَ إلى الصَّحَابَةِ باعْتِبَارِ الصُّحْبَةِ جَعَلَ الجميعَ طَبَقَةً واحدِةً كما صنعَ ابْنُ حِبَّانَ وغيرُه.
ومَن نظَرَ إليهم باعْتِبَارِ قدْرٍ زائدٍ، كالسبْقِ إلى الإسلامِ، أو شُهودِ المَشاهِدِ الفاضِلَةِ جَعَلَهمْ طَبَقاتٍ، وإلى ذَلِكَ جَنَحَ (صاحبُ الطَّبَقاتِ)أَبُو عبدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ سعدٍ الْبَغْدَادِيُّ، وكِتَابُهُ أجمعُ ما جُمِعَ في ذَلِكَ.
- وكذَلِكَ:
مَن جاءَ بعدَ الصَّحَابَةِ -وهم التَّابِعُونَ- مَن نَظَرَ إليهم باعْتبَارِ الأخْذِ عَن بعضِ الصَّحَابَةِ فقطْ جعلَ الجميعَ طبقةً واحدةً كما صنعَ ابْنُ حِبَّانَ أيضًا.
ومَن نَظَرَ إليهم باعْتِبَارِ اللِّقَاءِ قَسَّمَهم، كما فعل مُحَمَّدُ بْنُ سعدٍ، ولكُلٍّ منهما وجْهٌ.
- (وَ) من المُهِمِّ أيضًا معرِفةُ (مَوَالِيدِهِمْ، وَوَفَيَاتِهِمْ) لأنَّ بمعرِفتِهما يَحْصُلُ الأمْنُ من دعْوى الْمُدَّعِي لِلِقَاءِ بعضِهم وهو في نفسِ الأمرِ ليسَ كذَلِكَ.
(2) (وَ) مِن المُهمِّ أيضًا معرِفَةُ (بُلْدَانِهِمْ) وأوطانِهم.
وفائِدَتُه:
الأمنُ مِن تَدَاخُلِ الاسْمَيْنِ إذا اتَّفَقَا نُطْقًا لكن افْتَرَقَا بالنَّسَبِ.
(3) (وَ) مِن المُهِمِّ أيضًا معرفَةُ (أحْوالِهمْ تَعْدِيلاً وتجْرِيحًا وَجَهَالَةً) لأنَّ الرَّاوي إمَّا أن تُعْرَفَ عدَالتُه، أو يُعرفَ فِسْقُهُ، أو لا يُعرفَ فيه شيءٌ مِن ذَلِكَ.
- (وَ) مِن أهمِّ ذَلِكَ -بعدَ الاطِّلاعِ- معرفَةُ (مَرَاتِبِ الجَرْحِ) والتَّعديلِ؛ لأنَّهم قد يُجَرِّحُون الشَّخصَ بما لا يستلزمُ رَدَّ حَدِيثِه كُلِّه، وقد بَيَّنَّا أسْبَابَ ذَلِكَ فيما مضَى وحصَرْناها في عَشَرَةٍ وتقدَّمَ شَرْحُها مُفَصَّلاً.
والغرضُ هنا:
ذِكْرُ الألفاظِ الدَّالَّةِ في اصطِلاحِهم على تلكَ المَراتِبِ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم
قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: (خاتمة ٌ
(1) تحتَ هذا العنوانِ سردَ الحافظُ مجموعةً مِن المباحثِ، وكأنَّه وجدَ أنَّ هذه الموضوعاتِ لا يضبطُها ضابطٌ فأدخلَها تحتَ هذا العنوانِ، بدأَها:
بطبقاتِ الرواةِ ومواليدِهم ووَفَيَاتِهم …. إلخ، وهذا الموضوعُ يدخلُ في اتِّصَالِالإسنادِوانقطاعِه.
والطبقةُ: هي القرنُ، وليسَ المقصودُ به المئةَ عامٍ، بل المرادُ به الجيلُ، لحديثِ: ((خيرُ القرونِ قرني …))، فالطبقةُ: جماعةٌ تقاربُوا في السنِّ واشتركُوا في اللُّقِيِّ، إلا أنَّ اصطلاحَ كلمةِ (طبقةٍ) عندَ المؤلِّفِين في الطبقاتِ ليسَ له ضابطٌ محدَّدٌ:
فابنُ حِبَّانَ:
مثلاً جعلَ الصحابةَ كلَّهُم طبقةً واحدةً، والتابعينَ كلَّهُم طبقةً واحدةً.
وابنُ سعدٍ:
جعلَ الصحابةَ على طبقاتٍ، وجعلَ التابعينَ على طبقاتٍ كذلكَ، وهذا أجودُ.
- وبالنسبةِ: للمواليدِ والوفياتِ فهناكَ كُتُبٌ اعتنتْ بهذا الشيءِ، وتُعْرَفُ بكتبِ الوَفَيَاتِ، كما اهتمَّ به الأئمَّةُ في كتبِ التراجمِ عامَّةً.
- وبالنسبةِ: للتعديلِ والتجريحِ؛ فهذا موضوعُه واسعٌ جدَّاً، وأصبحَ الآنَ فنًّا يُدْرَسُ لوحدِه، ويُسَمَّى الجرحَ والتعديلَ، وهو فنٌّ له قواعدُه وضوابطُه ورجالُه).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد
قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: (خـاتِـمَة
(1)
معرِفَةُ طَبقاتِ الرُّواةِ:
ابْتَدَأَ رَحِمَهُ اللَّهُ بالتَّنْصِيصِ على مَعرِفَةِ طَبقاتِ الرُّواةِ.
والطبقةُ : - كما نَصَّ عليهِ الحافِظُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في شَرْحِهِ: هيَ عِبارةٌ عنْ جَماعةٍ مِن الرُّواةِ اشْتَرَكُوا في السِّنِّ تَقريباً وليسَ تَحديداً.
- وفي لِقَاءِ الْمَشَايِخِ، وليسَ المرادُ في شَيْخٍ، ولكنْ يَشترِكونَ في بَعْضِ الشيوخِ، وهذا الصِّنْفُ يُقالُ لهم: الأقرانُ.
لَكِنْ لا يَلْزَمُ مِنْ كُلِّ طَبقةٍ أنْ يَكُونُوا أَقْرَاناً، ففي الغالِبِ أنَّ القَرِينَ يُوصَفُ بهذا الوَصْفِ إذا ظَهَرَتْ منهُ بعضُ الأشياءِ التي يُمْكِنُ أنْ يُوصَفَ بهذا الوصْفِ بِسَبَبِها، وقدْ يُتَوَسَّعُ في الإطلاقِ، فيُقَالُ لكلِّ أهلِ الطَّبقةِ الذينَ يَشترِكونَ في بعضِ الشيوخِ وفي السِّنِّ: إنَّهُم أَقْرَانٌ.
لكنْ إذا أُطْلِقَتْ في الغالِبِ فإنَّها تُطْلَقُ على مَنْ أُريدَ التنصيصُ عليهِ؛ وذلكَ بسببِ ما يَحْدُثُ مِنْ بعضِ الأقرانِ مِن الْخِلافاتِ التي لا تَخْفَى على طالِبِ العلْمِ.
والطبَقَةُ أيضاً قدْ تُحَدَّدُ أكثرَ مِنْ هذا التحديدِ:
- فيُطْلَقُ أحياناً على المُحَدِّثِينَ الَّذِينَ بهذهِ الصفةِ أنَّهُم طَبَقَةٌ.
- ويُطْلَقُ أحياناً على القُرَّاءِ.
- وأحياناً على الفُقَهاءِ؛ ولذلكَ نَجِدُ هناكَ بعضَ الْمُصَنَّفَاتِ التي بهذهِ الصِّفَةِ، مِثلُ: (طَبَقَاتُ الْمُحَدِّثِينَ بأَصْبَهَانَ) لأبي الشيخِ الأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، وقدْ رَتَّبَ كتابَهُ هذا على الطَّبَقاتِ، فلا يَلْزَمُ مِنْ هذا أنَّ كلَّ طَبَقَةٍ يَذْكُرُها تَشتَرِكُ تَماماً في بعضِ الشُّيوخِ، أوْ أنْ تَكونَ فِعْلاً في سنٍّ مُتَقَارِبٍ، ولكنَّ الفَترةَ الزمنيَّةَ تَجْمَعُهم، حتَّى لو اخْتَلَفَتْ شُيُوخُهم، فهؤلاءِ قدْ يُسَمَّوْنَ طَبَقَةً، وإنْ كانَ في الغالِبِ -بخاصَّةٍ إذا كانوا مِنْ بَلَدٍ واحِدٍ كأَصْبَهَانَ- أنَّهُم يَشْتَرِكونَ في بعضِ الشُّيوخِ.
ولكنْ قدْ نَجِدُ مَنْ وُضِعَ هوَ وإنسانٌ آخَرُ في طَبَقَةٍ واحدةٍ، دونَ أنْ يَشْتَرِكوا في بعضِ الشُّيوخِ.
كذلكَ:
أيضاً هناكَ (طَبَقَاتُ الْقُرَّاءِ الْكِبَارِ)للحافظِ الذهبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى؛ فقدْ أَفْرَدَ فيهِ بالتصنيفِ أهْلَ صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهُمُ القُرَّاءُ فَقَطْ، كما أنَّ أَبَا الشَّيْخِ أَفْرَدَ الْمُحَدِّثينَ فَقَطْ بالتَّصْنِيفِ.
وهناكَ (طَبَقَاتُ الْفُقَهَاءِ) للشِّيرَازِيِّ، فقدْ أَفْرَدَ الفُقهاءَ فقطْ بالتصنيفِ، ورَتَّبَهُم على الطَّبَقَاتِ.
كذلكَ:
أيضاً هناكَ (طَبقاتُ اللُّغَوِيِّينَ والنُّحاةِ) للسُّيوطيِّ.
فأحياناً تَتَحَدَّدُ الطبقةُ بِمَنْ يَشتَرِكونَ في صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ كالحِفْظِ أوْ كنَقْلِ الحديثِ أو الاشتراكِ في القِراءةِ أوْ غيرِ ذلكَ ممَّا أَشَرْتُ إليهِ.
تَنبيهٌ:
وبهذهِ المناسَبَةِ أُحِبُّ أنْ أُنَبِّهَ على كتابِ (طَبَقَاتُ الْحُفَّاظِ) للحافظِ السُّيُوطِيِّ، فقدْ أَفْرَدَ فيهِ الذينَ وُصِفُوا بالْحِفْظِ، ورَتَّبَهُم على الطبقاتِ، وهذا يَخْتَلِفُ عنْ كتابِ (تَذْكِرَةُ الْحُفَّاظِ)للذَّهَبِيِّ، وإنْ كانَ (تَذْكِرَةُ الْحُفَّاظِ) مُرَتَّباً على الطبقاتِ، لكنَّ كتابَ السُّيُوطِيِّ -فِعلاً- أَرادَ الْحُفَّاظَ الذينَ عُرِفُوا بحِفْظِ الحديثِ، وأمَّا كتابُ الذهبيِّ؛ فإنَّهُ لا يَقْصِدُ بالحُفَّاظِ الذينَ عُرِفُوا بقُوَّةِ الحافِظَةِ للحديثِ، ولكنَّهُ نَبَّهَ في الْمُقَدِّمَةِ أنَّهُ يَقْصِدُ الرجالَ الذينَ أُثِرَ عنهم الكلامُ في الرُّواةِ جَرْحاً وتَعديلاً، وفي الأحاديثِ تَصحيحاً وتَضعيفاً، حتَّى وإنْ كانَ حِفْظُهم ضَعيفاً.
وقدْ أَحْبَبْتُ أنْ أَذْكُرَ هذهِ المسألةَ؛ حتَّى لا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرَهُ الذهبِيُّ في (تَذْكِرَةُ الْحُفَّاظِ) حافِظٌ مُحْتَجٌّ بهِ، فمَثَلاً: الذَّهَبِيُّ ذَكَرَ ابنَ لَهِيعَةَ في (تَذْكِرَةُ الْحُفَّاظِ)، ومعروفٌ أنَّ ابنَ لَهِيعَةَ ليسَ بحافِظٍ، كذلكَ ذَكَرَ أبا حَنيفةَ، وأبو حَنيفةَ مُتَكَلَّمٌ في حِفْظِهِ أيضاً، فهوَ ضعيفُ الحديثِ مِنْ جِهةِ حِفْظِهِ، وهكذا غيرُهم ممَّنْ ذَكَرَهم ممَّنْ حَدِيثُهم يُعْتَبَرُ مِنْ نوعِ الحديثِ الضعيفِ، لكنَّهُ قَصَدَ أنَّ هؤلاءِ أُثِرَ عنهم الكلامُ في الرُّواةِ جَرْحاً وتَعديلاً، فابنُ لَهِيعَةَ تُؤْثَرُ عنهُ بعضُ الأقوالِ على قِلَّتِها، وكذلكَ أبو حَنيفةَ، رَحِمَ اللَّهُ الجميعَ.
مِثالٌ على الطَّبَقَاتِ:
وأَضْرِبُ مِثالاً على الطبقاتِ فأقولُ: إذا وُلِدَ إنسانٌ في سنةِ مِائةٍ لِلْهِجْرَةِ، وتُوُفِّيَ سَنة سَبعينَ ومِائةٍ، وإنسانٌ آخَرُ وُلِدَ سنةَ خَمسٍ ومِائةٍ، وتُوُفِّيَ في سنةِ خمسٍ وسَبعينَ ومائةٍ، وآخَرُ وُلِدَ في سنةِ عَشرٍ ومائةٍ، وتُوُفِّيَ سنةَ ثمانينَ ومائةٍ، فهؤلاءِ يُعْتَبَرُونَ في طَبقةٍ واحدةٍ.
تحديدُ العُلماءِ في الطَّبقاتِ:
فالذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابِهِ (تاريخُ الإسلامِ) يُحَدِّدُ الطبقةَ بعشْرِ سَنواتٍ.
- ومنهم مَنْ يُحَدِّدُها بأكثرَ.
- ومنهم مَنْ يُحَدِّدُها بمفهومٍ آخَرَ.
فتحديدُ الطبقةِ ليسَ مُصْطَلَحاً عليهِ تماماً ليَكونَ قاعدةً يُسَارُ عليها عندَ الجميعِ، بلْ كلُّ واحدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ على الطَّبَقَاتِ يُحَدِّدُ لنَفْسِهِ مَفهوماً للطَّبَقَةِ.
فكَمَا أنَّ الذَّهَبِيَّ في (تاريخُ الإسلامِ) حدَّدَ الطبَقَةَ بعَشْرِ سنواتٍ نَجِدُ أنَّ غَيْرَهُ حَدَّدَ الطَّبَقَةَ تَحديداً آخَرَ، كابنِ حِبَّانَ في كتابِهِ (الثِّقَاتُ)؛ فقدْ جَعَلَ الصحابةَ طَبقةً، وجَعَلَ التابعينَ طَبقةً، وجَعَلَ أَتباعَ التابعينَ طَبقةً، وأَتباعَ الأتباعِ طَبقةً، وهكذا.
كما أنَّ ابنَ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابِ (الطَّبَقَاتُ) سَلَكَ مَسْلَكاً آخَرَ، فقدْ راعَى مَسألتَيْنِ:
1- البُلْدَانَ.
2- التَّقَدُّمَ بالإسلامِ.
كما أنَّهُ رَاعَى أحياناً مَسألةَ النَّسَبِ.
فنَجِدُهُ مَثَلاً يأتِي للصحابةِ فيَجعلُ البَدْرِيِّينَ طَبقةً، ثمَّ يُقَسِّمُ الْبَدْرِيِّينَ إلى قِسميْنِ:
-المُهاجرينَ.
-والأنصارِ.
فيَجعلُ هؤلاءِ طَبقةً وهؤلاءِ طَبقةً.
-وكذلكَ:
جَعَلَ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الفَتْحِ طَبقةً.
- ومَنْ أَسْلَمَ بعدَ ذلكَ طَبقةً.
ثمَّ كذلكَ الرُّواةُ الذينَ بعدَ ذلكَ، فجَعَلَ -مَثَلاً- أهلَ الكُوفةِ مَرْتَبَتَيْنِ على طَبقاتٍ، وكذلكَ أهْلَ مَكَّةَ، فرَاعَى أيضاً البُلدانَ في تَقسيمِهِ لكتابِهِ هذا.
ولذلكَ قدْ يَصْعُبُ على الباحثِ العُثُورُ على تَرجمةِ راوٍ مِن الرُّواةِ في طَبقاتِ ابنِ سعدٍ، ولَمَّا عُرِفَ عن الكتابِ ذلكَ القُصورُ رُتِّبَ على حُروفِ الْمُعْجَمِ، فهناكَ فِهْرِسٌ وَضَعَهُ بعضُ الْمُهْتَمِّينَ بهذا الشأنِ، فهذا الفِهْرِسُ بلا شَكٍّ يُسَهِّلُ على طَلَبَةِ العلْمِ العُثورَ على أيِّ: راوٍ في أَسْرَعِ وقتٍ.
كذلكَ:
أيضاً قدْ يَأْتِي الشخْصُ الواحدُ في طَبقتَيْنِ، فمَثَلاً: عندَ ابنِ سَعْدٍ قدْ يأتي الشخْصُ في أَهْلِ بَدْرٍ، وقدْ يأتِي في أهلِ الكُوفةِ، مِثْلُ: عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهُ، لكنَّهُ يَذْكُرُهُ في مَوْضِعٍ فيُطيلُ في تَرجمتِهِ، وفي الموضِعِ الآخَرِ تَجِدُهُ يَختَصِرُ في تَرجمتِهِ، وقدْ يُطيلُ هنا ويُطيلُ هناكَ، ولكنَّ هذا نادرٌ، فالغالِبُ أنَّهُ في الموضِعِ الثاني يَخْتَصِرُ عن الْمَوْضِعِ الأَوَّلِ.
كما أنَّ الأَمْرَ ليسَ مَوقوفاً على ابنِ سَعْدٍ، فهناكَ أَيْضاً مَنْ يُرَاعِي في الترتيبِ مَسائلَ مُعَيَّنَةً، فأحياناً نَجِدُ ابنَ حِبَّانَ يَذْكُرُ الشخصَ في التابعينَ، ويَذْكُرُهُ في أتباعِ التابعينَ.
والسببُ هوَ اضْطِرَابُهُ في تحديدِ طَبقةِ هذا الراوي؛ فهناكَ ذَكَرَهُ في التابعينَ لَمَّا تَبَيَّنَ لهُ أنَّهُ رَوَى عنْ أَحَدِ الصحابةِ، وذَكَرَهُ في أَتباعِ التابعينَ لَمَّا عَثَرَ على روايَةٍ أنَّ هذا الراوِيَ يَرْوِي عن التابعينَ أنْفُسِهم، فظَنَّ أنَّهُ مِنْ أتباعِ التابعينَ؛ لأنَّهُ ليسَ عندَهُ فِهْرِسٌ للرِّجَالِ الذينَ يَذْكُرُهم، وإنَّما هوَ يُرَتِّبُهُم بحسَبِ الأحاديثِ التي يَعْثُرُ على أسمائِهم فيها؛ لذلكَ قدْ يُخْطِئُ العالِمُ في تَرتيبِهِ، فيَذْكُرُ هذا الرجُلَ في طَبقتَيْنِ.
كما أنَّ الذهبيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ في (سِيَرُ أعلامِ النُّبلاءِ)- وهوَ مُرَتَّبٌ على الطَّبَقَاتِ- تَجِدُهُ أحياناً يُكَرِّرُ تَرجمةَ الراوي، فيَذْكُرُهُ في طَبقةٍ، ثمَّ يَذْكُرُهُ في طَبقةٍ أُخْرَى؛ والسببُ أنَّهُ ليسَ عندَهُ حَدٌّ فاصلٌ دَقيقٌ تَماماً لِمَفهومِ الطبَقَةِ.
كما أنَّ بعضَ الرُّواةِ الذي يُخْتَلَفُ في تاريخِ وَفَاتِهِ، تَجِدُهُ بِناءً على هذا التاريخِ يَذْكُرُهُ في مَوْضِعٍ، وبِناءً على التاريخِ الآخَرِ يَذْكُرُهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ.
وقدْ يكونُ هذا ليسَ ناشئاً مِن الْخَطَأِ، ولكنَّهُ نَشَأَ بسببِ تحديدِهِ لمفهومِ الطبقةِ، فمَثَلاً: الصحابةُ؛ منهم صَحابةٌ كِبارٌ، ومنهم صِغارُ الصحابةِ، فمَثلاً بعضُهم قدْ يُذْكَرُ مِثلُ: أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ على أنَّهُ مِن الصحابةِ، ولكنْ إذا تَكَلَّمَ عنْ صِغارِ الصحابةِ الذينَ شَهِدُوا غَزوةَ بَدْرٍ قدْ يُنَحَّى عنهم مثلُ: أَنَسِ بنِ مالكٍ، وهكذا.
وعلى كلِّ حالٍ فالذي يَهُمُّنَا تَماماً هوَ مَعرِفَةُ الطبقةِ ما هيَ؟
فائدةُ عِلْمِ الطبقاتِ:
فائدةُ مَعرِفَةِ الطَّبقاتِ تَكْمُنُ في نُقطتيْنِ اثنتَيْنِ:
الأُولَى: تَمييزُ الرُّواةِ الذينَ يَشْتَبِهُونَ في أسمائِهم وأسماءِ آبائِهم وأنسابِهم.
الثانيَةُ: مَعرِفةُ الأحاديثِ المُرْسَلَةِ والمُنْقَطِعَةِ والْمُدَلَّسَةِ والْمُرْسَلَةِ إِرْسَالاً خَفِيًّا.
أَمْثِلَةٌ:
ونَحتاجُ أنْ نُبَيِّنَ بالْمِثالِ هاتَيْنِ الفائدتيْنِ:
فنُمَثِّلُ للفائدةِ الأُولَى: فنقولُ: إذا جاءَ عُمرُ بنُ الْخَطَّابِ، فوَجَدْنا أنَّ عُمرَ بنَ الْخَطَّابِ المذكورَ في السَّنَدِ هنا يَرْوِي عن الإمامِ مالِكٍ، فلا نقولُ: إنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ هذا هوَ الصحابِيُّ الجليلُ.
إذَنْ مَيَّزْنَا الرُّواةَ عنْ طريقِ مَعرِفَةِ الطبقاتِ؛ فهذا يُعْتَبَرُ في طَبقةِ الصحابةِ، وهذا مِنْ أَتباعِ التابعينَ أوْ مَنْ بَعْدَهم أيضاً.
فإِذَنْ مِنْ فوائدِ مَعرِفةِ الطبقاتِ: تَمييزُ الأسماءِ المتشابِهَةِ.
وأحياناً قدْ يَحتاجُ الأمرُ إلى طُولِ عَنَاءٍ - كما سَبَقَ أنْ بَيَّنَّا- فيُضْطَرُّ الباحثُ إلى أنْ يَعْرِفَ الشيوخَ والتلاميذَ، وهذا إذا ما كانَ الرَّاوِيَانِ في طَبقةٍ واحدةٍ، أوْ في طَبقتيْنِ ولكنَّهما مُتقاربتانِ، مثلُ: سُفْيَانَ الثوريِّ، وسفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، فنجِدُ أنَّهُما يَشتَرِكانِ في بعضِ الشيوخِ ويَشتركانِ في بعضِ التلاميذِ، برَغْمِ أنَّ سُفيانَ الثوريَّ، تُوُفِّيَ قبلَ ابنِ عُيَيْنَةَ بفَتْرَةٍ، فالثوريُّ مُتَوَفًّى سنةَ واحدٍ وسِتِّينَ ومائةٍ، وابنُ عُيَيْنَةَ مُتَوَفًّى سنةَ ثمانٍ وتِسعينَ ومائةٍ، لكنَّ كِلَيْهِمَا يَرْوِي عنْ أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ.
وكذلكَ:
كِلاهُما رَوَى عنهُ عبدُ الرزَّاقِ بنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ صاحبُ (الْمُصَنَّفِ)، فإذا جاءنا عَبْدُ الرزَّاقِ يَقُولُ مَثَلاً: حدَّثَنا سفيانُ، عنْ أبي إسحاقَ، إلى آخِرِهِ، فهُنا قدْ نَحتارُ ونقولُ: مَنْ سُفيانُ هذا؟
وقدْ يقولُ قائلٌ: لا يَضُرُّ، ما دامَ أنَّ سُفْيَانَ الثوريَّ، وسُفيانَ بنَ عُيَيْنَةَ كِلَيْهِما ثِقَةٌ. نقولُ: هذا صحيحٌ، ولكنْ أحياناً يكونُ الأمْرُ مُرْتَبِطاً بالشيخِ الذي رَوَيَا عنهُ، فروايَةُ سُفيانَ الثوريِّ، عنْ أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ صَحيحةٌ، وأمَّا روايَةُ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ عنْ أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ ففيها كلامٌ؛ أنَّهُ رَوَى عنهُ بعدَ الاختلاطِ، فهُنا تَكْمُنُ أهَمِّيَّةُ تمييزِ الأسماءِ المتشابِهَةِ.
أمَّا الفائدةُ الثانيَةُ:
فنُمَثِّلُ لها فنَقُولُ: إذا عَرَفْنَا أنَّ هذا الشخصَ مِنْ طَبقةِ التابعينَ، وهوَ يَرْوِي حديثاً عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، فنقولُ عنْ هذا الحديثِ: إنَّهُ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وإذا عَرَفْنَا أنَّ هذا الشخصَ مِنْ طَبقةِ التابعينَ، ولكنَّهُ لم يَرْوِ عنْ أحَدٍ مِن الصحابةِ، وهوَ في نفْسِ الطبقَةِ، فيُعْتَبَرُ حديثُهُ مُرْسَلاً إرسالاً خَفِيًّا؛ لأنَّ المُعَاصَرَةَ مَوجودةٌ لكنَّ اللُّقِيَّ غيرُ موجودٍ، وكلُّ هذا يَتحدَّدُ بِمَعرِفَةِ الطبقةِ.
مِثالٌ: إذا وَجَدْنَا واحداً يَرْوِي مِنْ طَبقةٍ سَمَّيْنَاهَا الطبقةَ الثامنةَ مَثَلاً، ويَرْوِي عنهُ واحدٌ مِن الطبقةِ الحاديَةَ عَشرةَ مِثْلُ: مالكٍ، أو البُخاريِّ مَثَلاً، فنقولُ عنْ هذَيْنِ الرَّاوِيَيْنِ: إنَّ حَدِيثَهما مُنْقَطِعٌ؛ لأنَّهُ لا يُمْكِنُ للَّذِي مِن الطبقةِ الحاديَةَ عشرةَ أنْ يكونَ يَرْوِي عن الذي مِن الطَّبَقَةِ الثامنةِ أو السابعةِ، وهكذا.
فبِمعْرِفَةِ الطَّبقاتِ نَستطيعُ أنْ نَعْرِفَ: الإسنادَ الْمُرْسَلَ، مِن الْمُرْسَلِ الْخَفِيِّ، مِن الْمُدَلَّسِ، مِن الْمُنْقَطِعِ، وهكَذَا.
مَعْرِفَةُ مَواليدِ الرُّواةِ ووَفَيَاتِهِمْ:
كذلكَ:
أيضاً مِن الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ مَواليدِ الرُّواةِ ووَفَيَاتِهِم؛ لأنَّهُ بِمَعْرِفَةِ المواليدِ، والوَفَيَاتِ يَتَّضِحُ اتِّصَالُ السَّنَدِ مِن انْقِطَاعِهِ، ويَتَّضِحُ الصَّادِقُ مِن الكَاذِبِ مِن الرُّواةِ، وذلكَ مِثْلُ: أبي حُذَيْفَةَ البُخاريِّ الَّذِي زَعَمَ أنَّهُ لَقِيَ عبدَ اللَّهِ بنَ طَاوُسٍ، وقالَ لهُ سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: سَلُوهُ: متى وُلِدَ؟
فإذا بهِ وُلِدَ بعدَ وَفاةِ عبدِ اللَّهِ بنِ طَاوُسٍ، بسَنتَيْنِ.
فمِنْ خِلالِ مَعْرِفَةِ مَواليدِ الرُّواةِ، ووَفَيَاتِهم اتَّضَحَ أنَّ هذا الراوِيَ كَذَّابٌ؛ لأنَّهُ يَدَّعِي السمَاعَ مِنْ إنسانٍ تُوُفِّيَ قبلَ وِلادَتِهِ بسَنتيْنِ؛ فهذا مِنْ فَوائدِ مَعْرِفَةِ مواليدِ الرُّواةِ ووَفَيَاتِهِمْ.
وقدْ نَبَّهَ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى ضَرُورةِ مَعْرِفَةِ المُحَدِّثِ بهذهِ الأُمُورِ كلِّها، وليسَ الْمُرادُ أنْ يَحْفَظَها حِفْظاً، ولكنْ لا شَكَّ أنَّهُ كُلَّمَا حَفِظَ وأَتْقَنَ وضَبَطَ سَهُلَتْ لهُ الْمُهِمَّةُ، فبِمُجَرَّدِ أنْ يَنْظُرَ في الإسنادِ يَعْرِفُ مَدَى صِحَّةِ وضَعْفِ هذا الإسنادِ.
ولكنْ إذا لم يَحْفَظْ فأَقَلُّ الأحوالِ أنْ يَكونَ مُسْتَحْضِراً لهذهِ الأمورِ، فيَعرِفَ كيفَ يَبْحَثُ في الأسانيدِ ويَعْرِفُ صَحِيحَها مِنْ سَقِيمِها؟
مَسألةٌ:
وهنا قدْ يَرِدُ سؤالٌ، وهوَ أنَّهُ إذا وَضَعَ إمامٌ رَاوِياً في طَبقةٍ، ووَضَعَهُ إمامٌ آخَرُ في طَبَقَةٍ، فهذا الاختلافُ بينَ هذَيْنِ الإماميْنِ في تَحديدِ طَبقةِ هذا الراوي، ألا يَنْبَنِي عليهِ أيضاً الخِلافُ في أنَّ هذا الإسنادَ الذي جاءَ فيهِ الراوي قدْ يَكونُ عندَ هذا الإمامِ مُتَّصِلاً وعندَ الإمامِ الآخَرِ مُنْقَطِعاً؟
والجوابُ:
أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّكَ إذا أَرَدْتَ أنْ تَبْحَثَ في كتابٍ، فابْحَثْ في اصْطِلاحِ صاحِبِ ذلكَ الكتابِ، فإنَّكَ ستَجِدُ مَثَلاً: هذا الراوِيَ الذي وَصَفَهُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في الطبقةِ العاشرةِ يَرْوِي عنْ راوٍ وَضَعَهُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في الطبَقَةِ الثامنةِ؛ حيثُ إنَّ مَنْ في العاشرةِ يُمْكِنُ أنْ يَسْمَعَ مِن الطبقةِ الثامنةِ.
لكنْ لوْ أَتَيْتَ للذَّهَبِيِّ، فإذا وَضَعَ الذي في الطبقةِ العاشرةِ في الطبقةِ العشرينَ، والذي في الطبقةِ الثامنةِ في الطبقةِ السادسةَ عشرةَ، فنَنْظُرُ هلْ يُمْكِنُ أنْ يَسْمَعَ الذي في الطبقةِ العشرينَ مِن الذي في الطبقةِ السادسةَ عشرةَ؟
فنقولُ: نَعَمْ، بحسَبِ اصطلاحِ الذَّهَبِيِّ، وبحسَبِ ما نَعْرِفُ مِن الفُروقِ في السِّنِينَ بينَ كلِّ طَبقةٍ وأُخْرَى.
ولكنْ أنْ تَخْلِطَ بينَ الكتابَيْنِ، فتَأْتِيَ للَّذِي ذَكَرَهُ الحافظُ الذهبِيُّ في الطبقةِ العشرينَ وتَنْقُلَهُ لرجُلٍ آخَرَ وضَعَهُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ -مَثلاً- في الطبقةِ الثانيَةَ عَشْرَةَ، فهنا يَحْدُثُ الاختلالُ؛ لأَنَّكَ خَلَّطْتَ بينَ مَنهجَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فلا بُدَّ أنْ تَتَقَيَّدَ بطَريقةِ كلِّ مُصَنِّفٍ في كتابِهِ.
مَعْرِفَةُ البُلدانِ:
وكذلكَ:
نَصَّ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ على فائدةِ مَعرِفَةِ البُلدانِ للرُّواةِ.
وأنا أَقولُ: هناكَ فائدةٌ أُخْرَى غيرُ ما ذَكَرَها؛ فالحافظُ ابنُ حَجَرٍ ذَكَرَ مِنْ فَوائدِ مَعْرِفَةِ بُلدانِ الرُّواةِ وأوطانِهم: تَمييزَ الأسماءِ الْمُتَشابِهَةِ والمُتَّفِقَةِ، فإذا جاءكَ -مَثَلاً- رَجُلانِ يُقالُ لهما: محمَّدُ بنُ خالدٍ، فقدْ يَشْتَبِهُ عليكَ الأمْرُ وتَظُنُّ أنَّهُما رَجُلٌ واحدٌ، لكنْ إذا عَرَفْتَ أنَّ هذا محمَّدُ بنُ خالدٍ الدِّمشقيُّ، والآخَرَ محمَّدُ بنُ خالدٍ الْخُرَاسَانِيُّ؛ فهنا يَحْصُلُ التفريقُ، فتَعْرِفُ أنَّ هذا الراوِيَ غيرُ ذلكَ الراوي، وبلا شَكٍّ هذهِ مِنْ فوائدِ مَعْرِفَةِ بُلدانِ الرُّواةِ.
لكنْ أيضاً مِنْ فَوائدِ مَعْرِفَةِ بُلدانِ الرُّواةِ:
مَعْرِفَةُ الأسانيدِ الْمُتَّصِلَةِ مِن الأسانيدِ التي انْقِطَاعُها انقطاعٌ خَفِيٌّ،كالْمَراسيلِ الْخَفِيِّ إرْسَالُها.
فمَثَلاً: إذا نَظَرْنَا في الْخِلافِ بينَ البُخارِيِّ ومسلِمٍ في مَسألةِ الْمُعَاصَرَةِ، أو اشتراطِ اللُّقِيِّ، فهذهِ المسألةُ بلا شَكٍّ فيها خِلافٌ، والخِلافُ أيضاً امْتَدَّ إلى مَنْ بَعْدَهم، فكُلٌّ يَدَّعِي أنَّ هذا الرأيَ هوَ رأيُ الْجُمهورِ، فلوْ نَظَرْنَا في بعضِ الكُتُبِ لوَجَدْنَا أنَّ هناكَ مَنْ يَقولُ: إنَّ مَذْهَبَ مسْلِمٍ هوَ رَأْيُ الْجُمهورِ بأنَّ المُعَاصَرَةَ كافيَةٌ، وهناكَ مَنْ يقولُ: إنَّ مَذْهَبَ البخاريِّ هوَ رأيُ الْجُمهورِ.
والحافظُ ابنُ حَجَرٍ يقولُ: (وَعَنْعَنَةُ المُعاصَرَةِ مَحمولةٌ على السَّمَاعِ إلاَّ مِن الْمُدَلِّسِ، وقيلَ: يُشْتَرَطُ ثُبوتُ لِقَائِهِما ولوْ مَرَّةً، وهوَ الْمُخْتَارُ).
فالحافظُ ابنُ حَجَرٍ رَجَّحَ ما ذَهَبَ إليهِ البُخارِيُّ مِن اشتراطِ اللُّقِيِّ، وادَّعَى أنَّ هذا مَذْهَبُ الْجُمهورِ.
قُلْتُ: هذهِ المسألةُ فيها هذا الْخِلافُ الدائرُ، ولَسْتُ الآنَ بصَدَدِ تَخْطِئَةِ فُلانٍ أوْ تَصويبِ عِلاَّنٍ، ولكنَّ الْخِلافَ فيها قَوِيٌّ جِدًّا، وذَكَرْتُ أنَّ شَرْطَ البُخارِيِّ بلا شكٍّ أحْوَطُ، لكنْ أَقولُ: يُمْكِنُ أنْ نُوَسِّعَ هذا الشرْطَ قليلاً فنقولَ: اللُّقِيُّ وما يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللُّقِيِّ، وأَضْرِبُ مِثالاً على ذلكَ فأَقُولُ:
إذا كانَ هناكَ رَاوِيَانِ تَعَاصَرَا في فَترةٍ مُنَاسِبَةٍ لأنْ يَسْمَعَ كلٌّ منهما مِن الآخَرِ، وهما في بَلَدٍ واحدٍ كالكُوفةِ، وهيَ بَلَدٌ صغيرٌ، والمعروفُ أنَّ العُلماءَ وطلَبَةَ العلْمِ يَحْتَكُّ بعضُهم ببعضٍ، فدَواعِي اللِّقَاءِ مَوجودةٌ بلا شَكٍّ، تَعَاصُرُهُما سِنينَ طويلةً، وأيضاً البلَدُ واحدٌ؛ فَبِلا شَكٍّ اللقاءُ مُحْتَمَلٌ جِدًّا؛ فهذا مِنْ فوائدِ مَعْرِفَةِ بُلدانِ الرُّواةِ.
أمَّا لوْ عَرَفْنَا أنَّ هذا مِصْرِيٌّ، والآخَرَ خُرَاسَانِيٌّ، وعَرَفْنَا أنَّ أحدَهما لم يَرْحَلْ لِلْبَلَدِ الآخَرِ، فهُنا بلا شَكٍّ يَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ البُخارِيِّ تَرجيحاً مُتَأَكَّداً؛ لأنَّ هناكَ غَلَبَةَ ظَنٍّ بأنَّ أحدَهمالمْ يَسْمَعْ مِن الآخَرِ.
على كلِّ حالٍ أنا لا يَحْضُرُنِي الآنَ تَحديدٌ دَقيقٌ لِمَسألةِ المُعَاصَرَةِ، لكنَّ الذي يَظْهَرُ أنَّ مُسْلِماً يَتَوَسَّعُ فيها ولو اخْتَلَفَتِ البُلدانُ، ولم يَكُنْ هناكَ ما يَدُلُّ على أنَّ أحدَهما رَحَلَ إلى بلَدِ الآخَرِ، أوْ أنَّهُما اشْتَرَكَا في فَترةٍ زَمَنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ في الذَّهابِ إلى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ كمَكَّةَ أو المدينةِ.
فلا أَعْرِفُ أنَّ مُسْلِماً رَحِمَهُ اللَّهُ يَشْتَرِطُ هذهِ الشُّروطَ أوْ يُحَدِّدُ هذهِ الحُدُودَ، فالذي يَظْهَرُ أنَّهُ يَتَوَسَّعُ في مفهومِ الْمُعاصَرَةِ تَوَسُّعاً؛ بحيثُ إنَّ هناكَ مَن انْتَقَدَ بعضَ الأحاديثِ التي عندَهُ لهذا السبَبِ، وهناكَ بعضَ الانقطاعِ أَحياناً في بعضِ الأحاديثِ التي انْتَقَدَها عليهِ الدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُهُ.
مَعْرِفَةُ أحوالِ الرُّواةِ مِنْ حيثُ العَدالةُ والْجَرْحُ والْجَهالَةُ:
مِن الْمُهِمِّ أيضاً مَعرِفَةُ أحوالِ الرُّواةِ مِنْ حيثُ:
- العَدالةُ.
- أو الْجَرْحُ.
- أو الْمَرْتَبَةُ الوَسَطُ وهيَ (الْجَهَالَةُ).
فَبِلا شَكٍّ أنَّنا حينَما نَعْرِفُ أنَّ هذا الراوِيَ عدْلٌ حافِظٌ، أوْ أنَّهُ مَجْرُوحٌ، سَوَاءٌ في عدالتِهِ أوْ في حِفْظِهِ، فهذا يَنْبَنِي عليهِ مَعْرِفَةُ هذا السَّنَدِ هلْ هوَ صحيحٌ أوْ غيرُ صَحيحٍ؟
وإذا لم نَعْرِفْ ولم يَتَحَدَّدْ هلْ هذا الرجُلُ عَدْلٌ، أمْ مَطْعُونٌ فيهِ؟
فحينَ ذاكَ هذا الراوي يُقَالُ لهُ: (مجهولٌ)، أوْ (مجهولُ الحالِ) على ما سَبَقَ تَفصيلُهُ.
مَعْرِفَةُ مَراتِبِ الْجَرْحِ والتعديلِ:
كذلكَ:
أيضاً مِن الأُمُورِ الْمُهِمَّةِ لطالِبِ العلْمِ مَعرِفَةُ مَراتِبِ الْجَرْحِ والتعديلِ، ومَعرِفَةُ مَراتِبِ الْجَرْحِ والتَّعْدِيلِ هذهِ مِن الأَهَمِّيَّةِ بمكانٍ؛ لأنَّ بها يُمْكِنُ أنْ يَتَحَدَّدَ عندَ طالِبِ العلْمِ هلْ هذا الحديثُ مِنْ أَعْلَى دَرجاتِ الصحيحِ، أوْ مِنْ أَوْسَطِ دَرجاتِ الصحيحِ؟
كما سَبَقَ أنْ مَثَّلْنَا لذلكَ بأَمْثِلَةٍ.
فمَثَلاً: شُعبةُ، عنْ أبي إسحاقَ، عنْ عَلقمةَ، عن ابنِ مَسعودٍ،هذا مِنْ أَعْلَى دَرجاتِ الصحيحِ.
- حَمَّادُ بنُ سَلمةَ، عنْ ثابتٍ، عنْ أنَسٍ، هذا مِنْ أوْسَطِ دَرجاتِ الصحيحِ.
- العَلاءُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عنْ أبيهِ عنْ أبي هُريرةَ،هذا مِنْ أَنْزَلِ دَرجاتِ الصحيحِ.
- كذلكَ:
سُهَيْلُ بنُ أبي صالحٍ ، عنْ أبيهِ، عنْ أبي هُريرةَ، هذا مِنْ أَنْزَلِ درجاتِ الصحيحِ.
كذلكَ:
بها نَستطيعُ أنْ نَعْرِفَ هلْ هذا الحديثُ صحيحٌ أوْ حَسَنٌ؟
ولذلكَ نَجِدُ في تحديدِ مَراتِبِ الْجَرْحِ والتعديلِ أنَّ مَراتِبَ الحديثِ الصحيحِ ثلاثةٌ، والحديثَ الحسَنَ يَقَعُ في (الْمَرْتَبَةِ الرابعةِ).
فهنا ثلاثُ مَراتِبَ كُلُّها أصحابُها حديثُهم حَدِيثٌ صحيحٌ، لكنَّ بعضَهم أعْلَى مِنْ بَعْضٍ، والتي تَلِيهَا هيَ مَرْتَبَةُ الحديثِ الحَسَنِ، وهيَ مَرتبةٌ دُونَ ذلكَ.
ثمَّ إذا نَزَلْنَا نَجِدُ مَرتبتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وهما اللَّتَانِ حديثُهما يُعْتَبَرُ مِن الحديثِ الضعيفِ، لكنَّ ضَعْفَهُ ضَعْفٌ يَسيرٌ بحيثُ إذا جاءَ لهُ طريقٌ آخَرُ يَنْجَبِرُ بهِ الضعْفُ، ويُصْبِحُ الحديثُ حَسَناً لغيرِهِ.
كذلكَ:
أيضاً إذا أَتَيْنَا لِمَرَاتِبِ الْجَرْحِ:
- فنَجِدُ أنَّ أَسْوَأَها مَا لا يُؤْبَهُ بحديثِ أصحابِها إطلاقاً، وهم أصحابُ الحديثِ(الْمَوضوعِ).
- وكذلكَ:
التي تَلِيهَا وصَاحِبُها هوَ (الْمَتْرُوكُ).
- وكذلكَ:
التي تَلِيهَا وأصحابُها هم الذينَ أيضاً حديثُهم يَقْرُبُ مِنْ أصحابِ الْمَرتبةِ السابقةِ، وهوَ (الضعيفُ جِدًّا)، ويُقَالُ لهُ: (المتروكُ) أيضاً.
- وهناكَ مَراتِبُ تَلِيهَا.
وقدْ يكونُ هناكَ اختلافٌ بينَ الْمُجْتَهِدِينَ مِن العُلماءِ في تحديدِ أصحابِ كلِّ مَرْتَبَةٍ، فهنا مَراتِبُ ثلاثٌ تَلِيهَا مَرْتَبَتَانِ يُمْكِنُ أنْ يَنْجَبِرَ حديثُهما بِناءً على هذا التقسيمِ.
أمَّا الرابعةُ:
فقدْ يَقْبَلُها قَوْمٌ في الشواهِدِ والْمُتَابَعَاتِ، وقدْ يَرْفُضُها قَومٌ آخَرُونَ.
ومَنْ أَرادَ الاستزادةَ فعليهِ بِمُراجَعَةِ الْمَراتِبِ التي ذَكَرَها الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في مُقَدِّمَةِ كتابِهِ (تَقْرِيبُ التَّهْذِيبِ) ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: عبد العزيز السعيد (مفرغ)
القارئ: (ومن المهم معرفة طبقات الرواة).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (ومن المهم معرفة طبقات الرواة)
والطبقات كما مر معنا في رواية الأقران الطبقة: هم الجماعة المشتركون في السن والإسناد، هذه الطبقات لها فائدة في معرفة السقط في الأسانيد، فإذا كان عندنا راوٍ في طبقة أتباع التابعين، وروى عن صحابي، هذا تعرف أن الإسناد منقطع.
كذلك:
معرفة الطبقات تفيد في الكشف عن التدليس والإرسال الخفي؛ لأنه إذا صار أحدهم في السابعة والآخر في الثانية عشر هذا إمكان الرواية بعيد.
القارئ: (ومواليدهم ووفياتهم).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (أيضاً المواليد،معرفة مواليد الرواة؛ لأنه بالمواليد يتميز المنقطع، فإذا عرفت أن راوياً ولد سنة ستين، وروى عن صحابي، وهذا الصحابي توفي سنة أربعين، تبين لك الانقطاع، الوفيات تبين لك رواية من روى عن هذا، فكل من ولد بعده أو ولد وأدركه في سن لا يحتمل للسماع؛ فروايته منقطعة، فيعرف به ما أدركه من الشيوخ.
القارئ: ((وبلدانهم وأحوالهم).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (البلدان فيها فائدة: أنها أحياناً تكشف أنواعاً من أنواع التدليس، كتدليس البلدان.
- وأيضاً تفيد في باب معرفة المختلطين، إذا قالوا: من روى عن فلان من أهل البصرة فحديثه صحيح، وعرفت بلد هذا الراوي تبين لك رواية هذا المختلط.
كذلك:
تفيد في معرفة الاتصال من جهة أن لو كان عندنا راوٍ من أهل الشام، وهذا الراوي رحل إلى بغداد. وخراسان، ثم وجدنا في روايته أنه يروي عن راو من البصرة مباشرة، وهذا الراوي الذي روى عنه من البصرة لم يرحل إلى هذه البلدان التي رحل إليها، ولم يرحل إلى بلد هذا الراوي، ولم يثبت لقاؤهما، فنقول: هذا فيه انقطاع.
القارئ: (وأحوالهم تعديلاً وتجريحاً وجهالة).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (وأحوالهم تعديلاً وتجريحاً وجهالة) لأن الراوي:
- إما أن يكون عدلاً قد عدله العلماء.
- وإما أن يكون مجرحاً قد جرحه العلماء.
- أو يكون فيه تعديل وتجريح.
- أو يكون خالياً منها، وهو المجهول، فهذه الثلاثة تستوفي أحوال الرواة كلهم).
العناصر
معرفة طبقات الرواة:
تعريف (الطبقة) في الاصطلاح.
مثال على (الطبقة) .
فائدة معرفة طبقات الرواة:
1 - تمييز الرواة الذين يشتبهون في أسمائهم وأسماء آبائهم وأنسابهم
أمثلة على الفائدة الأولى.
2 - معرفة الأحاديث المرسلة والمنقطعة والمدلسة والمرسلة إرسالاً خفياً
أمثلة على الفائدة الثانية.
إطلاقات (الطبقة) عند العلماء.
طرق العلماء في تقسيم (الطبقات) .
المؤلفون في (الطبقات) لم يتفقوا على تحديد الطبقة .
تنبيه: قد يكون الشخص الواحد في طبقتين :
الوصف الذي يطلق على من هم في طبقة واحدة
ذكر بعض كتب (الطبقات)
الفرق بين كتابي (تذكرة الحفاظ) و(طبقات الحفاظ)
معرفة مواليد الرواة ووفياتهم:
فائدة معرفة مواليد الرواة ووفياتهم
مثال على فائدة معرفة مواليد الرواة ووفياتهم
المصنفات في مواليد الرواة ووفياتهم
معرفة بلدان الرواة:
فوائد معرفة بلدان الرواة:
الفائدة الأولى: تمييز الأسماء المتشابهة والمتفقة .
مثال الفائدة الأولى.
الفائدة الثانية: معرفة الأسانيد التي انقطاعها انقطاع خفي.
مثال الفائدة الثانية.
شرح نخبة الفكر للشيخ عبد الكريم الخضير (مفرغ)
قال الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير: (أحسن الله إليك: "خاتمة: ومن المهم معرفة طبقات الرواة ومواليدهم ووفياتهم وبلدانهم وأحوالهم تعديلاً وتجريحاً وجهالةً، ومراتب الجرح وأسوؤها الوصف بأفعل كأكذب الناس، ثم دجال أو وضاع أو كذاب، وأسهلها لين، أو سييء الحفظ، أو فيه مقال، ومراتب التعديل وأرفعها الوصف بأفعل كأوثق الناس، ثم ما تأكد بصفة أو صفتين كثقة ثقة، أو ثقة حافظ، وأدناها ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح كشيخ، وتقبل التزكية من عارف بأسبابها، ولو من واحد على الأصح، والجرح مقدم على التعديل إن صدر مبيناً من عارف بأسبابه، فإن خلا عن التعديل قبل مجملاً على المختار".
يكفي، يكفي.
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "خاتمة: ومن المهم معرفة طبقات الرواة ومواليدهم ووفياتهم وبلدانهم وأحوالهم تعديلاً وتجريحاً وجهالةً" هذه خاتمة ختم بها الحافظ -رحمه الله تعالى- مسائل الكتاب، والخاتمة خبر مبتدأه محذوف تقديره: هذه خاتمة، ومن المهم لمن له أنس وارتياح لعلم الحديث معرفة أشياء تهم طالب الحديث ويقبح به جهلها فمن ذلك:
أولاً: معرفة طبقات الرواة وهي جمع طبقة، وهي في الاصطلاح: عبارة عن جماعة من أهل زمان اشتركوا في سن ولقاء المشايخ والأخذ عنهم، وقد يكون الشخص من طبقتين باعتبارين أي على حيثيتين مختلفتين، كأنس بن مالك وغيره من أصاغر الصحابة فإنه من حيث ثبوت الصحبة يعد في طبقة العشرة مثلاً، هو صحابي مثلهم ومن حيث صغر السن يعد في طبقة من بعدهم، فمن نظر إلى الصحابي باعتبار الصحبة جعل الجميع طبقة واحدة كما صنع ابن حبان في الثقات وابن حجر في التقريب، ومن نظر إليهم باعتبار قدر زائد كالسبق إلى الإسلام أو شهود المشاهد الفاضلة جعلهم طبقات، وإلى ذلك جنح ابن سعد صاحب الطبقات، قال ابن حجر: "وكتابه أجمع ما جمع في ذلك، ومثل ذلك طبقة التابعين بالاعتبارين المذكورين".
فائدة: جعل ابن سعد طبقات الصحابة خمساً، وجعلهم الحاكم اثنتي عشرة طبقة وهكذا، قال السخاوي: منهم من يجعل كل طبقة أربعين سنة، وجعل الحافظ ابن حجر طبقات رواة الكتب الستة اثنتي عشرة طبقة، الأولى: الصحابة على اختلاف مراتبهم، وتمييز من ليس له منهم إلا مجرد الرؤية من غيره، الثانية: طبقة كبار التابعين كابن المسيب فإن كان مخضرماً صرحت بذلك –هذا كلام الحافظ-، الثالث: الطبقة الوسطى من التابعين كالحسن وابن سيرين.
الرابعة: طبقة تليها جل روايتهم عن كبار التابعين كالزهري وقتادة.
الخامس: الطبقة الصغرى منهم الذين رأوا الواحد والاثنين ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كالأعمش.
السادسة: طبقة عاصروا الخامسة لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة كابن جريج.
السابعة: كبار أتباع التابعين كمالك والثوري.
الثامنة: الطبقة الوسطى منهم كابن عيينة وابن علية.
التاسعة: الطبقة الصغرى من أتباع التابعين كيزيد بن هارون والشافعي وأبي داود الطيالسي وعبد الرزاق.
العاشرة: كبار الآخذين عن تبع الأتباع ممن لم يلق التابعين كأحمد بن حنبل.
الحادية عشرة: الطبقة الوسطى من ذلك كالزهري والبخاري.
الثانية عشرة: صغار الآخذين عن تبع الأتباع كالترمذي، وألحقت بها باقي شيوخ الأئمة الستة الذين تأخرت وفاتهم قليلاً كبعض شيوخ النسائي.
ومعرفة طبقات الرواة فن مهم جداً، من فوائده: سد باب الكذب على الدجالين، وكشف خبيئة المدلسين، وإزاحة الستار عن حقيقة العنعنة، وإمكان الاطلاع على وصل الحديث أو إرساله، والأمن من تداخل الاسمين إن اتفقا في الاسم واختلفا في الطبقة وهكذا، نعم معرفة الطبقات في غاية الأهمية، تحدد إمكان سماع الراوي عن من يروي عنه.
ثانياً: من المهم معرفة مواليد الرواة ووفياتهم؛ لأنه بمعرفتهما يحصل الأمن من دعوى المدعي للقاء بعضهم وهو في نفس الأمر ليس كذلك، معرفة المواليد والوفيات يعني معرفة تواريخ الرواة، وعرفنا أن كثير من الرواة افتضح لما ادعى الرواية عن شيخ ثم سئل عن مولده فتبين أنه ولد بعد وفاة ذلك الشيخ فافتضح، قال ابن الصلاح: "روينا عن سفيان الثوري أنه قال: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ"، وروينا عن حفص بن غياث أنه قال: "إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين"، يعني احسبوا سنه وسن من كتب عنه، وهذا نحو ما روي عن إسماعيل بن عياش قال: "كنت بالعراق فأتاني أهل الحديث فقالوا: ههنا رجل يحدث عن خالد بن معدان فأتيته فقلت: أي سنة كتبت عن خالد بن معدان؟ فقال: سنة ثلاث عشرة -يعني ومائة-، فقلت: أتزعم أنك سمعت منه بعد موته بسبع سنين؟ سمعت منه بعد موته بسبع سنين؟ قال إسماعيل: "مات خالد سنة ست ومائة"، روينا عن الحاكم أبي عبد الله قال: "لما قدم علينا أبو جعفر محمد بن حاتم الكشي وحدث عن عبد بن حميد سألته عن مولده فذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين، فقلت لأصحابنا: سمع هذا الشيخ من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة".
من المهم أيضاً معرفة بلدان الرواة وأوطانهم، قال ابن الصلاح: "وذلك مما يفتقر حفاظ الحديث إلى معرفته في كثير من تصرفاتهم، ومن مظان ذكره الطبقات الكبرى لابن سعد وكتب تواريخ البلدان كتاريخ بغداد للخطيب وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ نيسابور للحاكم وغيرها، وقد كانت العرب إنما تنتسب إلى القبائل، فلما جاء الإسلام وغلب عليهم سكنى القرى والمدائن حدث فيما بينهم الانتساب إلى الأوطان، كما كانت العجم تنتسب، وأضاع كثير منهم أنسابهم، فلم يبق لهم غير الانتساب إلى الأوطان، فلان المكي، فلان المدني، فلان الطائفي وهكذا، بعد أن كانوا فلان القرشي، فلان المخزومي، فلان الخزرجي، فلان..، بعد أن كانوا ينتسبون إلى القبائل صاروا ينتسبون إلى البلدان فأضاع كثير منهم الأنساب، ومن انتقل من بلد إلى بلد وأراد الجمع بينهما في الانتساب فليبدأ بالأول ثم بالثاني المنتقل إليه، وحسن أن يدخل على الثاني كلمة "ثم" فيقال: فلان بن فلان المصري ثم الدمشقي وهكذا.
ومن كان من أهل قرية من قرى بلدة فجائز أن ينتسب إلى القرية وإلى البلدة أيضاً، وإلى الناحية التي منها تلك البلدة أيضاً، قال الحافظ: "وفائدته الأمن من تداخل الاسمين إذا اتفقا لكن افترقا نسبةً".
قال: "من المهم معرفة طبقات الرواة ومواليدهم ووفياتهم وبلدانهم" وهذا انتهينا منه "وأحوالهم تعديلاً وتجريحاً وجهالة" من المهم بل من أهم المهمات لمن يتصدى لهذا الشأن معرفة كل وصف قام بالرواة من الأوصاف المؤثرة في قبول أخبارهم أو ردها من العدالة والجرح والجهالة، قال الحافظ: "ومن المهم معرفة أحوال الرواة تعديلاً وتجريحاً وجهالة" لأن الراوي إما أن تعرف عدالته، أو يعرف فسقه، أو لا يعرف فيه شيء من ذلك، وكلام الحافظ هنا يدل على أن الجهالة ليست بجرح، ليست بجرح، فليست بقسم من أقسامه، بل قسيم له، فعلى هذا هي عدم علم بحال الراوي، ويدل على ذلك كلام أبي حاتم الرازي في بعض الرواة، بل في كثير من الرواة حينما يقول: "فلان مجهول أي لا أعرفه"، وكثيراً ما يقول: مجهول فقط أو لا أعرفه فقط، لكن يشكل على هذا أن من رتب ألفاظ الجرح والتعديل جعلوا لفظ (مجهول) من ألفاظ الجرح، فعلى هذا هي جرح، على كلام الحافظ وكلام أبي حاتم هي عدم علم بحال الراوي، ومقتضى صنيع من أدخل لفظ (مجهول) في ألفاظ الجرح أنها تجريح، ويترتب على ذلك الحكم على الخبر المروي من طريق من وصف بمجهول، فمقتضى كونه جرحاً أن يضعف الخبر بسببه ابتداءً، ومقتضى كونه عدم علم بحال الراوي أن يتوقف في الحكم على الخبر حتى تتبين حال الراوي، وهذا أشرنا إليه سابقاً في المجهول وأنواعه).