25 Oct 2008
تفاوت رتب الحديث الصحيح
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (وَخَبَرُ الآحَادِ: بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ مُتَّصِلَ السَّنَدِ غَيْرَ
مُعَلَّلٍ وَلاَ شَاذٍّ؛ هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ.
وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الأَوْصَافِ.
وَمَنْ ثَمَّ قُدِّمَ
(صَحِيحُ البُخَارِيِّ).
- ثُمَّ مُسْلِمٌ).
- ثُمَّ شَرْطُهُمَا.
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): ( (1) (وَتَتَفَاوتُ رُتَبُهُ)
أي: الصَّحِيحُ (بِـ) سَبَبِ (تَفَاوُتِ هَذِهِ الأوصَافِ) المُقْتَضِيَةِ للتَّصْحِيحِ فِي القُوَّةِ، فَإنَّها لَمَّا كَانتْ مُفِيدةً لِغَلَبَةِ الظّنِّ الذي عَلَيهِ مَدَارُ الصِّحَّةِ، اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا فَوقَ بَعْضٍ بِحَسَبِ الأُمُورِ المُقَوِّيَةِ، وَإذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا يَكُونُ رُوَاتُهُ في الدَّرَجَةِ العُلْيَا مِن العَدَالَةِ، وَالضَبْطِ، وَسَائرِ الصِّفَاتِ التي تُوجِبُ التَّرْجِيحَ، كَانَ أَصَحَّ مِمَّا دُونَهُ.
فَمِن المَرْتَبَةِ العُلْيا فِي ذَلِكَ:
مَا أََطْلَقَ عَلَيهِ بَعْضُ الأَئِمَّةِ أنَّهُ أَصَحُّ الأَسَانِيدِ:
كَالزُّهْرِيِّ، عَن سَالمِ بْنِ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَن أَبِيهِ، وَكَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَن عَبِيدَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّلْمَانِيِّ، عَن عَلِيٍّ.
وَكَإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَن عَلْقَمةَ، عَن ابْنِ مَسعودٍ.
-وَدُونَهَا فِي الرُّتْبَةِ كَرِوَايةِ بُرَيْدِ بْنِ عَبدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَن جَدِّهِ، عَن أَبِيهِ أَبِي مُوسى.
- وَكَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،عَن ثَابتٍ، عَن أَنَسٍ.
وَدُونَها فِي الرُّتْبَةِ
كَسُهَيلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَن أَبِيهِ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَكَالعَلاَءِ بْنِ عَبدِ الرّحْمَنِ،
عَن أَبِيهِ، عَن أَبِي هُرَيرَةَ.
فَإِنَّ الجَمِيعَ يَشْمَلُهُم اسمُ
(العَدَالةِ وَالضَّبطِ) ، إِلاَّ أَنَّ لِلمَرْتَبةِ الأولَى مِن الصِّفَاتِ المُرَجِّحَةِ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ رِوَايتِهِم عَلَى التي تَلِيهَا، وَفِي التي تَلِيهَا مِن قُوَّةِ الضَبْطِ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَهَا عَلَى الثَّالِثَةِ، وَهِي مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حَسَنًا كَمُحمَّدِ بْنِ إِسحاقَ، عَن عَاصمِ بْنِ عُمَرَ، عَن جَابِرٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ عَن أَبِيهِ، عَن جَدِّهِ، وَقِسْ عَلى هَذِهِ المَرَاتِبِ مَا يُشْبِهُهَا.
وَالمَرْتَبَةُ الأولى: هِيَ التي أَطْلَقَ عَلَيْهَا بَعْضُ الأَئِمَّةِ أَنَّهَا أَصَحُّ الأَسَانِيدِ، وَالمُعْتَمَدُ عَدمُ الإطْلاقِ لِتَرْجَمَةٍ مُعَيَّنَةٍ منها.
نَعَمْ يُسْتَفَادُ مِن مَجْمُوعِ مَا أَطْلَقَ الأئِمَّةُ عَلَيهِ ذَلِكَ أَرْجَحِيَّتُهُ عَلَى مَا لَم يُطلِقُوه.
ويَلْتَحِقُ بِهَذَا التّفَاضُلِ:
- مَا اتَّفَقَ الشّيْخَانِ عَلَى تَخْريجِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا.
- وَمَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ.
لاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ بَعْدَهُمَا عَلى تَلَقِّي كِتَابَيْهِمَا بِالقَبُولِ، وَاختِلاَفِ بَعْضِهْم على أيِّهمِا أَرْجَحُ.
فَمَا اتَّفَقَا عَلَيهِ أَرْجَحُ مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ مِمَّا لَم يَتَّفِقَا عَلَيهِ.
- وَقَدْ صَرَّحَ الجُمْهُورُ بِتَقدِيمِ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) في الصِّحَّةِ، وَلمْ يُوجَدْ عَن أَحَدٍ التَّصْرِيحُ بِنَقِيضِهِ.
وأَمَّا مَا نُقِلَ عَن أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ، أنَّه قَالَ: (مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ)؛ فَلَم يُصَرِّحْ بِكَونِهِ أََصَحَّ مِن (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) ؛ لأنَّه إِنَّمَا نَفَى وُجُودَ كِتَابٍ أَصَحَّ مِن كِتابِ مُسْلمٍ؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّمَا هُو مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ (أَفْعَلَ) مِن زِيادَةِ صِحَّةٍ فِي كِتَابٍ شَارَكَ كَتِابَ مُسْلِمٍ، فِي الصِّحَّةِ يَمْتَازُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَيهِ وَلَم يَنْفِ المُسَاواةَ.
- وَكَذَلِكَ:مَا نُقِلَ عَن بَعْضِ المَغَارِبَةِ أنَّه فَضَّلَ (صَحِيحَ مُسْلِمٍ) عَلَى (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) ، فَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلى حُسْنِ السِّياقِ، وَجَوْدَةِ الوَضْعِ وَالتَّرْتِيبِ، وَلَم يُفْصِحْ أَحَدٌ منهمْ بِأنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الأَصَحِّيَّةِ، وَلَو أَفْصَحُوا لَرَدَّهُ عَلَيهِمْ شَاهِدُ الوُجُودِ.
- فَالصِّفَاتُ التي تَدُورُ عَلَيْهَا الصِّحَةُ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، أَتَمُّ منها فِي كِتَابِ مُسْلِم وَأَشَدُّ، وَشرطُه فيها أَقْوى وَأَسَدُّ.
- أَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيثُ:الاتِّصَالُ، فَلِاشْتِرَاطِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّاوي قَد ثَبَتَ لَهُ لِقاءُ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَلَو مَرَّةً.
- وَاكْتَفَى مُسْلِمٌ بِمُطْلَقِ المُعَاصَرَةِ.
- وَأَلْزَمَ الْبُخَارِيَّ بِأَنَّهُ يَحتاجُ إلَى أَن لا يَقْبَلَ العَنْعَنَةَ أَصلًا.
وَما أَلْزَمَهُ بِهِ لَيسَ بِلاَزمٍ؛ لأنَّ الرَّاوي إِذَا ثَبَتَ لَهُ اللِّقَاءُ مَرَّةً لا يَجْرِي فِي رِوَاياتِهِ احْتِمَالُ أَنْ لا يَكُونَ سَمِعَ منه؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُدَلِّسًا، وَالمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي غَيْرِ المُدَلِّسِ.
-وأَمَّا رُجْحَانُه مِن حَيثُ: العَدَالَةُ وَالضَّبْطُ؛ فَلأنَّ الرِّجَالَ الذينَ تُكُلِّمَ فيهم مِن رِجَالِ مُسْلِمٍ،أَكثرُ عَدَدًا مِن الرِّجَالِ الذينَ تُكُلِّمَ فيهم مِن رِجَالِ الْبُخَارِيِّ.
مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُكْثِرْ مِن إِخْرَاجِ حَدِيثِهِم، بَلْ غَالِبُهُمْ مِن شُيوخِه الذينَ أَخَذَ عَنْهُم ومَارَسَ حَدِيثَهُم، بِخِلافِ مُسْلِمٍ فِي الأَمْرَينِ.
-وأَمَّا رُجْحَانُهُ مِن حَيْثُ:
عَدَمُ الشّذُوذِ وَالإِعْلاَلِ؛ فَلأنَّ مَا انْتُقِدَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِن الأَحَادِيثِ أَقَلُّ عَدَدًا مِمَّا انْتُقِدَ عَلَى مُسْلِمٍ.
- هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ كَانَ أَجَلَّ مِن مُسْلِمٍ فِي العُلُومِ، وَأَعْرَفَ بِصِنَاعَةِ الحَدِيثِ منه.
- وَأَنَّ مُسْلِمًا تِلْمِيذُهُ وَخِرِّيجُهُ، وَلَم يَزَلْ يَسْتَفِيدُ منه وَيَتَتَبَّعُ آثَارَهُ حَتَّى قال الدَّارَقُطْنِيُّ: (لَولا الْبُخَارِيُّ لَمَا راحَ مُسلِمٌ وَلا جَاءَ).
(2) (وَمِنْ ثَمَّ) أي: مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ وَهِي أَرْجَحِيَّةُ شَرْطِ
الْبُخَارِيِّ عَلَى غَيْرِهِ.
(3) (قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ)
عَلَى غَيْرِهِ مِن الكُتُبِ المُصَنَّفَةِ في الحَدِيثِ.
(4) (ثُمَّ) (صَحِيحُ مُسْلِمٍ) لِمُشَارَكَتهِ لِلبُخَارِيِّ، فِي اتِّفَاقِ العُلَمَاءِ عَلَى تَلَقِّي كِتَابِهِ بِالقَبُولِ أيضًا، سِوى مَا عُلِّلَ.
(5) (ثُمَّ) يُقَدَّمُ فِي الأَرْجَحِيَّةِ مِن حَيثُ الأَصَحِّيَّةُ مَا وافَقَهُ (شَرْطُهُمَا) لأنَّ المُرادَ بِهِ رُواتُهُمَا مَعَ بَاقِي شُرُوطِ الصَّحِيحِ، وَرُوَاتُهُمَا قَدْ حَصَلَ الاتِّفَاقُ عَلَى القَولِ بِتَعْدِيلِهِم بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، فَهُم مُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي رِوَاياتِهِم، وَهَذَا أَصْلٌ لا يُخْرَجُ عَنْهُ إلاَّ بِدَلِيلٍٍ.
فَإنْ كَانَ الخَبَرُ عَلَى شَرْطِهِمَا مَعًا كَانَ دُونَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أو مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى شَرْطِ أَحَدِهِمَا؛ فَيُقَدَّمُ شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَحْدَهُ، تَبَعًا لأَصْلِ كُلٍّ منهمَا.
فَخَرَجَ لَنَا مِن هَذَا سِتَّةُ أَقْسَامٍ تَتَفَاوتُ دَرَجَاتُهَا فِي الصِّحَّةِ، وَثَمَّةَ قِسْمٌ سَابِعٌ -وَهُو مَا لَيسَ عَلَى شَرْطِهِمَا اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا.
وَهَذَا التّفَاوتُ إِنَّمَا هُو بِالنَّظَرِ إِلَى الحَيْثِيَّةِ المَذْكُورَةِ.
أَمَّا لَو رُجِّحَ قِسْمٌ عَلَى مَا فَوقَهُ بِأُمُورٍ أُخْرَى تَقْتَضِي التَّرْجِيحَ؛ فإنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَا فَوقَهُ، إِذْ قَدْ يَعْرِضُ للمُفَوَّقِ مَا يَجْعَلُه فَائِقًا، كَمَا لَوْ كَانَ الحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مثلًا وَهُوَ مَشْهُورٌ قَاصِرٌ عَلَى دَرَجَةِ التَّوَاتُرِ، لَكِنْ حَفَّتْهُ قَرِينَةٌ صَارَ بِها يُفِيدُ العِلْمَ؛ فإنَّه يُقَدَّمُ عَلَى الحَدِيثِ الذي يُخْرِجُهُ الْبُخَارِيُّ إِذَا كَان فَرْدًا مُطْلَقًا، وَكَمَا لَوْ كَانَ الحَدِيثُ الذي لَمْ يُخْرِجَاهُ مِن تَرْجَمَةٍ وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا أَصَحَّ الأَسَانِيدِ كَمَالِكٍ، عَن نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ؛ فإنَّه يُقَدَّمُ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا مَثَلًا، لا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي إِسْنَادِهِ مَن فيه مَقَالٌ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم
قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: (مَرَاتِبُ الصحيحِ بالنَّظَرِ إلى الإسنادِ:
(1) والحديثُ الصحيحُ ليس على مَرْتَبَةٍ واحدةٍ، وإنْ شَمَلَ الجميعَ اسمُ الصحيحِ، وقبلَ أنْ يَذْكُرَ
الحافظُ مَرَاتِبَ الصحيحِ ذَكَرَ سببَ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الصحيحِ، فقال: إنَّ الرُّوَاةَ وإنْ اتَّفَقُوا جميعًا في العدالةِ والضَبْطِ؛ إلاَّ أنَّ تَوَافُرَ هذينِ الشرطَيْنِ يَخْتَلِفُ من راوٍ لآخَرَ، فالراوي يَظَلُّ على تمامِ الضبْطِ، ولكنْ مع وجودِ أَغْلاَطٍ في حديثِهِ؛ إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يُشْتَرَطَ في الراوي أَلاَّ يَغْلَطَ أبدًا، أو لا يُعْرَفَ عنهُ الخطأُ. والرُّوَاةُ الذين يَنْقُلُ عنهم العلماءُ أنَّهُمْ لا يَكَادُ يُعْرَفُ عنهم خطأٌ يُعَدُّونَ تقريبًا على الأصابعِ، ومع هذا فَلَهُمْ أخطاءٌ قليلةٌ جدًّا، فلو اشْتُرِطَ ألاَّ يُخْطِئَ الراوي أبدًا ما سَلِمَ من الرُّوَاةِ إلا القليلُ جِدًّا، أو ما سَلِمَ أحدٌ، وهكذا يُقَالُ بالنسبةِ للعدالةِ؛ فالرجلُ الذي اتُّفِقَ على عدالتِهِ واستفاضَتْ حتى يَعْرِفَهُ الخاصُّ والعامُّ مثلَ الأَئِمَّةِ الأربعةِ، وشُعْبَةَ، وسفيانَ الثوْرِيَّ، وسفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، فهؤلاءِ شُهْرَتُهُمْ طَبَّقَت الآفاقَ؛ إلاَّ أنَّ هناكَ من العلماءِ مَن ليسوا كذلكَ، وهناكَ مَن هو دونَ ذلكَ أيضًا مِمَّن قد يُتَكَلَّمُ في عدالتِهِ وإنْ لمْ يَثْبُتْ فيه شيءٌ، فلا يُجْعَلُ هذا في مَرْتَبَةِ مَن اتَّفَقَ الجميعُ على عدالتِهِ. كذلكَ: يُمْكِنُ أنْ يُقَالَ هذا في اتِّصَالِ الإسنادِ، فهناكَ أسانيدُ لم يَخْتَلِف الأَئِمَّةُ على أنَّها مُتَّصِلَةٌ، وهناكَ أسانيدُ صُحِّحَتْ وأُخْرِجَتْ في (الصحيحيْنِ) أو في أحدِهِما وصَحَّحَهُمَا الأَئِمَّةُ، ولكنْ في سماعِ بعضِ الرُّوَاةِ مِن بعضٍ كلامٌ للأَئِمَّةِ، حتى وإنْ رُجِّحَ أنَّ فلانًا سَمِعَ مِن فلانٍ، وصُحِّحَ الحديثُ، وأُخْرِجَ في (الصحيحَيْنِ)؛ فلا يكونُ بِمَنْزِلَةِ ما اتَّفَقَ الأَئِمَّةُ على سماعِهِ واتصالِ الإسنادِ فيهِ، مثلاً: هناكَ صحابيٌّ اسْمُهُ عمرُو بنُ تَغْلِبَ، له أحاديثُ في البخاريِّ مِن روايةِ الحسنِ عنهُ، وجمهورُ الأَئِمَّةِ على أَنَّهُ قد سَمِعَ منهُ. لكنَّ ابنَ المَدِينِيِّ وهو أَحَدُ الأَئِمَّةِ المُعْتَبَرِينَ في الجَرْحِ والتعديلِ يقولُ: (إنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، فَمِثْلُ هذا الإسنادِ الذي وَقَعَ فيه الكلامُ في الاتصالِ لا يكونُ بِمَثَابَةِ ما اتُّفِقَ على أَنَّهُ مُتَّصِلٌ). فَيَظْهَرُ من هذا الكلامِ أنَّ الحديثَ الصحيحَ وإنْ صُحِّحَ، وإنْ شَمِلَ الجميعَ اسمُ الصحيحِ فإنَّ له مَرَاتِبَ يَتَفَاوَتُ فيها، والفائدةُ من كُلِّ هذا:هو الترجيحُ عندَ الاختلافِ، ومعروفٌ أَنَّهُ قد وَرَدَ من الأحاديثِ ما يكونُ بينها اختلافٌ: إِمَّا اختلافٌ حقيقيٌّ بحيثُ يَلْزَمُ من قَبُولِ أحدِ النَّصَّيْنِ وَقْفُ قَبُولِ الآخَرِ، أو اختلافٌ ظاهرٌ وإنْ كانَ في الحقيقةِ ليس اختلافًا، فيُسْتَفَادُ من ذِكْرِ مراتبِ الحديثِ الصحيحِ فِي قضيَّةِ الترجيحِ فيما بَيْنَهَا لو ظَهَرَ الاختلافُ، والمراتبُ التي ذَكَرَهَا الحافظُ ويَذْكُرُهَا العلماءُ هي بالنظرِ إلى كُلِّ إسنادٍ لوحدِهِ، يعني: مُرَاعَاةَ الشروطِ الثلاثةِ للحديثِ الصحيحِ، وأمَّا الشُّذُوذُ والعِلَّةُ فلا يُمْكِنُ على وَجْهِ التحديدِ وَضْعُ مراتبَ بهذا الاعتبارِ.ذَكَرَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ ثلاثَ مراتبَ من مراتبِ الحديثِ الصحيحِ: المرتبةُ الأولى: ما قِيلَ فيه إنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ، وَعَرَفْنَا أنَّ العِرَاقِيَّ عَدَّهَا ستةَ عَشَرَ إسنادًا، وَأَوْصَلَهَا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ بِحَسَبِ ما وَقَفَ عليهِ إلى عشرينَ إسنادًا، وقال: هذه الأسانيدُ تُعْتَبَرُ في الذُّرْوَةِ وفي المَرْتَبَةِ الأولى مِن الحديثِ الصحيحِ. المَرْتَبَةُ الثانيةُ: ذَكَرَهَا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ، ويَظْهَرُ لي أنَّ قَبْلَهَا مَرْتَبَةً لَمْ يُشِرْ إليها على الرَّغْمِ مِن أنَّهَا أكثرُ وجودًا مِن المَرْتَبَةِ التي ذَكَرَهَا، فهو مَثَّلَ للمَرْتَبَةِ الثانيةِ بِبُرَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي بُرْدَةَ، عن جَدِّهِأبي بُرْدَةَ، عن أبيهِ أبي موسى الأَشْعَرِيِّ، وبحمادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ. والإسنادُ الأوَّلُ: نُسْخَةٌ اتَّفَقَ عليها الشيخانِ، وفي بُرَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ كلامٌ يَسِيرٌ لبعضِ الأَئِمَّةِ. والثاني: نُسْخَةٌ مِن أَفْرَادِ مسلمٍ، ولمْ يُخَرِّج البخاريُّ منها شيئًا، والسببُ في ذلك ما يوجدُ في هذينِ الإسنادينِ مِن كلامٍ، وإنْ كان الراجحُ فيهما هو تَصْحِيحَهِمَا. أَقُولُ: هذه المَرْتَبَةُ الثانيةُ قبلَها مَرْتَبَةٌ، وهي أنْ يُقَالَ: إنَّ هناكَ أسانيدَ لمْ يَقُلْ فيها أحدٌ من الأَئِمَّةِ: إنَّهَا مِن أَصَحِّ الأسانيدِ، ومع هذا فَرُوَاتُهَا في الذُّرْوَةِ مِن العدالةِ والضَّبْطِ، ولم يُتَكَلَّمْ فيهم، ولا في اتصالِ الإسنادِ، إلاَّ أنَّهَا لمْ يَقُلْ فيها أحدٌ من الأَئِمَّةِ: إنَّهَا أَصَحُّ الأسانيدِ، مثلَ:شُعْبَةَ، عن قَتَادَةَ، عن أنسٍ، والزُّهْرِيِّ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ، ومثلَ هذين أسانيدُ أُخْرِجَ منها في (الصحيحَيْنِ)، واتَّفَقَ الأَئِمَّةُ على أنَّهَا صحيحةٌ، لكنْ لمْ يَقُلْ عنها أحدٌ من الأَئِمَّةِ: إنَّهَا أَصَحُّ الأسانيدِ، فَأَرَى - واللهُ أعلمُ - أنَّ هذه المَرْتَبَةَ تَصْلُحُ أنْ تكونَ المَرْتَبَةَ الثانيةَ. المَرْتَبَةُ الثالثةُ: هي التي يَذْكُرُهَا الحافظُ على أنَّهَا المَرْتَبَةُ الثانيةُ، وهي ما تُكُلِّمَ في بعضِ رُوَاتِهَا بكلامٍ، الراجحُ جِدًّا فيها خلافُهُ، مثلَ: رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ، فيها كلامٌ بالنسبةِ لِعِكْرِمَةَ؛ لكنَّ الراجحَ كما حَرَّرَهُ جَمْعٌ من الأَئِمَّةِ واسْتَقَرَّ العملُ عليهِ، على ثقةِ عِكْرِمَةَ وعدالتِهِ. المَرْتَبَةُ الرابعةُ: وهي الثالثةُ التي ذَكَرَهَا الحافظُ: أسانيدُ تَكَلَّمَ الأَئِمَّةُ في بعضِ رُوَاتِهَا في حِفْظِهِمْ؛ لوجودِ أغلاطٍ في حَدِيثِهِمْ، ومع هذا فهذا الكلامُ من القِلَّةِ بحيثُ إنَّ أحاديثَهُم لم تَنْزِلْ عن رُتْبَةِ الصحيحِ، ولاَ سِيَّمَا أنَّ الأَئِمَّةَ يَتَجَنَّبُونَ ما غَلِطُوا فيه، فَيَبْقَى ما لمْ يَغْلَطُوا فيه يَشْمَلُهُ اسمُ الصحيحِ، وهذه الأسانيدُ غَالِبُهَا في (صحيحُ مسلمٍ). مِثْلَ: سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، والعَلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، كما أنَّ في (صحيحُ البُخَارِيِّ) ، بعضَ المَرْوِيَّاتِ التي تُعْتَبَرُ مِن أَدْنَى مراتبِ الحديثِ الصحيحِ. وعندَما نقولُ:إنَّ شَرْطَ الصحيحِ أنْ يكونَ بروايةِ عَدْلٍ تامِّ الضبْطِ، فإنَّ هذا التمامَ لا يكونُ بدرجةٍ واحدةٍ ، ولا يمكنُ أنْ يكونَ هذا، فالناسُ يَتَفَاوَتُونَ في الضبْطِ، لكنَّ هذا الراويَ إذا لمْ يَكْثُرْ غَلَطُهُ بحيثُ يَنْزِلُ عن رُتْبَةِ الصحيحِ فإنَّهُ لا يَزَالُ يَصِحُّ أنْ يُطْلَقَ عليه بأَنَّهُ تامُّ الضبْطِ. سؤالٌ:لو قيلَ: هذه المَرَاتِبُ الأربعةُ على سبيلِ الإجمالِ، أو على سبيلِ التفصيلِ؟ يعني مثلاً:المَرْتَبَةُ الأولى: هلْ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا أو لا يُمْكِنُ؟ مَرَّ مَعَنَا أنَّ الحافظَ رَحِمَهُ اللَّهُ يقولُ: (إنَّهُ مِن المُمْكِنِ تَرْجِيحُ بعضِ هذه الأسانيدِ على بَعْضِهَا الآخَرِ بالنَّظَرِ إلى القائلِ بأنَّ هذا الإسنادَ هو أَصَحُّ الأسانيدِ)، معنى هذا أنَّ الأسانيدَ التي قِيلَ فيها: أَصَحُّ الأسانيدِ مِن المُمْكِنِ تَرْتِيبُهَا أو وَضْعُهَا على مَرَاتِبَ، وكذلكَ المَرْتَبَةُ الثانيةُ ، فَبَعْضُهَا تكونُ مشهورةً جِدًّا، وبعضُها غيرُ مشهورةٍ، وإنْ لم يُتَكَلَّمْ فيها. فحينئذٍ يُقَالُ: إنَّ هذا الترتيبَ لِمَرَاتِبِ الصحيحِ هو ترتيبٌ إجماليٌّ، وليس تَفْصِيلِيًّا، فهذه المراتبُ يُمْكِنُ تفصيلُهَا وَوَضْعُهَا على مراتبَ أيضًا، ومَعْرِفَةُ هذا التفصيلِ ليس مُفِيدًا جِدًّا، إلاَّ إذا وَرَدَ حديثانِ مِن مَرْتَبَةٍ واحدةٍ، ونحتاجُ فيهما إلى ترجيحٍ، لكنْ عُمُومًا الإجمالُ أَهَمُّ مِن التفصيلِ، لأنَّ المُهِمَّ أنْ يَعْرِفَ الباحثُ أنَّ الحديثَ الصحيحَ على مراتبَ، وبالتالي سَيَعْرِفُ أنَّ كُلَّ مَرْتَبَةٍ يُمْكِنُ أنْ تكونَ أيضًا على مراتبَ، فإذا جاءَ حديثانِ مختلفانِ، وكِلاَهُمَا مِن مَرْتَبَةٍ واحدةٍ، واحتاجَ الباحثُ إلى الترجيحِ يَعْرِفُ أنَّ الحديثَ الصحيحَ على مراتبَ، وبِإِمْكَانِهِ حينئذٍ البحثُ عن مُرَجِّحَاتٍ. سؤالٌ:بالنسبةِ للأحاديثِ المَرْوِيَّةِ بهذهِ المَرَاتِبَ: هذا التَّقْسِيمُ هل هو على التفصيلِ، بحيثُ يُقَالُ: إنَّ كُلَّ حديثٍ وَرَدَ من المَرْتَبَةِ الأولى مثلاً هو أَصَحُّ مِن كُلِّ حديثٍ وَرَدَ مِن المَرْتَبَةِ الثانيةِ؟ على ظاهرِ هذا التقسيمِ يُقَالُ: نَعَمْ، ولكنْ عندَ التحقيقِ فإنَّهُ ليس كذلكَ، فإنَّ هذا الترتيبَ إجماليٌّ، ويُقَالُ دائمًا: قد يَعْرِضُ للمفضولِ ما يَجْعَلُهُ في هذهِ المسألةِ المُعَيَّنَةِ فَاضِلاً، فَرُبَّ حديثٍ قِيلَ في إسنادِهِ: إنَّهُ مِن أَصَحِّ الأسانيدِ، ولكنْ يَتَرَجَّحُ عليه ما لم يَقُلْ فيه: إنَّهُ مِن أَصَحِّ الأسانيدِ، أو ما هو مِن المَرْتَبَةِ الثالثةِ مثلاً؛ لاَنَّنَا عَرَفْنَا الفَرْقَ بينَ تصحيحِ الإسنادِ وتصحيحِ الحديثِ: -فتصحيحُ الإسنادِ يَتَطَلَّبُ وُجُودَ ثلاثةِ شُرُوطٍ. -لكنَّ تَصْحِيحَ الحديثِ يَتَطَلَّبُ الخمسةَ كُلَّهَا، فَعِنْدَ نَظَرِكَ في الشرطِ الرابعِ، والخامسِ، قد يَتَخَلَّفُ التصحيحُ؛ فَهُنَا يُقَدَّمُ عليه الحديثُ الذي وَرَدَ بإسنادٍ لم يُذْكَرْ فيه أنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ، وَتَوَافَرَ فيهِ خمسةُ شروطٍ ، ويَضْرِبونَ مِثَالاً لذلكَ في الأُصُولِ وفي كُتُبِ المَنْطِقِ بأنْ يُقَالَ: الرجالُ أَفْضَلُ مِن النساءِ، ولَكِنْ قد يُوجَدُ في النساءِ مَن هُنَّ أَفْضَلُ مِن كثيرٍ مِن الرجالِ، ولَكِنَّ هذا التفضيلَ بُنِيَ على سبيلِ الإجمالِ، بمعنى أنَّ الفاضِلَ في الرجالِ أَكْثَرُ منهُ في النساءِ، وهكذا يُقَالُ بالنسبةِ لأصَحِّ الأسانيدِ: الصحيحُ المرويُّ بِأَصَحِّ الأسانيدِ الخطأُ فيه أَقَلُّ مما لمْ يُقَلْ فيه: إِنَّهُ أَصَحُّ الأسَانِيدِ. مَرَاتِبُ الصَّحِيحِ بِالنَّظَرِ إلى مَنْ أَخْرَجَهُ:
(2)ذَكَرَ الحافظُ هنا مراتبَ الحديثِ الصحيحِ لكنْ مِن حَيْثِيَّةٍ أُخْرَى غيرِ النظرِ في الأسانيدِ نفسِهَا، وهي أَسْهَلُ على طالبِ العلمِ؛ لأنَّهَا بالنظرِ إلى مَن أَخْرَجَ الحديثَ، وهو قَطْعًا أَسْهَلُ مِن النظرِ في الرُّوَاةِ وفي الأسانيدِ نفسِهَا.
هذا التقسيمُ ذَكَرَهُ ابنُ الصلاحِ، وقبلَهُ الحاكمُ في (علومُ الحديثِ).وَأَوْصَلُوا
المراتبَ بالنظرِ إلى مَن أَخْرَجَ الحديثَ إلى سبعِ مراتبَ:
المَرْتَبَةُ الأولى: الحديثُ الذي اتَّفَقَ عليه البخاريُّومسلمٌ،ومعنى اتَّفَقَا عليه، أيْ: أَخْرَجَا الحديثَ عن صحابيٍّ واحِدٍ.
مثالٌ:حديثُ ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))، هذا الحديثُ مُتَّفَقٌ عليه مِن حديثِ أَنَسٍ، فهذا الحديثُ مِن روايةِ أنسٍ، هو أَعْلَى المراتبِ من الصحيحِ بالنظرِ إلى هذه القسمةِ؛ لأنَّ البخاريَّ ومُسْلِمًا اتَّفَقَا عليه.
لِمَ كانَ ما اتَّفَقَ عليه البخاريُّ ومسلمٌ مِن أَعْلَى مراتبِ الصحيحِ؟
قال الحافِظُ: (لأنَّ العلماءَ تَلَقَّوْا كِتَابَيْهِمَا بالقَبُولِ، فصارَ ما اتَّفَقَا عليه في أَعْلَى مراتبِ الصحيحِ).
هناكَ قضيةٌ لم يَتَعَرَّضْ لها الحافظُ، ومن المناسبِ ذِكْرُهَا في هذا المَوْضِعِ:
نحنُ نقولُ في الاصطلاحِ: إنَّ المُتَّفَقَ عليه هو ما أَخْرَجَاهُ من حديثِ صحابيٍّ واحدٍ؛ فإذا اتَّفَقَا على إخراجِ المَتْنِ، لكنْ كُلٌّ منهما عن صحابيٍّ مُخْتَلِفٍ فإنَّهُ لا يُسَمَّى مُتَّفَقًا عليه في الاصطلاحِ، إلاَّ عندَ بعضِ الأَئِمَّةِ، وهذا بخلافِ الاصطلاحِ العامِّ.
والفرقُ بينَ (رَوَاهُ الشيخانِ) و(مُتَّفَقٌ عليهِ):
-أنَّ (رَوَاهُ الشيخانِ) أَعَمُّ.
إذ إنَّ (مُتَّفَقٌ عليهِ) هو ما اتَّفَقَا عليهِ مِن روايةِ صحابيٍّ واحدٍ.
أمَّا (رَوَاهُ الشيخانِ)؛ فهو يَصِحُّ أنْ يُطْلَقَ على ما أَخْرَجَاهُ مِن طريقِ صحابيٍّ واحدٍ، وعلى ما أَخْرَجَاهُ عن صَحَابِيَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وهذا كلُّهُ اصطلاحٌ، فلو خُرِجَ عنهُ - مع التنبيهِ عليهِ - فلا بأسَ بهِ؛ لأَنَّهُ يُقَالُ: لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاحِ، لكنْ مَتَى خرجَ الشخصُ عن الاصطلاحِ المشهورِ فَيَنْبَغِي عليه أنْ يُنَبِّهَ إلى أنَّ مرادَهُ بكذا: كذا.
-ثم إنَّ البخاريَّ إذا أَخْرَجَ حديثًا عن صحابيٍّ، ثم أَخْرَجَهُ مسلمٌ عن صحابيٍّ آخَرَ؛ فقد اجْتَمَعَ عندنا صحابيانِ رَوَيَا الحديثَ؛ فبالنظرِ إلى خُرُوجِ الحديثِ عن حَدِّ الفرديةِ أو الغرابةِ؛ فالذي رَوَاهُ الصحابيانِ أَرْجَحُ مِن الذي رَوَاهُ صحابيٌّ، وهذا يَنْبَغِي أنْ يأتيَ - في أَقَلِّ الأحوالِ - في المَرْتَبَةِ الثانيةِ بعدَ ما اتَّفَقَا عليهِ عن صحابيٍّ واحدٍ.
بلْ لقائلٍ أنْ يقولَ: لِمَ لاَ يكونُ هذا في المَرْتَبَةِ الأُولى مع أنَّ ذلك لمْ يُذْكَرْ في المراتِبِ؟
ولذا قال السَّخَاوِيُّ: (لاَ نَجْزِمُ بِحُكْمٍ عامٍّ، فقدْ يكونُ المُتَّفَقُ عليه أَرْجَحَ مِمَّا أخْرَجَاهُ مِن حديثِ صحابيَيْنِ، كأنْ يكونَ كُلُّ واحدٍ أخرجَهُ مِن حديثِ صحابيٍّ، لكنَّ الإسنادَ فيه شيءٌ مِن كلامٍ، لأجلِهِ تَجَنَّبَ أحدُ صَاحِبَي الصحيحِ إخراجَ الحديثِ، فَهُنَا يكونُ المُتَّفَقُ عليه أَرْجَحَ، أمَّا إذا أَخْرَجَا الحديثَ مِن حديثِ الصحابيَيْنِ، وليس فيه كلامٌ، لكنَّ كُلَّ واحدٍ تَرَكَ الحديثَ استغناءً بالحديثِ الذي أخرجَهُ؛ فهنا يكونُ ما أَخْرَجَاهُ مِن حديثِ صحابيَّيْنِ أَرْجَحَ).
فالمَرْتَبَةُ الأولى:مَا اتَّفَقَا عليهِ، لكنْ ما أَخْرَجَا مَتْنَهُ مِن حديثِ صحابِيَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَغْفَلَهُ الأَئِمَّةُ في هذا التقسيمِ، ونَقُولُ مِثْلَ ما ذَكَرَ بعضُ الأَئِمَّةِ: إِنَّهُ تارةً يكونُ المُتَّفَقُ عليهِ هو الأَرْجَحَ لاتِّفَاقِهِمَا على صِحَّةِ هذا الإسنادِ عن هذا الصحابيِّ، وتارةً يُخْرِجَاهُ مِن حديثِ صحابِيَّيْنِ، فإذا أَخْرَجَاهُ عن حَدِّ الغرابةِ، وسَلِمَ مِن الكلامِ فهنا يكونُ أرجحَ مِمَّا اتَّفَقَا عليهِ، وسَبَبُ كَوْنِ مَا اتَّفَقَ عليه البخاريُّ ومسلمٌ هي المَرْتَبَةَ الأولى؛ لأَنَّ الأُمَّةَ تَلَقَّتْ كِتَابَيْهِمَا بالقَبُولِ، فعلى هذا تكونُ.
المَرْتَبَةُ الثانيةُ:مَا انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ عن مسلمٍ، وقدْ تَكَلَّمَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ، وَأَطَالَ في قضيَّةٍ يَظْهَرُ أنَّهَا خَارِجَةٌ عن الموضوعِ، لكنْ كأَنَّهُ يُجِيبُ عن إشكالٍ: قُلْتُمْ: إنَّ الأُمَّةَ تَلَقَّتْ الكتابَيْنِ بالقَبُولِ، وعلى هذا كان يَنْبَغِي أنْ تكونَ المَرْتَبَةُ الثانيةِ ما انْفَرَدَ بهِ واحدٌ منهما، لا ما انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ، وأنتم جَعَلْتُمْ المَرْتَبَةَ الثانيةَ ما انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ؛ فَشَرَعَ ابنُ حَجَرٍ في الكلامِ في تَقْدِيمِ البخاريِّ على مسلمٍ، فقالَ: إنَّ الأُمَّةَ وإنْ تَلَقَّت الكتابَيْنِ بالقَبُولِ، إلاَّ أنَّ لها كلامًا في المُوَازَنَةِ بين الكتابَيْنِ، فالجمهورُ على أنَّ (صحيحَ البخاريِّ) أَصَحُّ مِن (صحيحُ مسلمٍ)، ثم ذَكَرَ أَنَّهُ نُقِلَ عن بعضِ الأَئِمَّةِ أنَّ مسلمًا أَصَحُّ، ونُقِلَ عن بعضِهِمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ؟
فَأَجَابَ:أمَّا ما نُقِلَ عنهُ الكلامُ بالأَصَحِّيَّةِ فليس صَرِيحًا، وهو عن أبي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ، وإِنَّمَا كلامُهُ (ما تَحْتَ أَدِيمِ السماءِ أَصَحُّ مِن كتابِ مسلمٍ)؛ فيقولُ الحافِظُ: (هو ذَكَرَ الأَصَحِّيَّةَ ولم يَنْفِ المساواةَ)؛ فكأَنَّهُ يقولُ: هناك فَرْقٌ بينَ نَفْيِ الأَصَحِّيَّةِ - أَفْعَل التفضيلِ - وبينَ نَفْيِ المُسَاوَاةِ، فهذا الإمامُ كأَنَّهُ يقولُ: هُمَا في درجةٍ واحدةٍ.
أمَّا الذي ذَكَرَ التفضيلَ فإِنَّمَا فَضَّلَ كتابَ مسلمٍ من جِهَةٍ أُخْرَى لا تَتَعَلَّقُ بالأَصَحِّيَّةِ، وهي قضيَّةُ الصناعةِ الحديثيةِ - وإنْ كانَ قولُهُمْ: إنَّهُ يَفُوقُ البخاريَّ من جهةِ الصناعةِ الحديثيةِ فيهِ نَظَرٌ أيضًا - وإِنَّمَا يمكنُ أنْ تُقَرِّرَ أفضليةَ (صحيحُ مسلمٍ) ، مِن جهةِ أَيُّهُمَا أَسْهَلُ للقارئِ وتبويبِ الأحاديثِ؛ لأنَّكَ بِمُجَرَّدِ أنْ تَعْرِفَ موضوعَ الحديثِ تَقِفُ عليه في مكانِهِ في (صحيحِ مسلمٍ) بِطُرُقِهِ وألفاظِهِ دونَ تَعَبٍ، فمِن هذهِ الحَيْثِيَّةِ فُضِّلَ (صحيحُ مسلمٍ)، وَيُرِيدُ ابنُ حَجَرٍ بهذا بيانَ أَنَّهُ لمْ يُؤْثَرْ عن أحدٍ تقديمُ (صحيحُ مسلمٍ) مِن جِهَةِ الأَصَحِّيَّةِ، فإذا تَلَقَّت الأمةُ الكتابَيْنِ بالقَبُولِ نَظَرْنَا في التفصيلِ فإذا الأمةُ مُمَثَّلَةٌ بِعُلَمَائِهَا تُرَجِّحُ (صحيحَ البخاريِّ) على (صحيحِ مسلمٍ).واسْتَطْرَدَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في بيانِ تقديمِ (صحيحُ البخاريِّ) على (صحيحُ مسلمٍ) وتَعَرَّضَ للتفاصيلِ، لا مِن جِهَةِ كلامِ الأَئِمَّةِ في التفضيلِ، وإِنَّمَا مِن جِهَةِ دراسةٍ نَقْدِيَّةٍ للأحاديثِ في الكتابَيْنِ، وذَكَرَ عددًا مِن الأمورِ فُضِّلَ بها (صحيحُ البخاريِّ) على (صحيحِ مسلمٍ)، بعضُهَا يَتَعَلَّقُ بالرجالِ، وبعضُهَا بالعِلَلِ، وبعْضُهَا بالاتصالِ، وهذه الموازنةُ مِن الحافظِ اسْتَخْلَصَهَا من كلامِ الأَئِمَّةِ من قبلِهِ.
وجملةُ ما ذَكَرَهُ أنَّ (صحيحَ البخاريِّ) يَتَرَجَّحُ على (صحيحِ مسلمٍ) مِن عِدَّةِ أَوْجُهٍ، وكلُّهَا تَعُودُ إلى درجةِ تَوَافُرِ الشروطِ الخمسةِ للحديثِ الصحيحِ، فقالَ:
1-ما يَتَعَلَّقُ بالرُّوَاةِ في عدالتِهِم وضَبْطِهِم: إنَّ ما انْتُقِدَ على مسلمٍ إخراجُ أحاديثِهِم أكثرُ مِمَّا انْتُقِدَ على البخاريِّ، كما أنَّ الذينَ انْتُقِدَ على البخاريِّ تَخْرِيجُ أحاديثِهِم غَالِبُهُم مِن شيوخِهِ، وَعَرَفَ أحاديثَهُم وانْتَقَى الصحيحَ منها، كما أنَّ ما انْتُقِدَ على البخاريِّ لم يُكْثِرْ من تخريجِ أحاديثِهِم، أمَّا بالنسبةِ لمسلمٍ فهو في ضِدِّ ذلك في الأمْرَيْنِ، فما انْتُقِدَ عليه غالِبُهُم في الطبقاتِ العليا، وهو مُكْثِرٌ أيضًا من تخريجِ أحاديثِهِم، هذا بالنسبةِ لعدالةِ الرُّوَاةِ وضبطِهِم.
2-بالنسبةِ: للاتصالِ؛ فكما هو معروفٌ تَحَدَّثَ مسلمٌ في مقدمةِ كتابِهِ عن شَرْطِهِ في اتصالِ الإسنادِ، وقال: إنَّ شرطَهُ في اتصالِ الإسنادِ أنْ يَتَعاصَرَ الراويانِ ويُمْكِنَ لقاءُ أحدِهِما للآخَرِ، وإنْ لمْ يَرِدْ في حديثٍ واحدٍ التصريحُ بأنَّ فلانًا سَمِعَ مِن فلانٍ، وقالَ مسلِمٌ: إنَّ ما قُلْتُهُ أو اخْتَرْتُهُ هو كالإجماعِ، وشَنَّعَ على مَن خَالَفَ ذلكَ، هذا الذي اخْتَارَهُ مسلمٌ.
اختارَ البخاريُّ ضِدَّهُ، فصارَ أَقْوَى مِنْهُ مِن هذهِ الجِهَةِ، فاشترطَ البخاريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لإثباتِ سماعِ راوٍ مِن راوٍ آخَرَ ولِصِحَّةِ هذا الإسنادِ: أنْ يَرِدَ ولو في حديثٍ واحدٍ التصريحُ بأَنَّهُ سَمِعَ منهُ، ولهذا رَحِمَهُ اللَّهُ طَبَّقَ منهجَهُ بِدِقَّةٍ في (الصحيحِ) ، وأيضًا خَارِجَ (الصحيحِ) (كالتَّاريخِ الكبيرِ).
وفي أَجْوِبَتِهِ عن أسئلةِ التِّرْمِذِيِّ، فهو يُعِلُّ الأحاديثَ بأنَّ فلانًا لا نَعْرِفُ لهُ سَمَاعًا مِن فلانٍ، ولا يَتَحَدَّثُ عن قضيَّةِ المعاصرةِ وإمكانِ اللُّقِيِّ ونحوِ ذلكَ، وهذا الشرطُ الذي اختارَهُ البخاريُّ وجَعَلَهُ شَرْطًا في اتصالِ الإسنادِ أقوى من شرْطِ مسلمٍ، وقد وُجِدَ لمسلمٍ بعضُ الأحاديثِ التي قِيلَ فيها: إنَّ فلانًا لا يَثْبُتُ لهُ سماعٌ من فلانٍ، وأَخْرَجَهَا مسلمٌ بِنَاءً على شرطِهِ.
وقولُ البخاريِّ في هذه المسألةِ هو قولُ الأَئِمَّةِ كلِّهِم تقريبًا، حتى كادَ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْقُلُ الإجماعَ عليهِ، بِضِدِّ ما قالَهُ مسلمٌ، وعلى هذا شُعْبَةُ، والقَطَّانُ، وابنُ المَدِينِيِّ، وأحمدُ، وأبو حاتمٍ، وأبو زُرْعَةَ.
وقدْ نَبَّهْتُ على هذا الأمْرِ؛ لأنَّ ابنَ رَجَبٍ قال: (كَثُرَ من المتأخرينَ ترجيحُ رَأْيِ مسلمٍ)، ويَقْصِدُ بالمتأخرينِ مَن قبلَهُ؛ لأَنَّهُ عاشَ في القرنِ الثامنِ، وهذا الاختيارُ مُنْتَشِرٌ أيضًا في المتأخرينَ في الوقتِ الحاضرِ، اسْتِئْنَاسًا بأنَّ مسلمًا حَكَى الإجماعَ أو ما يُشْبِهُهُ، لكن كلٌّ يُؤْخَذُ مِن قولِهِ ويُتْرَكُ إلاَّ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3-ثم ذَكَرَ الحافظُ أنَّ (صحيحَ البخاريِّ) يَتَرَجَّحُ مِن جهةٍ ثالثةٍ وهي ما يَتَعَلَّقُ بالشُّذُوذِ والعِلَّةِ، فقال: إنَّ ما انْتُقِدَ على البخاريِّ من الأحاديثِ أَقَلُّ مِمَّا انْتُقِدَ على مُسْلِمٍ، انْتُقِدَ عليهما ما يَقْرَبُ من المائتينِ، اخْتَصَّ البخاريُّ منها بأَقَلَّ مِن الثمانينَ.
ويُضَافُ إلى كلامِ الحافظِ كلمةٌ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في تَأْييدِ هذا الكلامِ، وهي مِن آرائِهِ الدقيقةِ جِدًّا في علومِ الحديثِ: (انْتُقِدَ على الشيخينِ أحاديثُ، وما انْتُقِدَ على البخاريِّ فالغالبُ أنَّ الصوابَ فيه مع البخاريِّ، والغالبُ أنَّ ما انْتُقِدَ على مسلمٍ الصوابُ فيه مع مَن انْتَقَدَهُ)، وهذا مِن مُرَجِّحَاتِ البخاريِّ، فالناظِرُ فيما انْتُقِدَ عليهما يَجِدُ كلامَ ابنِ تَيْمِيَّةَ ظاهِرًا.
4-ثم ذَكَرَ الحافظُ مِن مُرَجِّحَاتِ البخاريِّأمْرًا خارِجًا بالنَّظَرِ إلى المُوَازَنَةِ، أو المُقَارَنَةِ بينَ البخاريِّ ومسلمٍ، في نَفْسَيْهِمَا بِغَضِّ النَّظَرِ عن الكتابَيْنِ - فقال: إنَّ مسلمًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَخَرَّجَ على البخاريِّ واستفادَ منهُ، وهو إمامُهُ في هذا الشَّأْنِ وفي العِلَلِ، وأَنَّهُ لاَزَمَهُ لمَّا قَدِمَ نَيْسَابُورَ، وكلامُ العلماءِ كالدَّارَقُطْنِيِّوالتِّرْمِذِيِّ،فالتِّرْمِذِيُّ يقولُ: ما لَقِيتُ كَبِيرَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِعِلَلِ الحديثِ مِن الإمامِ البخاريِّ، وقد لَقِيَ رَحِمَهُ اللَّهُ الدَّارِمِيَّوأبا زُرْعَةَ وَسَأَلَهُمَا عَن العِلَلِ، ولَكِنَّهُ يُفَضِّلُ الإمامَ البخاريَّ.
فهذه جُمَلٌ تحتَها تفاصيلُ ولاَ سِيَّمَا ما يَتَعَلَّقُ بالرجالِ، والشُّذُوذِ، العِلَلِ، فكلُّهَا مُرَجِّحَاتُ (صحيحِ البخاريِّ) ،ولكنَّ بعضَ الناسِ رُبَّمَا يقولُ: إنَّ تَرْجِيحَنَا (لصحيحِ البخاريِّ) فيهِ شيءٌ مِن الغَضِّ مِن (صحيحِ مسلمٍ) ، كذا يقولُ، ولكنْ إذا حَسُنَت النِّيَّةُ، وصارَ الغَرَضُ بيانَ الحَقِّ، ولمْ يَكُنْ في الكلامِ تَجَنٍّ فلا بأسَ بذلكَ، وقدْ دَرَجَ الأَئِمَّةُ على إِجْرَاءِ الموازنةِ بينهما، ومِن الإنصافِ إعطاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
المَرْتَبَةُ الثالثَةُ:ما انْفَرَدَ بِهِ مسلمٌ عن البخاريِّ، وعندَ الحديثِ في مثلِ هذا الكلامِ، لاَ بُدَّ مِن التَّنْوِيهِ (بصحيحِ مسلمٍ)، فالكلامُ السابقُ هو في المقارنةِ بينَهُ وبينَ (صحيحِ البخاريِّ) ، ولكنْ عندَ المقارنةِ بينَ (الصحيحينِ) وبينَ غيرِهِمَا تَجِدُ البَوْنَ شاسِعًا لأقْصَى درجةٍ، فَلاَ مقارنةَ مُطْلَقًا، حتى مَن التَزَمَ الصِّحَّةَ، أو افْتَرَضَ أَنَّهُ الْتَزَمَ الصِّحَّةَ مثلَ:ابنِ خُزَيْمَةَ، وابنِ حِبَّانَ، (فالصحيحانِ) كما قيلَ: أَصَحُّ الكُتُبِ بعدَ كتابِ اللهِ، ودرجةُ أَحَادِيثِهِمَا وانْتِقَائِهِمَا عاليةٌ جِدًّا، وَيَكْفِي أنْ تَتَأَمَّلَ كثيرًا مِن الأحاديثِ - بلْ النُّسَخِ - وقدْ صَحَّحَهَا الأَئِمَّةُ ومع ذلك فقد تَجَنَّبَهَا الشيخانِ، لِقُوَّةِ شَرْطَيْهِمَا وِشِدَّةِ تَحَرِّيهِمَا.
وفوقَ ذلكَ فإنَّ هناكَ أحاديثَ صَحَّحَهَا البخاريُّ، ومسلمٌ؛ إلا أَنَّهُمَا لم يُودِعَاهَا في (صَحِيحَيْهِمَا) ؛ لأنَّ الصحيحَ على درجاتٍ، وهما اشْتَرَطَا الدرجاتِ العُلْيَا من الصحيحِ في الجُمْلَةِ، ولكنْ أَبَى اللهُ أنْ يُتِمَّ إلاَّ كِتَابَهُ.
هذه هي الأسبابُ التي جَعَلَتْ ما انْفَرَدَ به البخاريُّ، أَقْوَى مِمَّا انْفَرَدَ به مسلمٌ.
المَرْتَبَةُ الرابعةُ:ما لمْ يُخْرِجَاهُ، وكانَ على شَرْطِهِمَا.
المَرْتَبَةُ الخامسةُ:ما لمْ يُخْرِجَاهُ، وكانَ على شَرْطِ البخاريِّ.
المَرْتَبَةُ السادسةُ:ما لمْ يُخْرِجَاهُ، وكانَ على شَرْطِ مُسْلِمٍ.
المَرْتَبَةُ السابعةُ:ما صَحَّ من الأحاديثِ مِمَّا ليسَ على شرطِهِمَا، ولا على شرطِ واحدٍ منهما.
هذه هي المراتبُ السبعُ بالنَّظَرِ إلى مَن أَخْرَجَ الحديثَ.
وهذا التقسيمُ على وجهِ الإجمالِ،
فليسَ كُلُّ حديثٍ أَخْرَجَهُ البخاريُّ، مُقَدَّمًا على كُلِّ حديثٍ انْفَرَدَ بهِ مسلمٌ، كما أَنَّهُ ليس كُلِّ حديثٍ قِيلَ فيهِ: مُتَّفَقٌ عليهِ، أقوى مِن كُلِّ حديثٍ انْفَرَدَ بهِ أحدُهُمَا، فقدْ يَعْرِضُ للمرجوحِ ما يَجْعَلُهُ راجِحًا.
شرطُ الشيخَيْنِ:
هناكَ قضيةٌ كثيرةُ الورودِ في كلامِ الأَئِمَّةِ، لاَ سِيَّمَا في كلامِ المتأخرينَ، وَتَتَعَلَّقُ بثلاثِ مراتبَ من السبعِ وهي:
-ما كانَ على شرطِهِمَا.
-ما كان على شرطِ البخاريِّ.
-ما كان على شرطِ مسلمٍ.
فقدْ أطالَ العلماءُ الكلامَ حولَ شرطِهِمَا،
فما المرادُ بشرطِهِمَا إذا أُطْلِقَ؟
أحيانًا يُطْلَقُ ويُرادُ بهِ: ما يَتَعَلَّقُ باتصالِ الإسنادِ
بأنْ يُقَالَ: هذا الحديثُ مُتَّصِلٌ على شرطِ البخاريِّ، بمعنى أَنَّهُ ثَبَتَ لفلانٍ أَنَّهُ سَمِعَ من فلانٍ.
وتارةً يُقَالُ: هذا مُتَّصِلُ الإسنادِ على شرطِ مسلمٍ، بمعنى أنَّ الراويَيْنِ مُتَعَاصِرَينِ، وَأَمْكَنَ لُقِيُّ بَعْضِهِمَا بعضًا، ولكنْ لمْ يَثْبُتْ سماعُ أحدِهِمَا مِن الآخرِ، وهذا استعمالٌ خاصٌّ في شرطٍ خاصٍّ، لكنَّ الاستعمالَ العامَّ لمصطلحِ شرطِ البخاريِّ، ومسلمٍ، أو شرطِ البخاريِّ، أو شرطِ مسلمٍ يُرَادُ بهِ شرطُهُمَا في جميعِ ما يَتَعَلَّقُ بشروطِ الصحيحِ.
وقد كَثُرَ الكلامُ في تحديدِ المُرَادِ بشرطَيْهِمَا، ثم اسْتَقَرَّ الاصطلاحُ على أنَّ المرادَ بشرطِ الشيخَيْنِ: أنَّ هذا الإسنادَ - من أوَّلِهِ إلى آخرِهِ وعلى هذهِ الصفةِ التي أمامَكَ - موجودٌ في (صحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ) إذا قُلْتُ: على شرطِهِما، أو في (صحيحِ البخاريِّ) إذا قُلْتُ: على شرطِ البخاريِّ، أو في (صحيحِ مسلمٍ) ، إذا قُلْتُ: على شرطِ مسلمٍ.
ولإيضاحِ الكلامِ السابقِ في المرادِ بشرطِ
الشيخَيْنِ حَسَبَ ما اسْتَقَرَّ عليهِ الاصطلاحُ أَذْكُرُ ما يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَطَرَّقَ إلى هذه الدَّعْوَى مِن خَلَلٍ عندَ إطلاقِهَا، وبهِ يَتَّضِحُ المرادُ.
فإذا قلتُ عن إسنادٍ مثلاً: إِنَّهُ على شرطِهِمَا، وفيه رجلٌ ليس مِن رجالِ الشيخَيْنِ، يكونُ الخَلَلُ في الكلامِ مِن جِهَةِ وجودِ رجلٍ لم يُخْرِجَا لَهُ، إذاً هذا الإسنادُ بِحَسَبِ الاصطلاحِ الذي اسْتَقَرَّ ليس على شرطِ الشيخَيْنِ، وإذا قُلْتُ: على شرطِهِمَا - وهناكَ راوٍ لم يُخَرِّجْ لهُ البخاريُّ - فيقالُ: ليس هذا على شرطِهِمَا، لأنَّ فُلانًا أَصْلاً ليس مِن رجالِ البخاريِّ، ومثلَهُ يُقَالُ في (صحيحِ مسلمٍ)، ويَكْثُرُ وجودُ هذا الخَلَلِ في كلامِ العلماءِ فيقالُ: على شرطِهِما؛ فَيَتَبَيَّنُ أنَّ بعضَ الرجالِ لمْ يُخَرِّجَا لهُ، ومَن يُكْثِرُ مِن ذلكَ الحاكمُ، لكنَّ الحاكمَ أصلاً لم يُتْقِن (المستدركُ) ؛ فَيُعْتَبَرُ هذا الخللُ مِن أَخَفِّ ما وَقَعَ في كتابِه، ويَكْثُرُ أيضًا في كلامِ النَّوَوِيِّ، وكلامِ بعضِ المُتَأَخِّرِينَ.
كذلكَ أيضًا: إذا قُلْتُ: على شَرْطِهِمَا، وكانَ بعضُ الرجالِ أَخْرَجَ لهم البخاريُّ، وبعضُهم أَخْرَجَ لهم مسلمٌ، فيكونُ هذا ليس على شرطِ أحدِهِمَا، وأحيانًا يكونُ الرجالُ كُلُّهُم في البخاريِّ، أو كُلُّهُم في مسلمٍ، أو كلُّهُم في الكتابَيْنِ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إذا ذَهَبْتَ إلى (التقريبِ) ، أو إلى (تهذيبِ التهذيبِ) ، أو إلى الكُتُبِ التي تَرْمُزُ لمنْ أَخْرَجَ للراوي تَجِدُ رَمْزَ البخاريِّ، على جميعِ الرجالِ، لكنَّ البخاريَّ ومسلمًا أو أحدَهُمَا لمْ يُخَرِّجْ لهذا الراوي عن هذا الراوي؛ فحينئذٍ لم يُوجَد الإِسنادُ بتمامِهِ وعلى صفتِهِ هكذا في البخاريِّ، ومسلمٍ، أو في أحدِهِمَا، فقدْ يكونُ البخاريُّ ومسلمٌ، لم يُخَرِّجَا لفلانٍ عن فلانٍ، وكلُّ واحدٍ منهما ثقةٌ في نفسِهِ، ولكنَّ روايةَ هذا عن هذا فيها كلامٌ- ضعيفةٌ مثلاً- فحينئذٍ لا يكونُ الإسنادُ على شرطِهِمَا، ولا على شرطِ واحدٍ منهما.
ويَكْثُرُ جِدًّا أنْ يتركَ الشيخانِ أحاديثَ بعضِ الرُّوَاةِ في خصوصِ رواةٍ مُعَيَّنِينَ، لأنَّ هذا الراويَ لم يَضْبِطْ حديثَ شيخِهِ فلانٍ أو لم يُتْقِنْهُ، ويُمَثِّلُونَ لذلكَ بسفيانَ بنِ حُسَيْنٍ، في روايتِهِ عن الزُّهْرِيِّ، أو هُشَيْمِ بنِ بَشِيرٍ - وهو ثِقَةٌ من كبارِ الأَئِمَّةِ - لكنَّهُ في حديثِ الزُّهْرِيِّ ضعيفٌ، يقولونَ: هو سَمِعَ منه صحيفةً فلما خَرَجَ من عندِهِ هَبَّتْ ريحٌ فطارت الصحيفةُ ولم يُدْرِكْهَا، فصارَ يُحَدِّثُ مما عَلِقَ في ذهنِهِ من الصحيفةِ، فغَلِطَ في هذه الأحاديثِ، وانْتَبَهَ لهُ الأَئِمَّةُ وَضَعَّفُوا حديثَهُ عن الزُّهْرِيِّ.
- ومنزلةُ البخاريِّ ومسلمٍ عاليةٌ جِدًّا؛ فإذا قيلَ لهُ على شرطِهِما، أو شرطِ أحدِهِمَا، تَطْمَئِنُّ له النفسُ؛ لذا وَجَبَ التَّحَقُّقُ مِن قضيَّةِ شَرْطِهِمَا.
يقولُ العلماءُ:معروفٌ أنَّ رجالَ البخاريِّ ومسلمٍ؛ ليسوا على درجةٍ واحدةٍ:
- فمنهم مَن أخرجَ له الشيخانِ لكنْ ليس اعتمادًا.
وإِنَّمَا أَخْرَجَا لهُ أحاديثَ هي عندَهُمَا مِن طُرُقٍ أخرى؛ فحينئذٍ ليس الاعتمادُ على هؤلاءِ الراوةِ، وإِنَّمَا الاعتمادُ على غيرِهِمْ، لكنْ يَسُوقُونَ طُرُقًا أُخْرَى فيها هؤلاءِ الرُّوَاةُ المُتَكَلََّمُ فيهم؛ فإذا وَرَدَ عندَكَ إسنادٌ خارِجَ الكتابَيْنِ - فيه هذا الرجلُ الذي أَخْرَجَا له مِن غيرِ أنْ يَعْتَمِدَا عليهِ وإِنَّمَا أَخْرَجَا لهُ متابعةً، أو مقرونًا؛ فلا يَصِحُّ أنْ تَقُولَ إنَّ هذا الإسنادَ على شرطِ الشيخَيْنِ، إذا كان الحديثُ الذي مَعَكَ أصلاً يُعْتَمَدُ عليهِ.
مثلَ: محمدِ بنِ إسحقَ، ومحمدِ بنِ عَجْلانَ في (مسلمٍ).
- وعاصمٍ أبي النَّجُودِ في (البخاريِّ).
وكما لو لَقِيَ البخاريُّ أحدَ الراوةِ مرةً واحدةً فأَخَذَ عنهُ حديثًا وما عَرِفَهُ، ولكنَّهُ أَخْرَجَ له حديثًا مقرونًا بِغَيرِهِ بمعنى أَنَّهُ لم يَعْتَمِدْ عليهِ، وإِنَّمَا فعلَ ذلك لتكثيرِ الطُّرُقِ، ووافقَ أنَّ هذا الرجلَ كان مِن شَدِيدِي الضُّعَفَاءِ بلْ رُبَّمَا كُذِّبَ، ولكنْ لا التفاتَ إلى روايتِهِ، وإِنَّمَا الاعتمادُ على الروايةِ الأُخْرَى؛ فحينئذٍ لا يُقَالُ: إنَّ هذا الراويَ على شرطِ البخارِيِّ.
وَأَدَقُّ مِن هذا أنَّ هناك رجالاً أَخْرَجَا لهم في الأصولِ،
ولكنْ تَجَنَّبَا بعضَ أحاديثِهِم؛ لأنَّهُمَا عَرَفَا أنَّهُمْ أَخْطَأُوا في هذهِ الأحاديثِ، وَأَخْرَجَا مِن أحاديثِهِم ما عَرَفَا أنَّهُم قد أصابُوا فيهِ؛ فحينئذٍ يقولُ الأَئِمَّةُ: ما كانَ خارجَ الكتابَيْنِ عن هؤلاءِ الرُّوَاةِ المُتَكَلَّمِ فيهمِ ليسَ على شرطِ البخاريِّ ومسلمٍ، وهذا الاعتراضُ كثيرًا ما يَرِدُ على دعوى أَئِمَّةٍ كثيرينَ، أنَّ هذا الحديثَ المُعَيَّنَ على شرطِ البخاريِّ ومسلمٍ، ويُمَثِّلُونَ لهذا بِيَحْيَى بنِ أيُّوبَ، وإسماعيلَ بنِ أبي أُوَيْسٍ عندَهُمَا، وبِسُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ عندَ مسلمٍ، فما عُرِفَ أنَّ سُهَيْلاً مثلاً غَلِطَ فيه وَتَجَنَّبَهُ مسلمٌ لا يكونُ على شرطِهِ؛ لأَنَّهُ انْتَقَى مِن أحاديثِهِ، ومثلَ: أحاديثِ سِماكِ بنِ حَرْبٍ في مسلمٍ كذلِكَ.
وَأَدَقُّ مِمَّا تَقَدَّمَ كلِّهُ أَنَّهُ مَرَّ بنا أنَّ شروطَ الحديثِ الصحيحِ الرابعِ والخامسِ، هما الشُّذُوذُ والعِلَّةُ، فالإسنادُ أحيانًا يكونُ لا غُبَارَ عليهِ من جِهَةِ الرُّوَاةِ، ومِن جِهَةِ الاتصالِ، فيكونُ مثلاً على شرطِ البخاريِّومسلمٍ، ولكنْ تَقَدَّمَ أنَّ ما قيلَ فيهِ أَصَحُّ الأسانيدِ لاَ بُدَّ مِن التَّأَكُّدِ ألاَّ يكونَ شَاذًّا، وألاَّ يكونَ مُعَلَّلاً، ولهذا قد تَجِدُ حديثًا خَارِجَ (الصحيحَيْنِ) إسنادُهُ، أَخْرَجَا بمثلِهِ أحاديثَ في الأصولِ، ولكنْ تَجَنَّبَا هذا الحديثَ لأنَّ فيه عِلَّةً، وأحيانًا يَتْرُكَانِ من الحديثِ لفظةً؛ لأنَّهُمَا يَظُنَّانِ أنَّ الراويَ أخْطَأَ فيها وَيُخْرِجَانِ باقيَ الحديثِ؛ فلا تكونُ هذه اللفظةُ على شرطِهِمَا وإنْ كانا قد أَخْرَجَا باقيَ الحديثِ، وهذا مِن أَدَقِّ ما يكونُ. وكثيرًا ما يَقَعُ الأَئِمَّةُ وبعضُ الباحثينَ في إطلاقِ دَعْوَى أنَّ هذا الحديثَ على شرطِ الشيخَيْنِ، ويَتَطَرَّقُ إليها الخَلَلُ مِن هذه الجِهَةِ.
مثالُ ذلك:حديثٌ رَوَاهُ عبدُ الرزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عن عطاءِ بنِ يَسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: ((لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ))، وهو حديثٌ مشهورٌ، هذا الإسنادُ رَوَى الشيخانِ بهِ أحاديثَ كثيرةً موجودةً في الكتابَيْنِ، لكنَّ هذا الحديثَ لا نقولُ: إنَّهُ على شرطِهِمَا، لأنَّ لَهُ عِلَّةً: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عن زيدِ بنِ أسْلَمَ فما ذَكَرُوا أبا سعيدٍ الخِدْرِيَّ، بمعنى أَنَّهُ عن عطاءٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلاً؛ فهذه عِلَّةٌ تَمْنَعُ مِن أنْ يَلْحَقَ هذا الحديثُ بشرطِ الشيخَيْنِ.
وَمِمَّنْ أَطَالَ البحثَ في هذا الموضوعِ الحافظُ في (نُكَتِهِ على ابنِ الصلاحِ) في كلامِهِ على (المُسْتَدْرَكِ) ومواضعَ أُخْرَى، وَيُنَبِّهُ عليه دائمًا في بعضِ كُتُبِهِ، وإنْ كانَ يَقَعُ أحيانًا فيما يُخَالِفُهُ عندَ التَّطْبِيقِ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد
قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: ( (1) قالَ الحافظُ: (وتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بتَفَاوُتِ هذه الأَوصافِ) أيْ: تَتَفَاوَتُ رُتَبُ الْحَدِيثِ الصحيحِ بتَفَاوُتِ هذه الأَوْصَافِ: (اتِّصَالِ السنَدِ - العدالةِ - تمامِ الضبطِ- عدَمِ الشذوذِ - عَدَمِ العِلَّةِ)، وبخاصَّةٍ تَمَامُ الضبْطِ.
وبذلك تَتَفَاوَتُ رُتَبُ الْحَدِيثِ الصحيحِ:
بمعنى أنَّ هناك حديثاً صحيحاً مِن أعلى الدَّرَجَاتِ.
- وهناك حديثاً صحيحاً مِن أوْسَطِ الدرجاتِ.
- وهناك حديثاً صحيحاً مِن أَنْزَلِ الدَّرَجَاتِ.
ومَثَّلَ الحافِظُ لهذا بأَمْثِلَةٍ:
(1) فالْحَدِيثُ الصحيحُ مِن أَعْلَى الدَّرَجاتِ هو ما يُسَمَّى: بأَصَحِّ الأسانيدِ، على اختلافٍ بينَهم:
أ- فبعضُهم قالَ: أَصَحُّ الأسانيدِ (السِّلسلةُ الذهبِيَّةُ): ما يَرْوِيهِ مالكٌ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، وهو قولُ البُخاريِّ.
ب- وبعضُهم قالَ: أَصَحُّ الأسانيدِ ما يَرويهِ: الزُّهْرِيُّ، عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، عن أبيهِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ.
ج_ وبعضُهم قالَ: أصَحُّ الأسانيدِ ما يَرويهِ: مُحَمَّدُ بنُ سِيرينَ، عن عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ.
د- وبعضُهم قالَ: أَصَحُّ الأسانيدِ ما يَرويهِ: إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، عن عَلقمةَ بنِ قَيسٍ، عن ابنِ مَسعودٍ.
وللعُلماءِ مِن هذه الأقوالِ مَوْقِفٌ، فقالوا: كلُّ هذه الأسانيدِ مِن أصَحِّ الأسانيدِ، لكنَّ تفضيلَ بعضِها على بعْضٍ لا يَنْبَغِي، لكنْ نُقَيِّدُ إمَّا بالصحابِيِّ، أو بالبَلَدِ.
- فيُمْكِنُ أنْ أَقُولَ: أصَحُّ الأسانِيدِ عن: ابنِ مَسعودٍ: ما يَرويهِ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، عن عَلقمةَ، عن ابنِ مَسعودٍ.
- ويُمْكِنُ أنْ أَقولَ: أَصَحُّ الأسانيدِ عن:أبي هُريرةَ: ما يَرويهِ محمَّدُ بنُ سِيرينَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ.
فإذا وُجِدَ للصحابِيِّ أكثَرُ مِن إسنادٍ كلُّها مِن أصَحِّ الأسانيدِ، مِثْلِ: ابنِ عمرَ؛ فمِنهم مَن قالَ: أَصَحُّ الأسانيدِ مالكٌ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عمرَ.- ومِنهم مَن قالَ: الزُّهْريُّ، عن سالِمٍ، عن أبيهِ.
- ومنهم مَن قالَ: غيرَ ذلك.
فنقولُ: لا نُفَاضِلُ، بلْ كُلُّهَا مِن أصَحِّ الأسانيدِ.
ومنهم مَن قالَ: يُمْكِنُ أنْ نُقَيِّدَ بالْجِهَةِ؛
فأقولَ مَثَلاً: أصَحُّ أسانيدِ الْمَكِّيِّينَ ما يَرْوِيهِ سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن عمرِو بنِ دِينارٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ.
(2) ودونَها في الرُّتْبَةِ: مَثَّلَ لها ابنُ حَجَرٍ برِوايةِ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ عن ثابتٍ الْبُنَانِيِّ عن أنَسِ بنِ مالِكٍ، أو بُرَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي بُرْدَةَ، عن جَدِّهِ، عن أبيهِ أبي مُوسَى.
وهذه الروايةُ والرواياتُ التي قَبْلَها لا تُعْتَبَرُ مِن الدَّرَجَةِ العُلْيَا مِن الصحيحِ؛ لأنَّ هناك مَن تَكَلَّمَ في مِثْلِ هؤلاءِ الرُّوَاةِ، فرِوايةُ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنَسٍ، لم يُحْتَجَّ بها، وإنما اعْتَبَرُوهَا في الشواهِدِ والْمُتَابَعَاتِ، وأَمَّا مُسْلِمٌ فاحْتَجَّ بها.
(3) ودونَها في الرُّتْبَةِ: مثلُ: رِوايةِ سُهَيْلِ بنِ أبي صالِحٍ عن أبيهِ صالِحٍ السَّمَّانِ -واسمُه ذَكْوَانُ- عن أبي هُريرةَ.
أو ما يَرْوِيهِ العَلاءُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن أَبِيهِ، عن أبي هُريرةَ، وهاتانِ الرِّوايتانِ لم يَحْتَجَّ بهما البُخاريُّ، وإنما احْتَجَّ بهما مُسْلِمٌ.
قالَ الحافِظُ: (فإنَّ الجميعَ يَشْمَلُهُم اسمُ العَدالةِ) و(الضبْطِ) إلاَّ أنَّ للمَرْتَبَةِ الأُولَى مِن الصِّفَاتِ الْمُرَجِّحَةِ ما يَقتضِي تَقديمَ رِوايتِهم على التي تَلِيهَا، وفي التي تَلِيهَا مِن قُوَّةِ الضَّبْطِ ما يَقتضِي تقديمَ رِوايتِهم على الثالثةِ... إلخ.
دَرجاتُ الْحَدِيثِ الصحيحِ:
هناك دَرجاتٌ للحديثِ الصحيحِ غيرُ الدَّرَجاتِ التي سَبَقَتْ:
1- ما أَخْرَجَهُ البُخاريُّ ومسلِمٌ.
2- ما أَخْرَجَهُ البُخاريُّ.
3- ما أخْرَجَهُ مسلِمٌ.
4- الْحَدِيثُ الصحيحُ إذا كان رجالُه رجالَ البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ؛ فهو حديثٌ صحيحٌ على شَرْطِ البُخاريِّ ومُسْلِمٍ.
5- الْحَدِيثُ الصحيحُ على شرْطِ البُخاريِّ.
6- الْحَدِيثُ الصحيحُ على شرْطِ مُسْلِمٍ.
7- الْحَدِيثُ الصحيحُ، لكنْ ليس على شَرْطِهِمَا.
(2) قولُه: (ومِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحيحُ البُخَارِيِّ، ثم مسلِمٍ، ثم شَرْطُهُمَا).
هذه المسألةُ تَكَلَّمَ عنها الحافِظُ في شَرْحِه (للنُّخْبَةِ) بما خُلاصتُه: أنه قد حَصَلَ نِزاعٌ بينَ العُلماءِ:
1- فجُمهورُ أهلِ الْحَدِيثِ على تَقديمِ البُخاريِّ على مسلِمٍ؛ والسببُ أنهم رَاعَوْا مَكَانَةَ البُخاريِّ بسببِ الأَصَحِّيَّةِ.
2- وهناكَ نَفَرٌ يَسيرٌ (مِن أهلِ الْمَغْرِبِ ومِن أهْلِ الْمَشْرِقِ) قَدَّمُوا صَحيحَ مسلِمٍ على البُخاريِّ، وحُكِيَ هذا القولُ عن أبي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ -رَحِمَه اللهُ- مِن أهْلِ الْمَشْرِقِ حينَما قالَ: (مَا تَحْتَ أَدِيمِ السماءِ أصَحُّ مِن صحيحِ مسلِمٍ).
فإنْ قِيلَ: كيفَ يُقالُ: إنه ليس بسببِ الأَصَحِّيَّةِ، وأبو علِيٍّ يَتكلَّمُ عن الصِّحَّةِ؟
بَيْنَمَا الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في شَرْحِه (للنُّخْبَةِ) لم يَنْفِ وُجودَ مَن يُسَاوِي (صحيحَ مُسْلِمٍ) في الصحَّةِ، لكنه نَفَى أنْ يَكونَ هناك مَن هو أَعْلَى صِحَّةً مِن (صحيحِ مسلِمٍ).
وأمَّا ما نُقِلَ عن الْمَغَارِبَةِ؛ فالذي يَظْهَرُ أنهم قَدَّمُوا صحيحَ مسلِمٍ بسببِ تَرتيبِه، وسِيَاقِهِ للأسانيدِ.
ولكلٍّ مِن (صحيحِ البُخارِيِّ) ، و(صحيحِ مسلِمٍ) ، مَزِيَّةٌ ما عَدَا مسألةَ الصحَّةِ؛ فصحيحُ البُخاريِّ اعْتَنَى بالناحِيَةِ الفِقْهِيَّةِ، فهو يُقَطِّعُ الْحَدِيثَ ويُوَزِّعُهُ في أماكِنَ شَتَّى بحَسَبِ الاستنباطاتِ الفِقهيَّةِ التي يَستَنْبِطُهَا مِن ذلك الْحَدِيثِ.
وأمَّا مسلِمٌ -رَحِمَه اللهُ- فهو يَختارُ أَجْمَعَ الْمَواضِعِ لهذا الْحَدِيثِ، ويَسوقُ طُرُقَ الْحَدِيثِ بأسانيدِها الْمُتَعَدِّدَةِ في مَوْضِعٍ واحدٍ.
والصوابُ في هذه الْمَسألةِ: تقديمُ صحيحِ البُخاريِّ على مسلِمٍ؛ لأنَّ شرْطَ البُخاريِّ في رِجالِ الإسنادِ أَقْوَى مِن شَرْطِ مُسْلِمٍ.
فمَثَلاً: حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، في روايتِه عن ثابتٍ لم يَحْتَجَّ بها البخاريُّ؛ لأنَّ حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ، اخْتَلَطَ في آخِرِ عُمْرِه، وأمَّا مُسْلِمٌ؛ فاجْتَهَدَ وأَخْرَجَ هذه الروايةَ؛ فالبُخارِيُّ أكْثَرُ شِدَّةً مِن مسلِمٍ، فهو يَنتقِي أصَحَّ الصحيحِ، ويَجْتَنِبُ ما فيه أَدْنَى كَلامٍ.
ولذلك تَجِدُ الأحاديثَ الْمُنْتَقَدَةَ على البُخاريِّ أقلَّ مِن الأحاديثِ المنتَقَدَةِ على مسلِمٍ، فمَجموعُ الأحاديثِ التي انْتَقَدَهَا الدارَقُطْنِيُّ على البُخارِيِّ ومسلِمٍ 220 حديثاً.
منها: ما اتَّفَقَ البُخارِيُّ ومسلِمٌ على إخراجِها.
ومنها: أحاديثُ أَخْرَجَها البُخَارِيُّ.
ومنها: أَحاديثُ أَخْرَجَها مسلِمٌ فقط.
فالأحاديثُ التي اتَّفَقَ البُخاريُّ ومسلِمٌ على إخراجِها (110) حديثاً.
وانْفَرَدَ البُخاريُّ بـ(32) حديثاً، وانْفَرَدَ مُسلِمٌ بـ (78) حديثاً.
ومِن حيثُ اتِّصَالُِ السنَدِ:شَرْطُ البُخاريِّ أَقْوَى مِن شَرْطِ مُسْلِمٍ؛ فمسلِمٌ يَكتفِي بِمُجَرَّدِ المعاصَرَةِ، والبُخاريُّ يَشترِطُ أنْ يَكونَ الراوِي قد ثَبَتَ له لِقاءُ مَن رَوَى عنه ولو مَرَّةً، لكنْ هل مَذهبُ البُخاريِّ أَصَحُّ، أو مَذْهَبُ مُسْلِمٍ؟
والصوابُ - واللهُ أَعْلَمُ- التفصيلُ:
- فإنْ كان هناك قَرِينَةٌ يُمْكِنُ أنْ تُدَلِّلَ على أنَّ هذا الراويَ يُمْكِنُ أن يَسْمَعَ مِن ذلك الشيخِ، فالأصْلُ الاتِّصالُ.
- وإن لم يَكُنْ هناكَ قَرينةٌ قَوِيَّةٌ، فأنا أَتَوَقَّفُ على الْحُكْمِ على الْحَدِيثِ بالاتِّصالِ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: عبد العزيز السعيد (مفرغ)
القارئ: ( (ومن ثَـمَّ قُدِّمَ صحيح البخاري، ثم مسلمٌ، ثم شرطهما).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (ذكر المؤلف قبل ذلك، أن مراتب الصحيح تتفاوت باختلاف هذه الأوصاف المشترطة في راوي الحديث الصحيح.
ذكر أنه لتفاوت هذه الأوصاف:
-قدم صحيح البخاري.
-ثم صحيح مسلم. -ثم شرطهما. يعني: أن صحيح الإمام البخاري مقدم على جميع كتب السنة، فأصحها بعد كتاب الله، كتاب البخاري رحمه الله؛ لأن البخاري في كثيرٍ من مواضعه استجمع من الأحاديث ما اشتمل على أعلى شروط الصحة، وهذا هو الذي جعله يقدم على كثيرٍ من الكتب. الإمام البخاري يخرج في صحيحه على قسمين: المعلقات، يعني: التي يذكرها ببعض الإسناد أو بدون إسناد، يعني: يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو يخرجها ببعض الإسناد، يعني: ترك بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم راوياً، أو راويين، أو ثلاثةً، أو أربعةً، أو خمسةً، أو اكتفى بذكره، إلى أن يكتفي بذكر النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قال البخاري: قال عكرمة، عن ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يسمى معلقاً؛ لأنه بينه وبين عكرمة رواةً ليسوا مذكورين.هذه المعلقات تزيد على الألف، هذه خارجة عن الصحيح، ما تذكر على أنها من الصحيح؛ لأن الصحيح الذي يذكره العلماء، ويذكرون أن كتاب البخاري أصح الكتب، بناءً عليه هي الأحاديث المسندة التي يرويها البخاري بسنده إلى النبي عليه الصلاة والسلام، هذه المسندات في صحيح البخاري هذه في جملتها من أعلى أنواع الصحيح؛ لأنه انتقى من الرجال، والرواة، ومن العناية باتصال السند ما فاق به كثيراً ممن اشترط الصحة.فالإمام البخاري رحمه الله في صحيحه جعل فيه من الأسانيد أسانيد قوية، لا من حيث الاتصال، ولا من حيث ثقة الرواة، ولا من حيث سلامتها من الشذوذ والإعلال، من أجل هذا كان صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله. (موطأ) الإمام مالك هو في كثير من أسانيده إن لم يكن جميعها إلا شيئاً يسيراً الأحاديث التي ساقها بإسناده، أسانيد عالية الصحة؛ لأنها من الأسانيد التي وصفت بأنها أصح الأسانيد، يروي عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أو الزهري، عن أنس، أو يروي عن محمد بن القاسم، عن أبيه، عن جده، عن عائشة رضي الله عنها، يروي أحاديث عالية في الإسناد. لكن(موطأ)مالك لم يكن (كصحيح البخاري)؛ لوجود البلاغات التي في (موطأ)مالك، البلاغات هي التي يقول فيها مالك: (بلغني عن عمر، بلغني عن رسول الله، فهي بمنزلة المعلقات في البخاري، لكن العلماء رحمهم الله يقولون: الإمام البخاري يفترق عن مالك في (الموطأ)؛ لأن الإمام مالكاً في (الموطأ) جاء بهذه البلاغات محتجّاً بها. أما الإمام البخاري رحمه الله فلا يحتج إلا بالمسند. فإذا قارنا بين مسندات الإمام البخاري، وبين (موطأ)مالك، مع بلاغاته، وجدنا أن (صحيح البخاري) أصح؛ لأن الإمام مالكاً عنده بلاغات وفيها انقطاع فلم تستوف شروط الصحة. يأتي في المرتبة الثانية: بعد (صحيح البخاري): صحيح الإمام مسلم، وهذا عند النقاد والحفاظ يقولون: صحيح مسلم يأتي في الدرجة الثانية بعد صحيح البخاري، ثم بعد ذلك ما كان على شرط الإمام البخاري ومسلم. الشرط هنا ليس المراد الرجال، ولكن المراد بالشرط شيءٌ أعم من الرجال، شرط البخاري ومسلم للعلماء فيه تفسيرات؛ لأن الإمام البخاري ومسلماً لم يذكرا لنفسيهما شرطا؛ فالتمس العلماء شرط البخاري ومسلم. لكن الذي يجزم به أنه ليس المراد لا يصح أن يقال: على شرطهما لوجود الرواة فقط، بل لا بد من استيفاء الشروط المعتبرة في الصحة، إضافة إلى وجود أولئك الرواة المخرج لهم في الصحيح مجتمعين في الإسناد. - الإمام مسلم خرج لسِمَاك، والبخاري خرج لعكرمة؛ فإذا جاءنا حديث سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس فلا يقال: هذا على شرط البخاري ومسلم؛ لأن سماكاً خرج له مسلم. - كذلك:إذا جاءنا من رواية غير شعبة، أو غير الثوري، عن سماك، فلا يمكن إحالته على (صحيح مسلم)، إذا جاء الحديث فيه: سماك، وهو من غير رواية شعبة، ولا الثوري، فلا يقال: هذا على شرط مسلم؛ فالشرط مختلف فيه اختلافاً كبيراً جداً. لكن الذي يهمنا أن ما كان في صحيح البخاري، أو كان في مسلم، أو كان على شرطهما، فهذا هو الترتيب. إذا جاءنا تعارض حديث في البخاري ومسلم ولم يمكن الجمع نقدم الذي في البخاري. وإذا جاءنا حديث في مسلم ووجدنا حديثاً آخر يخالفه، وهو على شرطهما نقدم ما في صحيح مسلم، هكذا ذكر بعض العلماء أن فائدة الترتيب هنا، لأجل التقديم عند التعارض، وهذا فيه كلام. القارئ: ( (وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معللٍ ولا شاذٍّ هو الصحيح لذاته، وتتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف، ومن ثَمَّ قدم صحيح البخاري، ثم مسلم، ثم شرطهما). قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (قال المؤلف رحمه الله: (ومن ثم قدم صحيح البخاري، ثم مسلم، ثم شرطهما) يعني: من أجل تفاوت هذه الأوصاف بين الرواة، ينبني على ذلك: الاختلاف في الأحاديث قوةً وضعفاً؛ فهذه القوة لما راعى الشيخان البخاري ومسلم، أعلى الدرجات، كان ذلك سبباً في تقديم صحيحيهما على كتب الحديث الأخرى؛ فقدم البخاري، ثم قدم مسلم. قدم (صحيح البخاري)؛ لأن شرطه ظهر قوةً أكثر في كتابه، على اعتبار أن الإمام البخاري، كان أمكن من الإمام مسلم في علم الحديث، وقد اعتنى بتخريج الأحاديث الصحاح؛ فاختار أكثرها من أعالي الصحاح، وتمكن رحمه الله من إيداع جملة كبيرة من الأحاديث الصحاح التي لم ينتقدها العلماء. ولهذا كانت الأحاديث المنتقدة عليه قليلة؛ لأنه اجتهد في تحرير هذه الأحاديث الصحيحة، واجتهد في اختيار ما تمكنت فيه أوصاف الصحيح. ثم جاء بعده تلميذه الإمام مسلم رحمه الله؛ فألف كتابه (الجامع الصحيح)، إلا أن الإمام مسلما - رحمه الله -كان صحيحه أقل صحة من صحيح شيخه البخاري. ولهذا كانت الأحاديث المنتقدة على (صحيح مسلم)، أقل من الأحاديث المنتقدة على (صحيح البخاري)، وإن كان الكتابان فيما انتقد عليهما من الأحاديث وجهٌ في تخريج هذه الأحاديث يقوى في كثير من الأحيان، ويضعف في أحيانٍ أخرى. ولهذا لما نوزع الشيخان في أحاديث لم تكن هذه الأحاديث كثيرة، وإنما كانت قليلة، إلى جانب ما خرجاه من الأحاديث. الرواة الذين خرج لهم البخاري وانتقدوا أقل من الرواة الذين خرج لهم مسلمٌ فانتقدوا. والعلماء - رحمهم الله - لما جعلوا موازنة بين الأحاديث التي انتقدت على مسلم، والأحاديث التي انتقدت على البخاري، جمعوا الأحاديث التي انتقدت على البخاري فرأوا أن هذه الأحاديث: - إما أن تكون من الأحاديث التي وقع فيها خلافٌ كبيرٌ بين العلماء، ولكلٍ وجهةٌ قويةٌ؛ فوافق البخاري غيره من الأئمة، وخالفه آخرون، وهذا في كثيرٍ مما انتقد على البخاري. - وقسمٌ انتقد على الإمام البخاري، لكن كان جانب البخاري فيه أرجح؛ لظهور القرائن الدالة على صحة ما ذهب إليه البخاري. - ثم الأحاديث التي نوزع فيها البخاري، وكان غيره أقوى قرينةً، أحاديث قليلة. - أما الإمام مسلم - رحمه الله - فإنه كما ذكر أهل العلم: الأحاديث التي انتقدت عليه يعني لم تكن بهذه الدرجة - مثل الإمام البخاري- لأن قرائن البخاري فيما اختاره كانت أقوى، وحجته أظهر، بخلاف الإمام مسلم رحمه الله. - والعلماء - رحمهم الله- في هذه الأحاديث المنتقدة يرون أنها قليلة، وأنها نزرٌ يسير بالنسبة إلى الأحاديث الصحاح في الكتابين، ولهذا بعض العلماء كابن الصلاح وغيره يعبر بما انتقد عليهما من حروف؛ لقلة هذه الأحاديث، بل وندرتها، وتمكن شرط الصحيح في هذه الأحاديث المخرجة، كان الكتابان مقدمين على غيرهما. والبخاري مقدم على مسلم، وهذا التفضيل إذا قورن المجموع بالمجموع. أما إذا قارنا الأفراد بالأفراد، فقد يكون في (صحيح مسلم) أحاديث أصح من (صحيح البخاري). - كذلك:تفضيل ما في الصحيحين على غيرهما، هذا باعتبار المجموع. فإذا جئت (بمسند) الإمام أحمد بمجموعه؛ وقارنته مع أحاديث البخاري مجموعةً ظهر أن أحاديث البخاري أصح، لكن قد توجد بعض الأحاديث في مسند الإمام أحمد أصح من الأحاديث التي في صحيح الإمام البخاري. كلام العلماء هنا إنما هو بمقارنة المجموع مع المجموع، وليس بمقارنة الجميع مع الجميع، يعني: ليس بمقارنة الأفراد، وإنما هو مقارنة المجموع.وهذا كما يكون عندنا جماعة من الناس عددهم عشرون، وجماعة أخرى عددهم عشرون، فتقول: هذه الجماعة أقوى من هذه الجماعة، لكن قد يكون في هذه الجماعة شخص، أو شخصان، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أقوى من أربعة، أو خمسة، من أولئك. كذلك: الصحيحان فمجموع أحاديث البخاري أصح من مجموع أحاديث مسلم، لكن في (صحيح مسلم) أحاديث أصح مما في (صحيح البخاري). - كذلك:إذا جئنا بالصحيحين وقابلناهما بغيرهما قلنا:(صحيح البخاري) أصح من (سنن أبي داود)، أو أصح من (صحيح ابن خزيمة) ، أو (أصح من مستدرك الحاكم) ، هذا على اعتبار المجموع، لكن على اعتبار الأفراد، قد يقع في بعضها ما هو أصح مما في صحيح الإمام البخاري. (ثم شرطهما) يعني يقدم (صحيح البخاري)، ثم (مسلم) ثم شرطهما. شرط البخاري ومسلم ليس معلوماً علماً قطعيّاً؛ لأنهما ما نقل عنهما التنصيص على هذا الشرط، ولهذا التمس العلماء شرطاً لهما. وبما أن الكتاب المدروس يتعلق بالحافظ ابن حجر، فإن الحافظ ابن حجر لما تكلم عن أحاديث (المستدرك)، في كتابه (النكت) ، ذكر أن الذي يكون على شرط البخاري من الأسانيد، أو على شرط مسلم هو الإسناد الذي يخرج له الإمام البخاري، أو يُخَرِّج الإمام مسلم لرواته مجتمعين.ويكون التخريج في الاحتجاج.
والشرط الثالث:أن يكون سالماً من العلل.
التخريج لهما، أو التخريج على سبيل الاجتماع يعني بذلك:
أننا إذا وجدنا إسناداً؛ فلا بد أن يكون البخاري خرج هذا الحديث عن فلان، عن فلان، عن فلان، يعني: لا بد أن يكون في الإسناد فلان، عن فلان، روايتهما موجودة في (صحيح البخاري)، فإذا رأينا حديثاً، قال فيه البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وجاءنا حديث في خارج الصحيح، هذا نقول: على شرط البخاري؛ لأن هذه السلسلة، أو هذه رواية عبد الله بن يوسف، عن مالك في البخاري، ومالك عن نافع في البخاري، ونافع عن ابن عمر في البخاري.
لكن إذا كان قد خرج للجميع في الصحيح، لكن ليس من رواية هذا الراوي عن هذا الراوي، وإنما هذا الراوي عن آخر، بمعنى: أنه خرج لهذا عن شيخ، وخرج لذلك عن تلميذ، ولم يخرج البخاري لهذين الراويين، أحدهما يروي عن الآخر، كذلك الإمام مسلم.
فعندنا مثلاً الإمام مسلم خرج في الصحيح لبهز بن حكيم، وخرج لمعمر في الصحيح، لكن ليس في الصحيح حديث يرويه معمر عن بهز، فهنا نقول: خرج مسلم لمعمر، وخرج لبهز، لكن لا على سبيل الاجتماع، وإنما على سبيل الانفراد، فهنا لا يقال: على شرط مسلم.
وهذا يغلط فيه كثير من الناس إذا رأى الرجال خرج لهم مسلم مباشرة قال: على شرط مسلم، هذا غلط، لا بد أن يكونا مجتمعين، فمعمر يروي عن شيوخٍ آخرين، وروايته مخرجة في (صحيح مسلم)، لكن ليس في (صحيح مسلم) رواية معمر عن بهز،
- كذلك:إذا قلنا: على شرطهما؛ فلا بد أن يكون البخاري ومسلم قد خرجا لهذه السلسلة جميعاً.
ويكون التخريج أيضا في الصحيحين؛ لكل واحد منهما على سبيل الاجتماع، عندنا
سفيان بن حسين الواسطي، هذا يروي عن الزهري، الشيخان خرجا لحسين بن سفيان الواسطي، وخرجا للزهري، لكن لا تجد أن هذا يروي عن هذا في صحيح البخاري ولا مسلم، حسين بن سفيان خرجا له من غير روايته عن الزهري، والزهري خرجا له من غير رواية حسين بن سفيان الواسطي.
وهذا يدل على أن الاجتماع لابد منه؛ فمثل هذا ما يمكن أن يقال: هذا على شرط البخاري ومسلم، هما خرجا لهما، لكن لم يخرجا لهما مجتمعين.
- كذلك: لابد أن يكون على سبيل الاحتجاج، يخرج له الشيخان على سبيل الاحتجاج، لكن لو خرجا على سبيل المتابعات أو في المعلقات في البخاري،فهذا لا يقال: على شرط الشيخين، بهز بن حكيم خرج له البخاري تعليقاً، وخرج له مسلم، لكن ما يقال: على شرط الشيخين؛ لأن البخاري ما خرج له شيئاً مسنداً.
مثلاً:عبد الحميد بن جعفر
هذا لا يقال: على شرط البخاري؛ لأن البخاري إنما خرج له تعليقاً؛ فلا بد أن يكونا مجتمعين في الإسناد، وأن يكون التخريج على سبيل الاحتجاج.
والثالث:ألا يكون في الحديث علة
.إذا كان الإسناد معلولاً فهذا لا يقال: على شرط الشيخين؛ فإذا كان من رواية مختلطٍ، أو من رواية مدلسٍ أو نحوهما، فإن الشيخين يخرجان لرواية المختلط، أو المدلس عن طريق الانتقاء من أحاديثه.
فإذا وجدنا مثلاً أن الشيخين خرجا حديثاً لمختلطٍ أو لمدلسٍ؛ فهذا إن لم يكن من المدلسين الذين يقبلون الأئمة أحاديثهم؛ فإن هذا يدل على انتقاء البخاري ومسلم، فإذا وجدنا هذا الإسناد بعينه وفيه هذا المدلس أو المختلط؛ فلا نحكم بأنه على شرط البخاري أو على شرط مسلم.وهذا من المهمات في الحكم على الحديث بأنه على شرط الشيخين.
- كذلك:مما ينبغي أن يعتنى به في بيان شرط الشيخين: ألا يكون الحديث مما أعرض عنه الشيخان، فالإمام مسلم رحمه الله خرج أحاديث تسمى نسخة العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، خرَّج فيها أحاديث انتقى بعض الأحاديث من هذه النسخة وأودعها في الصحيح؛ فالأحاديث التي تركها من هذه النسخة لا يقال: على شرط مسلم؛ لأن الإمام مسلماً أعرض عنها.
- ولهذا العلماء يخطئون الحاكم، يأتي بأحاديث العلاء؛ فيقول: على شرط مسلم، فينتقده العلماء، يقولون: هذه أحاديث أعرض عنها مسلم؛ لأنه انتقى من نسخته انتقاء، فإذا كان البخاري ومسلم قد أخرجا لحديث الراوي على سبيل الانتقاء فلا يحكم لأحاديثه الأخرى أنها على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، أو على شرط أحدهما.
فالحكم على الحديث بأنه على شرط البخاري، أو على شرط مسلم عسيرٌ جداً).
العناصر
مراتب الحديث الصحيح
تتفاوت رتب الحديث الصحيح بتفاوت أوصافه أسباب تفاوت مراتب الحديث الصحيح أمثلة لتفاوت مراتب الحديث الصحيح فوائد معرفة تفاوت مراتب الحديث الصحيح مراتب الحديث الصحيح باعتبار الإسناد: المرتبة الأولى: ما قيل فيه: إنه أصح الأسانيد المرتبة الثانية: أحاديث رواتها في الذروة من العدالة والضبط المرتبة الثالثة: وهي ما تُكلم في بعض رواتها بكلام يسير، الصحيح خلافه المرتبة الرابعة: أحاديث تكلم في رواتها بما لم ينزله عن رتبة الصحيح مراتب الحديث الصحيح بالنظر إلى من خرجه: المرتبة الأولى: ما اتفق عليه البخاري ومسلم المرتبة الثانية: ما انفرد به البخاري عن مسلم المرتبة الثالثة: ما انفرد به مسلم عن البخاري المرتبة الرابعة: ما لم يخرجاه، وكان على شرطهما المرتبة الخامسة: ما لم يخرجاه، وكان على شرط البخاري المرتبة السادسة: ما لم يخرجاه، وكان على شرط مسلم المرتبة السابعة: ما صح من الأحاديث مما ليس على شرطهما الحاكم وابن الصلاح أول من قسما مراتب الحديث الصحيح بالنظر إلى من خرجه الحديث المتفق عليه: معنى الحديث المتفق عليه الفرق بين قولهم: (رواه الشيخان) وقولهم: (متفق عليه) سبب كون الحديث المتفق عليه من أعلى مراتب الحديث المفاضلة بين الصحيحين: صرح الجمهور بتقديم (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم) أوجه ترجيح (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم): الوجه الأول: أن ما انتقد على مسلم إخراج أحاديثهم أكثر مما انتقد على البخاري الوجه الثاني: أن شرط البخاري في الاتصال أقوى من شرط مسلم الوجه الثالث: أن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل مما انتقد على مسلم الوجه الرابع: أن مسلمًا تخرج على البخاري، واستفاد منه قول شيخ الإسلام في التفضيل بين البخاري ومسلم رأي أبي علي النيسابوري في تفضيل (صحيح مسلم) تفضيل المغاربة (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري) الجواب على من فضل (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري) من جهة الصحة قد يقدم (صحيح مسلم) في حسن التصنيف على (صحيح البخاري) قد يقدم (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري) في بعض المواضع الأحاديث المنتقدة على الصحيحين
الأحاديث المنتقدة على البخاري الأحاديث المنتقدة على مسلم شرط الشيخين: المراد بشرط الشيخين ما استقر عليه الاصطلاح في المراد بشرط الشيخين يكثر الخلل عند بعض العلماء في تطبيق شرطي البخاري ومسلم ذكر من يقع عنده الخلل في تطبيق شرطي البخاري ومسلم ذكر بعض الأمثلة التي لم يتوفر فيها شرطا صاحبي الصحيحين ليس كل من أخرج له الشيخان يكون على شرطهما أمثلة لمن أخرج لهم الشيخان وليس على شرطهما ولكن لأمر آخر البخاري يشترط اللقيا مع السماع في المعنعن أما غيره فيكتفي بالمعاصرة وجه ترجيح شرط البخاري على مسلم بيان أن (صحيح البخاري) أشد اتصالاً من (صحيح مسلم) فائدة: أطال ابن حجر في ذكر شروط الشيخين في (النكت على ابن الصلاح) أصح الأسانيد: أصح الأسانيد إلى ابن عمر أصح الأسانيد عند البخاري المعتمد أن لا يقال إن هذا الإسناد من أصح الأسانيد
الأسئلة
س1: عدد مراتب الحديث الصحيح باعتبار الإسناد.
س2: عدد مراتب الحديث الصحيح باعتبار من خرجه.
س3: ما الفرق بين قولهم: (متفق عليه) وقولهم: (رواه الشيخان)؟
س4: بين بالتفصيل مسألة المفاضلة بين الصحيحين.
س5: بين بالتفصيل مسألة شروط الشيخين.
س6: اذكر أصح الأسانيد إلى ابن عمر رضي الله عنهما.
شرح نخبة الفكر للشيخ عبد الكريم الخضير (مفرغ)
قال الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير: (أحسن الله إليك:
"وتتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف، ومن ثم قدم صحيح البخاري، ثم مسلم، ثم شرطهما".
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "تتفاوت رتبه –رتب الصحيح- بتفاوت هذه الأوصاف" تتفاوت رتب الحديث الصحيح بتفاوت هذه الأوصاف، عندنا الأوصاف: العدالة، والضبط، اتصال السند، انتفاء الشذوذ، انتفاء العلة، إذا اكتملت هذه الشروط حكمنا على الحديث بأنه صحيح، وجدت هذه الشروط في خمسة أحاديث مثلاً عندنا حكمنا على الأحاديث الخمسة بالصحة هل يعني هذا أن كل حديث من هذه الأحاديث بمنزلة الآخر مائة بالمائة مطابقة تامة؟ هل نقول: إذا حكمنا على الأول بنسبة خمسة وتسعين بالمائة صحيح وعلى الثاني لا بد أن يكون خمسة وتسعين بالمائة لأنهم كلهم ثقات عدول مرضيون؟ لا، عندك زيد وعمرو كلاهما ثقات لكن هل معنى هذا أن الدرجة واحدة في الثقة؟ لا، ولذا قال: "تتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف"، يعني أن درجات الحديث الصحيح تتفاوت بالقوة بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تنبني الصحة عليها، قال ابن الصلاح: "وتنقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العد الحاصر"، لماذا؟ لأن الرواة ما خرجوا من مصنع على هيئة واحدة، يعني السيارات تجيك يعني أول دفعة من الموديل ألف سيارة هل تقول: إن هذه أفضل من هذه إذا كان من كل وجه متطابقة من حيث اللون وغيره، وخرجت لمصنع واحد واحدة، نعم يصنع المصنع من هذه القارورة مليون مثلاً هل تقول: هذه أفضل من تلك؟ لكن كم بين مخلوقات الله من التفاوت! هل يمكن أن تجد شخصين متطابقين من كل وجه؟ لا يمكن، لا يمكن أن تجد اثنين متطابقين من جل وجه، لا يمكن، ولذا قد يضبط هذا الحديث واختل ضبطه أو ينزل ضبطه قليلاً في ذاك الحديث، والثاني العكس، فلذا تفاوتت رتب الصحيح تفاوتاً كبيراً، بحيث زادت أقسامه واستعصت على العاد الحاصر.
يقول ابن حجر في النزهة: "لما كانت هذه الأوصاف" يعني الشروط مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة "اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية، وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما ودنه".
يقول: فمن المرتبة العليا ما أطلق عليه الأئمة أنه أصح الأسانيد، كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، يعني ومالك عن نافع عن ابن عمر، والمعتمد عند أهل العلم ألا يطلق على سند بأنه أصح مطلقاً من غيره، يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
...................................
إمساكنا عن حكمنا على سند
خاض به قوم فقيل مالك
وجزم ابن حنبل بالزهري
........... والمعتمد
بأنه أصح مطلقاً وقد عن نافع بما رواه الناسك عن سالم أي عن أبيه البري اختار بعض أهل العلم أن هناك أسانيد هي أصح من غيرها مطلقاً، لكن المعتمد عند أهل العلم أنه لا يوصف سند بأنه أصح من غيره مطلقاً، يقول: "كالزهري عن سالم عن أبيه، ودونها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، ودونها سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط إلا أن للمرتبة الأولى من الصفات المرجحة ما يقتضي تقديم روايتهم على التي تليها، وفي التي تليها من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة"، الزهري عن سالم عن أبيه هذا شرط الشيخين، وهو أصح الأسانيد عند الإمام أحمد، حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس شرط مسلم فيكون أقل من سابقه، سهيل بن أبي صالح عرف بشيء من سوء الحفظ وهو أقل من التي قبلها. الثالثة: سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مقدمة على رواية من يعد ما ينفرد به حسناً كمحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الحافظ: "ومن ثم قدم صحيح البخاري ثم مسلم ثم شرطهما" ، قدم صحيح البخاري ثم صحيح مسلم ثم ما حوى شرط البخاري ومسلم، ثم ما حوى شرط البخاري فقط، ثم ما حوى شرط مسلم فقط، ثم ما صح عند غيرهما مما ليس على شرطيهما. وأول من صنف في الصحيح المجرد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله تعالى-، ثم تلاه تلميذه وخريجه الإمام مسلم بن الحجاج، وأما قول الإمام الشافعي: "ما على ظهر الأرض كتاب في العلم بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك" فقد كان قبل وجود الصحيحين، قبل وجود الصحيحين لا يوجد أصح من الموطأ، ثم لما وجد الصحيحان -صحيح البخاري وصحيح مسلم- قدما على موطأ الإمام مالك وعلى غيره من الكتب، إذا عرفنا هذا فالصحيحان –أعني صحيح البخاري وصحيح مسلم- أصح الكتب بعد كتاب الله -عز وجل- إجماعاً، وجمهور أهل العلم على أن صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم وأكثر فوائد لإمامة البخاري وتقدمه في الفن ومزيد استقصائه وتحريه، ومسلم تلميذه وخريجه حتى قال الدارقطني: "لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء" وهذا التفصيل من حيث الإجمال، من حيث الإجمال صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم لإمامة البخاري، هذا من حيث الإجمال؛ لأن الغالب أنه إذا كان المؤلف أعلم كان المؤلَف أجود إجمالاً، أما من حيث التفصيل فالإسناد الصحيح مداره على الاتصال وعدالة الرواة وصحيح البخاري أعدل رواة وأشد اتصالاً كما قرره أهل العلم، وبيان ذلك أن الرواة الذين انفرد الإمام البخاري بالإخراج لهم دون مسلم ممن تكلم فيه بالضعف ثمانون راوياً فقط، بينما المتكلم فيه بالضعف مما تفرد به الإمام مسلم مائة وستون راوياً على الضعف، ولا يعني هذا أنه إذا وجد راوي تكلم فيه ممن خرج له في الصحيح، سواءً كان صحيح البخاري أو صحيح مسلم أن الكلام مقبول، ما يلزم، لا يلزم أن يكون الكلام مقبولاً؛ لأن رواة الصحيحين قد جازوا القنطرة كما قرر أهل العلم، لكن الراوي الذي لم يجرح أصلاً لا شك أنه أولى من الراوي الذي تكلم فيه ولو بغير حق. أيضاً: الذين انفرد البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من التخريج لهم بخلاف مسلم، والذي تكلم فيهم عند البخاري غالبهم من شيوخه الذين لقيهم وعرفهم وخبر أحاديثهم بخلاف من تكلم فيه من رواة مسلم فكثير منهم ممن تقدم عصره على عصر الإمام مسلم، ولا شك أن المرء أعرف بحديث شيوخه من حديث غيرهم، وأيضاً أكثر هؤلاء الذين تكلم فيهم عند البخاري إنما يخرج الإمام البخاري أحاديثهم في الشواهد لا في الأصول، وبعض من تكلم فيه في صحيح مسلم خرج له في الأصول، وإن كان الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- لا يستوعب أحاديث هؤلاء الذين وقع الكلام فيهم وإنما ينتق من أحاديثهم ما يجزم بأنهم ضبطوه وأتقنوه مما وفِقُوا عليه، هذا من حيث عدالة الرواة. أما ما يتعلق باتصال الإسناد فإن الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- كان مذهبه بل نقل عليه الإجماع في مقدمة صحيحه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعِن ومن روى عنه بالعنعنة وأمكن اجتماعهما، والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت الاجتماع ولو مرة، وهذا هو المعروف عند أهل العلم، وهذا الذي قرروه أن البخاري لا يحكم بالاتصال بمجرد المعاصرة حتى يثبت اللقاء، هذا الذي تتابع عليه أهل العلم، وبعض المعاصرين كتب في المسألة وذهب إلى أن مذهب البخاري هو مذهب مسلم ولا خلاف بينهما. وعلى كل حال الإمام مسلم رد على من يرى اشتراط اللقاء، وشدد عليه ووصفه بالابتداع، ووصف القول بأنه مخترع، ويقول القائل: لا يمكن أن يصف مسلم الإمام البخاري بهذا القول، حتى لو قيل: إن المراد علي بن المديني وقلنا: إن البخاري يرى هذا القول ومسلم يعرف مذهب شيخه، لا يمكن أن يصف البخاري بهذا القول الشديد، والعلماء قاطبة تتابعوا على هذا، على أن رأي البخاري لا بد من ثبوت اللقاء، إذاً كيف يشنع مسلم ويشدد على من يرى ثبوت اللقاء، ويصف القول بأنه قول مخترع مبتدع، وأنه وجد أحاديث بالعنعنة لا تروى إلا معنعنة ولم يثبت لقاء الراوي لمن روى عنه، وضرب لذلك أمثلة بأحاديث، لكن هذه الأحاديث مخرجة عند مسلم بالتصريح بالتحديث، مسلم يقرر أنها لم ترو إلا معنعنة، ولم يثبت لقاء الراوي لمن روى عنه مع أن مسلم خرج هذه الأحاديث بالتصريح هذا من جهة. الأمر الثاني: كون الإمام مسلم يشنع على المبتدع الذي يقول بهذا القول المبتدع المخترع لا يعني أنه يرد على البخاري، نعم نقول: هذا من شدة تحري البخاري واحتياطه، من شدة تحري الإمام البخاري واحتياطه، وكون بعض المبتدعة يستفيد من قول البخاري في تأييد بدعته لا يعني أننا نرد على الإمام البخاري الذي تحرى واحتاط للسنة. عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما رد على أبي موسى حديث الاستئذان حتى يشهد له غيره احتياطاً وشدة تحري لما ينسب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم يعتمد المعتزلة على هذا الخبر على شدة تحري عمر -رضي الله عنه- وشدة احتياطه، يعتمد المعتزلة في رد خبر الواحد، وإذا أردنا أن نرد على المعتزلة هل نرد على عمر؟ نعم، حينما يرد أهل السنة على المعتزلة الذين يردون خبر الواحد هل هم يردون على عمر -رضي الله عنه-؟ لا، أظن هذا ظاهر، ظاهر وإلا لا؟ عمر -رضي الله عنه- رد خبر الاستئذان على أبي موسى حتى يشهد له غيره، فالإنسان إذا أوجس خيفة وأراد أن يحتاط لنفسه ولدينه وهذا مسئول مسئول عن الدين، أمير المؤمنين، هذه وظيفة ولي الأمر الاحتياط للدين وأهله، الاحتياط للدين وأهله، فكونه يرد خبر الاستئذان على أبي موسى حتى يشهد له غيره لا يعني أن عمر -رضي الله عنه- يرد خبر الواحد، كونه يحتاط لأمر من الأمور ويستغل هذا الاحتياط لأمور أخرى لا يعني أنه يقول بهذا القول المخترع المبتدع، يعني الإمام البخاري حينما يحتاط للسنة ويطلب لصحيحه الشرط القوي هذا لا يعني أنه لا يصحح غير ما اشتمل عليه الشرط، صحح أحاديث فيما نقله الترمذي وغيره دون شرطه في الصحيح، شرطه في الصحيح في غاية القوة، خرج أحاديث في الأدب المفرد صححها أهل العلم وهي ليست على شرطه في الصحيح؛ لأن شرطه في الصحيح أقوى، فكون الإمام مسلم -رحمة الله عليه- يرد على من يقول بهذا القول المخترع نعم يرد على من يجير -يعني بلغة العصر- يجير قول الإمام البخاري تأييداً لمذهبه وبدعته، يعني حينما يحصل كلام فيه إجمال لإمام من أئمة المسلمين ويحتمل أكثر من معنى فيأتي شخص فيحمله على المعنى الذي يريده لغرض ما، فإذا رددنا على هذا الشخص الذي حمل قول الإمام على الغرض الذي يريده فإننا لا نرد على الإمام بل نحمله ونرده إلى نصوصه الواضحة المبينة المفسرة ونترك مثل هذا المجمل. على كل حال المسألة تحتاج إلى بسط طويل، وألف في هذا من قبل المتقدمين كتب في الخلاف بين الإمامين البخاري ومسلم في السند المعنعن لابن رشيد الفهري، وهو من أئمة هذا الشأن كتاب اسمه: (السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن) هذا كتاب نفيس ينبغي أن يطلع عليه طالب العلم، وأهل العلم في كل من كتب في مصطلح الحديث ينسب هذا القول للإمام البخاري، ولا يعني هذا أن الإمام البخاري لا يصحح الحديث إلا باللقاء، نعم هو لا يدخله في صحيحه إلا بثبوت اللقاء، وشرطه في الصحيح شرط عظيم، يعني كونه لا يدخل حديث حتى يصلي ركعتين هل من شرط صحة الحديث أن يصلي ركعتين استخارة؟ هذا من شدة تحريه واحتياطه، ولا يعني هذا أنه.. إن صحح الأحاديث ولو بدون صلاة ركعتين، وصحح أحاديث فيما نقله أهل العلم خارج الصحيح وهي أقل من شرطه في صحيحه، جامع الترمذي وعلله مملوءة بهذا النوع، النقول عن الإمام البخاري. حكى القاضي عياض -رحمه الله تعالى- في إكمال المعلم عن من لم يسمه من المغاربة وسماه الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح القاسم التجيبي، وهو موجود في فهرسته أنهم فضلوا صحيح مسلم على صحيح البخاري، بعض المغاربة فضلوا صحيح مسلم على صحيح البخاري، وهذا القول مفهوم من كلام أبي علي الحسين بن علي النيسابوري، وعلل ابن حزم تفضيل مسلم على البخاري بأنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد. صحيح مسلم فيه مقدمة الكتاب، ثم بعد ذلكم الأحاديث المرفوعة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- سرداً ما في ولا تراجم ولا عناوين، فيه آثار موقوفة قليلة جداً، وفيه معلقات يسيرة عدتها أربعة عشر حديثاً كلها موصولة في الصحيح نفسه على ما سيأتي بيانه في بحث المعلق إلا حديث واحد موصول في البخاري، إذاً المعلقات في صحيح مسلم لا تبحث، الموقوفات أحياناً مسلم له لفتات كما في أحاديث مواقيت الصلاة وهو يسوق الأحاديث بأسانيدها -رحمة الله عليه- قال يحيى بن أبي كثير: "لا يستطاع العلم براحة الجسم" أدخل هذا الخبر الموقوف بل المقطوع على يحيى بن أبي كثير بين أحاديث المواقيت، وهذا نادر عنده، لكن إيش مناسبة هذا الكلام لأحاديث المواقيت؟ "لا يستطاع العلم براحة الجسم" هذا الكلام صحيح لا يستطاع العلم براحة الجسم، لو العلم ينال بالنوم والسواليف بالاستراحات كان كل الناس علماء، صحيح؛ لأن هذا العلم مما حفت به الجنة، ولا شك أنه مكروه ثقيل على النفس، الناس يسولفون وأنت حانٍ ظهرك تقرأ وتحفظ، هذا صعب، فلا يستطاع العلم براحة الجسم، إذاً ما علاقة هذا الكلام بأحاديث المواقيت؟ أحاديث المواقيت التي ساقها الإمام مسلم -رحمة الله عليه- وأعجبه حسن السياق في المتون والأسانيد يريد أن يبين لطالب العلم أن مثل هذا الإتقان وهذا الضبط لا يمكن أن ينال مع الراحة، لا بد له من تعب ومعاناة، فيلفت نظر القارئ إلى مثل هذه الدقائق، وإن أشكل على كثير من الشراح وجود هذا الكلام بين أحاديث المواقيت. أقول: هذا لأبين أن في صحيح مسلم أشياء يسيرة من الموقوفات، أما صحيح البخاري فكثير جداً فيه الأخبار الموقوفة، وفيه المعلقات الكثيرة، فيه أكثر من ألف وثلاثمائة حديث معلق، لكن هذه الأحاديث جلها موصول، كلها موصولة في الصحيح نفسه عدا مائة وستين حديث هذه ليست موصولة تولى وصلها الحافظ ابن حجر وغيره ممن شرح الكتاب، وأفرد لها ابن حجر كتاباً أسماه (تغليق التعليق). إذا كان سبب تفضيل مسلم عند المغاربة كما قال ابن حزم: إنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد، فإن هذا غير راجع إلى الأصحية، بل راجع إلى التجريد، فإذا استثنيي من صحيح البخاري المعلقات والموقوفات لم يتجه ما قاله ابن حزم. وأما المنقول عن أبي علي النيسابوري ولفظه: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم" قالوا عن هذا: بأنه لا يقتضي ترجيح مسلم على البخاري، بل هذا ينفي أن يوجد كتاب أصح من صحيح مسلم وكونه ينفي وجود الأصح لا ينفي وجود المساوي، ولذا لا يحسن أن ينسب إليه الجزم بالأصحية، إذا قلت: لا يوجد أعلم من زيد، هل معنى هذا أنه لا يوجد مساوي له؟ أنت تنفي وجود الأعلم لكنك في الوقت نفسه لا تنفي وجود المساوي له في العلم، وعلى هذا لا يحسن أن ينسب إليه الجزم بالأصحية، وهذا يتأيد بحكاية قول ثالث في المسألة، وهو أن الصحيحين في مرتبة واحدة من حيث الأصحية، هما سواء، لكن جماهير أهل العلم والذي يشهد له الواقع أن صحيح البخاري أشد، أقوى في الصحة، أقوى وهو الذي يؤيده الواقع ويشهد له، لا شك أن الإمام البخاري يتحرى، ولا يعني أننا إذا قلنا: إن صحيح البخاري أصح أن في مسلم أحاديث غير صحيحة، لا، هناك الصحيح وهناك الأصح، على أن مسلماً -رحمه الله تعالى- يسوق الحديث في موضع واحد بطرقه وأسانيده، فيجعل الحديث الذي تكلم فيه من بين هذه الأسانيد المذكورة يرتفع وينجبر الكلام فيه بما ذكر معه. أول من صنف في الصحيحِ ومسلم بعد وبعض الغرب مع
محمد وخص بالترجيحِ
أبي علي فضلوا ذا لو نفع
وهذه المفاضلة إجمالية، ولا تعني أن كل حديث في صحيح البخاري أصح من كل حديث في صحيح مسلم، بل إجمالاً الأحاديث المحكوم عليها بأنها أصح في صحيح البخاري أكثر من الأحاديث الأصح في صحيح مسلم، ثم يلي ما خرجه مسلم في صحيحه عرفنا أن الدرجة الأولى المتفق عليه يعني ما خرجه الشيخان، الثاني: ما تفرد به البخاري، ثم ما تفرد به مسلم، ثم يلي ما خرجه مسلم متفرداً به ما حوى شرطهما، شرط الشيخين معاً، يعني عند غيرهم، وكثيراً ما نسمع الحاكم يقول: صحيح على شرطهما، صحيح على شرطهما، وأحياناً يقول: صحيح على شرط البخاري، وأحياناً يقول: صحيح على شرط مسلم، وأحياناً يقول: صحيح فقط من غير أن يضيفه إلى شرطهما أو شرط واحد منهما فما المراد بشرط الشيخين؟ اختلف العلماء في المراد بشرط الشيخين على أقوال:
جمع من أهل العلم يرون أن المراد بشرطهما رواتهما مع باقي شروط الصحيح، يعني إذا وجدنا هذا الحديث عند أبي داود مثلاً مخرج بإسناد خرج له البخاري ومسلم بالصورة المجتمعة نقول: صحيح على شرطهما، نعم، نقول: صحيح على شرطهما، وجدنا حديث عند أبي داود أو عند غيره من أصحاب السنن مخرج بسند خرج فيه البخاري أحاديث في الصورة المجتمعة ولم يخرج لهم أو لبعضهم مسلم نقول: صحيح على شرط البخاري، إذا وجدنا الحديث خرج برواة أخرج لهم البخاري بالصورة المجتمعة لا يعني أننا نلفق مجرد ما ننظر أن هذا الراوي مرموز له برمز البخاري ومسلم، نقول: شرط البخاري ومسلم ولو روى عن شخص ما روى عنه في الصحيحين أو أحدهم، لماذا؟ لأن بعض الرواة قد يوثق توثيق نسبي في روايته عن بعض الشيوخ، ويضعف في روايته عن آخرين، ولو كان الشيخ الثاني الذي ضعفت روايته عنه ثقة، يعني إذا كان شخص ملازم لشيخ فروى عنه تكون روايته مع طول الملازمة أقوى من رواية غيره، فهذا الشخص الذي لازم هذا الشيخ لو روى عن شيخ آخر ما لازمه تلك الملازمة المطلوبة تكون روايته أقل من روايته عن شيخه الذي لازمه، وإن كان الشيخان في رتبة واحدة من التوثيق، فلا بد من أن يكون الحديث على شرطهما من اجتماع الصورة واكتمالها، فلان عن فلان عن فلان بهذا خرج في الصحيح.
بهذا أقول: قال ابن الصلاح والنووي وابن دقيق العيد والذهبي والحافظ ابن حجر وجمع من أهل العلم، يقول السخاوي: "ويقويه تصرف الحاكم في مستدركه، فإذا كان عنده الحديث قد أخرجا معاً لرواته فإنه يقول: صحيح على شرط الشيخين"، يعني وإن كان الحديث عنده قد أخرج لرواته البخاري فقط قال: صحيح على شرط البخاري، وإن كان عند مسلم فقط قال: صحيح على شرط مسلم وهكذا، وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال: صحيح الإسناد فحسب ولا يضيفه إلى أحد الشيخين، فلا يقول: على شرطهما ولا على شرط واحد منهما.
ومن أصرح ما يستدل به من كلام الحاكم أنه خرج حديثاً من طريق أبي عثمان وقال بعده: صحيح الإسناد، وأبو عثمان ليس هو النهدي، ولو كان النهدي لقلت: إنه على شرطهما، هذا يقوي القول بأن المراد بشرط الشيخين رواة الصحيحين، واضح وإلا ما هو بواضح؟ نعم، طيب الحاكم نفسه في مقدمة المستدرك يقول: "وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات، احتج بمثلهم الشيخان" احتج بمثلهم، إيش يعني مثلهم؟ يعني ما احتج بهم أنفسهم، احتج بمثلهم الشيخان، ولم يحتج الشيخان بهم أنفسهم، هذا يخالف الكلام الذي قررناه؟ يخالف؛ لأن مثل الشيء ليس هو الشيء نفسه، إذا قلت: هذا الكتاب مثل هذا الكتاب يعني أن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب؟ لا، واضح وإلا لا؟ ابن حجر يقرر أن هذا لا يؤثر على ما قرروه، لماذا؟ يقول: "المثلية تستعمل في حقيقتها وفي مجازها -تستعمل في حقيقتها وفي مجازها- فتستعمل في حقيقتها إذا أخرج لرواة غير رجال الصحيحين"، يعني مثل رجال الصحيحين وهم غيرهم، وتستعمل في مجازها إذا خرج لرواة أخرج لهم الشيخان بأنفسهم وأعيانهم، واستعمال اللفظ في معنييه عند الشافعية سائغ، استعمل اللفظ في آن واحد في حقيقته ومجازه ويمنعه الأكثر، ويستدل الحافظ بقصة شخص قال لآخر: اشترِ لي مثل هذا الثوب الذي معك، اشترِ لي مثل هذا الثوب الذي معك، فذهب الوكيل إلى صاحب الثوب نفسه واشترى الثوب، نعم، اشترى الثوب، فلما جاء إلى الموكل قال: أنا ما قلت لك: اشترِ لي الثوب، قلت لك: اشترِ لي مثل هذا الثوب، فتخاصما عند شريح القاضي، فألزم الموكل بأخذ الثوب وقال له: لا شيء أشبه بالشيء من الشيء نفسه، لا شيء أشبه بالشيء من الشيء نفسه، يعني هل هناك هدف للحاكم حينما يعدل عن رواة الصحيحين إلى أمثالهم ونظرائهم؟ هل هناك فائدة؟ نعم، ليس هناك فائدة، يعني لما ترى سيارة تعجبك مع شخص تقول: كم؟ يقول: والله هذه اشتراها فلان بعشرين ألف، تقول له: تراني أنا موكل لك إن وجدت لي مثل هذه، هذه فرصة مثل هذه السيارة بعشرين ألف، سيارة جيدة والسعر مناسب، فذهب إلى صاحب السيارة قال: أعطه إياه بالعشرين، هل لك أن تقول: أنا لا أريد السيارة نفسها أنا أريد مثلها؟ أنت ما حددت سيارة بعينها تريدها، إنما أعجبتك هذه السيارة ولا شيء أشبه بها منها، فعلى هذا يكون استعمال الحاكم للمثلية هنا للرواة أنفسهم، وخرج في كتابه لرواة رأى من وجهة نظره أنهم مثل رواة الصحيحين في القوة، وإن كان بينهم مفاوز؛ لأن الحاكم -رحمه الله تعالى- معروف تساهله، ذهب الحاكم أبو عبد الله إلى أن شرطهما أن يروي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابي زال عنه اسم الجهالة بأن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يروي عن التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين حافظ متقن وله رواة من الطبقة الرابعة ، ثم يكون شيخه البخاري أو مسلم حافظاً مشهوراً بالعدالة في روايته"، هل هذا الكلام صحيح؟ ألا يوجد وحدان في الصحيحين مما ليس إلا راوٍ واحد؟ وجد، إذاً كلام الحاكم هنا غير دقيق، وهذا الذي رد عليه في اشتراط التعدد في الرواية وأنه شرط للصحيح، لما تكلم على العزيز قال:
وليس شرطاً للصحيح فاعلمِ
وقيل: شرط وهو قول الحاكمِ
هذا هو، وعلى هذا فقوله ضعيف هنا، واعترض على هذا القول بما في الصحيحين من الغرائب بالنسبة للأحاديث، ومن الوحدان بالنسبة للرواة، قال ابن طاهر في شروط الأئمة: "شرط البخاري ومسلم أن يخرج الحديث المجمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، شرط البخاري ومسلم أن يخرج الحديث المجمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور واعترض على هذا القول بأنهما قد خرجا لبعض من مس بضرب من التجريح، فعلى هذا لم يتفق على هؤلاء الرواة، بعض الرواة في الصحيحين قد تكلم فيه، إذاً هم غير متفق عليه، وقال الحازمي: "شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخذوا عنهم ملازمة طويلة، وقد يخرج أحياناً -هذا شرط البخاري- أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخذوا عنهم ملازمة طويلة"، خلاصة ما يقوله الحازمي أن للرواة مع شيوخهم أحوال، أو يمكن أن يقسم الرواة إلى طبقات:
الطبقة الأولى: من اتصفوا بالضبط والإتقان مع ملازمة الشيوخ، هذه الطبقة الأولى.
الطبقة الثانية: من شاركوا الأولى في الضبط والحفظ والإتقان، وخفة ملازمتهم للشيوخ.
الطبقة الثالثة: من لازموا الشيوخ مع خفة في الضبط والحفظ والإتقان لا يصل إلى حد القدح.
الطبقة الرابعة: من ضعف فيهم الأمران، خفة ملازمتهم للشيوخ مع خفة ضبطهم وحفظهم وإتقانهم.
الطبقة الخامسة: يقول: نفر من الضعفاء والمجهولين.
فالطبقة الأولى هم شرط البخاري الذين اتصفوا بالأمرين معاً: الحفظ والضبط والإتقان مع ملازمة الشيوخ، وقد ينزل فينتقي من أحاديث الطبقة الثانية الذين هم ما زالوا في الحفظ والضبط والإتقان، لكن خفة ملازمتهم للشيوخ.
الإمام مسلم يستوعب أحاديث الطبقة الأولى والثانية ، وقد ينزل إلى الثالثة من لازموا الشيوخ مع كونهم خف ضبطهم وإتقانهم شيئاً يسيراً، ينزل إلى الطبقة الثالثة التي هي شرط أبي داود والنسائي، وقد ينزل أبو داود والنسائي إلى الطبقة الرابعة التي هي شرط أبي عيسى الترمذي وابن ماجه، وأما الطبقة الخامسة فلا يعرج عليها إلا أبو عيسى الترمذي أحياناً وابن ماجه، إذا تصورنا هذه الطبقات الخمس للرواة عرفنا ترتيب الكتب وشدة تحري أصحابها، هذا خلاصة ما قاله الحازمي في شروط الأئمة الخمسة ، وعلى كل حال الأصح من هذه الأقوال هو القول الأول ، وهو أن المراد بشرط الشيخين رواتهما.
وأرفع الصحيح مرويهما
شرطهما حوى فشرط الجعفي
ثم البخاري فمسلم فما
فمسلم فشرطُ غيرٍ يكفي
وعلى هذا تخرج لنا سبعة أقسام: ما اتفق الشيخان على إخراجه، ما انفرد البخاري بتخريجه، ما انفرد مسلم بإخراجه، ما كان على شرطهما معاً، ما كان على شرط البخاري، ما كان على شرط مسلم، قسم سابع: ما صح عند غيرهما مما هو ليس على شرطهما، وعلى هذا على طالب العلم أن يعتني بما اتفق عليه الشيخان؛ لأنه أصح الصحيح، ما اتفق عليه الشيخان أصح الصحيح، وألفت فيه الكتب، منها: (زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم) هذا كتاب لأحد الشناقطة مطبوع مع شرحه في خمسة أجزاء ، لكن ترتيبه غث، أجود منه في الترتيب (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) لمحمد فؤاد عبد الباقي اعتمد فيه ترتيب مسلم، ومسلم مبدع في الترتيب، ولو اعتنى الإنسان بنفسه وتوصل إلى المتفق عليه بجهده كان أفضل من أن يقلد أحداً، ومن السهولة أن يطلع الإنسان على ما اتفق عليه، الآن كل شيء متيسر، تحفة الأشراف إذا وجدت الرمز فيه الخاء والميم فهو متفق عليه، بهذه الطريقة تجمع ما اتفق عليه الشيخان، وتعتني به وتجعله ديدنك، ثم تعتني بما تفرد به البخاري؛ لأنه هو الدرجة الثانية بعد المتفق عليه، فتأخذ ما زاد عند البخاري، ثم تأخذ ما زاد عند مسلم، بعضهم يقول: أختصر فأخذ البخاري جملة، ثم أخذ زوائد مسلم هذا جيد، هذا جيد وفي ضوء هذا تدرك ما اتفق عليه الشيخان، لكن أولويات المسألة والعمر لا يتسع لحفظ الجميع ومطالعة الجميع دفعة واحدة ، فإذا اعتنى الإنسان في المتفق عليه وتصوره وحفظه -إن أمكن- صار مباشرة يسمع حديث يقول: هذا حديث متفق عليه؛ لأنه استخرج هذه الأحاديث بنفسه وتعب عليها، الذي يحفظ العمدة -عمدة الأحكام- مجرد ما يسمع حديث من أحاديث العمدة يقول: هذا في الصحيحين؛ لأن من شرط صاحب العمدة أن يكون مما اتفق عليه، وإن أخل بشرطه أحياناً، لكن هذا نافع لطالب العلم زاد له في المستقبل، ثم بعد هذا يأخذ ما زاد على ما اتفق عليه، ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم، ثم يأخذ زوائد أبي داود على الصحيحين، ثم زوائد الترمذي، ثم زوائد النسائي، ثم زوائد ابن ماجه، ثم يأخذ زوائد الموطأ والمسند وهكذا ويضيف، ولتكن عنايته ومطالعته ومدارسته للكتب الأصلية بأسانيدها يقرأ ويحلل ويعتني ويشرح ويراجع الشروح على الكتب الأصلية، الحفظ قد لا يتسنى له الكتب الأصلية بأسانيدها بهذه الطريقة التي ذكرناها، والله المستعان).