25 Oct 2008
مجهول العين ومجهول الحال، والمبهم والموضح والوحدان
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (ثُمَّ الجَهَالَةُ: وَسَبَبُهَا
أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتَهَرَ بِهِ لِغَرَضٍ، وَصَنَّفُوا فِيهِ (المُوْضِحَ).
-وَقَدْ يَكُونُ مُقِلاًّ فَلاَ يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْه ُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ (الوُحْدَانَ).
-أَوْ لاَ يُسَمَّى اخْتِصَارًا، وَفِيهِ (المُبْهَمَاتُ).
-وَلاَ يُقْبَل المُبْهَمُ وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ عَلَى الأَصَحِّ.
فَإِنْ سُمِّيَ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ عَنْهُ فَمَجْهُولُ العَيْنِ.
أَو اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُوَثَّقْ، فَمَجْهُولُ الحَالِ، وَهُوَ: المَسْتُورُ).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): ( (1) (ثُمَّ الجَهَالَةُ)
بالرَّاوي وهيَ:
السَّبَبُ الثَّامِنُ في الطَّعْنِ (وَسَبَبُهَا)أمْرَانِ:
أحَدُهُمَا: (أَنَّ الرَّاوي قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ) مِن اسمٍ، أو كُنْيَةٍ، أو لَقَبٍ، أو صِفَةٍ، أو حِرْفَةٍ، أو نَسَبٍ؛ فيَشتهِرُ بشيءٍ منها؛ (فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ) من الأغْرَاضِ، فَيُظَنُّ أنَّهُ آخَرُ فَيَحْصُلُ الجَهْلُ بحالِهِ (وَصَنَّفُوا فيه) أي: في هَذَا النَّوْعِ (المُوَضِّحَ) لأوهَامِ الجَمْعِ وَالتَّفرِيقِ، أَجَادَ فيه الْخَطِيبُ وَسَبَقَهُ إليه عبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ وهو الأَزْدِيُّ ثُمَّ الصُّورِيُّ. ومِن أَمْثِلَتِهِ: محمدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ بِشرٍ الكَلْبِيُّ، نَسَبَهُ بَعضُهُمْ إلى جَدِّهِ فقال: محمدُ بْنُ بِشرٍ، وسمَّاهُ بعضُهُمْ حَمَّادَ بْنَ السَّائِبِ، وَكَنَّاهُ بعضُهُم أَبَا النَّضْرِ، وبعضُهُم أبَا سعيدٍٍ، وبعضُهُم أبا هِشَامٍ، فصَارَ يُظَنُّ أنَّهُ جَمَاعَةٌ، وهو واحدٌ، ومَنْ لا يَعْرِفُ حقيقةَ الأمرِ فيه لا يَعْرِفُ شَيْئًا من ذَلِكَ. (2) (وَ) الأَمْرُ الثَّانِي: أنَّ الرَّاوي (قَدْ يَكُونُ مُقِلاً) من الحَدِيثِ (فَلاَ يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ) وقد (صَنَّفُوا فيه الوُحدَانَ) وهو مَنْ لم يرْوِ عنهُ إلاَّ واحدٌ ولو سُمِّيَ، فَمِمَّن جَمَعَهُ مُسْلِمٌ، والحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وغيرُهُما، (أو لاَ يُسَمَّى) الرَّاوي (اخْتِصَارًا) من الرَّاوي عنه كقولِه: أَخْبَرَنِي فُلاَنٌ، أو شيخٌ، أو رجلٌ، أو بَعْضُهُمْ، أو ابْنُ فُلانٍ، ويُسْتَدَلُّ على معرفَةِ اسمِ المُبْهَمِ بوُرُودِهِ من طريقٍ أُخْرَى مُسَمًّى فيها، (وَ) صَنَّفُوا (فيه المُبْهَمَاتِ، وَلاَ يُقْبَلُ) حَدِيثُ (المُبْهَمِ) ما لم يُسَمَّ؛ لأنَّ شرْطَ قَبُولِ الخَبَرِ عَدَالَةُ راوِيهِ، وَمَنْ أُبْهِمَ اسمُهُ لا تُعْرَفْ عَيْنُهُ فكيفَ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ؟ وكذا لا يُقْبَلُ خَبَرُهُ (وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ) كأنْ يقولَ الرَّاوي عنه: أخْبَرَنِي الثقَةُ؛ لأنَّهُ قدْ يكونُ ثِقَةً عندَه مَجْرُوحًا عندَ غيرِهِ، وهَذَا (عَلَى الأَصَحِّ) في المسألةِ، ولهَذِهِ النُّكْتَةِ لم يُقْبَل المُرْسَلُ، ولو أَرْسلَهُ العَدْلُ جَازِمًا بهِ لهَذَا الاحتمالِ بعينِه. وقيلَ:يُقْبَلُ تَمَسُّكًا بالظَّاهِرِ؛إذ الجَرْحُ على خِلافِ الأصلِ.
وقيلَ:إن كان القائِلُ عالِمًا أَجْزَأَ ذَلِكَ في حقِّ مَنْ يُوَافِقُهُ في مَذْهَبِهِ،
وهَذَا ليسَ من مَباحِثِ عُلُومِ الحَدِيثِ، واللهُ المُوَفِّقُ.
(3) (فَإِنْ سُمِّيَ عَنْهُ)
الرَّاوي (وَانْفَرَدَ) راوٍ (وَاحِدٌ) بالروايةِ (عَنْهُ فَـ) هو (مَجْهُولُ العَيْنِ) كالمُبْهَمِ فلا يُقبلُ حَدِيثُه إلاَّ أنْ يُوَثِّقَهُ غيرُ مَنْ ينْفَرِدُ عنهُ على الأصَحِّ، وكذا مَن ينفرِدُ عنهُ إذا كانَ متأَهِّلاً لذَلِكَ (أو) إنْ رَوَى عنهُ (اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُوَثَّقْ، فَـ) هووقد قَبِلَ رِوَايتَهُ جَماعَةٌ بغيرِ قَيْدٍ، وردَّها الجُمْهورُ.
والتَّحْقَيقُ أنَّ رِوَايةَ المَسْتُورِ وَنَحْوِهِ ممَّا فيه الاحتِمَالُ لا يُطْلَقُ القولُ بِرَدِّها ولا بِقَبُولِها، بلْ هيَ مَوْقُوفَةٌ إلى اسْتِبَانَةِ حَالِهِ كما جَزَمَ به إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، ونَحْوَهُ قولُ ابْنِ الصَّلاَحِ فيَمن جُرِحَ بِجَرْحٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم
قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: ( (1)المَجْهُولُ
انتقلَ الحافظُ إلى السَّببِ الثامنِ مِن أسبابِ ردِّ الحديثِ وهو جهالةُ الراوي، ولم يُعْطِ الحديثَ المردودَ بهذا السببِ اسمًا خاصًّا، فهو يدخلُ تحتَ الحديثِ الضعيف.
ذُكِرَ أنَّ للجَهَالةِ سببينِ: 1-أنَّ الراوي قد يكونُ له أسماءٌ أو نعوتٌ أو أنسابٌ كثيرةٌ:
-بأنْ يُنسبَ إلى البلدِ تارةً.
-وإلى القبيلةِ تارةً.
-وإلى الصنعةِ تارةً.
-كما يُنسبُ إلى أبيه تارةً.
-وإلى جدِّه تارةً أخرى، إلى غيرِ ذلكَ؛ فإذا سُمِّي، أو كُنِّيَ، أو لُقِّبَ، بغيرِ المعروفِ وقعت الجهالةُ، ومَثَّلَ:الحافظُ بشخصٍ اسمُه: محمدُ بنُ السائبِ الكلبيُّ، وهو متروكُ الحديثِ، ورُمِيَ بالكذبِ، لكنَّ المدلِّسِينَ الذين يروونَ عنه يُغَيِّرُونَ اسمَه، وتارةً لقبَه، وتارةً نِسْبَتَهُ، وتارةً كُنيتَه.
- ومثلُه:
محمدُ بنُ سعيدٍ المصلوبُ،وَضَّاعٌ مشهورٌ، يُدَلِّسُونَه كثيرًا، حتَّى ذكرَ بعضُ الحُفَّاظِ أنه جمعَ الأسماءَ التي سُمِّيَ بها هذا الرجلُ مع الكُنَى، والألقابِ، والأنسابِ، فزادتْ على مائةٍ، وكلُّها لرجلٍ واحدٍ.
- وقالَ الحافظُ: (إنَّ الأئمَّة صنَّفُوا في هذا لكي لا يقعَ الباحثُ في وصفِ الراوي بوصفٍ لا يستحقُّه بسببِ جهالتِه)، فمِن ذلكَ: (مُوَضِّحُ أوهامِ الجمعِ والتفريقِ) للخطيبِ،
وهذا الكتابُ يتعلَّقُ بأمرينِ:
الأَوَّلُ: وهو ما يهمُّنَا هنا وهو التفريقُ، ويُرادُ به الشخصُ الواحدُ قد يعدُّه الإمامُ اثنينِ أو ثلاثةً؛ لذكرِه بأسماءٍ مختلفةٍ أو كُنَى وألقابٍ مختلفةٍ، فيقولُ الخطيبُ: (إنَّ هذا الرجلَ وإنْ تعدَّدَتْ أسماؤه وألقابُه فهو رجلٌ واحدٌ، وذكرَ كلَّ مَن وقفَ عليه بهذه الطريقةِ مثلَ:إبراهيمَبنِ أبي يحيى، شيخِ الشافعيِّ، وهو متروكٌ كذَّابٌ).
الثاني: الجمعُ بضدِّ هذا،وهوَ أنْ يكونَ ثلاثةٌ مِن الرواةِ متَّفقينَ في الاسمِ واسمِ الأبِ وأحيانًا في اسمِ الجدِّ أو في النسبةِ فيظنُّهم الإمامُ واحدًا، وهذا الجمعُ أكثرُ ما يُعرفُ عندَ الأئمَّةِ في مصطلحِ الحديثِ باسمِ المُتَّفِقِ والمُفْتَرِقِ.
-مُتَّفِقٌ في الاسمِ.
-ومُفْتَرِقٌ في الأشخاصِ.
وهذا السببُ بعدَ التصنيفِ فيه وبيانِ أنَّ هذا الراوي إنَّمَا هو واحدٌ الذي يظهرُ أنَّه ليسَ سببًا جوهريًّا في الوقوعِ في الجهالةِ.
2-أنَّ الراوي قد يكونُ مُقلاً ليسَ مشهورًا بروايةِ الحديثِ،إمَّا أنَّه لم يروِ إلا أحاديثَ يسيرةً أو أنَّه ليسَ له مِن الرواةِ إلا أناسٌ قليلونَ، فهذا هو السببُ الرئيسيُّ في الوقوعِ في الجهالةِ، واعتنى الأئمَّةُ بهذا وصنَّفُوا فيه كتبًا باسمِ (الْوُحْدَانِ)، مِثْلُ: (الْوُحْدَانِ)لمسلمٍ،والحسنِ بنِ سفيانَ،وأبي الفتحِ الأزديِّ، صنَّفُوا كتبَ الوحدانِ وهم الذين لم يروِ عنهم إلا شخصٌ واحدٌ.
ومِمَّاألْحَقَه الحافظُ بهذا السببِ مِن أسبابِ الجهالةِ: عدمُ تسميةِ الراوي تمامًا؛ بأنْ يقولَ: حدَّثَنِي رجلٌ، أو أخو فلانٍ، أو رجلٌ من بني فلانٍ؛ فهذا يُسَمَّى المبهمَ، وقالَ: إنُه عُرِفَ هذا الذي لا يُذكرُ باسمِه عندَ المحدِّثين باسمِ (المُبْهَمَاتِ)، وفيه تصانيفُ، لكنَّ التصانيفَ المؤلفةَ أكثرُها في مُبْهَمَاتِ المتونِ في حينِ أنَّ الحافظَ يتحدَّثُ عن مُبْهَمَاتِ الإسنادِ، وبعضُ هذه المُؤَلَّفَاتِ لا ذكرَ فيها للمُبْهَمَاتِ في الإسنادِ.
- مثلُ: أنْ تردَ قصَّةٌ لرجلٍ لم يُسَمَّ فيذكرُ المؤلفُ اسمَ هذا الرجلِ، وهناكَ كتابٌ مِن أجمعِ ما أُلِّفَ في المبهماتِ سواءٌ في المتنِ أو في الإسنادِ، وهو لوليِّ الدينِ أبي زُرْعَةَ العراقيِّ بنِ العراقيِّ الإمامِ المشهورِ واسمُه: (المستفادُ مِن مبهماتِ المتنِ والإسنادِ).
بعدَ ذلكَ تَحَدَّثَ الحافظُ عن حكمِ الحديثِ المبهمِ:
وقالَ: إنَّ المبهمَ لا يُقبلُ حديثُه بسببِ الجهالةِ، وأنَّه لا يُعرفُ هل هو ثقةٌ أو غيرُ ثقةٍ؟ حتى ولو كانَ معَ إبهامِه عُدِّلَ بأنْ يقالَ: حدَّثني رجلٌ ثقةٌ أو قالَ: حدَّثَنِي مَن أثقُ به … إلخ بدونِ أنْ يُسَمِّيَهُ، فالصحيحُ الذي عليه جمهورُ المحدِّثينَ أنَّه لا يُقبلُ ويُسَمُّونَه تعديلَ المُبْهَمِ، والذي يستعملُه كثيرًا هو الإمامُ الشافعيُّ، وبالاستقراءِ عُرفَ أنَّ الشافعيَّ قد يروي عن أناسٍ هم عندَ غيرِه ليسوا بثقاتٍ، ومِن أشهرِهم إبراهيمُ بنُ أبي يحيى، ومنهمْ مسلمُ بنُ خالدٍالزنجيُّ الفقيهُ، وإنْ كانَ في الضعفِ ليسَ مثلَ سابقِه.
ثُمَّ ذكرَ الحافظُ قضيَّةً أصوليَّةً أشارَ إلى أنَّها غيرُ مُتَعَلِّقَةٍ بعلمِ الحديثِ، وهي أنَّ التعديلَ قد يُقبلُ عندَ مَن يُقَلِّدُ ذلكَ الإمامَ، فكما قَلَّدَهُ في الفقهِ فيقلِّدُه في التعديلِ، وهذا فيه نظرٌ.
ثُمَّ تعرَّضَ الحافظُ لتقسيمِ المجهولِ، ومتى يرتفعُ الشخصُ عن حدِّ الجهالةِ؟
(2) مجهولُ العينِ هو:
الذي لم يروِ عنه إلا راوٍ واحدٌ ولم يُوَثَّقْ.
وترتفعُ جهالةُ عينِه:
إذا روى عنه اثنانِ فأكثرُ، حينئذٍ ينتقلُ مِن جهالةِ العينِ إلى جهالةِ الحالِ، كما ينتقلُ مِن جهالةِ العينِ في حالةٍ ثانيةٍ إذا روى عنه واحدٌ وَوُثِّقَ، فزالتْ عنه بذلكَ جهالةُ العينِ والحالِ، وارتفعَ إلى أنْ صارَ معروفًا مُوَثَّقًا،
فحينئذٍ الدرجاتُ ثلاثٌ:
1-مجهولُ العينِ: وهو مَن لم يروِ عنه إلا واحدٌ ولم يُوَثَّقْ.
2-مجهولُ الحالِ: وهو الذي روى عنه اثنانِ فأكثرُ ولم يُوَثَّقْ.
3-مَن روى عنه واحدٌ فأكثرُ وَوُثِّقَ فَتَرْتَفعُ جهالتُه.
هذا كلامُ الحافظِ، وذكرَ الكلامَ في روايةِ المستورِ الذي هو مجهولُ الحالِ، وذكرَ أنَّ الجمهورَ على أنَّه لا تُقْبَلُ روايتُه حتى يُوَثَّقَ وأنَّ منهم مَن قَبلَها، والمعروفُ عن الأحنافِ قبولُ روايةِ المستورِ.
والتقسيمُ الذي ذهبَ إليه ابنُ حجرٍ في أنواعِ الجهالةِ مشهورٌ جدًّا حتى لا يكادَ كتابٌ مِن كتبِ المصطلحِ المتأخِّرَةِ إلا ويذكرُه، والذينَ ذكرُوه اعتمدُوا فيه على كلامِ محمدِ بنِ يحيى الذهليِّ، شيخِ البخاريِّ وأحدِ أئمَّةِ السُّنَّةِ، ولهُ كتابُ (عللِ حديثِ الزُّهْرِيِّ)، يقولُ فيه الدارَقُطْنِيُّ: مَن أرادَ أنْ يعرفَ فضلَ علمِ السلفِ على علمِ الخلفِ فلينظرْ في (عللِ أحاديثِ الزُّهْرِيِّ)لمحمدِ بنِ يحيى الذُّهْلِيِّ، ثُمَّ أودعَ الخطيبُ كلامَ الذُّهْلِيِّ في كتبهِ، وانتشرَ عنه وأصبحَ هو الاصطلاحَ السائدَ، وإنْ كانَ ابنُ الصلاحِ قد أشارَ إلى أنَّ هناكَ مذهبًا للأئمَّةِ يخالفُ اشتراطَ أنْ يرويَ عن الراوي اثنانِ لتزولَ جهالةُ عينِه.
هناك خلاصةٌ لمسألةِ الجهالةِ بأيِّ شيءٍ تزولُ مِن مَراجعِها لمَن أرادَ التوسُّعَ (شرحُ عللِ التِّرْمِذِيِّ)، فهذا الكلامُ الموجودُ في كتبِ المصطلحِ ربَّما نجدُ ما يخالفُه في التطبيقِ في كتبِ الأئمَّةِ لا سيَّما في (الصحيحينِ).
الخلاصةُ:
أنَ الجهالةَ ليسَ لها ضابطٌ معينٌ بل يُنظرُ إلى عدَّةِ أمورٍ في موضوعِ الجهالةِ منها:
-الراوي عن ذلك المجهولِ.
-الحديثُ الذي أتى به ذلكَ الراوي.
-العصرُ الذي وُجِدَ فيه ذلكَ الراوي.
-موقفُ الأئمَّةِ مِن حديثِ ذلكَ الراويِ قُبُولاً وردًّا.
فهذه عِدَّةُ أمورٍ تُلاحظُ في موضوعِ الجهالةِ، ومِن الأمثلةِ على هذا أنَّه ربَّ رجلٍ لم يروِ عنه إلا شخصٌ واحدٌ، ولم يُنصَّ على توثيقِه ومع ذلكَ فهو عندَ الأئمَّةِ ثقةٌ.
- سُئِلَ ابنُ معينٍ عن الرجلِ لا يروي عنه؛ إلا راوٍ واحدٌ يُقْبَلُ حديثُه؟
فقالَ: إذا كانَ الراوي عنه مثلَ: ابنِ سيرينَ، والشعبيِّ فيُقبلُ حديثُه، ومعنى هذا أنَّ هناكَ مِن الأئمَّةِ مَن إذا روى عن راوٍ فروايتُه تقويةٌ له، منهم: حريزُ بنُ عثمانَ كما قالَ: أبو داودَ: شيوخُه كلُّهم ثقاتٌ.
- وقالَ في الشعبيِّ: كلُّ رجلٍ يروي عنه الشعبيُّ فهو ثقةٌ، ويقولونُ في الحسنِ البصريِّ: إذا سَمَّى الراوي عنه فهو ثقةٌ، لكن بعضُ الرواةِ مثلُ: سِمَاكِ بنِ حربٍ، وأبي إسحاقَ السبيعيِّ قالَ عنهما ابنُ معينٍ: لا، هذانِ يرويانِ عن كلِّ أحدٍ.
فالخلاصةُ:
أنَّ الراوي عن الشخصِ قد يكونُ له صلةٌ بموضوعِ ارتفاعِ جهالتِه.
وكذلكَ:
بالنسبةِ للعصرِ، فهذا الراوي الذي لم يروِ عنه إلا واحدٌ إذا كانَ في عصرِ كبارِ التابعينَ فإنَّه ليسَ مثلَ الراوي إذا كانَ في عصرٍ متأخِّرٍ، وهو العصرُ الذي اعتنى فيه الأئمَّةُ بالرواةِ وبحثُوا عنهم.
- وكذلكَ:
المتنُ الذي يأتي به الراوي له صلةٌ بالموضوعِ، ولهذه الأمورِ فقدْ أخرجَ الشيخانِ لأناسٍ ليسَ لهم إلا راوٍ واحدٌ ولا سيِّما الإمامُ مسلمٌ، أو روى عنهم أكثرُ مِن واحدٍ وليسَ فيهم توثيقٌ.
وموضوعُ الجهالةِ يحتاجُ إلى دراسةٍ وافيةٍ دقيقةٍ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد
قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: (السببُ الرابعُ مِنْ أسبابِ الطعْنِ في الرَّاوِي:
(1) قالَ الحافظُ: (ثُمَّ الْجَهَالَةُ، وسببُها أنَّ الراويَ قدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ فيُذْكَرُ بغيرِ ما اشْتَهَرَ اشْتُهِرَ بهِ لغَرَضٍ، وصَنَّفُوا فيها (الْمُوضِّحَ).
ذَكَرَ في الشرْحِ أنَّ سببَها أَمْرَانِ، ويُمْكِنُ أنْ نَقولَ: إنَّ سببَها ثلاثةُ أُمُورٍ: الأمْرُ الأَوَّلُ: أنَّ الراويَ أَحياناً قدْ تَكْثُرُ نُعوتُهُ، فنَجِدُهُ أحياناً يُذْكَرُ بغيرِ ما اشْتَهَرَ اشْتُهِرَ بهِ، فيَطَّلِعَ فيَطَّلِعُ الْمُطَّلِعُ على الإسنادِ فيَبْقَى حَيرانَاً في هذا الرجُلِ مَنْ يكونُ؛ ولذلكَ أحياناً يُضْطَرُّونَ إلى القولِ بأنَّ فُلاناً مَجهولٌ؛ لأنَّهُم لم يَعْرِفُوا مَنْ هوَ.. والغالِبُ على مَنْ يُوصَفُ بأوصافٍ كثيرةٍ أنَّهُ مَطْعُونٌ في عَدالتِهِ، فإذا حَكَمْنَا عليهِ بأنَّهُ مجهولٌ فقطْ، وتَسَمَّحَ أُناسٌ في قَضِيَّةِ المجهولِ، وقَبِلُوهُ في الْمُتَابَعَاتِ والشواهِدِ؛ فمعْنَى ذلكَ أنَّهُ قدْ تَدْخُلُ تُدْخَلُ علينا الْمَوضوعاتُ في الأحاديثِ التي نَحْتَجُّ بها، فتَغْلِيباً لسُوءِ الظَّنِّ في هذهِ الأحوالِ وحَيْطَةً؛ لأنَّ أحاديثَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- يَنبغِي أنْ يُتَحَرَّزَ فيها، وكَوْنُنا نَحْتَاطُ أَوْلَى مِنْ أنْ نَتَسَاهَلَ، فيَدْخُلُ فيَدْخُلَ علينا البَلاءُ مِن الأحاديثِ التي لا تَصِحُّ ولا تَثْبُتُ عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ-. وهناكَ بَعْضُ المَتْرُوكِينَ والكذَّابينَ؛ لأَجْلِ أنَّهُم عُرِفُوا واشْتَهَر واشْتُهِرَ أمْرُهم، صارَ بعضُ تلاميذِهم يُسَمُّونَهم بأسماءَ بأسماءٍ ويُلَقِّبُونَهُم بألقابٍ ويُكَنُّونَهُم بكُنًى غيرِ ما يَشْتَهِرُونَ يُشْتَهَرُونَ بهِ. الْجَهَالَةُ: ذَكَرْنَا سابقاً قَضِيَّةَ (بَقِيَّةَ بنِ الوليدِ) الواردةَ في بابِ التدليسِ، وذَكَرْنَا أنَّ بَقِيَّةَ، حينَما حَذَفَ عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ عَمْرٍو الرَّقِّيَّ، سَمَّاهُ أبا وَهْبٍ الأَسَدِيَّ، فعَمَّى على مَنْ يَطَّلِعُ على الحديثِ مَنْ يكونُ هذا الرَّجُلُ. لكنَّ الإمامَ: أبا حاتمٍ الرازيَّ، اسْتَطَاعَ أنْ يَعْرِفَ أبا وَهْبٍ هذا، وأنَّهُ هوَ عُبيدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو؛ فلذلكَ يَنبغِي أَخْذُ الْحَيْطَةَ الْحَيْطَةِ مِنْ مِثلِ هذهِ الْمَوَاقِفِ. مِثالٌ على هذا: (مُحَمَّدُ بنُ سعيدِ بنِ حَسَّانَ بنِ أبي قَيسٍ المَصْلُوبُ)، صَلَبَهُ أبو جَعفرٍ المنصورُ بالزَّنْدَقَةِ؛ لأنَّهُ وَضَعَ أربعةَ آلافِ حَدِيثٍ؛ لِيَطْعَنَ في الإسلامِ - هذا الراوي قَلَبَ تلاميذُهُ اسْمَهُ على نحوِ مائةِ اسمٍ؛ فمَرَّةً يَقولونَ: محمَّدُ بنُ حَسَّانَ، ومَرَّةً: محمَّدُ بنُ سعيدٍ، ومَرَّةً يَنْسِبُونَه يَنْسُبُونَهُ إلى قَبيلةٍ دُنْيَا، ومَرَّةً يَنْسِبُونَه يَنْسُبُونَهُ إلى قَبيلةٍ عُلْيَا. وكذلكَ: (محمَّدُ بنُ السَّائِبِ بنِ بِشْرٍ الكَلْبِيُّ) ، هذا مُتَّهَمٌ فنَجِدُهُ كَثُرَتْ نُعُوتُهُ، ونَجِدُ عَطِيَّةَ بنَ سَعْدٍ الْعَوْفِيَّ، وهوَ مِنْ تلاميذِ الكَلْبِيِّ هذا، وهوَ أيضاً ضِمْنُ مَنْ رَوَى عن الصحابِيِّ الجليلِ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عنهُ-، فأحياناً يقولُ: حَدَّثَنِي أبو سعيدٍ، أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- قالَ؛ فَيَتَوَهَّمُ مَنْ لا مَعْرِفَةَ لهُ دقيقةً بالحديثِ أنَّهُ يَرويهِ عن الصحابِيِّ. وعَطِيَّةُ، بَعْضُهم يَقْبَلُهُ أوْ على الأَقَلِّ يقولُ: حَدِيثٌ مِن الأحاديثِ الْمُنْجَبِرَةِ، والأمْرُ خِلافُ ذلكَ. فإذا جاءَ في حَدِيثٍ راوٍ مُتَّهَمٌ بالكَذِبِ فلا يُقبَلُ، ولوْ جاءتْ مِنْ مِائةِ طَريقٍ،فعطيَّةُ العَوْفِيُّ كَنَّى شيخَهُ الكلْبِيَّ بكُنيَةٍ لا يُعْرَفُ بها، وهناكَ أحَدُ أبنائِهِ اسمُهُ سعيدٌ، فيُكَنِّيهِ بهِ. ولذلكَ العُلماءُ يُدَقِّقُونَ في رِوايتِهِ، هلْ قالَ: الْخُدْرِيُّ أمْ لا؟ وصَنيعُ عَطِيَّةَ هذا معَ الكلبِيِّ يُسَمَّى تَدليسَ الشيوخِ، وقدْ تَرَكناهُ في مَبْحَثِ التدليسِ اختصاراً. كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ في هذا الْمَبْحَثِ: (الْمُوَضِّحُ لأَوْهَامِ الجمْعِ والتفريقِ) للخَطيبِ البَغدادِيِّ، مَطبوعٌ في مُجَلَّدَيْنِ بتحقيقِ الشيخِ: عبدِ الرحمنِ المعلميِّ، وهوَ كتابٌ جَيِّدٌ في البابِ، وهوَ لا يَقتصِرُ على هذا الْمَبْحَثِ، بلْ هوَ يَقْصِدُ أنَّ هناكَ بعضَ الرُّواةِ الذينَ يَخْتَلِفُ العُلماءُ فيهم، فأحياناً يكونُ راوٍ واحدٌ يَجْعَلُهُ العُلماءُ اثنَيْنِ، وأحياناً يكونُ هناكَ رَاوِيَانِ يَجْعَلُهُما العُلماءُ واحداً. مثلاً: محمَّدُ بنُ السائبِ الكلبيُّيُمْكِنُ يُجْعَلُ أكثَرَ مِن اثنَيْنِ، فالخطيبُ يُبَيِّنُ. وهناكَ بعضُ الرُّواةِ يُجْعَلُونَ واحداً. مِثالٌ: رجُلٌ يَرِدُ في الأسانيدِ يُكَنَّى أبا مَوْدُودٍ، اخْتَلَفَ العُلماءُ فيهِ ما اسْمُهُ ؟ فمِنهم مَنْ قالَ: اسْمُهُ (فِضَّةُ). ومِنهم مَنْ قالَ: اسْمُهُ (عبدُ العزيزِ بنُ أبي سُليمانَ). والصوابُ أنَّهُما اثنانِ، فعبدُ العزيزِ بنُ أبي سُليمانَ ثِقَةٌ، وفِضَّةُ مجهولُ الحالِ، فيُفَرَّقُ بينَهما، ومَنْ جَمَعَ بينَهما فقدْ أَخْطَأَ. الأمْرُ الثاني: ومِن الأسبابِ أيضاً أنْ يكونَ الراوي مُقِلاًّ مِن الحديثِ، فبعضُهم لا تَجِدُ لهم إلاَّ حديثاً واحداً أوْ حديثَيْنِ أوْ نحوَ ذلكَ، فَبِطَبِيعَةِ الحالِ لَنْ يَكْثُرَ تلاميذُهُ، وفي بعضِ الأحيانِ يكونُ الرَّاوِي عنهُ ابنَهُ أوْ أحَدَ أقارِبِهِ، فمِثْلُ هذا تَتَّجِهُ إليهِ الْجَهَالَةُ، وجَهَالَةُ هذا الصِّنْفِ تَحتَمِلُ أمرَيْنِ: 1-أنْ لا يكونَ رَوَى عنهُ إلاَّ رَجُلٌ واحدٌ،فهذا لهم عليهِ حُكْمٌ، فيقولونَ عنهُ: مجهولٌ، أوْ: مجهولُ العَيْنِ. 2-إذا رَوَى عنهُ أكثَرُ مِنْ راوٍ،فهذا يُقالُ عنهُ: مجهولُ الحالِ، وأحياناً يُطلِقونَ عليهِ: المَسْتُورَ، ويُطْلِقُ عليهِ الحافِظُ في التقريبِ: مَقْبُولٌ. وهناكَ قَيْدٌ في الْمَجهولِ وهوَ بصِنْفَيْهِ، وهوَ ألاَّ يُوَثَّقَ مِنْ إِمَامٍ مُعْتَبَرٍ؛ مِثلِ: الإمامِ أحمدَ وابنِ مَعِينٍ، والبُخَارِيِّ، وأبي حاتمٍ، وابنِ الْمَدِينِيِّ، وأمثالِهم، أمَّا ابنُ حِبَّانَ نَجِدُهُ يَذْكُرُ رُواةً مَجهولينَ أوْ مَجْهُولِي الحالِ على أنَّهُم ثِقاتٌ في كتابِ الثِّقاتِ؛ لذلكَ اسْتَثْنَى العُلماءُ ابنَ حِبَّانَ مِنْ هذهِ القاعدةِ، وقالَ: تَوثيقُ ابنِ حِبَّانَ لا يُعْتَبَرُ في مِثلِ هؤلاءِ الرُّواةِ. الوُحْدَانُ: وَهُمْ مَنْ لم يَرْوِ عنهم إلاَّ راوٍ واحدٌ. الأمْرُ الثالثُ: أوْ لا يُسَمَّى الراوي اختصاراً مِن الراوي عنهُ،كقَوْلِهِ: أَخْبَرَنِي فُلانٌ، أوْ شيخٌ، أوْ رجُلٌ أوْ بعضُهم، أو ابنُ فُلانٍ، وهوَ الْمُبْهَمُ، وهوَ الذي لم يُفْصَحْ باسْمِهِ، مَثَلاً: - حدَّثَنِي رجُلٌ، عن ابنِ بَازٍ. أوْ: حدَّثَنِي ابنٌ؛ لأحَدِ بَنِي تَميمٍ. أوْ: حدَّثَنِي بعضُهم. أوْ: حدَّثَنِي شيخٌ. مِثالُهُ: قولُ ابنِ عَدِيٍّ في (الكاملِ): حدَّثَنِي أشياخٌ لنا؛ فهؤلاءِ مُبْهَمُونَ، وهذهِ قِصَّةُ البُخَارِيِّ في العراقِ. كُتُبٌ مُؤَلَّفَةٌ في الْمُبْهَمَاتِ: الْمُبْهَمُ إمَّا أنْ يكونَ في السَّنَدِ أوْ في الْمَتْنِ، ومُعْظَمُ الْمُصَنَّفَاتِ التي صُنِّفَتْ في الْمُبْهَمَاتِ تُرَكِّزُ على الْمُبْهَمَاتِ في الْمَتْنِ دُونَ الْمُبْهَمِ في السَّنَدِ. 1-كتابُ (الأسماءُ المُبْهَمَةُ في الأَنباءِ الْمُحْكَمَةِ) للخَطيبِ البَغداديِّ؛ يَتَكَلَّمُ عن الرُّواةِ الْمُبْهَمِينَ في الْمُتُونِ. مِثالُهُ: في (صحيحِ مُسْلِمٍ) حَدِيثُ: طَلحةَ بنِ عُبيدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: جاءَ رجُلٌ مِنْ أهلِ نَجْدٍ ثائِرَ الرأسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صوتِهِ ولا نَفْقَهُ ما يقولُ، فإذا هوَ يَسأَلُ عن الإسلامِ... إلخ. هذا مُبْهَمُ الْمَتْنِ، فالخَطيبُ يُحَاوِلُ أنْ يَجْمَعَ طُرُقَ الحديثِ كُلَّها حتَّى يَعْثُرَ على طريقٍ سُمِّيَ فيها هذا الرجُلُ الْمُبْهَمُ، فنَجِدُ أنَّ أنَسَ بنَ مالكٍ صَرَّحَ باسمِهِ فَقَالَ في آخِرِ الحديثِ: يا رسولَ اللَّهِ، أَنَا ضِمَامُ بنُ ثَعْلَبَةَ وافِدُ قَوْمِي إليكَ. 2- (غَوَامِضُ الأسماءِ الْمُبْهَمَةِ)لابنِ بَشْكُوَالٍ، وهوَ مَطبوعٌ، وطريقتُهُ بنَفْسُِ طريقةِ البَغداديِّ، لكنَّهُ أَوْرَدَ أحاديثَ أكْثَرَ ممَّا أَوْرَدَهُ الْخَطيبُ البَغداديُّ. 3-(إيضاحُ الإِشكالِ)لابنِ طاهرٍ الْمَقْدِسِيِّ، جَمَعَ بينَ الْمُبْهَمِ في السَّنَدِ والْمُبْهَمِ في الْمَتْنِ، لكنَّهُ لا يَستطيعُ أنْ يَحْصُرَ الْمُبْهَمِينَ في الإسنادِ؛ لأنَّ الأسانيدَ كثيرةٌ، لكنَّهُ بِحَسْبِ بِحَسَبِ ما وَقَعَ لهُ، وهوَ بطريقةٍ مُخْتَصَرَةٍ. ما الفائدةُ مِنْ هذا؟ نقولُ: معرِفةُ الإبهامِ في الإسنادِ أعظَمُ فائدةً مِنْ مَعرفةِ الإبهامِ في الْمَتْنِ؛ لأنَّهُ يَنْبَنِي عليهِ تصحيحٌ وتَضعيفٌ، فلوْ لم نتَعْرِفِ الراويَ الْمُبْهَمَ؛ فمعناهُ أنَّنا سنَتَوَقَّفُ عن الحُكْمِ على الحديثِ حتَّى نَعْرِفَ ذلكَ الراويَ الْمُبْهَمَ. 4-أهَمِّيَّةُ الْمُبْهَمِ في الْمَتْنِ أقَلُّ مِن الإسنادِ، ومَنْ أرادَ مَعْرِفَةَ أهَمِّيَّتَهَا أهَمِّيَّتِهَا فَلْيَرْجِعْ لِمُقَدِّمَةِ (الْمُستفادُ مِنْ مُبْهَمَاتِ المتْنِ والإسنادِ) لأبي زُرْعَةَ ابنِ الحافظِ العراقيِّ، فإنَّهُ أتَى بكتابِ الْخَطيبِ وابنِ بشْكوَالٍ، وابنِ طاهِرٍ بترتيبِ النَّوَوِيِّ، وزياداتِهِ على كتابِ الخطيبِ، فجَمَعَ هذهِ الكُتُبَ الأربعةَ في كتابِهِ (الْمُسْتَفَادُ) ورَتَّبَها تَرتيباً جَيِّداً. حُكْمُ الحديثِ الْمُبْهَمِ: يقولُ الحافظُ: (لا يُقْبَلُ حَدِيثُ الْمُبْهَمِ) ما لم يُسَمَّ. ونقولُ: ولا يَنْجَبِرُ حتَّى نَعْرِفَ مَن الْمُبْهَمُ وسببُ وسَبَبَ رَدِّهِ؛ لأنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْجَبْرِ عَدالةُ رَاوِيهِ، ومَنْ أُبْهِمَ اسْمُهُ لا تُعْرَفُ عَيْنُهُ، فكيفَ تُعْرَفُ عدالتُهُ؟! الإبهامُ بلَفْظِ التعديلِ: بعضُ العُلماءِ مِثْلُ: الشافعيِّ نَجِدُهُ أحياناً يقولُ: أخْبَرَنِي الثِّقَةُ. فشيخُهُ مُبْهَمٌ لكنَّهُ زادَ على الْمُبْهَمِ بأنَّهُ وَصَفَهُ بأنَّهُ ثِقَةٌ، فهلْ يُقْبَلُ التعديلُ على الإبهامِ؟ الرَّاجِحُ أنَّهُ لا يُقْبَلُ؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ ثِقةً عندَهُ، لكنَّهُ غيرُ ثِقَةٍ عندَ غيرِهِ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: عبد العزيز السعيد (مفرغ)
القارئ: ( (ثم الجهالة وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته فيذكر بغير ما اشتهر به لغرضٍ، وصنفوا فيه الموضح).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (هذا يتعلق بسببٍ من أسباب الطعن، وهي الجهالة. الجهالة في الراوي تخالف ما اشترط لصحة الحديث، أو حسنه من العدالة؛ لأن الجهالة إذا وجدت لم تثبت العدالة، ثبوت العدالة يقابلها إما الجهالة، وإما الطعن، هذا الراوي يطعن فيه بسبب جهالته. فدلَّ ذلك على أن الجهالة قدح في العدالة؛لأنها من أسباب الطعن، هذه الجهالة أوجهالة الراوي لها أسباب، المؤلف رحمه الله ذكر الجهالة وذكر أسباب الجهالة، أحد هذه الأسباب: كثرة نعوت الراوي، في اسمه، ولقبه، وكنيته، وحرفته، وصنعته وغيرها، هذه الأشياء إذا كثرت، والراوي مشهورٌ ببعضها، وليس مشهورا بالآخر، ثم ذكر بغير ما اشتهر به يؤدي ذلك إلى جهالته. وهذا كما تقدم لنا يصنعه بعضهم في تدليس الشيوخ، حيث يذكرون الراوي بأوصافٍ أو أسماءٍ ليس مشهوراً بها، هذا السبب ألف فيه الخطيب البغدادي كتاب (موضح أوهام الجمع والتفريق)؛ لأن الراوي إذا أتى بأوصافٍ وبأسماءٍ كثيرةٍ ليس مشهوراً بها تعمَّى أمره على المطلع، فاعتقد أنه شخصٌ آخر، فحكم بجهالته، أو بعدم معرفته، مع أنه في ذاته معروفٌ ومشهورٌ، ولكن باسم آخر.
- كما ذكروا أن إبراهيم بن محمد المروزي، هو معروف أطلق عليه بعض الرواة إبراهيم بن أبي حصن فيما يظهر لي، فهذا الراوي تعمَّى أمره بهذا الاسم، مع أنه مشهورٌ بإبراهيم بن محمد الفزاري.
ومثل: حجاج بن سليمان الرُّعَيْنِيِّ،
جاء بعض الرواة قال: حجاج القُمْرِي، هو يقال له: القمري فلما عبر بعض الرواة بالاسم الذي ليس مشتهراً به، تعمَّى أمره على بعض العلماء فحكموا عليه بأنه لا يعرف.
- وكذلك:
محمد بن السائب بن بشر الكلبي، كناه عطية العوفي قال: عن أبي سعيد، ويطلق عليه أبو هشام، ويسمى حماداً بدل محمد، وقال بعضهم: محمد بن بشر، فلما ذكروه ببعض الأسماء التي لا يعرف بها تعمَّى، فحكم في بعض المواضع بأنه مجهول، هذا سببٌ من أسباب الجهالة.
القارئ: (وقد يكون مقلاً فلا يكثر الأحذ عنه وصنفوا فيه الوحدان).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (يعني قد يكون سبب جهالة الراوي أنه مقل في الرواية، فيقل عدد الراوين عنه، فإذا قلَّ عدد الراوين لم يشتهر حديثه، لأن الراوي كلما كثر عنه الرواة اشتهر حديثه وانتشر، وإذا اشتهر حديثه وانتشر؛ فإن هذا يجعل الناس يبحثون عنه وعن عدالته، فيستبين أمره ويتضح، بخلاف ما إذا كان مقلاً، هذا النوع صنف العلماء فيه الوحدان، صنف فيه مسلم كتاب (المنفردات والوحدان)، يعني: الراوي الذي لم يرو عنه إلا راوٍ واحدٌ، وهذا: كمحمد بن أبي سفيان بن حارثة الثقفي، ما روى عنه إلا الزهري، وزياد بن رباح، ما روى عنه؛ إلا مالك، هذه رواية وحدان.
-كذلك:
المسيب بن حَزَن، رضي الله عنه ما روى عنه إلا سعيد.
- وكذلك:
قرة بن إياس، ما روى عنه إلا ابنه معاوية؛ فلقلة الآخذين قد يوصف الرجل بأنه مجهولٌ.
القارئ: ( (أو لا يسمى اختصاراً، وفيه المبهمات).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (أو تكون سبب جهالته أنه لا يسمى اختصاراً،يعني: يريد الراوي أن يختصر، فبدلاً من أن يقول: حدثنا فلان بن فلان يبهم هذا الراوي، إما أن يقول: عن رجل، أو يقول: ابن فلان، أو يقول: عمة فلان، أو يقول: ابن أخ فلان.
هذه تسمى (المبهمات)، يعني: الذي لا يذكر فيه اسم الراوي صريحاً هذا هو المبهم.
- والذي يذكر فيه اسم الراوي بدون تمييزٍ عن غيره يسمى المهمل، إذا قالوا: سفيان، وسكتوا، هذا يسمى مهملاً، فإذا قالوا: سفيان بن سعيد، أو سفيان بن عيينة، تميز.
أما المبهم هو: الذي لا يذكر اسمه، يكنى عنه، أو يلقب ونحو ذلك، يعني: يذكر بما لا يكون به اسمه صراحة، هذا هو المبهم؛ لأنه يكون مستغلقاً على غيره، إذا قالوا عن رجل: لا يدرى من هو، لا نعرف اسمه.
إذا قالوا: ابن فلان يدل ابن زيد، ابن أسلم، أو ابن لعاصم، هذا لا يدرى من هو؟ فعندئذ يسمى هذا المبهم الإبهام هذا يورث الجهالة؛ لأننا لو عرفنا اسمه يمكن أن نعرف حقيقة أمره من حيث العدالة وعدمها، لكن لما أخفي اسمه قال المؤلف (اختصاراً).
قد يكون اختصاراً، وقد يكون لغير الاختصار، قد يكون اختصاراً، وقد يكون نسياناً، ينسى الراوي من حدثه، وقد يكون هذا الراوي فيه ضعفٌ فيريد هذا أن يستر أمره، هذا له مقاصد كثيرةٍ غير ما ذكر المؤلف رحمه الله.
والمقصد الذي ذكره المؤلف (اختصاراً) هذا من أبعدها.
فالشاهد إذا أبهم الراوي سبب له الجهالة، ولهذا هذا النوع من المبهم أو من الجهالة هو من أشد أنواع الجهالة.
القارئ: ( (ولا يقبل المبهم).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (المبهمات هنا يراد بها مبهمات الإسناد، لا مبهمات المتن؛ يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما يضر الحديث شيئاً، والذي يريده المؤلف هو الذي يتعلق بالإسناد.
المبهمات في المتن والإسناد أُلف فيها:
- ألف فيها الخطيب البغدادي(الأنباء المحكمة في الأسماء المبهمة).
وأوسع كتاب ألف فيها كتاب ولي الدين العراقي(المستفاد من مبهمات المتن والإسناد) يجمع بين هذا وهذا.
القارئ: ( (ولا يقبل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (أي: لا يقبل الراوي المبهم بمعنى: أنه يفتقد العدالة ولا يقبل حديثه، فحديثه ضعيف، اتفق أهل العلم على ضعف حديثه، ولذا قال: ابن كثير رحمه الله: إنه لا يعرف أحداً من العلماء يقبل حديثه. وكذلك: ذكر ابن عبد الهادي، والحافظابن حجر، وغيرهم من الحديث هذا أن الأحاديث الضعاف بالاتفاق.
وكذلك: الراوي هذا يحكم بأنه مجهولٌ، هذا خلافاً لمذهب ابن حبان في مثل هؤلاء، ولا يعتمد على كلام ابن حبان.
القارئ: ( (فإن سمي وانفرد واحدٌ عنه فمجهول العين).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (يعني: إذا سمي الراوي ولم يكن مبهماً، ولكن ذكر باسمه وروى عنه راوٍ واحدٌ، فهذا يسمى مجهول العين. ولكن شرطه أن يكون مسمى، فإذا كان ما سمي، فهذا يكون مبهماً، وهو أشد أنواع الجهالة، ثم يأتي من بعده من سمي ولكن لم يرو عنه إلا راوٍ واحدٌ فقط، فهذا يكون مجهول العين، عينه مجهولة.
القارئ: ( (فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين أو اثنان فصاعدا ولم يوثق فمجهول الحال وهو المستور).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (مجهول العين من روى عنه راوٍ واحدٌ، لكن هذه العبارة من الحافظ ابن حجر ينبغي تقييدها.
من روى عنه راوٍ واحد ولم يتكلم فيه بجرح ولا تعديل من معتبر؛ فهذا يعتبر مجهول العين، أما إن روى عنه إمام.. مثلاً روى عنه ابن مهدي، ووثقه، فهذا ما يكون مجهول العين، أو مثلاً: روى عن راوٍ واحدٍ ووجدنا مثلاً: شعبة يطعن فيه يقول: هذا كذاب (أو) وضاع، هذا ما نسميه مجهولاً؛ لأن أمره قد استبان ثم يأتي مجهول الحال: وهو الذي روى عنه اثنان، لكن لا نعلم حاله، هل هو ضعيف أو ثقة؟
المؤلف رحمه الله قال: (ولم يوثق): وهذا كلام قاصرٌ؛ لأنه قد يروي عنه اثنان ولا يوثق، ولكن يضعف، فهذا لا يسمى مجهول الحال، ولهذا العبارة الصحيحة: مجهول الحال من روى عنه اثنان ولم يتكلم فيه معتبرٌ بجرحٍ ولا تعديلٍ، لكن لو روى عنه اثنان أو تكلم فيه أحد بجرح نقبل الجرح ولا نسميه مجهول الحال؛ لأن حاله استبانت.
داود بن كثير الرَّقي، روى عنه اثنان، لكن مسكوتٌ عن الرجل، لا أحد يوثقه، ولا أحد يضعفه، مثل هذا مجهول الحال، ومجهول العين، مطعونٌ فيه؛ لأن المؤلف لما ذكر أسباب الطعن قال: ثم الجهالة.
إذاً: مجهول العين مطعون في روايته، ومجهول الحال مطعون في روايته؛ لأنه ما ثبتت له العدالة، وشرط صحة الحديث أو حسنه: أن يكون متصفاً بالعدالة، فإذا كان مجهولاً، فقد فقد شرط في العدالة.
إذاً: إذا لم يكن حديثاً صحيحاً ولا حسناً، فإنه يكون حديثاً ضعيفاً.
مجهول الحال يطلق عليه المستور، هكذا أطلق هنا، وأطلق أيضاً في فاتحة التقريب ذكر أن المجهول هو المستور، مجهول الحال هو المستور، فإذا قالوا: مستور، أو مجهول الحال، يريدون بهم شيئاً واحداً).
العناصر
الجهالة:
الجهالة من أسباب الطعن في الراوي
أسباب الجهالة:
السبب الأول: أن تكثر نعوت الراوي، فيذكر بغير ما اشتهر به
مثال السبب الأول
أسماء الكتب المصنفة في السبب الأول
الكلام على كتاب الخطيب البغدادي (الموضح لأوهام الجمع والتفريق)
السبب الثاني: أن يكون الراوي مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه
أسماء الكتب المصنفة في السبب الثاني
السبب الثالث: ألا يسمى الراوي؛ اختصارًا من الراوي عنه (المبهم)
أقسام الجهالة:
القسم الأول: جهالة عين
تعريف (جهالة العين)
كيف ترفع جهالة العين عن الراوي ؟
المصنفات في الرواة الذين لم يرو عنهم إلا واحد
القسم الثاني: جهالة حال
تعريف (جهالة الحال)
فائدة: (المستور) لقب لمجهول الحال
شرط (الجهالة) أن لا يوثق الراوي من إمام معتبر
نقد العلماء لمذهب ابن حبان في توثيق المجاهيل
طرق كشف الجهالة
1 - معرفة الراوي عن ذلك المجهول
2 - معرفة الحديث الذي رواه ذلك الراوي
3 - معرفة العصر الذي وجد فيه ذلك الراوي
4 - موقف الأئمة من حديث ذلك الراوي قبولاً وردًا
المبهم: تعريف (المبهم) أهمية معرفة (المبهم) أمثلة المبهم أقسام الإبهام: القسم الأول: الإبهام في السند معرفة المبهم في الإسناد أعظم فائدة من معرفة الإبهام في المتن القسم الثاني: الإبهام في المتن حكم (الحديث المبهم) هل (الحديث المبهم) من الضعيف الذي ينجبر؟ سبب رد (الحديث المبهم) الكتب المصنفة في المبهمات معظم المصنفات في (المبهم) تركز على مبهم المتن دون السند فائدة: كتاب (المستفاد من مبهمات المتن والإسناد) من أجمع ما ألف في المبهمات هل يمكن حصر المبهمين في الإسناد؟
الإبهام بلفظ التعديل:
المقصود بالإبهام بلفظ التعديل
هل يقبل الإبهام بلفظ التعديل؟
المستور:
تعريف (المستور)
حكم رواية (المستور) ).
الأسئلة
س1: ما معنى (الجهالة)؟
س2: اذكر مع التمثيل أسباب الجهالة.
س3: اذكر أنواع الجهالة.
س4: متى ترتفع جهالة العين عن الراوي؟
س5: ما مذهب ابن حبان في المجاهيل واذكر نقد العلماء له؟
س6: اذكر طرق كشف الجهالة.
س7: عرف (المبهم) لغة واصطلاحاً.
س8: بين أهمية معرفة (المبهم).
س9: اذكر أنواع الإبهام.
س10: اذكر المصنفات في الحديث المبهم.
س11: ما المقصود بالإبهام بلفظ التعديل مع التمثيل له وما حكمه؟
س12: ما حكم رواية (المستور) ؟
شرح نخبة الفكر للشيخ عبد الكريم الخضير (مفرغ)
قال الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير: (الجهالة:
الوجه الثامن من أوجه الطعن في الراوي الجهالة: والجهل والجهالة نقيض العلم، يقال: جهله يجهله جهلاً وجهالة، وجهل عليه أظهر الجهل كتجاهل وهو جاهل، والجمع جُهُل وجُهْل وجهال وجُهَّل وجهلاء، والجهل على أضرب ثلاثة: خلو النفس من العلم وهذا هو الأصل.
الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه. والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل. من اتصف بضرب من هذه الأضرب الثلاثة يقال له: جاهل، فإذا سئل الإنسان عن شيء وقال: لا أدري، هذا جاهل في هذه المسألة، من اعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه هذا جاهل، لكن جهله أشد، هذا الذي يسمى بالجهل المركب، هذا يجهل لكن إذا سئل ما يقول: ما أدري، يجيب، يجيب خطأ، هذا هو الجهل المركب، والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، إذا كان الوجه الصحيح للعمل أو صنع هذه الآلة كذا فعملها على غير الوجه الصحيح يسمى جاهل، فإذا ذهبت بسيارتك إلى من تظنه يعرف، تظنه مهندس، نعم، ثم أخذ يتخبط في إصلاح هذه السيارة، وأنت لا تعرف شيئاً في صناعة هذه السيارة تنتقده، بل يصلح شيئاً تعرف أنه جديد في السيارة، تعرف أنه جاهل في هذه الصنعة، يعني ليس الجهل خاص بالأقوال الجهل يدخل الأفعال، ولذا جعلوا الثالث من أضرب الجهالة: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، يعني لو جئت بسيارة ودخلتها على المهندس تقطع مثلاً هو بدأ يفكك يبي يغير الصفاية مثلاً، وأنت الآن قبل دقائق مغيره جديد، هذا يعرف وإلا ما يعرف؟ نعم، هذا لا يعرف، يعني لو قدر أن سيارة مثلاً فيها رجة، تدخلها على ورشة ثم يأخذ يتخبط يتخرص وكل شيء يفكه وما يدرك، هذا جاهل، لكن العالم صاحب الورشة الذي بعده، تأتي ثم ينظر، يكفيه شم الخطأ، يقول: غير الكفر الأمامي تروح الرجة، هذا ما فك شيء ولا استعمل شيء، تغير الكفر وتروح الرجة، هذا جاهل وإلا عالم؟ هذا عالم بالصناعة، فالجهل والعلم يعني معرفة الشيء على ما هو به هذا علم، واعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، أو صنع الشيء على خلاف ما حقه أن يصنع كل هذا جهل. عرفنا أن الجهل يقال للجهل البسيط هو الشخص الذي لا يدري إذا سألته عما وراء هذا الجدار قال: والله لا أدري هذا غيب، هذا جاهل صحيح، لكن الجاهل بسيط، لكن الذي يقول: وراء هذا الجدار نساء، وهو ما في أحد، نعم، هذا جاهل مركب، هذا لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.
قال حمار الحكيم يوماً
أنا جاهل بسيط
لو أنصف الدهر كنت أركب
وصاحبي جاهل مركب يعني الحمار جاهل بسيط ما يدري، لكن ما يفتي الناس ويضلهم بغير علم، والله المستعان. والمراد هنا الراوي المجهول وهو عند أهل الحديث كما في النزهة من لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معين، يرى الخطيب البغدادي أن المجهول من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد. اعترض ابن الصلاح على كلام الخطيب بقوله: "قد خرج البخاري حديث جماعة ليس لهم إلا راوٍ واحد"، يقول: "منهم مرداس الأسلمي لم يروِ عنه غير قيس بن أبي حازم، كذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد منهم ربيعة بن كعب الأسلمي لم يروِ عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن، وذلك مصير منهما إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً برواية واحد عنه"، هؤلاء هم الوحدان الذين ليس لهم إلا راوٍ واحد، ويأتي ذكرهم في مجهول العين. على كل حال أجاب النووي عن هذا الاعتراض -عن اعتراض ابن الصلاح على كلام الخطيب- بقوله: "والصواب نقل الخطيب، ولا يصح الرد عليه بمرداس وربيعة فإنهما صحابيان مشهوران، والصحابة كلهم عدول، فلا يحتاج إلى رفع الجهالة عنهم بعدد الرواة، أما غير الصحابة فأقل ما يرفع الجهالة عن الواحد منهم أن يروي عنه اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم". روى الخطيب بسنده عن يحيى بن معين أنه قال: "إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة"، لكن قد ترتفع الجهالة برواية واحد إذا كان من النقاد الذين لا يروون إلا عن الثقات كالإمام مالك وشعبة بن الحجاج غيرهما. أقسام المجاهيل: أقسام المجاهيل: يختلف المجاهيل في قوة الجهالة وضعفها، ولذا قسم العلماء المجهول إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: مجهول الذات: وهو الراوي الذي لم يصرح باسمه أو بما يدل عليه، لم يصرح باسمه أو بما يدل عليه، إذا قيل: حدثني رجل أو قال بعضهم، نعم، هذا مجهول، وجهالة الذات لها سببان: عدم التصريح باسم الراوي، وهذا النوع يسمى المبهم، الثاني: كثرة نعوت الراوي فيشتهر بشيء منها فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض فيظن أنه راوٍ آخر فيحصل الجهل به، هذا المشهور بين الناس باسمه فيكنى، فإذا قيل: حدثني أبو الخطاب قال: قال أنس بن مالك، من أبو الخطاب هذا؟ نعم؟ طالب:...... قتادة، نعم، قتادة، لكن كثير من الناس يجهل هذه الكنية فيوقعه هذا التصرف في جهل هذا الراوي، وهو مشهور علم من الأعلام. حكم رواية مجهول الذات: حكم رواية مجهول الذات: لا تقبل رواية مجهول الذات حتى يصرح الراوي عنه باسمه، أو يعرف اسمه بوروده من طريق آخر مصرح فيه باسمه، لا سيما إذا كان يشترك معه في الاسم الذي أوقع الجهالة، يشترك معه أكثر من واحد وفيهم الثقة وغير الثقة. قال الحافظ ابن حجر: "ولا يقبل حديث المبهم ما لم يسم؛ لأن شرط قبول الخبر عدالة راويه، ومن أبهم اسمه لا يعرف، فكيف تعرف عدالته؟ وكذا لا يقبل خبره ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح"، يعني إذا قال الراوي: حدثني الثقة، لو أبهم بلفظ التعديل ولم يسمه قال: حدثني الثقة، كما يقوله كثيراً الإمام مالك، أو حدثني من لا أتهم كما يقوله بعضهم، لا يكفي، لا بد أن يسمي هذا الراوي؛ لأنه قد يكون ثقة عنده وهو عند غيره غير ثقة، فيقارن بين هذه الأقوال. الإمام الشافعي قال: حدثني الثقة، وأحياناً يقول: حدثني من لا أتهم، ويريد بذلك إبراهيم بن أبي يحيى، وجماهير الأئمة على تضعيفه وضعفه شديد، فلا يكفي التعديل مع الإبهام. ومبهم التعديل ليس يكتفي به الخطيب والفقيه الصيرفي أكثر أهل العلم على عدم الاعتداد بالتعديل مع الإبهام فإذا سماه قال: حدثني فلان وهو ثقة لا بأس، يقبل قوله ما لم يعارض بقول أقوى من قوله، من أهل العلم من يرى أن التعديل على الإبهام ملزم لمن يقلد هذا الإمام فإذا قال مالك: حدثني الثقة لزم المالكية العمل بخبره؛ لأنهم يقلدونه في الأحكام فليقلدوه في تعديل الرواة. إذا قال الشافعي: حدثني الثقة لزم الشافعية كلهم الذين يقلدون الإمام الشافعي أن يقبلوا خبر هذا الثقة ولو مع الإبهام، وهذا فرع من مسألة تقليد الأئمة. القسم الثاني: مجهول العين، وهو الراوي الذي ذكر اسمه، الأول ما ذكر الاسم مجهول الذات، ما ذكر اسمه هو المبهم والمهمل الذي لا يستطاع الوقوف على اسمه، ويشاركه جمع من الرواة الضعفاء، فيما ذكر به من كنية أو اسم، مع عدم البيان الكافي، هذاك سميناه مجهول ذات، يعني لا يوجد في كتب علوم الحديث تسميته بمجهول الذات، لكن حقيقته مجهول ذات، ذاته مجهولة، الثاني: مجهول العين، وهو الراوي الذي ذكر اسمه وعرفت ذاته لكنه مقل في الرواية، فلا يكثر الأخذ عنه، فلم يروِ عنه إلا راوٍ واحد، مجهول العين الذي يعرف اسمه، أبو محمد عبد الله بن سعيد مثلاً، أبو محمد عبد الله بن سعيد بن عمرو الأنصاري مثلاً، هل هذا ذاته مجهولة؟ لا، معلومة ذاته، لكن عينه مجهولة، وهذا مجرد اصطلاح، قد يكون معروف بين الناس، معروف يصلي مع الناس إذا قيل من أبو محمد عبد الله بن سعيد الأنصاري؟ قيل: فلان الذي بيته بجوار فلان معروف، لكنه مقل في الرواية، مقل في الرواية، لم يروِ عنه سوى راوٍ واحد، وتسميته مجهول العين مجرد اصطلاح وإلا عينه معروفة وذاته معروفة، قد يقول أبو حاتم: فلان ابن فلان من المهاجرين الأولين مجهول، يعني لكونه مقل في الرواية، وتسمية هذا النوع بمجهول العين مجرد اصطلاح وإلا فعينه معروفة كما بينا، حكم رواية مجهول العين: اختلف العلماء في رواية مجهول العين من حيث القبول والرد على أقوال نقتصر منها على أهمها: الأول: أنه لا يقبل مطلقاً واختاره أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم. الثاني: أنه يقبل مطلقاً وهو قول من لم يشترط في الراوي غير الإسلام، وعزاه النووي لكثير من المحققين. القول الثالث: التفصيل فإن كان الراوي المتفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأمثالهم كمالك نجم السنن، فإن مثل هذا يقبل إذا كان المتفرد بالرواية عنه ممن لا يروي إلا عن ثقة، فإنه يقبل وإلا فلا. القول الرابع: فيه تفصيل أيضاً: فإن كان مشهوراً في غير العلم كأن يكون مشهوراً بالزهد كمالك بن دينار أو النجدة فإنه حينئذ يقبل وإلا فلا، اختاره ابن عبد البر. إذا كان قاضي من قضاة المسلمين قاضي مثلاً وما حفظ فيه جرح ولا تعديل، وروى عنه واحد، يعني ما ذكر فيه قول لا جرح ولا تعديل، إنما ذكر هو من القضاة، الغالب أن القضاة عدول، مع رواية هذا الواحد يمشي، لكن إذا كان أمير، نعم كان عاملاً لفلان على البصرة مثلاً، وليس مشهور بالرواية روى عنه واحد هو داخل في حيز مجهول العين تقبل روايته وإلا لا؟ نعم؟ هذا حكمه يتبع من ولاه، فإن كان الذي ولاه عمر بن عبد العزيز مثلاً تميل النفس إلى كونه ثقة صح وإلا لا؟ لأن مثل عمر بن عبد العزيز لا يولي إلا ثقة، لكن إذا كان من ولاه معروف بالفسق مثلاً فإن هذا تميل النفس إلى عدم توثيقه حتى ينص الأئمة على توثيقه. القول الخامس: تفصيل أيضاً: وهو إن زكاه أحد أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قبل وإلا فلا، وهو اختيار أبي الحسن بن القطان وصححه ابن حجر، ولعله أرجح الأقوال وأعدلها، وبهذا نخرج من قضية الوحدان الذين خرج لهم البخاري ومسلم في الصحيحين، قد يقول قائل: يوجد مثل هؤلاء المجاهيل في الصحيحين، نقول: نعم، تخريج البخاري توثيق عملي، يعني تخريج البخاري للراوي ومسلم كذلك توثيق عملي لهذا الراوي، وهذا التوثيق مع رواية واحد يكفي في تعديل هذا الراوي، وهو القول الخامس إن زكاه أحد أئمة الجرح والتعديل سواءً كانت التزكية قولية أو فعلية كرواية أحد الشيخين عنه مع رواية واحد عنه قبل وإلا فلا، وهذا اختيار أبي الحسن بن القطان الفارسي المعروف، إمام من أئمة الحديث، وصحح هذا القول ابن حجر ولعله أعدل الأقوال. القسم الثالث: مجهول الحال: وهو من عرفت عينه برواية اثنين عنه، عرفت ذاته بذكر اسمه كاملاً بما يتميز به عن غيره، وعرفت عينه برواية اثنين عنه ولم يوثق فلا يعرف بعدالة ولا بضدها، ومجهول الحال نوعان هما: مجهول العدالة ظاهراً وباطناً، والثاني: مجهول العدالة باطناً لا ظاهراً، وهو المستور. عرفنا أن مجهول الحال معروف العين، مكثر من الرواية يروي عنه أكثر من واحد، قد يروي عنه عشرة أشخاص، لكن نبحث في كتب الرجال لا نجد كلام لأهل العلم في هذا الراوي، هل هو ثقة أو غير ثقة، هذا مجهول الحال، وجهالة الحال نوعان: جهالة للعدالة ظاهراً وباطناً، وجهالة العدالة باطناً لا ظاهراً، يعني ظاهره عدل لكن باطنه؟ العدالة الباطنة التي تحتاج فيها إلى أقوال المزكين لا يعرف عنه شيء. حكم رواية النوع الأول: مجهول العدالة ظاهراً وباطناً، ظاهراً وباطناً: يعني المسألة مفترضة في شخص يريد أن يدرس إسناد حديث لراوي ما رآه، وحينئذٍ هو لا يعرف عن عدالته لا الباطنة ولا الظاهرة، والنوع الثاني: مجهول العدالة باطناً لا ظاهراً هو يراه، قد يكون ممن يصلي معه في المسجد هو في ظاهره ملتزم، لم يرتكب محرم في الظاهر، وأما في الباطن فلا يدرى عنه، النوع الأول وهو مجهول العدالة ظاهراً وباطناً اختلف العلماء في روايته، فذهب الجمهور إلى أن روايته لا تقبل؛ لأن تحقق العدالة شرط في قبول رواية الراوي وهذا النوع لم تتحقق فيه العدالة، لا تقبل روايته، وهذا القول عزاه ابن المواق للمحققين، ويرى بعض العلماء قبول روايته معللاً قوله بأن معرفة عينه تغني عن معرفة عدالته، ولكن هذا القول ليس بشيء، يرى آخرون التفصيل: فإن كان الراويان أو الرواة فيهم من لا يروي إلا عن عدل قبل وإلا فلا، يعني ما نص على تعديله لكن روى عنه مالك، ومالك لا يروي إلا عن ثقة، مالك لا يروي إلا عن ثقة، هل نقول: تكفي رواية مالك لأنه لا يروي إلا عن ثقة؟ نعم رواية مالك تورث غلبة ظن لا شك؛ لأنه من أهل التحري والتثبت، لكن هل معنى هذا أن كون مالك لا يروي إلا عن ثقة... ويحيى بن سعيد القطان وجمع من أهل العلم صرحوا بأنهم لا يرون إلا عن الثقات يكفي في توثيق الراوي أو لا بد من التنصيص على توثيقه؟ حتى لو صرح بأن جميع أشياخه ثقات، لا يكفي حتى ينص على هذا الراوي بعينه؛ لأنه قد يغفل عن هذه القاعدة التي قررها، الإمام مالك -رحمه الله تعالى- روى عن أبي أمية عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ليس بثقة، وقال الإمام مالك: غرني بكثرة جلوسه في المسجد، فالإمام مالك وهو نجم السنن، وأشد الناس احتياطاً للسنة اغتر، فالراجح -والله أعلم- ما ذهب إليه الجمهور من رد رواية الراوي حتى ينص على توثيقه. وحكم رواية النوع الثاني وهو المستور: معروف العدالة ظاهراً، ظاهره العدالة لا يظهر عليه أثر من آثار الفسق هذا يسمونه المستور. ومنهم من يطلق المستور بإزاء المجهول بجميع أنواعه، ومنهم من يطلق المستور بإزاء مجهول الحال بنوعيه، حكم رواية هذا النوع: اختلف العلماء في رواية من عرفت عينه وعرفت عدالته الظاهرة، وجهلت عدالته الباطنة وهو ما يعرف بالمستور عند بعضهم على قولين: فالجمهور على أن روايته مردودة ما لم تثبت عدالته الباطنة، وهؤلاء استدلوا بأن الفسق يمنع القبول، لكن هل هذا الراوي متصف بالفسق؟ نعم، يعني جاءك شخص بخبر أنت لا تعرف عنه شيء، أول مرة تراه، وقال لك: قدم زيد، تنظر في ظاهره ما في ولا محرم ارتكب لا حلق لحية ولا آثار شرب، ولا إسبال ولا شيء، الرجل مرضي في الظاهر تقبل خبره أو تقول: لا بد من معرفة حاله الباطنة، يمكن يزاول منكرات في الباطن، يمكن أنه فاسق في الباطن، لا شك أن الفسق يمنع القبول، لكن هل هذا الفسق متحقق في هذا الرجل؟ ما لم تثبت العدالة فلا يظن عدم الفسق؛ لأنه أمر مغيب عنا فكيف نقبله؟ هذا قول الأكثر، وللأمر بالتثبت في قبول الأخبار في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}[ (6) سورة الحجرات] قال إمام الحرمين: "الذي صار إليه المعتبرون من الأصوليين أنه لا تقبل روايته وهو المقطوع به عندنا"، وقال الرافعي: "وأطلق بعض المصنفين الاكتفاء بالعدالة الظاهرة وهو بعيد"، القول الثاني: يرى جماعة من العلماء أن رواية المستور مقبولة، وبه يقول الحنفية وابن حبان، وعللوا ما ذهبوا إليه بما يلي: أولاً: لأن الناس في أحوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب الطعن، ولم يكلف الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كلفوا بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم. الأمر الثاني: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يعمل بالظاهر، ويتبرأ من علم الباطن ((هلا شققت عن قلبه؟)) يعني لما قال: "لا إله إلا الله" في الظاهر، قال له الصحابي: "إنه إنما قالها معتصماً بها من السيف" قال: ((هلا شققت عن قلبه؟)) يعني عليك أن تحكم بالظاهر، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [ (101) سورة التوبة] في الحديث: ((هلا شققت عن قلبه؟)) ولذا قال النووي: "الأصح قبول رواية المستور" والراجح -والله أعلم- قبول رواية المستور، يعني نحن مكلفون برد خبر الفاسق، إننا ما عندنا فسق الآن، ظاهره في العدالة ولسنا مكلفين بالحكم على الباطن، وإنما نحن مكلفون بالحكم على الظاهر، والراجح قبول رواية المستور لقوة الأدلة على قبوله، ويجاب عما استدل به أصحاب الرأي الأول: بأن سبب التثبت هو الفسق فإذا انتفى الفسق كما هنا انتفى وجوب التثبت. بقيت مسألة وهي: أن الجهالة إذا حكم على الراوي بها، تجدون في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: سألت أبي عن فلان فقال: "مجهول" في أكثر من ألف وخمسمائة راوي قال عنه أبو حاتم: "مجهول"، وتبعه الذهبي في كثير من هؤلاء الرواة، وفي كتب الرجال كلها الحكم على كثير من الرواة بالجهالة، هل الجهالة الموجودة في هذه الكتب جرح أو هي عدم علم بحال الراوي؟ هل هي جرح أو عدم علم بحال الراوي، نعم؟ يأتي في مراتب الجرح والتعديل أن المجهول من ألفاظ الجرح، المجهول من ألفاظ الجرح، ويأتينا في النخبة قول الحافظ: ومن المهم معرفة أحوال الرواة جرحاً أو تعديلاً أو جهالة، فجعل الجهالة قسيم للجرح وليست منه، وليست بقسم من الجرح، يقول أبو حاتم في كثير من الرواة: "فلان مجهول، أي لا أعرفه"، فمقتضى هذا أنها عدم علم بحال الراوي، لكن مقتضى صنيعهم وإدخالهم لفظ المجهول في مراتب الجرح يدل على أنه جرح. ما الذي يترتب على هذا الكلام؟ يترتب عليه أننا إذا درسنا إسناد ووجدنا فيه راوي قيل عنه في كتب الجرح والتعديل: "مجهول" إن قلنا: الجهالة جرح نقول: الحديث ضعيف؛ لأن فيه راوٍ مجهول، وإذا قلنا: عدم علم بحال الراوي قلنا: الحكم التوقف حتى نعرف حال هذا الراوي المجهول، فرق بين الحكم بالضعف مباشرة وبين التوقف حتى نتبين، وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان -إن شاء الله تعالى-. هذا يفيدنا فيه كثيراً الموضح (موضح أوهام الجمع والتفريق) للإمام الخطيب البغدادي، وفيه أيضاً لابن أبي حاتم (بيان خطأ البخاري في تاريخه) يفيد كثيراً في هذا الباب، فصنف في ذلك الخطيب البغدادي الحافظ كتاباً سماه: (موضح أوهام الجمع والتفريق) ذكر فيه الرواة الذين يظن فيهم أنهم عدد وهم في الحقيقة واحد وعكسه، وأجاد فيه كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-. صدّر الكتاب بمقدمة على طالب العلم أن يعتني بهذه المقدمة، جاء فيها قول الخطيب: "ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه، أو يقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يلحق سيء الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك" لماذا؟ لأن الخطيب حينما يتعرض للتصحيح والتصويب في هذه الكلمات إنما يتعقب الكبار، يتعقب البخاري، يتعقب أبا حاتم الرازي، يتعقب الأئمة، يقول: "ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه، ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يلحق سيء الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك، وبهم ذكرنا، وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا"، يقول: نحن عالة عليهم، لكن معلوم أنهم ليسو بمعصومين، يعني إذا كان في تاريخ البخاري عشرات الألوف من التراجم وأخطأ في عشر أو عشرين أو مائة ترجمة هذا يعد خطأ؟ لا، استفدنا من البخاري الشيء الكثير، ونبهنا على ما عنده من وهم يسير، ولا يعني هذا أننا نتطاول على البخاري. ومثله إذا تعقب العالم كلام لشيخ الإسلام وغيره من الأئمة أو انتقد حكم في مذهب الإمام أحمد أو مذهب أبي حنيفة أو مالك...، لا يعني هذا أننا نتطاول على الأئمة أبداً، يقول: "وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا" هذا إنصاف من الخطيب -رحمة الله عليه-، ثم ساق بسنده عن أبي عمرو بن العلاء: "ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال"، ثم قال: "ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاماً، ونصب لكل قوم إماماً لزم المهتدين بمبين أنوارهم، والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم، ممن رزق البحث والفهم، وإنعام النظر في العلم بيان ما أهملوا، وتسديد ما أغفلوا، إذ لم يكونوا معصومين من الزلل، ولا آمنين من مقارفة الخطأ والخطل، وذلك حق العالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم، وعسى أن يضح العذر لنا عند من وقف على كتابنا المصنف في تاريخ مدينة السلام، وأخبار محدثيها، وذكر قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها، فإنا قد أوردنا فيه من مناقب البخاري وفضائله ما ينفي عنا الظنة في بابه، والتهمة في إصلاحنا بعض سقطات كتابه -إن شاء الله تعالى-". يقول: من أراد أن ينظر إلى منزلة هذا الإمام عندي وأنا أتعقب كلامه لا يعني أني أتنقصه، من أراد أن ينظر إلى منزلة هذا الإمام عندي أنا فلينظر إلى ترجمة هذا الإمام في تاريخ بغداد للخطيب، له، ليتبين له أنه لا يتنقص هذا الإمام، أقول: نقلت هذا الكلام استطراداً لما فيه من توجيه، وفيه دروس تربوية لطلاب العلم من إمام حافظ كبير يعترف لأهل الفضل بفضلهم، قبل الخطيب صنف أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي كتاباً في بيان خطأ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه، وسبق الخطيب إلى التصنيف في ذلك الحافظ عبد الغني بن سعيد، ثم تلاه أبو عبد الله محمد بن علي الصوري وهو من شيوخ الخطيب، نعم. أحسن الله إليك: "وقد يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وصنفوا فيه الوحدان". نعم هذا الأمر الثاني من أسباب الجهالة، وهي جهالة العين، أما الأمر الأول أخذناه فيما مضى في جهالة الذات وهذا المراد به جهالة العين، حيث قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "وقد يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وصنفوا فيه الوحدان"، يعني أن الراوي قد يكون مقل من الرواية أو من التحديث فلا يكثر الآخذون عنه والرواة، قال القاري في شرحه: "فيصير مجهول الذات، فيصير مجهول الذات" كذا قال. سبق أن عرفنا فيما تقدم أن هذا النوع يسمى عند أهل العلم مجهول العين، وسيأتي في كلام الحافظ، وسبق أني أطلقت جهالة الذات على المبهم الآتي ومن كثرة نعوته بحيث لا يتميز فيحصل الجهل به وهو الذي تقدم ذكره قريباً، وصنفوا في هذا النوع الوحدان، وصنف فيه الإمام مسلم بن الحجاج، والحسن بن سفيان، وأبو الفتح الأزدي وغيرهم، وتقدم الكلام في مجهول العين، وفي حكم روايته، فلا داعي لإعادة الكلام فيه، نعم. المبهم: أحسن الله إليك: "أو لا يسمى اختصاراً وفيه المبهمات، ولا يقبل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح، فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين، أو اثنان فصاعداً ولم يوثق فمجهول الحال وهو المستور". نعم، يقول الحافظ: "أو لا يسمى اختصاراً وفيه المبهمات" فإذا لم يسمّ الرواي اختصاراً: حدثني رجل، حدثني بعضهم نعم، هو المبهم، يعني أن الراوي قد لا يسمي شيخه من باب الاختصار، فيقول: أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم، أو ابن فلان، ويستدل على معرفة اسم المبهم بوروده من طريق أخرى مسمى. وصنفوا في هذا النوع المبهمات وهي كثيرة جداً، فأول من صنف في ذلك عبد الغني بن سعيد الأزدي، ثم تلاه الخطيب الحافظ البغدادي في كتاب أسماه: (الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة) ثم تلاه الحافظ أبو الفضل بن طاهر في (إيضاح الإشكال) ثم أبو القاسم خلف بن بشكوال في كتاب أسماه: (الغوامض والمبهمات)، ثم قطب الدين القسطلاني، وولي الدين أبو زرعة بن الحافظ العراقي له كتاب جامع في الباب اسمه: (المستفاد من مبهمات المتن والإسناد) وجلال الدين البلقيني (الإلهام بما وقع في البخاري من الإبهام) والكتب كثيرة في هذا الباب. "ولا يقبل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح"، يعني أن الرواي المبهم الذي لم يسم لا يقبل حديثه، الراوي المبهم الذي لم يذكر اسمه لا يقبل حديثه؛ لأن شرط قبول الخبر عدالة الراوي، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف تعرف عدالته؟ وكذا لا يقبل خبره ولو أبهم بلفظ التعديل كأن يقول الراوي عنه: أخبرني الثقة أو الضابط أو العدل من غير تسمية؛ لأنه قد يكون ثقة عنده مجروحاً عند غيره، هذا تقدم البحث فيه، وعرفنا أن الشافعي يقول: حدثني الثقة وغيره، وذكرنا أنه لا يكفي. ومبهم التعديل ليس يكتفي به الخطيب والفقيه الصيرفي بل صرح الخطيب بأنه لو قال: "جميع أشياخي ثقات ولو لم أُسمِ" ثم روى عن واحد أبهم اسمه فإنه لا يقبل من أبهم للعلة المذكورة، مع كون الراوي في هذه الصورة أعلى مما تقدم، قاله السخاوي. ثم قال: "فإنه كما نقل عن المصنف -يعني الحافظ العراقي- إذا قال: حدثني الثقة، يحتمل أن يروي عن ضعيف، يعني عند غيره، وإذا قال: "جميع أشياخي ثقات" علم أنه لا يروي إلا عن ثقة فهي أرفع بهذا الاعتبار، يقول السخاوي: "وفيه نظر، إذ احتمال الضعف عند غيره يطرقهما معاً، بل تمتاز الصورة الثانية باحتمال الذهول عن قاعدته، أو كونه لم يسلك ذلك إلا في آخر أمره، يعني هل قول المحدث: "جميع أشياخي ثقات" ثم يروي عن واحد منهم ولا يسميه أقوى أو قول المحدث: حدثني الثقة؟ نعم؟ الظاهر أنه إذا وثق شخصاً بعينه ولو أبهمه أقوى من أن يوثق بالمجموع، جميع أشياخي ثقات؛ لأنه حينما يروي عنه ويصفه بالثقة مستحضراً له، بينما يقول: "جميع أشياخي ثقات" هذه قاعدة ثم يروي عن واحد منهم بعد حين، من هؤلاء الأشياخ، قد لا يستحضر القاعدة التي أطلقها، فيكون تنصيصه على واحد مع وصفه بالثقة أقوى من هذه الحيثية، كل هذا على الأصح في هذه المسألة، كما قال الحافظ، وقيل: يقبل التعديل على الإبهام، إذا قال: حدثني الثقة يقبل، تمسكاً بالظاهر إذ الجرح خلاف الأصل، وقيل: إن كان القائل عالماً أجزأ ذلك في حق من يقلده في مذهبه، نعم، يعني إذا كان العالم الذي يقول: حدثني الثقة من الأئمة المتبوعين كالشافعي ومالك وأحمد، إذا قال الشافعي: حدثني الثقة يلزم جميع الشافعية أن يقبلوا هذا الخبر؛ لأنهم يقلدون الإمام في الحكم ففي الخبر من باب أولى، بينما الحنبلي لا يلزمه أن يقلد الشافعي في هذا ولا العكس. قال السخاوي: "كثيراً ما يقع للأئمة ذلك، فحيث روى مالك عن الثقة عن بكير بن عبد الله بن الأشج فالثقة مخرمة ولده، أو عن الثقة عن عمرو بن شعيب فقيل: إنه عبد الله بن وهب أو الزهري أو ابن لهيعة، أو عن من لا يتهم من أهل الحديث فهو الليث، وجميع ما يقول: بلغني عن علي سمعه من عبد الله بن إدريس الأودي، وحيث روى الشافعي عن الثقة عن ابن أبي ذئب فهو ابن أبي فديك، أو عن الثقة عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان، أو عن الثقة عن الوليد بن كثير فهو أبو أسامة، أو عن الثقة عن الأوزاعي فهو عمرو بن أبي سلمة، أو عن الثقة عن ابن جريج فهو مسلم بن خالد، أو عن الثقة عن صالح مولى التوأمة، فهو إبراهيم بن أبي يحيى، أو عن الثقة وذكر أحداً من العراقيين فهو أحمد بن حنبل، وفي مسند الشافعي وساقه البيهقي في مناقبه عن الربيع أن الشافعي إذا قال: أخبرني الثقة فهو يحيى بن حسان، أو من لا أتهم فهو إبراهيم بن أبي يحيى، انتهى المقصود من فتح المغيث. على كل حال هذه أمثلة لوجود مثل هذا التوثيق مع الإبهام عند هؤلاء الأئمة. نقول: "فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين"، "فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين أو اثنان فصاعداً ولم يوثق فمجهول الحال وهو المستور"، يعني أن الراوي الذي ذكر اسمه لكونه مقلاً من الرواية لا يكثر الرواة عنه، بل يتفرد بالرواية عنه راوٍ واحد فإنه يسمى مجهول عين، وتسميته بمجهول عين مجرد اصطلاح، وسبق ذكره وذكر الخلاف في روايته فلا نكرره، وإذا روى عنه راويان فأكثر لكنه لم يذكر بتوثيق من قبل أهل العلم فإن هذا يسمى مجهول الحال، وهو المستور، وتقدم أيضاً ذكره وأنواعه، والخلاف في روايته. وذكرنا فيما تقدم الخلاف في الجهالة هل هي جرح؟ أو عدم علم بحال الرواي؟ وما يلزم على ذلك؟ وسيأتي كلامه على ذلك أيضاً عند قول الحافظ: "ومن المهم معرفة حال الرواة تعديلاً وتجريحاً أو جهالة" ثم من ذكر في كتب الجرح والتعديل وسكت عنه أهل العلم، ذكره البخاري في تاريخه فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، هذا موجود بكثرة في تاريخ البخاري وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، فهل يعني ذلك التوثيق؟ لا يذكر بجرح ولا تعديل، من أهل العلم من يرى أنه توثيق، إذ لو كان مجروحاً لذكر الجرح، وكثيراً ما يقول أحمد شاكر -رحمه الله-: "ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً فهو ثقة" وأحياناً يقول: "سكت عنه البخاري وهذه أمارة توثيقه"، هذا قيل به إن من ذكر في هذين الكتابين ولم يذكر فيه جرح ولا تعديل فهو ثقة، لكن الصواب أنه ليس بتوثيق، وعدم الذكر لا يعني الذكر، بل صرح ابن أبي حاتم أنه ذكر رواة في كتابه ولم يذكر فيهم الجرح والتعديل رجاء أن يقف فيهم على كلام لأحد، فدل على أنه لا يعرف حالهم، بل يتوقف فيهم حتى يوجد التنصيص على عدالتهم أو جرحهم؛ لأن مجرد ذكر اسم الرجل هل يعني أنه ثقة أو ليس بثقة؟ لا يعني ذلك، وهذه مسألة مهمة، ولولا ضيق الوقت لبسطنا الكلام فيها، نعم).