9 Nov 2008
تحرج السلف عن القول في القرآن بلا علم
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَلِهَذَا
تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِن السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ
بِهِ ، كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : "
أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي ، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي ؛ إِذَا قُلْتُ فِي
كِتَابِ اللهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ " ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ
بْنُ سَلَّامٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ العَوَّامِ بْنِ
حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ
سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } [ سُورَةُ عَبَسَ : 31]
فَقَالَ : " أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ
أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ " - مُنْقطِعٌ -
وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حُمَيدٍ : عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ قَرأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } فَقَالَ
: " هَذِهِ الفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاها فَمَا هُوَ الأَبُّ ؟ " ثُمَّ
رَجَعَ إِلَى نَفْسِِهِ فَقَالَ : " إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكلُّفُ يا
عمرُ "
وَقَالَ
عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ :
حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ ثَابِتٍِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ :
كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ
رِقَاعٍ فَقَرَأَ : {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فَقَالَ : " وما الأبُّ ؟ " فَقَالَ : " إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكلُّفُ ، فَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ تَدْرِيهِ ؟ "
وَهَذَا
كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - إِنَّمَا
أَرَادَا اسْتِكْشَافَ مَاهِيَّةِ الأَبِّ ، وَإِلاَّ فَكَوْنُهُ نَبْتًا
مِن الأَرْضِ ظَاهِرٌ لاَ يُجْهَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا }.
وَقَالَ
ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهيمَ قَالَ : حَدَّثَنا
ابنُ عُليَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَن ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئلَ عَنْهَا بَعْضُكُم لَقَال فِيها ،
فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا . إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ
عَن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ ابنَ عبَّاسٍ عَنْ
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ، فَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ فَمَا : {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }[سُورَةُ الْمَعَارِج : 4]
فَقَالَ الرَّجلُ : إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُحَدِّثَني ، فَقَالَ ابنُ
عبَّاسٍ : " هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللهُ فِي كِتَابِهِ ، وَاللهُ
أَعْلَمُ بِهِمَا . " فَكَرِه أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ
يَعْلَمُ .
وَقَالَ
ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثني يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهيمَ قالَ : حدَّثَنا ابنُ
عُليَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَن الْوَلِيدِ بنِ مُسْلِمٍ قَالَ
: جَاءَ طَلْقُ بنُ حَبِيبٍ إِلَى جُنْدُبِ بنِ عَبْدِِ اللهِ فَسَألَهُ
عَنْ آيَةٍ مِن القُرْآنِ فَقَالَ : " أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ
مُسْلِمًا لَمَّا قُمْتَ عنِّي " أَوْ قالَ : أَنْ تُجَالِسَنِي .
وَقَالَ
مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ عن سعيد بْنِ الْمُسَيَّبِ : إِنَّهُ
كَانَ إِذَا سُئلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِن القُرْآنِ قالَ : " إِنَّا لاَ
نَقُولُ فِي القُرْآنِ شَيْئًا ."
وَقَالَ
اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ :
إِنَّهُ كَانَ لاَ يَتَكَلَّمُ إِلاَّ فِي الْمَعْلُومِ مِن القُرْآنِ .
وَقَالَ
شُعْبَةُ : عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ
بنَ الْمُسيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِن الْقُرْآنِ فَقَالَ : لاَ تَسْأَلْنِي عَن
القُرْآنِ ، وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ
شَيْءٌ . " يَعْنِي عِكْرِمَةَ .
وَقَالَ
ابنُ شَوْذَبَ : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بنُ أَبِي يَزِيدَ قالَ : كُنَّا
نَسْأَلُ سَعِيدَ بنَ الْمُسَيَّبِ عَن الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ ، وَكَانَ
أَعْلَمَ النَّاسِ ، فإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِن
الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ .
وقالَ
ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ ، قَالَ :
حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ
عُمَرَ ، قَالَ : " لَقَدْ أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ ، وَإنَّهُم
لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ ، مِنْهُم سَالِمُ بْنُ عَبْدِ
اللهِ ، وَالقَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ ، وَسَعِيدُ ابْنُ المسيَّبِ ،
وَنَافِعٌ .
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ ، عَنِ اللَّيثِ
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، قَالَ : " مَا سَمِعْتُ أَبِي تَأَوَّلَ
آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ قطُّ . "
وَعَنْ
أَيُّوبَ ، وَابْنِ عَوْنٍ ، وَهِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ قَالَ : سَأَلْتُ عَبِيْدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ آيَةٍ مِن
القُرْآنِ ، فَقَالَ : " ذَهَبَ الَّذِين كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيما
أُنزِلَ القُرْآنِ ، فَاتَّقِ اللهَ ، وَعَلَيْكَ بِالسَّدادِ . "
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنا مُعَاذٌ عَن ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ
بنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " إِِذَا حَدَّثْتَ
عَنْ اللهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ " .
حَدَّثَنا هُشَيْمٌ ، عَنْ مُغِيرَةَ ، عَنْ إِبْرَاهيمَ قَالَ : كَانَ
أَصْحَابُهُ يَتَّقُونَ التَّفسيرَ وَيَهَابُونَهُ .
وَقَالَ
شُعْبَةُ عَن عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي السَّفَرِ ، قَالَ : قالَ الشَّعبيُّ
: " وَاللهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلاَّ وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا، وَلَكِنَّهَا
الرِّوايةُ عَن اللهِ ."
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنا هُشَيْمٌ ، قَالَ : أَنْبَأنَا عُمَرُ بنُ أَبِي
زَائِدَةَ عَن الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : " اتَّقُوا
التَّفسِيرَ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوايةُ عَنِ اللهِ . "
فهَذِهِ
الآثارُ الصَّحيحةُ ، وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ
مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِم عَن الْكَلاَمِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لاَ
عِلْمَ لَهُمْ بِهِ ، فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِما يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ
لُغَةً وَشَرْعًا فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلاَءِ
وَغَيْرِهِم أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ ، وَلاَ مُنَافَاةَ ؛ لأنَّهُم
تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ ، وَهَذَا هُوَ
الوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكوتُ عَمَّا
لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ القَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ
مِمَّا يَعْلمُهُ ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 187] ،
وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ : " مَنْ سُئِلَ
عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)
القارئ: (وهكذا سمى الله تعالى القذفة كاذبين فقال: {فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} فالقاذف
كاذب ولو كان قد قذف من زنا في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له
الإخبار به وتكلف ما لا علم له به، والله أعلم، ولهذا تحرج جماعة من السلف
عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن
أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرضٍ تقلني وأي سماءٍ تظلني إذا قلت
في كتاب الله ما لم أعلم...").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الله أكبر!).
القارئ: ("....وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: {وفاكهة وأبا} فقال أي سماءٍ تظلني وأي أرضٍ تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. منقطع").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ("إسناده منقطع" عندي أو "منقطع" ما يخالف (غير مسموع) محمود بن يزيد.
لكن ما رأيكم لو أن رجلاً قيل له: ما معنى قوله تعالى: {وفاكهة وأبا}؟
الله أكبر، تشتبه هذه وأباً يعني أب، أب الوالد (وشوف) هذا (غير مسموع)
يُفسر القرآن بماذا؟ برأيه وجهله، برأيه وجهله؛ لأنه صار يسمع الناس يقولون
الأبّ ويشددون الباء وهي ما مشددة، فظن أن قوله تعالى: {وفاكهة وأبّا} يعني فاكهة وأبا، يعني وأبا يكون هذا في القرآن برأيه.
وكذلك من يفسر القرآن على غير ما أراد الله مثل قول بعضهم إذا سُئل عن شيء قال: {لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم}
هذا أيضاً من تنزيل القرآن على غير ما أراد الله إي نعم ، ومنه نعرف خطأ
ما نقل مدحاً لامرأة يسمونها المتكلمة بالقرآن ذكرها في جواهر الأدب، امرأة
ما تكلم إلا بالقرآن، وقول (لإيش) قال: لأنه منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا
بالقرآن مخافة أن تزل فيغضب عليها الرحمن، وأظن فعلها هذا ذلة، هذا الذلل.
:.... تنزل القرآن على غير ما أراد الله إي نعم (غير مسموع) ).
القارئ: ("حدثنا يزيد عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر {وفاكهة وأبا} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر.
وقال
عبد بن حميد حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس
قال: كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ: {وفاكهة وأبا} فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف فما عليك ألا تدريه. وهذا كله محمول...").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (قوله: "وفي ظهر قميصه أربع رقاع"
الفائدة فيه من حيث مصطلح الحديث أنه أدلّ على ضبط الراوي، يعني أن الراوي
قد ظبط هذه القصة وهذه القضية بحيث أنه لم يخف عليه ما في ثوبه من الرقاع.
أما
الفائدة فيها من حيث السلوك فهو أن نعرف ما كان عليه الخلفاء الراشدون رضي
الله عنهم من عدم الأثرة، وأنهم يعدون أنفسهم كغيرهم من الناس، لا يمتازون
على أحد وأن حالهم كحال غيرهم، حتى إن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة
حرَّم على نفسه أن يأكل من الطعام الطيب......سقط...... على أقل ما يطعم،
كل هذا من أجل ألا يستأثر بشيء على رعيته رضي الله عنه، ولكن كان ذلك حين
كانت الرعية مستقيمة على أمر الله، ورعة عما لا يحل لها، ولهذا قيل: قال
رجل لعلي بن أبي طالب: ما بال الناس قد خرجوا عليك ولم يخرجوا على أبي بكر
وعمر؟ فقال: كانت الرعية من أبي بكر وعمر مثل علي بن أبي طالب، وكانت
الرعية في وقتي مثلك، نعم.
وكذلك
عبد الملك لما رأى من الناس تذمراً جمع أعيانهم وشرفاءهم وخطب فيهم وقال
لهم: أما بعد.., فإنكم تريدون أن نكون لكم كأبي بكر وعمر، فكونوا لنا
كالرجال في عهد أبي بكر وعمر نكن لكم كأبي بكر وعمر.
وجاء
في الأثر: كما تكونون يولى عليكم. فالمهم أن حَالَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّّهُ عَنْهُمْ رعاتهم ورعيتهم على ما تشاهدون من أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه. نعم).
القارئ: ("وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف ماهية الأبّ, وإلا فكونه نبت من الأرض ظاهر لا يُجهل ").
قائل:
....الماهية هي الكيفية.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (.......لا، الماهية: حقيقة الشيء....).
القارئ: ("لقوله تعالى: {فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلبا}"
الشيخ: {وفاكهة وأبا} أقول بقية الآية: {وفاكهة وأبا} هي محل الشاهد هي محل الشاهد، فعلم من قوله: {وفاكهة وأبا}
أنها من ما تنبت في الأرض، وهذا لا يخفى على أبي بكرٍ وعمر أن الأب نبات
من نبات الأرض، لكنهما أرادا رضي الله عنهما تعيين هذا الأب ما هو؟ أي شجرٍ
هو؟ فأشكل عليهم، وقد قيل في تفسيره إن الأب هو نبت يشبه (القت) عندنا،
والظاهر والله أعلم أنه نبت صالح يعني بمعنى أنه شامل عام، {وفاكهة وأبا} عام لكل ما يكون نبتاً، وهذه إن شاء الله تراجع في تفسير ابن كثير. نعم.
أحد الطلبة:
راجعها ابن كثير وقال: إن هذا النبت للبهائم والفاكهة لبني آدم).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (غير مسموع) عامة لكل بهيمة.... نعم).
القارئ: ("وقال
ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن عُلية عن أيوب عن ابن
أبي مليكة أن ابن عباس سُئل عن آية لو سُئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن
يقول فيها. إسناده صحيح....سقط....).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (غير
مسموع) ابن عباس الذي دعا له الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يُعَلمه الله
التأويل يقول: يسأل عن الآية لو سئل عنها بعضكم الآن لأجاب، وهذا يدل على
أنه يجب التحري في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى. نعم).
القارئ: ("وقال
أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مُليكة قال: سأل
رجلٌ ابن عباس عن يومٍ كان مقداره ألف سنة، فقال ابن عباس: فما يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني! فقال ابن عباس: هما
يومان ذكرهما الله في كتابه، والله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله
مالا يعلم.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن.....").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (طيب، وقد سبق لنا أن يوم القيامة كان مقداره خمسين ألف سنة كما في المعارج في قوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً}
وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في مسلم في مانع
الزكاة أنه يُعذب بها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وأما التي في (الم. تنزيل) السجدة {كان مقداره ألف سنةٍ مما تعدون} فهذا والله أعلم في الدنيا لأنه قال: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يومٍ كان مقداره ألف سنةٍ مما تعدون}.
وأما قوله تعالى: {وإن يوماً عند ربك كألف سنةٍ مما تعدون} فما دام عند الله فنحن لا نعلمه، وهذا يوم الله أعلم به. نعم).
القارئ: (وقال
ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن عُلية عن مهدي بن ميمون
عن الوليد بن مسلم قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية
من القرآن، فقال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت عني, أو قال: أن
تجالسني).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (وهذا
محمول على الورع وعدم المُضي في التكلم في معنى كلام الله عز وجل، وإلا
فإنَّ رجلاً سأل عن معنى آية لا يعني أننا نقول له لا تجلس عندنا أو قم أو
ما أشبه ذلك، لكن بناء على شدة تحريهم وتحرجهم كانوا يقولون مثل هذا. طيب).
القارئ: ("وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: إنه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئاً.
وقال الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.
وقال
شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال:
لا تسألني عن القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء. يعني عكرمة.
وقال
ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال
والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم
يسمع ").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الله أكبر!).
القارئ: (وقال
ابن جرير: حدثني أحمد بن عبدة الظبِّي قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا
عُبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في
التفسير، منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع.
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروةٍ قال:" ...).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (عروةٍ؟
طالب:
لا..عروة.
الشيخ:
(ليش) ما ينصرف؟
الطالب:
العلمية والتأنيث.
الشيخ:
(طيب) ولو كانت العروة عروة القربة تنصرف ولا لا؟
الطالب:
تنصرف وتصير وصفية.
الشيخ:
عروة، قربتي لها عروةٌ طويلة ولا عروةُ طويلة؟
الطالب:
عروةُ.
الشيخ:
(ليش)؟
الطالب:
مؤنث حقيقي.
الشيخ:
طيب مؤنث حقيقي..
الطالب:
لأنه ما هو علم.
الشيخ:
ما هو علم صح؛ لأن تاء التأنيث لابد يكون فيها علم، إي نعم، تأنيث اللفظ لابد أن يكون علما.نعم).
القارئ: ("قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط.
وقال
أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن
آية من القرآن * أبي عبيد حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بن
يسار عن أبيه قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده.
حدثنا
هُشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه وقال
شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد
سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله.
وقال أبو عبيد حدثنا هُشيم قال: أنبأنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله...).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الله أكبر!).
القارئ: (فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به.
فأما
من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء
وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة بأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما
جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به
فكذلك يجب القول فيما سُئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} ولما جاء في الحديث المروي من طرق: ((من سُئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجامٍ من نار)) ).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (ت: 1430هـ): (قولُه: (ولهذا تَحَرَّجَ جماعةٌ مِن السلَفِ عن تفسيرِ ما لا عِلْمَ لهم به).
جماعةٌ مِن السلَفِ، يعني: مِن الصحابةِ كما سيأتِي, ومِن التابعينَ وممن
بَعْدَهم؛ تَوَقَّفُوا عن تفسيرِ كثيرٍ مِن الآياتِ ولم يُفْتُوا فيها ولم
يُفَسِّرُوها؛ مَخافةَ أن يقولوا بغيرِ عِلْمٍ، كما أنَّ كثيراً منهم
يَتوقَّفُونَ أيضاً عن الفُتْيَا؛ مخافةَ أن يَقولوا على اللهِ تعالى بغيرِ
عِلْمٍ، قد كان يأتي أحياناً السائلُ فيسألُ أحدَهم فيقولُ: سَلْ فُلاناً،
ثم يذهبُ فيَسألُه فيقولُ: سَلْ فلاناً، ثم يأتي فيقولُ: سَلْ فلاناً، حتى
يَرجعَ إلى الأوَّلِ، يَترادُّونها؛ مَخافةَ أن يَزِلَّ أحدُهم بهذه
المسألةِ، فيَقعَ فيمَن يقولُ على اللهِ بغيرِ عِلْمٍ.
وكثيرٌ
مِن الأئمَّةِ أيضاً تَأتيهم المسائلُ ـ سواءٌ في القرآنِ أو في غَيرِه ـ
فيَتوقَّفونَ؛ يَخْشَونَ أن يسالهم الله: لما أفتوا وليسو متيقنين من
المسألة وكثيرٌ مِن الذين يَنقُلون عن الإمامِ أحمدَ بعضَ المسائلِ
يَذكرونَ أنه لا يَجْزِمُ، بل يقولُ: أَرْجُو أن يكونَ كذا، وأحياناً
يَتَوَقَّفُ، ويقولُ: أهابُ أن أقولَ فيها شيئاً، ويَخشى مِن قولِ اللهِ
تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ}.
قولُه:
(روى شُعبةُ، عن سليمانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ مُرَّةَ، عن أبي مَعمرٍ,
قالَ: قالَ أبو بكرٍ الصدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه، - ومعلومٌ طولُ مُلازمتِه
للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، ولكنه مع ذلك كان في غايةِ الوَرَعِ،
فهو يقولُ في هذا الأَثَرِ-: أيُّ أرضٍ تُقِلُّنِي، وأيُّ سماءٍ
تُظِلُّنِي؛ إذا قُلْتُ في كتابِ اللهِ ما لم أَعْلَمْ؟. ) أيُّ
أرضٍ تُقِلُّنِي: يعني: تَحْمِلُني، وأيُّ سماءٍ تُظِلُّنِي: يعني: أنني
إذا قُلْتُ ذلك فقد تَجَرَّأْتُ على اللهِ تعالى، فأكونُ قد أَخْطَأْتُ،
فلا تَحْمِلُني الأرضُ لعِظَمِ ما قُلْتُه، ولا تُظِلُّنِي السماءُ لكِبَرِ
ما تَقَوَّلْتُه.
ثم
رُوِيَ أيضاً (عن أبي عُبيدٍ القاسمِ بنِ سَلاَّمٍ: حدثنا محمد بنُ يزيدَ،
عن العَوَّامِ بنِ حَوْشَبٍ، عن إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، أنَّ أبا بكرٍ
الصدِّيقَ سُئِلَ عن قولِ اللهِ تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}
فقالَ: أيُّ سماءٍ تُظِلُّنِي، وأيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي؛ إنْ أنا قُلتُ في
كتابِ اللهِ ما لا أَعْلَمُ؟. - ولكنَّ هذا – مُنْقَطِعٌ)؛ وذلك لأنَّ
إبراهيمَ التيميَّ مِن صِغارِ التابعينَ، مِن تلامذةِ ابنِ مسعودٍ، ولم
يُدْرِكْ أبا بكرٍ، ولعله أخذَه مِن ابنِ عباسٍ أو مِن ابنِ مسعودٍ؛ لأنه
تَتَلْمَذَ عليهما.
(وقالَ
أبو عُبيدٍ أيضاً: حدثنا يزيدُ، عن حُميدٍ، عن أنسٍ). أبو عُبيدٍ إسنادُه
ثلاثيٌّ في هذا؛ أي أنه ليس بَيْنَه وبينَ أَنَسٍ إلا اثنانِ ويَظهرُ أن
يزيد هو ابنُ أبي عُبيدٍ، وحُميدٌ هو حُميدٌ الطويلُ تلميذُ أَنَسٍ.
ذَكَرَ: (أنَّ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنه قَرَأَ على الْمِنْبَرِ قولَ اللهِ
تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}، فقالَ: هذه
الفاكهةُ قد عَرَفْناها, فما الأَبُّ؟ ثم رَجَعَ إلى نفْسِه وقالَ: إنَّ
هذا لهُوَ التَّكَلُّفُ يا عمرُ)، يعني: لماذا تَسألُ؟ الأبُّ قد ذَكَرَه
اللهُ تعالى، وذَكَرَ أنه نباتٌ، ولكن لا نَسألُ عنه، وإنْ كانت الكلمةُ
عربيَّةً.
(وقالَ
عبدُ بنُ حُميدٍ، - وله أيضاً تفسيرٌ-: حدثنا سليمانُ بنُ حربٍ قالَ:
حدثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن ثابتٍ، عن أَنَسٍ قالَ: كنا عندَ عمرَ بنِ
الخطابِ، وفي ظَهْرِ قميصِه أربعُ رِقاعٍ، فقرأَ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}،
فقالَ: ما الأبُّ؟ ثم قالَ: إنَّ هذا لهُوَ التَّكَلُّفُ، فما عليك ألا
تَدْرِيَهُ؟!)، فهكذا روى أَنَسٌ عن عمرَ رَضِيَ اللهُ عنه، وذَكَرَ أنهم
كانوا عندَ عمرَ، وكان خَليفةً، ومع كونِه خليفةً فإنه كان زاهداً، ولذلك
لا يَخْلَعُ الثوبَ حتى يُرَقَّعَ بعِدَّةِ رِقاعٍ، فهاهنا ذَكَرَ أنَّ في
قميصِه أربعَ رِقاعٍ، يعني: إذا تَمَزَّقَ جَعَلَ فيه رُقعةً ثم رُقعةً،
حتى رُوِيَ في بعضِ الأحاديثِ أنه لَبِسَ قميصاً فيه أربعَ عشرةَ رقعةً، مع
قُدرتِه على أن يَلْبَسَ ثياباً جُدُداً. تَوَرَّعَ في هذا، وقالَ: ما
يَضُرُّكَ أن تَجهلَه؟! ما عليك ألا تَعْرِفَ الأبَّ؟!.
قولُه: (وهذا
كلُّه محمولٌ على أنهما رَضِيَ اللهُ عنهما إنما أَرَادَا استكشافَ عِلْمِ
ماهية الأبِّ, وإلا فكونُه نَبْتاً مِن الأرضِ ظاهرٌ, لا يُجْهَلُ). يعني: يَتَحَقَّقُ أنَّ الأبَّ نباتٌ؛ لأن اللهَ تعالى قالَ: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبًّا})، فكلُّ هذه نباتاتٌ، وكلُّها معروفةٌ، وأكثرُ الْمُفَسِّرِينَ على أنه: العُشْبُ المختلِفُ الذي تأكلُه الدوابُّ.
(وقالَ
ابنُ جريرٍ: حدثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، أنَّ مشايخَه قالوا له: الدوركيُّ
في الظاهرِ، قالَ: حدثنا ابنُ عُلَيَّةَ، -- يعني: إسماعيلُ-، عن أيوبَ
–السختيانيِّ-، عن ابنِ أبي مُليكةَ، أنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنه سُئِلَ
عن آيةٍ لو سُئِلَ عنها بعضُكم لقالَ فيها، مع أنَّ ابنَ عباسٍ قد فَتَحَ
اللهُ تعالى عليه، ومع ذلك تَوَقَّفَ في هذه الآيةِ؛فقال المؤلف – رحمه
الله:إن هذه الآيةٌ مِن القرآنِ لو سُئِلَها أحدُكم لتَجَرَّأَ وقالَ فيها
وأَفْتَى فيها بما يَراهُ، ومع ذلك تَوَقَّفَ فيها ابنُ عباسٍ، (فأبى أن
يقولَ فيها. هذا إسنادٌ صحيحٌ).
ثم
ذَكَرَ أيضاً (عن أبي عُبيدٍ قالَ: حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ - وهو ابنُ
عُلَيَّةَ-، عن أيوبَ، عن ابنِ أبي مُليكةَ: سألَ رجُلٌ ابنَ عباسٍ عن
قولِ اللهِ تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فقالَ ابنُ عباسٍ: فما { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}؟
فقالَ الرجلُ: إنما سألتُك لتُحَدِّثَني، فقالَ ابنُ عباسٍ: هما يومانِ
ذكرَهما اللهُ تعالى في كتابِه، اللهُ أعلَمُ بهما. فكَرِهَ أن يقولَ في
كتابِ اللهِ ما لا يَعلمُ)، ولا شَكَّ أنَّ ظاهِرَ السياقِ يَدُلُّ على أنه
يومُ القِيامةِ؛ لأن اللهَ تعالى قالَ: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} أي: ذلك اليومُ الذي هو يومُ القيامةِ، وقالَ أيضاً في سورةِ المعارِجِ: {تَعْرُجُ
الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً، إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَرَاهُ قَرِيباً}، يعني: ذلك اليومُ الذي مِقدارُه خمسونَ ألفَ سنةٍ، يَستبعدونَه ويَظُنُّونَ أنه لا يأتي، {وَنَرَاهُ قَرِيباً} أي: نرى أنه قريبٌ، ونُخْبِرُ بأنه قريبٌ، يعني: إتيانه: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ}.
وقد
تَكَلَّمَ العلماءُ على هذين اليومينِ، فمنهم مَن يقولُ: إنَّ هذا الطولَ؛
طولٌ بِحَسَبِ ما يُقَدِّرُه بعضُ الناسِ. يعني: بعضُ الناسِ يكون هذا
يوماً طويلاً عليه، بحيث إنه يَرَى أنه قَدْرُ خمسينَ ألْفَ سنةٍ، وبعضُهم
يَرى أنه قَدْرُ أَلْفِ سنةٍ، وذَكَرَ بعضُ الْمُفَسِّرِينَ؛ كصاحبِ
الجَلاَّلينِ: أنه أَخَفُّ على المؤمنينَ مِن صلاةٍ مكتوبةٍ،أي أنه : لا
يُحِسُّ بطولِه،وعللوا ذلك بقولهم: إن أيامَ الْحُزْنِ طِوالٌ، وأيامَ
الفرَحِ قِصارٌ،لأنَّ الإنسانَ يَستطيلُ اليومَ الذي يكونُ فيه مُعَذَّباً،
يَستطيلُ انتهاءَ ذلك اليومِ. إذا كان مَثَلاً في سِجنٍ أو في عذابٍ فإنه
يَستطيلُ اليومَ، بل يَستطيلُ الساعةَ، فتكونَ عندَه كأنها أيامٌ، أو كأنها
أشْهُرٌ، بخِلافِ أيامِ الفرَحِ وأيامِ السرورِ، فإنهم يَسْتَقْصِرُونها،
ومع ذلك فإنَّ الذي يَمُرُّ به أيامُ فَرَحٍ ثم يأتيهِ بعدَه أيامُ حُزْنٍ؛
يَتلاشى ما كان فيه، وما كان عَرَفَه مِن أيامِ ذلك الفرَحِ ونحوِها، ولو
كانت سنواتٍ، ولهذا يقولُ بعضُهم:
مَسَرَّةُ أحقابٍ تلقَّيْتُ بعدَها مساءةَ يومٍ إنها شِبْهُ أنصابِ
فكيفَ بأنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ ساعةٍ وراءَ تَقَضِّيها مساءةَ أحقابِ
أما
اليومُ الذي مِقدارُه خمسونَ ألْفَ سنةٍ؛ فلا شَكَّ أن ظاهرَ السياقِ
يَدُلُّ على أنه يومُ القيامةِ، ويُمْكِنُ أنه يومٌ قبلَ خلْقِ السماواتِ
والأرضِ. واللهُ أَعْلَمُ.
(وقالَ
ابنُ جريرٍ: حدثني يعقوبُ يعني: ابنُ إبراهيمَ، حدثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن
مهديِّ بنِ ميمونٍ، عن الوليدِ بنِ مسلمٍ قالَ: جاءَ طَلْقُ بنُ حبيبٍ إلى
جُندبِ بنِ عبدِ اللهِ، - وهو جُندبٌ البَجَليُّ-، فسألَه عن آيةٍ مِن
القرآنِ، فتَوَقَّفَ جُندبٌ وقالَ: أُحَرِّجُ عليك إذا كنتَ مُسْلِماً
لَمَا قُمْتَ عَنِّي. أو قالَ: أن تُجَالِسَنِي).
جُندبٌ
مِن صغارِ الصحابةِ، ويُمْكِنُ أنه لم يتلقَّعن تلك الآيةِ أحاديثَ
مرفوعةً، أو أنه كان مِن الذين يَتوقَّفونَ عن تفسيرِ الآياتِ، فهذا الذي
سألَه تَوَقَّفَ عن إجابتِه رَضِيَ اللهُ عنه، وقد يكون أنه عَرَفَ أنه مِن
المبتَدِعَةِ، مِن الذين يَتكلَّمونَ في بِدَعِهم بآياتٍ يَستَدِلُّون
بها، أو يَجعلونَها كدليلٍ لهم على بِدَعِهم.
وقد
كان الكثيرُ مِن السلَفِ رَحِمَهم اللهُ يَتَحَاشَوْنَ أن يَسألوا
المبتدِعَةَ، أو يَسْمَعوا منهم، وقد روى ابنُ بَطَّةَ في (الإبانةِ)
آثاراً عن كثيرٍ مِن السلَفِ؛ أنَّ أحدَهم يَدْعُوهُ بعضُ المبتدِعَةِ
فيقولُ: اسْمَعْ مني آيةً، دَعْني أقرأْ عليك آيةً مِن القرآنِ، فيقولُ:
قُوموا لا أَسْمَعُ منكم ولا تَقْرَبوني. لكن لماذا؟ يقولُ: إني أَخْشَى أن
يُحَرِّفَها، أو يَذكُرَ دَلالتَها على بِدعتِه، فيَعْلَقَ بقلبي شيءٌ مما
يَتعلَّقُ بتلك البِدعةِ التي يَتَشَبَّثُ بها، فهاهنا جُندبٌ أقامَ ذلك
السائلَ، وقالَ: أُحَرِّجُ عليك إنْ كنتَ مسلماً لَمَا قُمْتَ عني. أو
قالَ: أن تُجَالِسَنِي.
(وقالَ
مالكٌ: عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ، أنه كان إذا سئلَ عن
تفسيرِ آيةٍ مِن القرآنِ قالَ: إنَّا لا نقولُ في القرآنِ شيئاً). مع أنَّ
سعيدَ بنَ المسيِّبِ مِن علماءِ التابعينَ، وأحَدُ الفقهاءِ السبعةِ، ومع
ذلك لا يَذكرونَ عنه كثيراً في التفسيرِ, فهو ليس كابنِ عباسٍ، ولا
كمجاهِدٍ ونحوِهم، فهو يقولُ: إنَّا لا نقولُ في القرآنِ شيئاً. يعني: كأنه
يقولُ: لا نقولُ فيه بغيرِ عِلْمٍ.
(وقالَ
الليثُ: عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ)، فهذا أيضاً إسنادٌ
صحيحٌ؛ فإن الليثَ بنَ سعدٍ عالمُ مِصْرَ؛ يَرْوِي عن يحيى بنِ سعيدٍ
الأنصاريِّ العالمِ المشهورِ، (عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ، أنه كان لا
يَتكلَّمُ إلا في المعلومِ مِن القرآنِ)، لا يَتكلَّمُ إلا في الشيءِ الذي
يَعلمُه، وهذا مِن سعيدِ بنِ المسيِّبِ مِن بابِ الوَرَعِ.
(وقالَ
شُعبةُ: عن عمرِو بنِ مُرَّةَ قالَ: سألَ رجلٌ سعيدَ بنَ المسيِّبِ عن
آيةٍ مِن القرآنِ، فقالَ: لا تَسأَلْنِي عن القرآنِ، وسَلْ مَن يَزْعُمُ
أنه لا يَخْفَى عليه منه شيءٌ، يعني: عِكرمةَ)، فكان ابنُ المسيِّبِ
يَتحرَّجُ أن يُفَسِّرَ آياتِ القرآنِ؛ مَخافةَ أن يقولَ فيها بغيرِ
عِلْمٍ، مع أنَّ كثيراً مِن السلَفِ رَحِمَهم اللهُ فَسَّرُوا القرآنَ ولا
يَزالونَ. وأحالَه على عِكرمةَ مَوْلَى ابنِ عباسٍ، الذي ادَّعَى أنه لا
يَخْفَى عليه منه شيءٌ، يعني: أنَّ عكرمةَ كان يُفَسِّرُ القرآنَ، وسعيدٌ
يَتحرَّجُ مِن تفسيرِ القرآنِ.
(وقالَ
ابنُ شَوذبٍ: حدثنا يزيدُ بنُ أبي يزيدَ قالَ: كنا نَسألُ سعيدَ بنَ
المسيِّبِ عن الحلالِ والحرامِ، وكان أَعْلَمَ الناسِ, فإذا سألناهُ عن
تفسيرِ آيةٍ مِن القرآنِ سَكَتَ كأنْ لم يَسْمَعْ).
تَدُلُّ
هذه الآثارُ على أنَّ سعيدَ بنَ المسيِّبِ يَتورَّعُ عن أن يُفَسِّرَ
آياتِ القرآنِ، ولذلك تَقِلُّ الأسانيدُ عنه في التفسيرِ،فما نُقِلَ عنه
تفسيرٌ؛ إلا شيئاً يَسيراً.
(وقالَ
ابنُ جريرٍ: حدثني أحمدُ بنُ عبدةَ الضبيُّ، حدثنا حمادُ بنُ زيدٍ، حدثنا
عبيدُ اللهِ بنُ عمرَ). هذا أيضاً إسنادٌ جَيِّدٍ؛ فعبيدُ اللهِ بنُ عمرَ
هذا: هو عبيدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ حفصِ بنِ عاصمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ
بنِ الخطابِ، مِن علماءِ التابعينَ وأجلائِهم، (يقولُ: لقد أَدْرَكْتُ
فقهاءَ المدينةِ)، ولعله يعني: فقهاءَ المدينة السبعةَ الذين نَظَمَهم
الناظمُ بقولِه:
ألا إنَّ مَــن لا يَقْتَـدِي بأئِـمَّةٍ فقِسْمَتُه ضِيزَى عـن الْحَقِّ خَارِجَهْ
فخُذْهُم: عُبيدُ اللهِ، عُروةُ قاسِمٌ سعيدٌ، أبو بكرٍ، سليمانُ، خَارِجَهْ
قولُه: (أَدْرَكْتُهُم وإنهم ليُعَظِّمُونَ القولَ في القرآنِ)
هَيْبَةً، يعني: يَهابونَ أن يَقولوا في القرآنِ شيئاً، وذَكَرَ (منهم
سالماً). عدَّه بعضُهم مِن الفقهاءِ السبعةِ، وأكثرُهم لم يَعُدُّوه،
(والقاسمُ بنُ محمدٍ) منهم، (وسعيدُ بنُ المسيِّبِ) منهم، (ونافعٌ) مولى
ابنِ عمرَ لم يعدوه مِن الفقهاءِ السبعةِ، ولكنه مِن فقهاءِ المدينةِ.
(وقالَ
أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ: حدثنا عبدُ اللهِ بنُ صالح، - عالمٌ مشهورٌ,
ويُسَمَّى كاتبَ الليثِ-، عن الليثِ، - يعني: ابنِ سعدٍ عالِمِ مِصْرَ-،
عن هشامِ بنِ عُروةَ - هشامُ بنُ عُروةَ بنِ الزبيرِ، مِن التابعينَ أو مِن
صغارِ التابعينَ، - قالَ: (ما سَمِعْتُ أبي تَأَوَّلَ آيةً مِن كتابِ
اللهِ قطُّ)، يُريدُ أباه عُروةَ بنَ الزبيرِ، يعني: أنه لم يتأولها ولم
يتكلم، يعني: ما تَكَلَّمَ فيها بأيِّ نوعٍ مِن أنواعِ الكلامِ، ويَدُلُّ
هذا أيضاً على أنَّ عُروةَ كان يَتورَّعُ عن تفسيرِ القرآنِ، كابنِ
المسيِّبِ الذي يَتورَّعُ عن تفسيرِ آياتٍ مِن القرآنِ. (قالَ أيُّوبُ
وابنُ عونٍ وهشامٌ الدستوائيُّ، عن محمدِ بنِ سيرينَ قالَ: سألتُ عَبيدةَ
السَّلْمانيَّ عن آيةٍ مِن القرآنِ)، يعني: عن تفسيرِها. وعبيدةُ
السلمانيُّ مِن تلاميذِ ابنِ مسعودٍ، تَلَقَّى عنه كثيراً، (فقالَ عُبيدةُ:
ذَهَبَ الذين كانوا يَعْلَمونَ فيما أُنْزِلَ من القرآنُ)، يعني: الصحابةُ
الذين يَعْلَمون أسبابَ النزولِ، ويَعلمونَ ما يُرادُ بِكُلِّ آيةٍ،
(فاتَّقِ اللهَ وعليك بالسدادِ)، يقولُ ذلك إرشاداً للسائلِ.
(وقالَ
أبو عُبيدٍ - يعني: القاسمُ بنُ سلاَّمٍ-: حدثنا معاذٌ، عن ابنِ عونٍ، عن
عبيدِ اللهِ بنِ مسلمِ بنِ يَسَارٍ، عن أبيه). ومسلمُ بنُ يَسَارٍ كان مِن
عُبَّادِ التابعينَ، وله تَرجمةٌ في التاريخِ تَدُلُّ على وَرَعِه
وزُهْدِه. (يقولُ: إذا حَدَّثْتَ عن اللهِ فقِفْ، - يعني: تَحَرَّجْ- حتى
تَنظرَ ما قَبْلَه وما بعدَه)، يعني: حتى تَنظرَ ما قبلَ الآيةِ وما
بعدَها؛ لتَتَحَقَّقَ مِن سياقِها وتَعرِفَ دَلالتَها.
قولُه:
(حَدَّثَنا هُشيمٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ - تلميذِ ابنِ مسعودٍ، وهو:
إبراهيمُ النَّخَعِيُّ - قالَ: كان أصحابُنا يَتَّقُونَ التفسيرَ
ويَهابونَه)، يعني: يَخْشَوْنَ أن يَقَعَ منهم شيءٌ مِن الغلَطِ فيه.
إبراهيمُ
التيميُّ إذا قالَ: كان أصحابُنا، أو كانوا؛ فإنه يريدُ بذلك أصحابَ ابنِ
مسعودٍ، وإذا قالَ: كانوا يقولونَ، أو كانوا يَرَوْنَ كذا، أو كان أصحابُنا
يقولونَ كذا، فإنه يعني: أصحابَ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ؛ لأن لهم أقوالاً
تَلَقَّوْها عن ابنِ مسعودٍ، وقد يكونونَ يُخالِفونَ فيها بعضَ مَن هم مِن
أهلِ العلْمِ في زمانِهم. ومعنى ( يَتَّقُونَ التفسيرَ)أي: التفسير
بالرأيِ، ويَهابونَهُ.
(وقالَ
شُعبةُ: عن عبدِ اللهِ بنِ أبي السَّفَرِ قالَ: قالَ الشعبيُّ: واللهِ ما
مِن آيةٍ إلا وقد سأَلْتُ عنها). والشَّعبيُّ هو: عامرُ بنُ شَرَاحِيلَ،
مِن حُفَّاظِ التابعينَ وعلماءِ الأُمَّةِ، وهو يقولُ: (ما مِن آيةٍ إلا
وقد سَأَلْتُ عنها، ولكنها الروايةُ عن اللهِ تعالى)، ولهذا يَقِلُّ نَقْلُ
التفسيرِ عن الشَّعْبِيِّ، ولكن في الحديثِ كان ثِقَةً حافظاً، ومَرْجِعاً
مِن مَراجِعِ المحَدِّثينَ، وهو مع ذلك يقولُ: (ما مِن آيةٍ إلا وقد سألتُ
عنها)، يعني: وعَرَفْتُ مدلولَها، ولكنها الروايةُ عن اللهِ تعالى،
فلأََجْلِ ذلك كان يَتورَّعُ أن يُحَدِّثَ بكلِّ ما سَمِعَ، وأن يُحَدِّثَ
بكلِّ ما عَلِمَه لتلك الآيةِ، وقد يكونُ بينَهم اختلافُ تَنَوُّعٍ، أو
اختلافُ تَضَادٍّ.
قولُه:
وقال أو عبيدٍ، حدثنا هُشيمٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، وهو إبراهيمُ
التيميُّ؛ كما عَرَفْنا، وكذلك (قالَ أبو عبيدٍ: حدثنا هُشيمٌ، أنبأنا عمرُ
بنُ أبي زائدةَ، عن الشَّعبيِّ، عن مسروقٍ، قال: اتَّقُوا التفسيرَ؛ فإنما
هو الروايةُ عن اللهِ). ومسروقُ بنُ الأجدعِ مِن زُهادِ التابعينَ، يقولُ:
اتَّقُوا التفسيرَ. ولعلَّهُ يعني: التفسيرَ بالرأيِ.
قولُه: (فهذه الآثارُ الصحيحةُ، وما شَاكَلَها عن أئِمَّةِ السلَفِ، محمولةٌ على تَحَرُّجِهم عن الكلامِ في التفسيرِ بما لا عِلْمَ لهم به)، نَقَلَ أكثرَها ابنُ كثيرٍ في أوَّلِ تفسيرِه، ونقَلَ أيضاً كثيراً منها بأسانيدِه ابنُ جريرٍ في أوَّلِ التفسيرِ.
ثم
قالَ ابنُ كثيرٍ: إنها محمولةٌ على تحريمِ الكلامِ في القرآنِ بغيرِ
علْمٍ،وتحريمَ التخبُّطِ فية ، أو أنهم يَهابونَ القرآنَ أن يُفَسِّرُوهُ
بشيءٍ مِن قِبَلِ أنفُسِهم, وليس لهم فيه مُستَنَدٌ . (أما مَن تَكَلَّمَ
بما يَعْلَمُ مِن ذلك لُغةً وشرعاً، فلا حَرَجَ عليه). إذا تَكَلَّمَ بشيءٍ
قد عَلِمَه؛ سواءٌ أَخَذَه عن التابعينَ، أو فَهْماً فَهِمَه، أو أَخَذَه
عن الصحابةِ، أو أَخَذَه عن لغةِ العربِ؛ فإنه لا يُذَمُّ، بل يؤجر؛ وذلك
لأن معرفةَ الآياتِ تُعينُ على العملِ بها، وتُعينُ أيضاً على الاعتبارِ؛
لأنَّ في القرآنِ عبرةً، فإذا فَهِمَ القرآنَ اعْتَبَرَ به، وإذا لم
يَفْهَمْه لم يَدْرِ ما معناه، فلم يَدَّكِرْ ولم يَعْتَبِرْ،فلهذا كانت
مَعرفةُ الآياتِ فيها فائدةٌ عظيمةٌ. ولكنْ إذا كان المعنى غيرَ ظاهرٍ؛ فإن
الإنسان يَتَوَرَّعُ عن أن يَخوضَ فيه بغيرِ عِلْمٍ. فما رُوِيَ عن هؤلاءِ
مِن التوَقُّفِ في هذه الآياتِ؛ محمولٌ على الورَعِ، وخوفِ القولِ على
اللهِ بغيرِ عِلْمٍ.
قولُه: (ولهذا رُوِيَ عن هؤلاءِ وغيرِهم أقوالاً في التفسيرِ).
هكذا أيضاً ذكَرَ ابنُ كثيرٍ،بإنَّ هؤلاءِ الذين تَحَرَّجُوا رُوِيَ عنهم
أقوالٌ كثيرةٌ في التفسيرِ، يعني: قَلَّ آيةٌ فيها تفسيرٌ إلا وتَجِدُ عندَ
ابنِ جريرٍ أو ابنِ أبي حاتمٍ وغيرِهم أقوالاً فيها مَرْوِيَّةً عن هؤلاءِ
الذين يَتَوَقَّفونَ، كالقاسمِ، وسالمٍ، وسعيدٍ، ونافعٍ، وهشامٍ، وأبيهِ
عروةَ، وكذلك عَبِيدةُ السلمانِيُّ، وإبراهيمُ النَّخَعِيُّ، ونحوِهم،
رُوِيَ عنهم تفاسيرُ كثيرةٌ في آياتٍ كثيرةٍ، يَجِدُها مَن بَحَثَ عنها في
كُتُبِ التفسيرِ. (ولا مُنافاةَ - بينَ تَوَرُّعِهم في مَوْضِعٍ؛ وتفسيرِهم
في مَوْضِعٍ-؛ وذلك لأنهم تَكَلَّموا فيما عَلِمُوه، وسَكَتُوا عما
جَهِلُوه)، الذي تَكَلَّموا فيه أَخَذوه عن علْمٍ بِمَرْجِعٍ مِن
الْمَراجِعِ، أو أمْرٍ مِن الأمورِ، وأما الذي جَهِلُوه، أو خَافُوا أنه
ليس بصوابٍ فإنهم تَوَرَّعوا وسَكَتوا. (وهذا هو الواجبُ على كلِّ أحَدٍ)،
واجبٌ على كلِّ مسلِمٍ أن يُفَسِّرَ ما يَعلَمُه، وألاَّ يُفَسِّرَ الشيءَ
الذي يَجْهَلُه، وأن يَتَوَرَّعَ عن أن يقولَ على اللهِ تعالى بغيرِ
عِلْمٍ، أو أن يُفَسِّرَه بالهوَى، كما تَقَدَّمَ أمثلةُ ذلك، من الذين
فَسَّرُوه بأهوائهِم؛ (فإنه كما يَجِبُ السكوتُ عمَّا لا علْمَ له به؛ كذلك
يَجِبُ القولُ فيما سألَ عنه مما يَعْلَمُه)، ثم ذَكَرَ أنه يَجِبُ عليك
أن تَسكُتَ إذا كُنْتَ لا تَعلمُ معنى الآيةِ أو الحديثِ، ويَجِبُ عليك أن
تَتكلَّمَ بالآيةِ إذا كنتَ تَعرِفُ معناها وتَعرِفُ مَدلولَها، وإذا
سَكَتَّ فإنك تكونُ آثِماً. واسْتَدَلَّ (بقولِ اللهِ تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}، {لَتُبَيِّنُنَّهُ}:
تُبَيِّنُونَ معانيَهُ، وتُبَيِّنُونَ ألفاظَه، ولا تَكْتُمونَ الناسَ ما
أَنْزَلَ اللهُ، لا تَكْتُمُونَهم ألفاظَه، ولا تَكتمونَهم مَعانيَهُ {وأنتم تَعلمونَ}؛ فقد فَتَحَ اللهُ تعالى عليكم وعَلَّمَكم، فإذا كَتَمْتُم ذلك فأنتم قد كَتمتُم العلْمَ الذي أَمَرَ اللهُ تعالى ببيانِه.
ومثلُ هذه الآيةِ قولُ اللهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا}: يَكتمونَ ألفاظَ ومعانيَ ما أَنزلنا مِن البيناتِ والهُدَى، {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}، فاشتَرَطَ أنهم يُبَيِّنُونَ.
ومِثلُ ذلك أيضاً قولُ اللهِ تعالَى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ
يُكَلِّمُهُمُ اللهُ}... الآيةَ، فتَوَعَّدَهم على أنهم يَكتمونَ ما أَنزلَ اللهُ مِن الكتابِ، ثم استَدَلَّ أيضاً (بالحديثِ المشهورِ: ((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ))،
وذَكَرَ أنَّ هذا الحديثَ مَرْوِيٌّ عن طُرُقٍ)، وقد رواه ابنُ عبدِ
الْبَرِّ، وأطالَ في طُرُقِه في أوَّلِ كتابِ (جامعِ بيانِ العلْمِ
وفَضْلِه)، وفيه وعيدٌ شديدٌ، ((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ))
سواءٌ كان ذلك العلْمُ مِن القرآنِ أو كان مِن السنَّةِ؛ فإنه إذا كَتَمَه
فقد كَتَمَ الناسَ ما يَجِبُ عليه أن يُبَيِّنَه لهم، ومعنى
(أُلْجِمَ)يعني: خُتِمَ على فَهْمِه بلِجامٍ مِن نارٍ،ويكون اللجامٍ مِن
وَهَجِ النارِ، أو مِن حديدِ النارِ، أو نحوِ ذلك).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار
قال الشيخ مساعد بن سليمان الطيار: (قولُه: (وَلِهَذَا
تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِن السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ
بِهِ، كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَيُّ
أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيَدٍ القَاسِمُ بْنُ
سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ , عَن العَوَّامِ بْنِ
حَوْشَبٍ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ
سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إَنْ أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لاَ أَعْلَمُ؟! مُنْقطِعٌ.
وَقَالَ
أَبو عُبَيْدٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ , عَنْ حُمَيدٍ , عَنْ أَنَسٍ ,
أَنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ قَرأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ:
هَذِهِ الفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاها فَمَا هُوَ الأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى نَفْسِِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكلُّفُ يا عمرُ.
وَقَالَ
عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ, حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ:
حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍِ , عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ
رِقَاعٍ - فَقَرَأَ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: وما الأبُّ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكلُّفُ، فَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ تَدْرِيَهُ؟)
الكلامُ
هنا لا زال يتعلَّقُ بموضوعِ تفسيرِ القرآنِ بالرأيِ، وقد ذَكرَ المصنِّفُ
بعضَ الأسانيدِ التي حُكِمَ عليها بالانقطاعِ، ومع ذلك أَورَدها؛ لأنَّ
مثلَ هذا المعنى دلَّتْ عليه أدلَّةٌ أخـرى.
فهذه
الآثارُ وغيرُها كثيرٌ يدلُّ على أنَّهم يتوقَّفون فيما لا يَعرِفونَه؛
ولهذا توقَّفَ أبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه , وكذلك عمرُ رَضِيَ اللَّهُ
عنه في معنى (الأبِّ)، ولعلَّ السببَ في ذلك – واللَّهُ أعلمُ – هو أنَّ
(الأبَّ) لم يكنْ من دارجِ كلامِ قريشٍ؛ لأن القرآنَ نَزلَ بلغةِ قريشٍ
وبغيرِ لغةِ قريشٍ، وإنما كان معروفًا عندَهم بغيرِ هذا المسمَّى مِثلِ
الكلأِ، ولذلك استشكلوا هذه اللفظةَ.
ولا
يدلُّ استشكالُ أبي بكرٍ وعمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما لمعنى الأبِّ – مع
أنهما أفضلُ الأمَّةِ – على أنَّ (الأبَّ) لا يعرفُه أحدٌ، ولكنهما جَهِلا
هذا المعنى وعَرَفَه غيرُهما من الصحابةِ؛ ولهذا لا يُوجدُ في القرآنِ ما
لا يُعلمُ معناه، بل كلُّ القرآنِ معلومٌ، فإن جَهِلَه فلانٌ عَلِمَه
فلانٌ.
والإشكالُ
الذي لم أجدْ له جوابًا هو: ما وجْهُ التكلُّفِ في معرفةِ (الأبِّ)؟ فقولُ
عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه هنا: إنَّ هذا لَهو التكلُّفُ فما عليك ألا
تَدرِيَه؟ فكأنه قرأَ هذه الآياتِ: {أنَّا
صبَبْنَا الماءَ صبًّا، ثم شَقَقْنَا الأرضَ شقًّا، فأَنْبَتْنَا فيها
حبًّا، وعِنَبًا وقَضْبًا، وزيتونًا ونَخْلًا، وحدائِقَ غُلْبًا، وفاكِهةً
وأبًّا} فهذه المعطوفاتُ تدلُّ على أنَّ (الأبَّ) نوعٌ من المأكولِ
أو المطعومِ، فكأنه رَضِيَ اللَّهُ عنه يَرَى أن تحديدَ نوعِ هذا المأكولِ
بذاتِه نوعٌ من التكلُّفِ، وأنا لم يَظْهَرْ لي إلى الآنَ وجهُ التكلُّفِ
الذي أرادَه عُمرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
الدرسُ العشرونَ
قولُه: (وَهَذَا
كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا - رَضِيَ اللَّهُ عنهما - إِنَّمَا
أَرَادَا اسْتِكْشَافَ مَاهِيَّةِ الأَبِّ، وَإِلاَّ فَكَوْنُهُ نَبْتًا
مِن الأَرْضِ ظَاهِرٌ لاَ يُجْهَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا }.
وَقَالَ
ابنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهيمَ قَالَ: حَدَّثَنا
ابنُ عُليَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَن ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ , أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئلَ عَنْهَا بَعْضُكُم لَقَال فِيها،
فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ
عَن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابنَ عبَّاسٍ عَنْ :{ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ }، فَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ: فَمَا: { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ؟
فَقَالَ الرَّجلُ: إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُحَدِّثَني، فَقَالَ ابنُ
عبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِهِمَا. فَكَرَِه أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لاَ
يَعْلَمُ.
وَقَالَ
ابنُ جَرِيرٍ: حَدَّثني يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهيمَ قالَ: حدَّثَنا ابنُ
عُليَّةَ , عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ , عَن الْوَلِيدِ بنِ مُسْلِمٍ
قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بنُ حَبِيبٍ إِلَى جُنْدُبِ بنِ عَبْدِِ اللَّهِ
فَسَألَهُ عَنْ آيَةٍ مِن القُرْآنِ فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ
كُنْتَ مُسْلِمًا لَمَا قُمْتَ عنِّي. أَوْ قالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي .
وَقَالَ
مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِنَّهُ كَانَ
إِذَا سُئلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِن القُرْآنِ قالَ: إِنَّا لاَ نَقُولُ
فِي القُرْآنِ شَيْئًا.
وَقَالَ
اللَّيْثُ: عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ , عَنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيِّبِ ,
أنَّهُ كَانَ لاَ يَتَكَلَّمُ إِلاَّ فِي الْمَعْلُومِ مِن القُرْآنِ .
وَقَالَ
شُعْبَةُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بنَ
الْمُسيِّبِ عَنْ آيَةٍ مِن الْقُرْآنِ فَقَالَ: لاَ تَسْأَلْنِي عَن
القُرْآنِ، وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ
شَيْءٌ. يِعْنِي عِكْرِمَةَ.
وَقَالَ
ابنُ شَوْذَبٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بنُ أَبِي يَزِيدَ قالَ: كُنَّا
نَسْأَلُ سَعِيدَ بنَ الْمُسَيِّبِ عَن الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَكَانَ
أَعْلَمَ النَّاسِ، فإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِن
الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ.
وقالَ
ابنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ، قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ، وَإنَّهُم
لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ، مِنْهُم سَالِمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، وَالقَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدُ بنُ المسيِّبِ، وَنَافِعٌ.
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَن اللَّيثِ ,
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قطُّ .
وَعَنْ
أَيُّوبَ، وَابْنِ عَوْنٍ، وَهِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ , عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلْتُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ آيَةٍ مِن
القُرْآنِ، فَقَالَ: " ذَهَبَ الَّذِين كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيما أُنزِلَ
مِن القُرْآنِ، فَاتَّقِ اللَّهَ، وَعَلَيْكَ بِالسَّدادِ.
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنا مُعَاذٌ , عَن ابْنِ عَوْنٍ , عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ , عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إِِذَا
حَدَّثْتَ عَن اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا
بَعْدَهُ. حَدَّثَنا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهيمَ قَالَ:
كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَّقُونَ التَّفسيرَ وَيَهَابُونَهُ .
وَقَالَ
شُعْبَةُ: عَن عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: قالَ
الشَّعبيُّ: وَاللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلاَّ وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْها،
وَلَكِنَّهَا الرِّوايةُ عَن اللَّهِ.
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأنَا عُمَرُ بنُ أَبِي
زَائِدَةَ , عَن الشَّعْبِيِّ , عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: اتَّقُوا
التَّفسِيرَ؛ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوايةُ عَن اللَّهِ .
فهَذِهِ
الآثارُ الصَّحيحةُ، وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ
مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِم عَن الْكَلاَمِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لاَ
عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِما يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ
لُغَةً وَشَرْعًا فَلاَ حَرَجَ عَلَيْه) .
كلُّ
هذه الآثارِ التي ذَكرَها تَنْصَبُّ في التحذيرِ مِن التفسيرِ بالرأيِ ,
وقد كان مذهبًا لكُلِّ الأعلامِ الذين ذكرَهم مِن التابعين، من تابِعي
المدينةِ أو الكوفةِ أو البصرةِ، فكأنَّ التورُّعَ في التفسيرِ غلَبَ على
فقهاءِ المدينةِ والكوفةِ.
ولكنَّ
تلاميذَ ابنِ عباسٍ مِن أكثرِ الناسِ قولًا في التفسيرِ، وقد ذَكرَ
المصنِّفُ أنَّ مَن تكلَّمَ بما يَعلمُ من ذلك لغةً وشرعًا فلا حَرجَ عليه.
قولُه: (وَلِهَذَا
رُوِيَ عَنْ هَؤُلاَءِ وَغَيْرِهِم أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَلاَ
مُنَافَاةَ؛ لأنَّهُم تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكتُوا عَمَّا
جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا
يَجِبُ السُّكوتُ عَمَّا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ القَوْلُ
فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلمُهُ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى :{ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} ؛ وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ: ((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ)).
وَقَالَ
ابنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنا مُؤَمَّلٌ،
حَدَّثَنا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنادِ , قَالَ: قَالَ ابنُ عبَّاسٍ:
التَّفسيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٍ تَعْرِفُهُ العَرَبُ مِنْ
كَلاَمِهَا، وَتَفْسِيرٍ لاَ يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفسيرٍ
يَعْلَمُهُ العُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٍ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ -
تَعَالَى ذِكْرُهُ - , وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ) .
نبَّه
شيخُ الإسلامِ هنا إلى أنَّ هؤلاء الذين رُوِي عنهم أنهم تَحرَّجُوا في
التفسيرِ لا يعني هذا أنه لم تَرِدْ عنهم أقوالٌ في التفسيرِ، بل وَردَ عن
بعضِهم أقوالٌ في التفسيرِ، مثلِ سعيدِ بنِ المسيِّبِ ومسروقٍ، فتُحملُ
أقوالُهم السابقةُ على أنهم لا يقولون في القرآنِ إلا ما يَعرِفُونه
ويَعلمونَه، ويتوقَّفون فيما سوى ذلك).