الدروس
course cover
3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة
9 Nov 2008
9 Nov 2008

7454

0

0

course cover
شرح مقدمة التفسير

القسم الثالث

3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة
9 Nov 2008
9 Nov 2008

9 Nov 2008

7454

0

0


0

0

0

0

0

3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ
وَحِينَئِذٍ إِذَا لَمْ تَجِد التَّفسيرَ فِي القُرْآنِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ ؛ رَجَعْتَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحابةِ ؛ فَإنَّهُم أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِن الْقَرَائِنِ وَالأَحْوَالِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا ، وَلِمَا لَهُم مِن الفَهْمِ التَّامِّ والعِلْمِ الصَّحيحِ ، ، لاَ سِيَّما عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ ،وعَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍٍ .
قَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا جَابِرُ بنُ نُوحٍ ، قَالَ : أَنبَأَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ - يَعْنِي ابنَ مسعُودٍ - " وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ ، وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ مِنِّي تَنَالُهُ الْمَطَايَا ؛ لأَتَيْتُهُ ."
وَقَالَ الأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ ؛ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ .
وَمِنْهُمُ الحَبْرُ البَحْرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُرْجُمَانُ القُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ ، حَيثُ قَالَ : " اللَّهـُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ " .
وَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أنْبأنا وَكِيعٌ ، أَنبَأَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ - يَعْنِي ابنَ مسعُودٍ - قَالَ : " نِعْمَ ، تُرْجُمَانُ القُرآنِ ابنُ عَبَّاسٍ " .
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُدَ عَنْ إِسْحَاقَ الأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بنِ صُبَيحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَن ابنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قالَ : " نـعْمَ التُّرجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابنُ عبَّاسٍ "
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنِ الأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ .
فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ العبارَةَ ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَعُمِّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلاَثِينَ سَنَةً . فَمَا ظنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِن الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِِ مَسْعُودٍ ؟
وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ : اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ عَلَى الْمَوسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ البقرَةِ - وَفِي رِوَايةٍ سُورَةَ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ والتُّركُ والدَّيلَمُ لأَسْلَمُوا .
وَلِهَذَا فَإِنَّ غَالِبَ مَا يَرْوِيهِ إِسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الرَّحمنِ السُّدِّيُّ الكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجلَيْنِ : ابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِِ الأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُم مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُُ قَالَ : " بَلِّغُوا عنـِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو .
ولِهَذَا كانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَومَ اليرموكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الكِتَابِ ؛ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُما بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِن الإِذْنِ فِي ذَلِكَ).

هيئة الإشراف

#2

18 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)

القارئ: ("وحينئذٍ إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمةِ الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين وعبد الله بن مسعود.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جريرٍ الطبري: حدثنا أبو قريب قال: أنبأنا جابر بن نوح قال: أنبأنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود - والذي لا إله غيره ما نزلت آيه من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت وأين نزلت, ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته).

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الله أكبر. الله أكبر! هذا فيه السفر في طلب العلم، وليس مراد ابن مسعود رضي الله عنه بهذا أن يمدح نفسه وأن يفخر بها، لكن مراده أن يحث الناس على تعلم كتاب الله عز وجل وعلى طلب تفسيره من أهله، ولعله أيضاً يريد أن يتعلم الناس منه تفسير كلام الله سبحانه وتعالى. نعم.


القارئ: ("وقال الأعمش أيضاً عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابنِ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم").

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (ابنُ (ولا) ابنِ؟ ابنُ (اللي) قبله مجرور؛ لأن لو تقول: ابنِ صار العباس هو ابن العم، وابن العم هو عبد الله أي نعم.

طالب:
... يعني أنه أخبر العلم بالانبياء رضي الله عنه في كتاب الله.
الشيخ:
(إيه مفيش) شك إنه أعلم منه، أعلم منه بكلام الله، نعم، وأيضاً لما يقول في ذلك الوقت ما هو قصد.. ما هو يقول يعني يفاخر، ما قصد الفخر.
طالب: الحبر والبحر كلمتان متقابلتان؟
الشيخ:
نعم نعم، البحر: لكثرة علمه، والحبر: معناه أيضا سعة العلم؛ لأن الحبر والبحر الشيء الواسع، ويقال الحَبر و الحِبر بالكسرة أيضاً.
سائل:
...قول شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رجح عبد الله بن مسعود في علمه على ابن عباس والرسول صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فكيف نوفق؟
الشيخ:
ما يمنع؛ ما قال الرسول: اللهم اجعله أعلم الناس، قال: اللهم علمه التأويل. نعم).


القارئ:("ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)).
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار قال: أنبأنا وكيع قال: أنبأنا سفيان عن الأعمش عن مسلم قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: نِعم تَرجُمان القرآن ابن عباس.
ثم رواه عن يحيى بن داود عن إسحاقَ الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صُبيح أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس.
ثم رواه عن غندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك. فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده ابن عباس ستاً وثلاثين سنة، فما طنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الله أكبر. الله أكبر).

القارئ: ("وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة, وفي رواية سورة النور ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
ولهذا فإن غالب ما يروية إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو. وبهذا..").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (المعروف أن ابن مسعود لا يأخذ عن الإسرائيليات وإنما (اللي) يأخذ ابن عباس، فلا أدري هل كلام المؤلف رحمه الله كلام يراد به الجميع أو يراد به البعض، وعلى كل حال إن شاء الله تراجعون ترجمة عبد الله بن مسعود هل أحد من أهل العلم قال إنه ممن يأخذ عن بني إسرائيل؛ لأن ابن عباس مشهور بأنه يأخذ. نعم.

القارئ: ("ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك نابلتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (اصبر، الظاهر نقف على هذا؛ لأن، نقف على هذا
مجلس آخر
الشيخ:
....أي نعم النص، والمدلول هو الشيء الذي أثبت بهذا النص أو استدل له بهذا النص هذا المدلول، فأحياناً يكون الخطأ في الدليل والمدلول، وأحياناً يكون الخطأ في الدليل دون المدلول، نعم يعني قد يكون فيهما جميعاً وقد يكون في المدلول أو بعبارة أصح في الدليل.
سائل:
هل يكون الإنشاء صحيح وينكر أي كلام...
).

هيئة الإشراف

#3

18 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)


قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (ت: 1430هـ): (ثم ذَكَرَ بعدَ ذلك مَن لم يَجِد التفسيرَ في الوَحْيَيْنِ: في القرآنِ والسنَّةِ، يقولُ: (فحينئذٍ إذا لم نَجِد التفسيرَ في القرآنِ ولا في السنَّةِ) فمن أين نَأْخُذُه؟.
يقولُ: رَجَعْنا في ذلك إلى أقوالِ الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم).
وقد تَقَدَّمَ أنَّ الصحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم تَلَقَّوُا الوحيَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وتَعَلَّمُوا الآياتِ، ثم تَعَلَّمُوا العمَلَ بالآياتِ، وتَعَلَّمُوا أيضًا مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ المعانيَ، كما تَقَدَّمَ عن عبدِ اللهِ بنِ حبيبٍ السُّلَمِيِّ قالَ: حَدَّثَنا الذين يُقْرِؤُونَنَا: عثمانُ بنُ عَفَّانَ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، وغيرُهما، أنهم كانوا إذا تَعَلَّمُوا مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عَشْرَ آياتٍ لم يَتجاوَزُوها حتى يَتَعَلَّمُوا ما فيها، قالوا: فتَعَلَّمْنَا القرآنَ والعلْمَ والعمَلَ جميعاً.
فهذا دليلٌ على أنه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ كان يُعَلِّمُهم المعانيَ كما يُعَلِّمُهم الألفاظَ. ثم إنَّ بعضَهم يَنْسِبُ التفسيرَ إلى نفْسِه ولا يَذكرُه مَرفوعاً، كأنه مِن بابِ الاختصارِ، يُفَسِّرُ الآيةَ مِن نفْسِه، وذلك مع كونِه أَخَذَه مَرفوعاً، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وهذا هو تفسيرُ الكثيرينَ.
يُوجَدُ تفاسيرُ عن كثيرٍ مِن الصحابةِ ولا يُصَرِّحونَ بأنه مرفوعٌ، وإنما يَذكرونه كتفسيرٍ مِن أنفُسِهم، مع أنَّ مِثلَه لا يُقالُ بالرأيِ، فيكونَ له حُكْمُ الرفْعِ.
ذَكَرَ العلماءُ في مُصْطَلَحِ الحديثِ أنَّ الحديثَ الموقوفَ قد يكونُ مرفوعاً حُكْماً، وأنَّ المرفوعَ يَنقسِمُ إلى قِسمينِ: مَرفوعٌ صريحٌ ومرفوعٌ حُكْماً.
والمرفوعُ حُكْماً هو الذي يَتكلَّمُ به الصحابيُّ ولا يُسْنِدُه، لا يَرْفَعُه ولكن نَعرِفُ أنه لا يَتَجَرَّأُ عليه، ولا يقولُه مِن قِبَلِ نفْسِه، فإنَّ في ذلك تَجَرُّؤاً على اللهِ، والصحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم قد نَزَّهَهُم اللهُ تعالى؛ فهم أَوْرَعُ مِن أن يقولوا على اللهِ تعالى بلا عِلْمٍ، فإنَّ القولَ على اللهِ بلا عِلْمٍ كبيرةٌ، قد يكونُ أكبرَ مِن الشرْكِ، كما قالَ تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، وقالَ تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وأَخْبَرَ تعالى بأنَّ الذين يَتَخَبَّطُونَ في الحلالِ والحرامِ مُخطئونَ؛ لقولِه: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، فالصحابةُ أوْرَعُ مِن أن يَتَخَبَّطُوا في الأحكامِ، فإذا رَأَيْنَا لهم تفاسيرَ تُوَضِّحُ الآياتِ المجمَلَةَ، ولم يَكُنْ للرأيِ فيها مَجالٌ حَمَلْنَاهَا على أنها مَرفوعةٌ، وفي ذلك تفسيرٌ يأتي إن شاءَ اللهُ.

قولُ: (إنَّ الصحابةَ أَدْرَى بذلك؛ لِمَا شاهَدُوهُ مِن القرآنِ). يعني: هم الذين حَضَرُوا التنزيلَ وعَرَفوا أسبابَه، وشاهَدُوا نزولَه، (وما شاهَدُوهُ مِن الأحوالِ التي اخْتُصُّوا بها)، يعني: خصائصَهم، وهي: صُحبةُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وحضورُ التنزيلِ، ولِمَا لهم مِن الفَهْمِ التامِّ أيضاً، فَهْماً ليس لغيرِهم، فَهْمُهم أقوى مِن فَهْمِ غيرِهم، (ولِمَا لهم مِن العلْمِ الصحيحِ، ولما لهم مِن العمَلِ الصالحِ)، والعملُ الصالحُ سببٌ للعلْمِ؛ واقْرَأْ قولَ اللهِ تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ}، فهم أَوْرَعُ الناسِ وأَتْقَى الناسِ، فلا جَرَمَ أن اللهُ تعالى عَلَّمَهُم وفَتَحَ عليهم، وكلُّ مَن أَصْلَحَ عَمَلَه فإنَّ اللهَ تعالى يُصْلِحُ قولَه.

قولُه: (لا سيَّما عُلَمَاؤُهُم وكُبَرَاؤُهم). يعني: الذين لهم صُحبةٌ قديمةٌ، وهم أكابِرُ الصحابةِ، (كالخلفاءِ الراشدينَ الأئمَّةِ): أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنهم، يُسَمَّوْنَ أئمَّةً؛ لأنهم قُدوةٌ، ويُسَمَّوْنَ خُلفاءَ؛ لأنهم اسْتُخْلِفوا، وُلُّوا الخلافةَ بعدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ واحداً بعدَ واحدٍ، فيُسَمَّوْنَ أئمَّةً مَهدِيِّينَ؛ لأنه عليه السلامُ وَصَفَهم بذلك؛ لقولِه: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ))، يعني: شَهِدَ لهم بأنهم أهلُ هدايةٍ.
ثم ذَكَرَ أيضاً مَن يُماثلُهم ممن عَلِمُوا القرآنَ وعَلِمُوا معانيَهُ، (ومَثَّلَ بعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ )الصحابيِّ الجليلِ رَضِيَ اللهُ عنه، مِن مُتَقَدِّمِي المسلمينَ، أَسْلَمَ قديماً في مكةَ، وصَحِبَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذَكَرَ أنه تَلَقَّى مِن فِيهِ سبعينَ سورةً بلا واسطةٍ، وبقيَّةُ السوَرِ أَخَذَها بواسطَةٍ، وذَكَرَ أنه قَرأهُ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وأَقَرَّهُ على قِراءتِه، وقالَ له: ((اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)).
ذَكَرَ إسناداً (عن ابنِ جريرٍ رَحِمَه اللهُ قالَ: حَدَّثَنا أبو كُريبٍ، - وهو مِن مَشايخِ البخاريِّ ومسلمٍ، واسمُه محمدُ بنُ العَلاءِ - قالَ: حَدَّثَنَا جابرُ بنُ نوحٍ، - وهو مِن تابعِي التابعينَ؛ قالَ: أَنْبَأَنَا الأعمشُ وهو مِن صِغارِ التابعينَ - سليمانُ بنُ مِهرانَ، - عن أبي الضُّحَى - واسمُه: مسلمُ بنُ صُبيحٍ،- وهو أيضاً مِمَّنْ أَدْرَكَ ابنَ مسعودٍ، ولكنه يَرْوِي عنه أحياناً بواسِطَةٍ - عن مسروقٍ، - وهو مِن خواصِّ تَلاميذِ ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه-.
قالَ: قالَ عبدُ اللهِ - يعني: ابنُ مسعودٍ، - إذا أَطْلَقَ أصحابُه: (عبدَ اللهِ) انْصَرَفَ إلى ابنِ مسعودٍ - يقولُ: والذي لا إلهَ غيرُه! ما نَزَلَت آيةٌ مِن كتابِ اللهِ إلا وأنا أَعْلَمُ فيمَن نَزلتْ وأين نَزلَت)ْ.
يعني: يَعْلَمُ سببَ نزولِها ومكانَ نزولِها، القرآنُ كلُّه، وآياتُه التي تَزيدُ على ستَّةِ آلافِ آيةٍ، يقولُ: كلُّ آيةٍ يَعْرِفُ سببَ نزولِها، ويَعرِفُ مَوْضِعَ نزولِها، ثم يقولُ: (ولو أَعْلَمُ مكانَ أَحَدٍ أَعلَمَ بكتابِ اللهِ مِنِّي تَنالُه الْمَطايا لأَتَيْتُهُ). يعني: لأَسْتَفِيدَ منه.
ثم قال: وقالَ الأعمشُ أيضاً: عن أبي وائلٍ، عن ابنِ مسعودٍ قالَ: كان الرجلُ منا إذا تَعَلَّمَ عشرَ آياتٍ لم يُجاوِزْهُنَّ حتى يَعرفَ معانيَهُنَّ والعملَ بهن).
وذلك؛ لأن القرآنَ أُنْزِلَ للعملِ به، ثم اتخذَ الناسُ تلاوتَه عَملاً، فذَكَرَ ابنُ مسعودٍ أن الرجلَ لا يَتجاوزُ عشرَ آياتٍ، حتى يَتعلَّمَ كيف تطبيقُها وكيف معانيها، وكيف دَلالاتُها ممن يَتعلَّمُ.
لا شكَّ أنه يَتعلَّمُه مِن النبيِّ محمدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؛ فإنه مَرْجِعُهم وأُستاذُهمالذي يَتعلَّمُون منه، فلا جَرَمَ أنهم اختُصُّوا بأنهم يُمَيِّزُون ما تَعلَّموه، فيكونُ تَعَلُّمُهم أفضلَ مِن تَعَلُّمِ غيرِهم، فالمتأخِّرونَ يُمْكِنُ أنهم يَقْتَصِرونَ على تَعَلُّمِ الألفاظِ ولا يَهْتَمُّونَ بتَعَلُّمِ المعاني، وأما الصحابةُ فشَهِدَ ابنُ مسعودٍ في هذا، وكذلك شَهِدَ عليٌّ وعثمانُ أنهم لا يَتجاوزون عشْرَ آياتٍ إلا بعدَ أن يَتَعَلَّمُوا معانيَها، وكلُّ ذلك دليلٌ على أنهم يَهْتَمُّونَ بالمعاني كاهتمامِهم بالألفاظِ، ومنهم الحبْرُ البحرُ - الحبرُ: واحدُ الأحبارِ، وهم العلماءُ - عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ)، بحرٌ يعني: بحرٌ في العلومِ، ويُسَمَّى: حبرَ الأمَّةِ، وتُرجُمانَ القرآنِ، تُرجُمانُ: هو الْمُتَرْجِمُ، ومعنى: أنه يُتَرْجِمُ الآياتِ، يعني: يُفَسِّرُها، كما يُتَرْجَمُ الكلامُ إلى لغةٍ أخرى، فيُسَمَّى: تُرْجُمانَ القرآنِ، يعني: معلِّمَ القرآنِ ومُبَيِّنَه، (هو ابنُ عمِّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ)، ما أَسْلَمَ إلا مُتَأَخِّراً، كانت وِلادتُه قبلَ الهجرةِ بثلاثِ سنينَ، ولكن ما هاجَرَ إلا في سنةِ ثمانٍ مع أبيهِ، قبلَ الفتْحِ بأَشْهُرٍ، ولما هاجَرَ تَتلمذَ على الصحابةِ، وكذلك لازَمَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وأكثَرُ ما أَخَذَه عن الصحابةِ.
ذَكَرَ بعضُ العلماءِ أنَّ الأحاديثَ التي رواها عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مباشَرَةً قد لا تَصِلُ إلى عشرةِ أحاديثَ أو عشرينَ حديثاً، ومع ذلك فإنَّ الأحاديثَ التي رواها قد تَصِلُ إلى ألفينِ، مجموعُها في مُسْنَدِ الإمامِ أحمدَ، ومُسندِ بَقِيِّ بنِ مخلدٍ. فمِن أينَ أَخَذَها؟ مِن الصحابةِ، حتى أنه يقولُ في بعضِ الرواياتِ: لَمَّا تُوُفِّيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قُلتُ لشابٍّ مِن الأنصارِ: هَلُمَّ فلْنَأْخُذْ عن الصحابةِ؛ فإنهم مُتوافِرونَ الآنَ، نتَعَلَّمُ منهم حتى نَحْمِلَ ما معهم مِن العِلْمِ.
فقالَ ذلك الشابُّ: عَجَباً لك يا ابنَ عباسٍ؛ أتَظُنُّ الناسَ يَحتاجونَ إليك؟! أليسَ فيهم صحابةُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
يقولُ: فأَعْرَضْتُ عن كلامِه، وأَقْبَلْتُ على التعلُّمِ، فكان يُذْكَرُ لي الحديثُ عندَ أحَدِ الصحابةِ فأَطْرُقُ عليه بابَه، فيقالُ: إنه نائمٌ في القَيْلُولةِ، فأَقْعُدُ عندَ البابِ، تَسْفِي الريحُ في وجهي، فإذا قامَ إلى الصلاةِ ورآني قالَ: ابنُ عمِّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ! هلا أَخْبَرْتَنِي وأنا آتيكَ؟ فأقولُ: العلْمُ أَوْلَى أنْ يُؤْتَى إليه.
فكان هكذا يَتَعَلَّمُ مِن الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، يَأخُذُ عنهم الأحاديثَ، ويَأخُذُ أيضًا عنهم تفسيرَ الآياتِ التي تَلَقَّوْها عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، إلى أن فَتَحَ اللهُ عليه، فبعدَ مُدَّةٍ أَكَبَّ الناسُ عليه، وصاروا يَتعلَّمونَ منه، ويَصْدُرُ عن فتواهُ الفِئامُ مِن الناسِ، فيَزدحمونَ عليه، ولا يَخْلُو مكانُه ممَّن يَتَتَلْمَذُ عليه ويَسألُه، فرآه بعدَ ذلك الشابُّ الأنصاريُّ فقالَ: أنتَ أَفْقَهُ مِنِّي. يعني: إنك اجتهَدْتَ وتَعلَّمْتَ، ثم نالَه ذلك أيضاً (ببركةِ دعاءِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، حيث قالَ له: ((اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)))، روايةُ: ((فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)) هذه أصَحُّ روايةٍ، ((عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)) مروِيَّةٌ مِن طُرُقٍ، وإن كان فيها شيءٌ أو في بعضِها مَقالٌ، ولكن حَصَلَ له الأمرانِ، فَقَّهَهُ اللهُ تعالى في الدِّينِ، فرَزَقَه الفِقْهَ، وكذلك التأويلَ الذي هو مَعرفةُ ما تَؤُولُ إليه المعاني.
ذَكَرَ بعدَ ذلك إسنادَ (ابنِ جَريرٍ قالَ: حَدَّثَنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، - شيخٌ مِن مشايخِ البخاريِّ ومسلمٍ، يقالُ له: محمدُ بنُ بشارٍ العبديُّ، ويُلَقَّبُ: بُندارٌ، - أنبأنا وكيعٌ؛ - وكيعُ بنُ الجرَّاحِ: العالمُ المشهورُ، - أنبأنا سفيانُ. -إذا أُطْلِقَ سفيانُ فهو: سفيانُ الثوريُّ، - عن الأعمشِ - هو: سليمانُ بنُ مِهرانَ، - عن مسلمٍ - هو: مسلمُ بنُ صبيحٍ، ويُكَنَّى بأبي الضحى، - عن مسروقٍ، - هو تلميذُ ابنِ عباسٍ وتلميذُ ابنِ مسعودٍ -قالَ: قالَ عبدُ اللهِ، يعني: ابنُ مسعودٍ: نِعْمَ تُرْجُمانُ القرآنِ ابنُ عباسٍ).
شهادةُ ابنِ مسعودٍ وهو مِن أَجِلاَّءِ الصحابةِ لابنِ عبَّاسٍ أنه تُرجُمانُ القرآنِ، يعني: مُفَسِّرُه؛ وأنَّ اللهَ تعالى فَتَحَ عليه فصارَ يُفَسِّرُ القرآنَ.
(ثم رواه -ابنُ جريرٍ-، عن يحيى بنِ داودَ، عن إسحاقَ الأزرقِ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن مسلمِ بنِ صبيحٍ أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن ابنِ مسعودٍ-، يعني: مَدارُه على الأعمشِ أو على سفيان َ-، أنه قالَ: ( نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ)). نِعْمَ: مَدْحٌ له.
(ثم رواه - أيضاً عن بُنْدَارٍ - وهو: محمدُ بنُ بَشَّارٍ، - عن جعفرِ بنِ عَوْنٍ، عن الأعمشِ؛ به كذلك)؛ فأَصْبَحَ ابنُ بشَّارٍ رواه عن الشيخينِ: عن وكيعٍ، وعن ابنِ عونٍ، وأصبَحَ الذين رَوَوْهُ عن الأعمَشِ: جَعْفَرَ بنَ عونٍ، وسفيانَ الثوريَّ، (فهذا إسنادٌ صحيحٌ)، حيث إنه صَحَّ عن الأعمَشِ مِن طريقينِ: مِن طريقِ سفيانَ الثوريِّ، ومِن طريقِ جعفرِ بنِ عونٍ، (صحيحٌ إلى ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنه قالَ في ابنِ عبَّاسٍ هذه العبارةَ) تَزْكِيَةً مِن ابنِ مسعودٍ لابنِ عبَّاسٍ.
ثم قال: (وقد ماتَ ابنُ مسعودٍ في سنةِ ثلاثٍ وثلاثينَ)، وفي روايةٍ: في سنةِ اثنتينِ وثلاثينَ، ماتَ في هذه السنةِ قبلَ موتِ عثمانَ بسنتينِ أو بثلاثِ سنواتٍ، ذَكَرَه ابنُ كثيرٍ في التاريخِ في سنةِ اثنتينِ وثلاثينَ، وهي السَّنَةُ التي ماتَ فيها أبو ذَرٍّ، والتي ماتَ فيها عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، وماتَ فيها العباسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ، ولكن قد يكون موته في أوَّلِ السنَةِ التي بعدَها: سنةِ ثلاثٍ وثلاثينَ، (وعُمِّرَ ابنُ عباسٍ بعدَه سِتاًّ وثلاثينَ سنةً)، فعلى هذا يكونُ ماتَ سنةَ ثمانٍ أو تسعٍ وستينَ، ومشهورٌ أنه ماتَ سنةَ ثمانٍ وسِتِّينَ، رَضِيَ اللهُ عنه.

قولُه: (فما ظَنُّكَ بما كَسَبَه مِن العلومِ بعدَ ابنِ مسعودٍ)أي: ما فَتَحَ اللهُ تعالى عليه به وما رَزَقَهُ مِن العلومِ، وما تَعَلَّمَهُ مِن بقيَّةِ الصحابةِ الذين عاشُوا بعدَه - بعدَ ابنِ مسعودٍ - مما أَخَذَه عن الصحابةِ: أن أَخَذَ عن عائشةَ، وأَخَذَ عن عليٍّ، وأَخَذَ عن عثمانَ، وأَخَذَ عن أبي هُريرةَ، وغيرِهم مِن الصحابةِ الذين أَدْرَكَهم، سواءٌ ماتوا بعدَه كابنِ عمرَ، أو ماتوا قبلَه كأبي هُريرةَ، أخَذَ عنهم كثيراً، وقد ذكر نحوَ هذا الكلامِ ابنُ كثيرٍ في مُقَدِّمَةِ التفسيرِ قولُه: (وقالَ الأعمشُ، عن أبي وائلٍ: استَخْلَفَ عليٌّ عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ على الْمَوْسِمِ - يعني: على مَوْسِمِ الحجِّ في خِلافةِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه-، فخَطَبَ الناسَ - يَظْهَرُ أنَّ ذلك في مِنًى - فقَرَأَ في خُطبتِه سورةَ البقرةِ، وفي روايةٍ: سورةَ النورِ، - والمشهورُ أنه فَسَّرَ سورةَ النورِ-، ففَسَّرَها تفسيراً لو سَمِعَتْهُ الرومُ والتُّرْكُ والدَّيْلَمُ لأَسْلَموا)، يعني: مِن بلاغتِه رَضِيَ اللهُ عنه؛ وذلك مما فَتَحَ اللهُ تعالى عليه، ومما رَزَقَه اللهُ تعالى مِن بلاغةٍ وقُوَّةِ أسلوبٍ، وتعبيرٍ واضحٍ، وتفسيرٍ للمعاني، وإظهارِ بيانِ القرآنِ، وإظهارِ بلاغتِه وإعجازِه، وإظهارِ ما فيه مِن المعاني الكثيرةِ التي يَفْتَحُ اللهُ تعالى بها على بعضِ عِبادِه.

قولُه: (ولهذا كان غالِبُ ما يَرْوِيهِ إسماعيلُ بنُ عبدِ الرحمنِ السُّدِّيُّ الكبيرُ في تفسيرِه عن هذينِ الرجلينِ: ابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاس)ٍ؛ وذلك لأنَّ السُّدِّيَّ له تفسيرٌ يَرويهِ ابنُ جَريرٍ ويُفَرِّقُه عندَ الآياتِ، ورواهُ عنه تلميذُه الذي يُسَمَّى أسباطَ، فعندَما يَرويهِ يَذْكُرُ أنه عن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعنِ ابنِ عباسٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فيَقتصِرُ على ذِكْرِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ، ويُجْمِلُ الباقيَ، ويقولُ: وعن ناسٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، هكذا هو في تفسيرِ ابنِ جَريرٍ، ففي أوَّلِ التفسيرِ يقولُ: عن مُرَّةَ الهمدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ وعن ابنِ عبَّاسٍ، وعن ناسٍ، ثم إنه لطُولِ وتَكَرُّرِ الإسنادِ صار يَقتصِرُ على السُّدِّيِّ، يقولُ: عن السُّدِّيِّ، ثم يَذكُرُ تفسيرَ الآيةِ حَسَبَ ما فَهِمَه.
ولا شَكَّ أنه تفسيرٌ يَغْلِبُ عليه أنه يُوافِقُ الحقَّ، (لكن( في بعضِ الأحيانِ يَنْقُلُ عنهم ما يَحكُونَهُ مِن أقاويلِ أهلِ الكتابِ)، يعني: مِن تفسيرٍ يَذكرونَه عن أهلِ الكتابِ، وأهلُ الكتابِ يعني: اليهودَ في ذلك الزمانِ؛ (وذلك لأنه أَبَاحَها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بقولِه: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). رواه البخاريُّ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ).
وتلك الحكاياتُ التي يَرويها السُّدِّيُّ يُمْكِنُ أنه رواها عن غيرِ ابنِ عبَّاسٍ، فابنُ عباسٍ في الغالبُ أنه لا يَرْوِي عن الإسرائيليَّاتِ، وكذلك ابنُ مسعودٍ، ولكن يُمْكِنُ أنَّ هناك مشايخَ آخَرينَ يَرْوُونَ تلك القِصَصَ، فأَخَذَها السُّدِّيُّ وَسَرَدَها في هذا التفسيرِ، وتفسيرُه موجودٌ في تفسيرِ ابنِ جريرٍ مُفَرَّقاً، ويقولُ المحقِّقُ لتفسيرِ ابنِ جريرٍ، وهو: أحمد شاكر، الذي حَقَّقَ إلى سورةِ الأنفالِ: إنَّ إسنادَه لا بأسَ به، إلا أنَّ هناك السُّدِّيَّ الصغيرَ: ضعيفٌ، والسُّدِّيُّ الكبيرُ: لا بأسَ به، يُقبَلُ تفسيرُه، وأنه يُوجَدُ في تفسيرِ السُّدِّيِّ أقوالٌ شاذَّةٌ، ويُوجَدُ فيه أيضاً حكاياتٌ كثيرةٌ عن بني إسرائيلَ، يعني: حكايةَ أقوالٍ مِن الإسرائيليَّاتِ التي لا يُوثَقُ بها، ولكنَّ بعضَ الصحابةِ وَثِقُوا بكعبِ الأحبارِ، وكأنهم يقولون: ما جَرَّبْنَا عليه كَذِباً، ولكنَّ الأغلبَ أنه يَأْخُذُ عن تلك الكتُبِ التي هي مِن بقايا الإسرائيليَّاتِ ويَثِقُ بها، ولا شَكَّ أنها قد دَخَلَها كثيرٌ مِن الكذِبِ ومِن الزيادةِ والنقْصِ، سيَّما في القِصَصِ الطويلةِ التي سَرَدَها ابنُ جريرٍ عفا اللهُ عنه، وابنُ كثيرٍ نَزَّهَ كتابَه عن أكثرِها.
ذَكَرَ (أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه أصابَ يومَ اليرموكِ زاملتينِ)، يعني: كِيسينِ فيهما كثيرٌ (مِن كُتُبِ أهلِ الكتابِ)، إما أنها مُتَرْجَمَةٌ باللغةِ العربيَّةِ أو أنه يَعْرِفُ ما فيها مِن اللغةِ مِن كُتُبِ أهلِ الكتابِ، (فكان يُحَدِّثُ منها بما فَهِمَه مِن هذا الحديثِ، مِن الإذْنِ في ذلك). تَجِدُونَ كثيراً مِن الأحاديثِ يَذْكُرُها ابنُ كثيرٍ في التفسيرِ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، وأنَّ بعضَ الرواةِ رَفَعَها فيقولُ: الصحيحُ أنه موقوفٌ، ولعلَّهُ مِن الزاملتينِ، فكلَّمَا ذَكَرَ حَديثاً، غالباً يقولُ: لعله مِن الزاملتينِ، يعني: مِن الكيسينِ اللذينِ فيهما كُتُبٌ أصابَها، فكان يُحَدِّثُ منهما، حيث فَهِمَ مِن قولِه: ((حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ))، وفي روايةٍ: ((فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمُ الأَعَاجِيبُ))، فيَثِقُ بما فيهما ويُحَدِّثُ.
ولكن الذي فيهما ليس كلُّه صحيحاً، وكلَّ ما يَنقُلُه كعبُ الأحبارِ ووهبُ بنُ المنبِّهِ ونوحٌ البكاليُّ ونحوُهم مِن الذينَ أَسْلَموا مِن اليهودِ، وكان عندَهم عِلْمٌ مِن كُتُبِ بني إسرائيلَ، ومِن كُتُبِ أهلِ الكتابِ؛ غيرُ صحيحةٍ؛ وذلك لأن كُتُبَهم استُحْفِظوا عليها فلم يَحفظوها، بخِلافِ كتابِ اللهِ تعالى، فقد تَوَلَّى اللهُ تعالى حِفْظَه، قالَ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وأما الأممُ الأخرى فإنَّ اللهَ قالَ عنهم: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ}، {اسْتُحْفِظُوا} يعني: قيلَ لهم: احْفَظُوه، لم يتولَّ اللهُ تعالى حِفْظَه ولكن وَكَّلَ حِفْظَه إليهم، فكان فيهم مَن غَيَّرَ وزادَ ونَقَّصَ، وابْتَكَرَ قِصَصاً وكَتَبَها، وأضافَ إليه كُتُباً وقصصاً.
وقد ذَكَرَ العلماءُ أنَّ مِن أشهَرِ كتبِهم-أي كتُبِ اليهودِ: التلمودَ والمنشا، ولا تَزالُ موجودةً عندَهم، وأن هذا التلمودَ كان في أوَّلِ الأمرِ صغيراً، ثم صارَ كلٌّ منهم كُلَّما تَوَلَّى زادَ فيه وأضافَ إليه، حتى يقولَ ابنُ القيِّمِ في (هِدايةِ الْحَيَارَى): إنه وَصَلَ إلى حِمْلِ بعيرٍ بعدَما كان صغيراً.
والكتابُ الثاني اسمُه المنشا، يقولُ ابن القيمرحمه الله: إنهم كانوا يَزيدونَ فيه، ووَصَلَ في عَهْدِهإلى ثمانِمائةِ ورقةٍ، يعني: أَلْفٍ وستِّمائةِ صفحةٍ، وأما الكُتُبُ التي يَنْقُلُ منها كَعْبُ الأحبارِ فإنها كُتُبٌ لا شَكَّ دَخَلَ فيها كثيرٌ مِن التحريفِ، فصاروا يُصَدِّقُون بها، ويَثِقُون بها.
ذَكَرَ ابنُ كثيرٍ أَثَراً عن كعبٍ عندَ قولِ اللهِ تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ}، قالَ كعبٌ: إنَّ هذا ليس في كُتُبِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ مِن السماءِ؛ فإنَّ اللهَ صانَها عن ذلك، وإنما هذا فيما كَتَبُوهُ مِن قِبَلِ أنفُسِهم، وفصَّلَ في ذلك ابنُ كثيرٍ، وأما المعلِّقُ عليه فإنه أَنْكَرَ ذلك، وقالَ: إنه قولٌ باطلٌ، وكذلك عندَ قولِ اللهِ تعالى في سورةِ البقرةِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: ولكن هذه الأحاديثَ الإسرائيليَّةَ تُذْكَرُ للاستشهادِ لا للاعتقادِ)، اشتَهَرَتْ تسميتُها بالإسرائيليَّاتِ، وأنها لا تُعْتَمَدُ ولا تُصَدَّقُ.
وَرَدَ في الحديثِ أنه صلى الله عليه وسلم قالَ: ((إِذَا حَدَّثَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلاَ تُصَدِّقُوهُمْ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ))،لأنه: إما أن يكونَ الذي قالوه حقًّا فتكونوا قد كَذَّبْتُم بالحَقِّ، وإما أن يكونَ باطلاً فتكونوا مُصَدِّقِينَ للباطلِ: ((وَلَكِنْ قُولُوا: آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ))،امتثالاً لقولِ اللهِ تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ}).

هيئة الإشراف

#4

20 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)

القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المصنف -رحمه الله تعالى- ونفعنا بصالح عمله.
تــفـسـيــر الـقـرآن بأقــوال
الصـحـــابة
وحينئذ إذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كعبد الله بن مسعود، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال: أنبأنا جابر بن نوح أنبأنا الأعمش ن عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال عبد الله – يعني ابن مسعود -: (والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته)
).

هيئة الإشراف

#5

20 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار


قال الشيخ مساعد بن سليمان الطيار: (قولُه: (تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ .
وَحِينَئِذٍ إِذَا لَمْ تَجِد التَّفسيرَ فِي القُرْآنِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ؛ رَجَعْتَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحابةِ؛ فَإنَّهُم أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِن الْقَرَائِنِ وَالأَحْوَالِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا، وَلِمَا لَهُم مِن الفَهْمِ التَّامِّ والعِلْمِ الصَّحيحِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لاَ سِيَّما عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍٍ.
قَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَابِرُ بنُ نُوحٍ، قَالَ: أَنبَأَنَا الأَعْمَشُ, عَنْ أَبِي الضُّحَى , عَنْ مَسْرُوقٍ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابنَ مسعُودٍ -: وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَنَالُهُ الْمَطَايَا لأَتَيْتُهُ .
وَقَالَ الأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَن ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ.
وَمِنْهُمُ الحَبْرُ البَحْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وَتَرْجُمَانُ القُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لَهُ، حَيثُ قَالَ: ((اللَّهـُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ))، وَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: نَبَّأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: أَنبَأَنَا سُفْيَانُ , عن الأَعْمَشِ , عَنْ مُسْلِمٍ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابنَ مسعُودٍ - قَالَ: نِعْمَ تَرْجُمَانُ القُرآنِ ابنُ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُدَ عَنْ إِسْحَاقَ الأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ , عن الأَعْمَشِ , عَنْ مُسْلِمِ بنِ صُبَيحٍ أَبِي الضُّحَى , عَنْ مَسْرُوقٍ , عَن ابنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قالَ: نـِعمَ التَّرجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابنُ عبَّاسٍ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنِ الأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ، فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ العبارَةَ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعُمِّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلاَثِينَ سَنَةً.
فَمَا ظنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِن الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِِ مَسْعُودٍ؟ وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عبَّاسٍ عَلَى الْمَوسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ البقرَةِ - وَفِي رِوَايةٍ: سُورَةَ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ والتُّركُ والدَّيلَمُ لأَسْلَمُوا).
الطريقُ الثالثُ من طرقِ التفسيرِ هو تفسيرُ القرآنِ بأقوالِ الصحابةِ، وذَكرَ شيخُ الإسلامِ عِلَّةَ الرجوعِ لأقوالِ الصحابةِ بقولِه: فإنهم أدرى بذلك – يعني: بتفسيرِ القرآنِ – لما شاهدوه من القرائِنِ والأحوالِ التي اخْتُصُّوا بها، ولِمَا لهم مِن الفَهمِ التامِّ والعلمِ الصحيحِ، وخصَّ منهم الكُبَرَاءَ منهم، وهم الأئمةُ الأربعةُ.
ولكن يُلاحَظُ هنا أنَّ الأئمةَ الأربعةَ تتفاوتُ الروايةُ عنهم من جهةِ القلَّةِ والكثرةِ، فأبو بكرٍ وعثمانُ رَضِيَ اللَّهُ عنهما المرويُّ عنهم في تفسيرِ القرآنِ قليلٌ جدًّا، وعُمرُ أكثرُ منهما، وأكثرُ منه عليٌّ، وإذا رتَّبْتَهُم بحسَبِ كثرةِ الروايةِ فإنكَ ستَجِدُ الروايةَ عن عليٍّ أكثرَ , ثم عن عُمرَ , ثم أبي بكرٍ وعثمانَ.
ثم ذَكرَ المصنِّفُ بعد ذلك من المشهورين من الصحابةِ في التفسيرِ عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ مُعلِّمَ الكوفةِ ومُقْرِئَها وفقيهَها ومفسِّرَها، فقد كان يُعلِّمُ تلاميذَه الإقراءَ والفِقهَ والتفسيرَ.
ثم ذَكرَ بعدَ ذلك ما لابنِ مسعودٍ من مَزايا وفَضلٍ، ومن ذلك أنه قال: ما مِن آيةٍ في كتابِ اللَّهِ إلا وعندَه فيها عِلمٌ، ولهذا كَثُرتِ الروايةُ عن ابنِ مسعودٍ، فالتفسيرُ المرويُّ عن ابنِ مسعودٍ أكثرُ من التفسيرِ المرويِّ عن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
أما حَبْرُ الأمَّةِ عبدُ اللَّهِ بنُ عباسٍ فهذا لا شكَّ أنه مِن أشهرِ الصحابةِ في هذا العِلمِ، وقد نال بركةَ دعاءِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بأنْ يُعلَّمَ التأويلَ، وروايةُ: ((وعَلِّمْهُ الكتابَ)) وفي غيرِ البخاريِّ: ((وعَلِّمْهُ التَّأويلَ)) وهي أشْهَرُ , وإن كانت روايةُ البخاريِّ أصحَّ.
ومما يدلُّ على عِلمِه بالتفسيرِ قولُ ابنِ مسعودٍ فيه، وابنُ مسعودٍ – كما ذَكرَ شيخُ الإسلامِ – تُوفِّيَ سنةَ 33هـ، وقد كان عُمْرُ ابنِ عباسٍ في ذلك الوقتِ ستًّا وثلاثينَ سَنةً؛ لأنه وُلِدَ قبلَ الهجرةِ بثلاثِ سنواتٍ، وقد قال ابنُ مسعودٍ هذا الكلامَ قَبلَ وفاتِه ممَّا يدلُّ على أنَّ عِلمَ ابنِ عباسٍ كان معلومًا عندَ الصحابةِ وهو ما يَزالُ شابًّا؛ ولهذا كان عُمرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه يُدخِلُه مع كبارِ الصحابةِ لما يَتميَّزُ به من الفَهمِ والعقلِ.
وذَكرَ المصنِّفُ أيضًا روايةَ أبي وائلٍ أنه قال: استَخْلَفَ عليٌّ – يعني ابنَ أبي طالبٍ – عبدَ اللَّهِ بنَ عباسٍ على المَوْصِلِ فخَطبَ في الناسِ، فقرأ في خُطبَتِه سورةَ البقرةِ - وفي روايةٍ: سورةَ النورِ - قال: ففسَّرَها تفسيرًا لو سَمِعَتْهُ الرومُ والتُّرْكُ والدَّيْلَمُ لأسْلَمُوا.
وكأنَّ أبا وائلٍ لمَّا سَمِعَ ما سَمِعَ من حُسنِ علمِ ابنِ عباسٍ بالتفسيرِ، وحُسنِ بيانِه عنه، وشدَّةِ تأثيرِ كلامِه في السامِعين له ظنَّ أبو وائلٍ أنه لو سَمِعَه الرومُ والتُّركُ والديلمُ لأسلَموا من شدَّةِ قوةِ تأثيرِه على السامِعِ، فالقضيةُ أشبهُ ما تكونُ بقضيةٍ نِسبيَّةٍ، والمرادُ هو التعبيرُ عن غزارةِ علمِ ابنِ عباسٍ بالتفسيرِ، وهذا مما لا خلافَ فيه.

قولُه: (وَلِهَذَا فَإِنَّ غَالِبَ مَا يَرْوِيهِ إِسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الرَّحمنِ السُّدِّيُّ الكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجلَيْنِ: ابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِِ الأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُم مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ حَيْثُُ قَالَ: ((بَلِّغُوا عنـِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو.
ولِهَذَا كانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَومَ اليَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الكِتَابِ؛ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُما بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِن الإِذْنِ فِي ذَلِكَ).
هذا النقاشُ سوف يأتي عندَ الحديثِ عن الإسرائيلياتِ، وقد سَبقَ طَرْحُه، ولكن أُشيرُ هنا إلى بعضِ القضايا المتعلِّقةِ بروايةِ الإسرائيلياتِ.
فقد ذُكِرَ أن غالِبَ ما يرويهِ إسماعيلُ السُّدِّيُّ عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ، وهو الطريقُ المشهورُ الذي يسمَّى بطريقِ السُّدِّيِّ عن أشياخِه (عن أبي صالحٍ، عن أبي مالكٍ، عن ابنِ عباسٍ؛ وعن مُرَّةَ الهَمَذانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ) .
وهذا هو سَندُ السُّدِّيِّ، وفيه روايةٌ عن ابنِ عباسٍ وعن ابنِ مَسْعُودٍ وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، ولكنَّ السُّدِّيَّ لم يميِّزْ هذه الرواياتِ، ولكن عامَّةُ ما ينقُلُه عنهم ما يَحكونُه من أقاويلِ أهلِ الكتابِ التي أباح رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ روايتَها حيث قال: ((بلِّغُوا عنِّي ولو آيةً , وحدِّثُوا عن بني إسرائيلَ ولا حَرجَ، ومَن كذَبَ عليَّ متعَمِّدًا فَليَتَبوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ))، فكأنَّ المصنِّفَ يُنَبِّهُ هنا على أنَّ السُّدِّيَّ كان ينقُلُ هذه الإسرائيلياتِ من هذه الطُّرقِ المرويَّةِ عن الصحابةِ.
ثم نبَّهَ المصنِّفُ على أنَّ هذا الحديثَ: ((حدِّثُوا عن بني إسرائيلَ ولا حَرجَ)) رَواهُ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، ورتَّبَ على ذلك قولَه: " ولهذا كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو قد أصابَ يومَ اليرموكِ زامِلَتَين من كتبِ أهلِ الكتابِ فكان يحدِّثُ منهما بما فَهِمَه من هذا الحديثِ من الإذْنِ في ذلك.
وهنا أَوَدُّ أن أَطرحَ هذه المسألةَ للمُدارسةِ؛ لأنها تحتاجُ إلى بحثٍ.
أوَّلًا: معرفةُ كَميَّةِ الرواياتِ الإسرائيليةِ المنسوبةِ إلى عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، وهل هي قليلةٌ أو كثيرةٌ؟
ثانيًا: إذا ثَبتَ أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو كان يحدِّثُ مِن هاتَينِ الزَّامِلَتَيْن (والزاملةُ وعاءٌ , وقِيلَ: الزَّنبيلُ يشتملُ على كتبٍ) فهل كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو يَعرفُ لغةً غيرَ لغةِ العربِ حتى يَقرأَ هاتَيْن الزامِلتَين وهما بِغَيرِ لغةِ قومِه؟
ثالثًا: إذا لم يَكُنْ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو يَعرفُ لغةَ أهلِ الكتابِ فيحتملُ – وهو احتمالٌ بعيدٌ – أن يكونَ هناك مَن يُتَرْجِمُ له، ويحتملُ أيضًا أن تكونَ هاتان الزامِلتانِ كُتِبتَا بلسانِ العربِ. كُلُّ هذا مجرَّدُ احتمالاتٍ تحتاجُ لدراسةٍ .
ومن خلالِ بحثي وجدتُ أنَّ الرواياتِ التي وَردتْ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو في كتبِ التفسيرِ قليلةٌ، وهذا أمرٌ يُفيدُنا أنه لم يكنْ يعتمِدُ على هاتَين الزامِلتَين ويروي منهما، واللَّهُ أعلمُ.
كما أنَّ الموجودَ من رواياتِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ ليس فيه ما يدلُّ على أنه كان يفسِّرُ بهذه الإسرائيلياتِ.
وقد ذَكرَ د. عدنان زرزور أنه قد صحَّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو أنه استأذَنَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في كتابةِ ما سَمِعَه، وكانت عنده صحيفةٌ تُسَمَّى الصادقةَ، قال: هل كان لصاحِبِ الصحيفةِ الصادقةِ بعدَ هذا أن يُحدِّثَ من زاملتَين من كتبِ أهلِ الكتابِ؟
الذي أقصِدُه هنا أنه قَبلَ أن تقولَ: إنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ كان يَروي من هاتين الزاملتين ينبغي التأكُّدُ من أنه وردتْ آثارٌ من الإسرائيلياتِ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ).