الدروس
course cover
وسطية أهل السنة والجماعة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

5603

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم السابع

وسطية أهل السنة والجماعة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

5603

0

0


0

0

0

0

0

وسطية أهل السنة والجماعة

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بَل ْهُم الوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ ، كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الوَسَطُ فِي الأُمَمِ. فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ ، وَبين أَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهةِ ، وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ تعالى بَيْن َالقَدَرِيَّةِ والجَبْرِيَّةِ ، وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَينَ المُرْجِئةِ وَالوَعِيدِيَّةِ مِن القَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَفِي بَابِ الإِيمَان وَالدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالمُعْتزِلَةِ ، وَبَيْنَ المُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الرَّوافض وَبين الخََوَارِجِ).

هيئة الإشراف

#2

20 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (بَلْ هُمُ الوَسَطُ في فِرَقِ الأمَّةِ؛ كَما أنَّ الأمَّةَ هِيَ الوَسَطُ في الأمَمِ))(1).
((فَهُمْ وَسَطٌ في بابِ صِفاتِ اللهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطيلِ الجَهْمِيَّةِ وَأهْلِ التَّمْثيلِ المُشَبِّهَةِ)):(2)
((وهُم وسطٌ في بابِ أفعالِ اللهِ بين القدريةِ والجبريةِ)):(3)
((وَفي بابِ وَعيدِ اللهِ بَيْنَ المُرْجِئَةِ الوَعيدِيَّةِ مِنَ القَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ)):(4)
((وَفي بابِ أسماءِ الإيمانِ والدِّينِ بَيْنَ الحَرُورِيَّةِ وَالمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ المُرْجِئَةِ والجَهْمِيَّةِ)):(5)
((وَفي أصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرَّوافِضَ وَالخَوارِجِ)):(6)
).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (فصْلٌ: مكانةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بَينَ فِرَقِ الأمَّةِ واتِّصافِهِم بالوَسَطِيَّةِ:
(1) قولهُ: ((الأُمَّةُ هي الوسطُ بينَ الأممِ))؛ يعني: الأُممَ السَّابقةَ، وذلِكَ مِنْ عدّةِ أوجهٍ:
-ففِي حقِّ اللهِ تعالَى: كانَتِ اليهودُ تصفُ اللهَ تعالَى بالنَّقائصِ، فتلحقُهُ بالمخلوقِ. وكانَتِ النَّصارَى تُلحِقُ المخلوقَ النَّاقصَ بالرَّبِّ الكاملِ. أمَّا هذه الأُمَّةُ؛ فلم تَصِفِ الرَّبَّ بالنَّقائصِ، ولم تُلحِقِ المخلوقَ بهِ.
-وفي حقِّ الأنبياءِ؛ كذَّبَتِ اليهودُ عيسى بنَ مريمَ، وكفَرَتْ بهِ. وغَلَتِ النَّصارَى فيه، حتَّى جعلَتْه إلهاً. أمَّا هذه الأُمَّةُ؛ فآمنَتْ بهِ بدونِ غلوٍّ، وقَالَتْ: هو عبدُ اللهِ ورسولُه.
-وفي العباداتِ؛ النَّصارَى يدينونَ للهِ عزَّ وجلَّ بعدمِ الطَّهارةِ؛ بمعنَى أنهَّم لا يتطهَّرُونَ مِنَ الخبثِ؛ يبولُ الواحدُ مِنْهم، ويصيبُ البولُ ثيابَهُ، ويقومُ، ويصلِّي في الكنيسةِ!! واليهودُ بالعكسِ؛ إذا أصابَتْهُم النجاسةُ؛ فإنَّهم يقرضُونَها مِنَ الثَّوبِ؛ فلا يطهرُها الماءُ عِنْدَهم؛ حتَّى إنهَّم يبتعدونَ عَنِ الحائضِ لا يؤاكلونهَا ولا يجتمعُونَ بهِا. أمَّا هذه الأُمَّةُ؛ فَهُم وسطٌ؛ فيقولُونَ: لا هذا ولا هذا؛ لا يُشَقُّ الثَّوبُ، ولا يُصلَّى بالنجاسةِ، بَلْ يُغْسَلُ غسلاً حتَّى تزولَ النجاسةُ مِنْه، ويُصلَّى به، ولا يبتعدُونَ عَنِ الحائضِ؛ بَلْ يؤاكلونهَا ويباشرُها زوجُها في غيرِ الجِماعِ.
-وكذلك أيضاً في بابِ المحرَّماتِ مِنَ المآكلِ والمشاربِ؛ النَّصارَى استحلُّوا الخبائثَ وجميعَ المحرَّماتِ، واليهودُ حُرِّمَ عَلَيْهم كلُّ ذِي ظُفرٍ؛ كَما قَالَ تعالَى: (وَعَلَى الَّذِين هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [الأنعام: 146]، أمَّا هذه الأُمَّةُ؛ فَهُم وسطٌ؛ أُحلَّتْ لهم الطَّيِّباتُ، وحُرِّمَتْ عَلَيْهِم الخبائثُ.
-وفي القصاصِ؛ القصاصُ فرضٌ على اليهودِ، والتَّسامحُ عَنِ القصاصِ فرضٌ على النَّصارَى، أمَّا هذه الأُمَّةُ؛ فهي مخيَّرةٌ بَيْنَ القصاصِ والدِّيةِ والعفوِ مجَّاناً.
فكانَتِ الأُمَّةُ الإسلاميةُ وسطاً بَيْنَ الأُمَمِ بَيْنَ الغلوِّ والتَّقصيرِ.
فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ بَيْنَ فِرَقِ الأمَّةِ كالأمَّةِ بينَ الدِّياناتِ الأخرى؛ يعني: أنَّهم وسطٌ.
ثُمَّ ذكَرَ المؤلِّفُ رحمَهُ اللهُ أصولاً خمسةً كانَ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيها وسطاً بينَ فِرَقِ الأمَّةِ:

الأصلُ الأوَّلُ: بابُ الأسماءِ والصِّفاتِ
(2) هذانِ طرفانِ مُتطرِّفانِ: أهلُ التَّعطيلِ الجهميَّةِ، وأهلُ التَّمثيلِ المشبِّهةِ.
-فالجهميَّةُ: يُنكِرُونَ صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، بَلْ غلاتُهم ينكرونَ الأسماءَ ويقولُونَ: لا يجوزُ أنْ نُثْبِتَ لله اسماً ولا صفةً؛ لأنَّكَ إذا أثبَتَّ له اسماً؛ شَبَّهْتَهُ بالمُسَمَّياتِ، أو صفةً؛ شَبَّهْتَهُ بالموصوفاتِ!! إذاً؛ لا نثبتُ اسماً ولا صفةً!! وما أضافَ اللهُ إلى نفسِهِ مِنَ الأسماءِ؛ فهو مِنْ بابِ المجازِ، ولَيْسَ مِنْ باب التَّسمِّي بهذِهِ الأسماءِ!!
-والمعتزلةُ ينكرونَ الصِّفاتِ ويثبتُونَ الأسماءَ.
-والأشعريَّةُ يثبتُونَ الأسماءَ وسبعاً مِنَ الصِّفاتِ.
كلُّ هؤلاءِ يشملُهُم اسمُ التَّعطيلِ، لكنَّ بعضَهُم مُعَطِّلٌ تعطيلاً كاملاً؛ كالجهميَّةِ، وبعضُهُم تعطيلاً نسبيًّا؛ مثلُ المعتزلةِ والأشاعرةِ.
وأمَّا أهلُ التَّمثيلِ المشبِّهةُ؛ فيثبتُونَ للهِ الصِّفاتِ، ويقولُونَ: يجبُ أنْ نثبتَ للهِ الصِّفاتِ؛ لأنه أثبتَها لنفسِهِ، لكنْ يقولُونَ: إنهَّا مثلُ صفاتِ المخلوقينَ.
فهؤلاءِ غَلَوا في الإثْباتِ، وأهلُ التَّعطيلِ غَلَوا في التَّنزيهِ.
فهؤلاءِ قَالُوا: يجبُ عَلَيْكَ أنْ تثبتَ لله وجهاً، وهذا الوجْهُ مثلُ وجْهِ أحْسنِ واحدٍ مِنْ بني آدمَ. قَالُوا: لأنَّ اللهَ خاطبَنَا بما نعقلُ ونفهمُ؛ قَالَ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلاَلِ والإِكْرَامِ) [الرحمن: 27]، ولا نعقلُ ونفهمُ مِنَ الوجهِ إلا ما نشاهدُ، وأحسنُ ما نشاهدُ الإنسانُ.
فهو على زَعْمِهِم – والعياذُ باللهِ - على مثلِ أحسنِ واحدٍ مِنَ الشَّبابِ الإنسانِيِّ!!
ويدَّعونَ أنَّ هذا هو المعقولُ!
وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فقَالُوا: نحنُ نأخذُ بالحقِّ الَّذِي مَعَ الجانبينِ؛ فنأخذُ بالحقِّ في بابِ التَّنزيِه؛ فلا نمثِّلُ، ونأخذُ بالحقِّ في جانبِ الإثْباتِ؛ فلا نعطِّلُ؛ بَلْ إثباتٌ بلا تمثيلٍ، وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ؛ نحنُ نثبتُ ولكنْ بدونِ تمثيلٍ، فنأخذُ بالأدلَّةِ مِنْ هنا ومِنْ هنا.
والخلاصةُ: هُم وسطٌ في بابِ الصِّفاتِ بَيْنَ طائفتينِ متطرِّفتينِ: طائفةٍ غَلَتْ في التَّنزيهِ والنَّفِي، وهُم أهلُ التَّعطيلِ مِنَ الجهميَّةِ وغيرِهم، وطائفةٍ غَلَتْ في الإثْباتِ، وهُم الممثلةُ.
وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يقولُونَ: لا نغلُوا في الإثْباتِ ولا في النفِي، ونثبتُ بدونِ تمثيلٍ؛ لقولِهِ تعالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشُّورى: 11].

الأصلُ الثَّاني: أفعالُ العبادِ
(3) في بابِ القدرِ انقسَمَ النَّاسُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
-القسمِ الأوَّل آمنوا بقدرِ اللهِ عزَّ وجلَّ وغلَوا في إثْباتِهِ، حتَّى سلبُوا الإنسانَ قدرتَهُ واختيارَه، وقَالُوا: إنَّ اللهَ فاعلُ كلِّ شيءٍ، ولَيْسَ للعبدِ اختيارٌ ولا قدرةٌ، وإنَّما يفعلُ الفعلَ مجبَراً عَلَيْهِ، بَلْ إنَّ بعضَهُم ادَّعى أنَّ فعلَ العبدِ هو فعلُ اللهِ، وَلِهَذَا دخَلَ مِنْ بابهِم أهلُ الاتَّحادِ والحلولِ، وهؤلاءِ هُم الجبريَّةُ.
-والقسمِ الثَّاني قَالُوا: إنَّ العبدَ مستقِلٌّ بفعلِهِ، ولَيْسَ لله في مشيئةٍ ولا تقديرٍ، حتَّى غلا بعضُهُم، فقَالَ: إنَّ اللهَ لا يعلَمُ فعلَ العبدِ إلا إذا فعلَهُ، أمَّا قبلُ؛ فلا يعلَمُ عنه شيئاً، وهؤلاءِ هُم القدَرِيَّةُ، مجوسُ هذه الأمَّةِ.
فالأوَّلُونَ غلَوا في إثْباتِ أفعالِ اللهِ وقدرِهِ وقَالُوا: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُجبرُ الإنسانَ على فعلِهِ، ولَيْسَ للإنسانِ اختيارٌ.
والآخَرونَ غلوا في إثْباتِ قُدرةِ العبدِ، وقَالُوا: إنَّ القدرةَ الإلهيَّةَ والمشيئةَ الإلهيةَ لا علاقةَ لها في فعلِ العبدِ؛ فهو الفاعلُ المطلقُ الاختيارِ.
-والقسمِ الثَّالثِ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ قَالُوا: نحنُ نأخذُ بالحقِّ الَّذِي مع الجانبينِ؛ فنقولُ: إنَّ فعلَ العبدِ واقعٌ بمشيئةِ اللهِ وخَلْقِ اللهِ، ولا يمكنُ أنْ يكونَ في مُلْكِ اللهِ ما لا يشاؤه أبداً، والإنسانُ له اختيارٌ وإرادةٌ، ويفرِّقُ بينَ الفعلِ الَّذِي يضطرُ إليه والفعلِ الَّذِي يختارُهُ؛ فأفعالُ العبادِ باختيارِهم وإرادتهِم، ومَعَ ذلِكَ؛ فَهِيَ واقعةٌ بمشيئةِ اللهِ وخَلْقِهِ.
لكنْ سيبقى عندَنَا إشكالٌ: كَيْفَ تكونُ خَلْقاً للهِ وهِيَ فعلُ الإنسانِ؟!
والجوابُ أنَّ أفعالَ العبدِ صدرَتْ بإرادَةٍ وقدرةٍ، والَّذِي خَلَقَ فيه الإرادةَ والقدرةَ هو اللهُ عزَّ وجلَّ.
لو شاءَ اللهُ تعالَى؛ لسلبَكَ القدرةَ؛ فلَمْ تستطعْ.
ولو أنَّ أحداً قادراً لم يُرِدْ فعلاً؛ لم يقعِ الفعلُ مِنْهُ.
كلُّ إنسانٍ قادرٍ يفعلُ الفعلَ؛ فإنَّهُ بإرادتِهِ، اللَّهمَّ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ.
فنحنُ نفعلُ باختيارِنا وقدرَتِنا، والَّذِي خَلَقَ فينا الاختيارَ والقدرةَ هو اللهُ.

الأصلُ الثَّالثُ: الوعيدُ
(4) المرجئةُ: اسمُ فاعلٍ مِنْ أرجَأ؛ بمعنَى أَخَّر، ومِنْهُ قولُهُ تعالَى: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) [الأعراف: 111]، وفي قراءةٍ: (أَرْجِئْهُ)؛ أيْ: أَخِّرْهُ وَأَخِّرَ أمرَهُ، وسُمُّوا مرجئةً: إمَّا مِنَ الرجاءِ؛ لتغليبِهِم أدَّلةَ الرجاءِ على أدلَّةِ الوعيدِ، وإمَّا مِنَ الإرجاءِ؛ بمعنَى: التَّأخيرِ؛ لتأخيرِهِم الأعمالَ عَنْ مُسمَّى الإيمَانِ.
فَهُم يقولُونَ: الأعمالُ لَيْسَتْ مِنَ الإيمَانِ، والإيمَانُ هو الاعترافُ بالقلبِ فَقَطْ.
وَلِهَذَا يقولُونَ: إنَّ فاعلَ الكبيرةِ كالزَّانِي والسَّارقِ وشاربِ الخمرِ وقاطعِ الطريقِ لا يستحقُّ دخولَ النَّارِ لا دخولاً مؤبَّداً ولا مؤقَّتاً؛ فلا يضرُّ مع الإيمَانِ مَعْصِيَةٌ؛ مهما كانَتْ صغيرةً أم كبيرةً؛ إذا لَمْ تصِلْ إلى حدِّ الكفرِ.
وأمَّا الوعيديَّةُ؛ فقابلُوهُم، وغلَّبوا جانِبَ الوعيدِ، وقَالُوا: أيُّ كبيرةٍ يفعلُهَا الإنسانُ ولَمْ يتُبْ مِنْها؛ فإنَّهُ مخلَّدٌ في النَّارِ بِها:إنْ سرقَ؛ فهو مِنْ أهلِ النَّارِ خالداً مخلَّداً، وإنْ شَربَ الخمرَ؛ فَهُوَ في النَّارِ خالداً مخلَّداً… وهكذا.
والوعيديَّةُ يشملُ طائفتينِ: المعتزلةَ، والخوارجَ. وَلِهَذَا قَالَ المؤلِّفُ: ((مِنَ القدريَّةِ وغيرِهم))؛ فيشملُ المعتزلةَ – والمعتزلةُ قدريةٌ؛ يَرَوْنَ أنَّ الإنسانَ مستقلٌّ بعلْمِهِ، وهُم وعيديَّةٌ – ويشملُ الخوارجَ.
فاتَّفقَتِ الطائفتانِ على أنَّ فاعلَ الكبيرةِ مخلَّدٌ في النَّارِ، لا يخرجُ مِنْها أبداً، وأنَّ مَنْ شرِبَ الخمرَ مرَّةً؛ كَمَنْ عبدَ الصَّنَم ألفَ سنةٍ؛ كلُّهُم مخلَّدونَ في النَّارِ؛ لكنْ يختلفونَ في الاسمِ؛ كما سيأتِي إنْ شاءَ اللهُ في البابِ الثَّاني.
وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فيقولُونَ: لا نُغلِّبُ جانبَ الوعيدِ كَما فَعَلَ المعتزلةُ والخوارجُ، ولا جانبَ الوعدِ كما فَعَلَ المرجئةُ، ونقولُ: فاعلُ الكبيرةِ مستحقٌّ للعذابِ، وإنْ عذِّبَ؛ لا يخلَّدُ في النَّارِ.
وسببُ الخلافِ بَيْنَ الوعيديَّةِ وبَيْنَ المرْجِئةِ: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما نظرَ إلى النُّصوصِ بعينٍ عوراءَ؛ ينظرُ مِنْ جانبٍ واحدٍ.
-هؤلاءِ نَظَرُوا نصوصَ الوَعْدِ، فأدخلوا الإنسانَ في الرجاءِ، وقَالُوا: نأخذُ بِها، وندعُ ما سِوَاها، وحملُوا نصوصَ الوعيدِ على الكُفَّارِ.
-والوعيديَّةُ بالعكسِ؛ نَظَرُوا إلى نصوصِ الوعيدِ، فأخَذُوا بها، وغفلُوا عنَ نصوصِ الوعدِ.
فلهذا اختلَّ توازنُهُم لماَّ نظرُوا مِنْ جانبٍ واحدٍ.
وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أخذوا بهِذا وهذا، وقَالُوا: نصوصُ الوعيدِ مُحْكَمةٌ؛ فنأخذُ بِها، ونصوصُ الوعدِ محكمةٌ؛ فنأخذُ بِها. فأخذُوا مِنْ نصوصِ الوعدِ ما ردُّوا بِه على الوَعِيديَّةِ، ومِنْ نصوصِ الوعيدِ ما ردُّوا بِه على المرْجِئةِ، وقَالُوا: فاعلُ الكبيرةِ مُسْتحقٌّ لدخولِ النَّارِ؛ لئَلا نهدرَ نصوصَ الوعيدِ؛ غيرُ مخلَّدٍ فيها؛ لئلا نهدرَ نصوصَ الوعدِ.
فأخذُوا بالدَّليلَينِ ونظرُوا بالعينَيْنِ.

الأصلُ الرابعُ: أسماءُ الإيمَانِ والدِّينِ
(5) هذا في بابِ الأسماءِ والدِّينِ، وهُوَ غيرُ بابِ الأحكامِ الَّذِي هُوَ الوعدُ والوعيدُ؛ ففاعلُ الكبيرةِ ماذا نسمِّيهِ؟! أمؤمنٌ أم كافرٌ؟!
وأهلُ السُّنَّةِ وسَطٌ فيه بَيْنَ طائفتينِ: الحَرُوريَّةِ والمعتزلةِ مِنْ وجهٍ، والمرْجِئةِ الجَهْميَّةِ مِنْ وجهٍ:
-فالحَرُورِيَّةُ والمعتزلةُ أخرجُوه مِنَ الإيمَانِ، لكنَّ الحروريةَ قَالُوا: إنَّه كافرٌ يحلُّ دمُهُ ومالُهُ، وَلِهَذَا خرجوا على الأئمَّةِ، وكفَّرُوا الناسِ.
-وأمَّا المرجئةُ الجهميَّةُ؛ فخالفُوا هؤلاءِ، وقَالُوا: هُوَ مؤمنٌ كاملُ الإيمَانِ!! يسرقُ ويزنِي ويشربُ الخمرَ ويقتلُ النَّفسَ ويقطعُ الطَّريقَ؛ ونقولُ لَهُ: أنْتَ مؤمنٌ كاملُ الإيمَانِ!! كرجلٍ فعلَ الواجباتِ والمستحبَّاتِ وتجنَّبَ المحرَّماتِ!! أنْتَ وهو في الإيمَانِ واحدٌ!!
فهؤلاءِ وأولئِكَ على الضِّدِّ في الاسمِ وفي الحُكْمِ.
وأمَّا المعتزلةُ؛ فقَالُوا: فاعلُ الكبيرةِ خرجَ مِنَ الإيمَانِ، ولَمْ يدخُلْ في الكُفرِ؛ فَهُوَ في منزلةٍ بَيْنَ منزلتَيْنِ؛ لا نتجاسرُ أنْ نقولَ: إنَّهُ كافرٌ! ولَيْسَ لنَا أنْ نقولَ: إنَّهُ مؤمنٌ؛ وهُوَ يفعلُ الكبيرةَ؛ يزنِي ويسرقُ ويشربُ الخمرَ! وقَالُوا: نحنُ أسعدُ النَّاسِ بالحقِّ!
حقيقةً أنهَّم إذا قَالُوا: إنَّ هذا لا يتساوَى مع مؤمنٍ عابدٍ؛ فقد صَدَقُوا.
لكنْ كونُهُم يُخرجُونَه مِنَ الإيمَانِ، ثُمَّ يحدثونَ منزلةً بَيْنَ منزلتين: بدعةً ما جاءَتْ لا في كتابِ اللهِ ولا في سُنَّةِ رسولِهِ!!
كلُّ النُّصوصِ تدلُّ على أنَّهُ لا يوجَدُ منزلةٌ بَيْنَ منزلَتَيْنِ:
كقولِهِ تعالَى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ في ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 24].
وقولِهِ: (فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ) [يونس: 32].
وقولِهِ: (هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) [التغابن: 2].
وفي الحديثِ: ((القُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)).
فأيْنَ المنزلةُ بَيْنَ المنزلَتَيْنِ؟!
هُم يقولُونَ: في منزلةٍ بَيْنَ منزلَتَيْنِ!! وفي بابِ الوعيدِ ينفِّذُون عليه الوعيدَ، فيوافقُونَ الخوارجَ في أنَّ فاعلَ الكبيرةِ مخلَّدٌ في النَّارِ، أمَّا في الدُّنْيا؛ فقَالُوا: تجُرى عليه أحكامُ الإسلامِ؛ لأنَّهُ هُوَ الأصلُ؛ فهو عندَهُم في الدُّنْيا بمنزلةِ الفاسقِ العاصِي.
فيا سبحانَ اللهِ! كَيْفَ نصلِّي عَلَيْهِ، ونقولُ: اللَّهمَّ! اغفرْ له. وهو مخلَّدٌ في النَّارِ؟!
فيجبُ عَلَيْهم أنْ يقولُوا في أحكامِ الدُّنْيا: إنه يُتَوَقَّفُ فيه! لا نقولُ: مُسْلِمٌ، ولا كافرٌ، ولا نعطيِهِ أحكامَ الإسلامِ، ولا أحكامَ الكفْرِ!! إذا ماتَ؛ لا نُصلِّي عليه، ولا نكفّنُهُ،ولا نغسّلُهُ، ولا يُدْفَنُ مَعَ المسلمينَ، ولا ندفنُهُ مَعَ الكُفَّارِ؛ إذاً؛ نبحثُ له عَنْ مقبرةٍ بَيْنَ مقبرتينِ!!
-وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فكانُوا وَسَطاً بينَ هذِهِ الطَّوائفِ؛ فقَالُوا: نُسمِّي المؤمنَ الَّذِي يفعلُ الكبيرةَ مؤمناً ناقصَ الإيمَانِ، أو نقولُ: مؤمنٌ بإيمانِهِ، فاسقٌ بكبيرتِهِ، وهذا هُوَ العَدْلُ؛ فلا يُعطَى الاسمَ المطلقَ، ولا يُسْلَبُ مطلقَ الاسمِ.
ويترتَّبُ على هذا: أنَّ الفاسقَ لا يجوزُ لنَا أنْ نَكْرهَهُ كُرهاً مطلقاً، ولا أنْ نحبَّهُ حبًّا مُطْلَقاً، بَلْ نحبُّهُ على ما مَعَهُ مِنَ الإيمانِ، ونكرهُهُ على ما مَعَهُ مِنَ المعصيةِ.

الأصلُ الخامسُ: في الصَّحابةِ رَضِي اللهُ عَنْهُم
(6) ((أصحابُ)): جمعُ صاحبٍ، والصَّحْبُ اسمُ جمعِ صاحبٍ، والصَّاحبُ: الملازِمُ للشَّيءِ.
والصَّحابِيُ: هو الَّذِي اجتمعَ بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمناً به وماتَ على ذلِكَ.
وهذا خاصٌّ في الصَّحابةِ، وهُوَ مِنْ خصائصِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنَّ الإنسانَ يكونُ مِنْ أصحابِهِ، وإنْ لم يجتمِعْ بِهِ إلَّا لحظةً واحدةً؛ لكنْ بشرطِ أنْ يكونَ مؤمناً بِهِ.
وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وسَطٌ فيِهِم بينَ الرَّافضةِ والخوارجِ.
-فالرَّافضةُ: هم الَّذِين يُسمَّونَ اليوم: شِيعةً، وسُمُّوا رافضةً؛ لأنهَّم رفضُوا زيدَ بنَ عليِ بنِ الحسينِ بنِ عليِ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الَّذِي ينتسبُ إِلَيْه الآنَ الزَّيديَّةُ؛ رفضُوه لأنهَّم سألُوه: ما تقولُ في أبي بكرٍ وعمرَ؟ يريدُونَ مِنْهُ أنْ يسبَّهُما ويطعنَ فيهِما! ولكنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ لهم: نِعْمَ الوزيرانَ وزيرا جَدِّي. يُرِيدُ بذلِكَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأثنىَ عَلَيْهِما، فرفضُوه، وغضِبُوا عَلَيْهِ، وتركُوه! فَسُمُّوا رافضةً!!
هؤلاءِ الرَّوافضُ –والعياذُ باللهِ- لهَمُ أصولٌ معروفةٌ عندَهُم، ومِنْ أقبحِ أصولِهِم: الإمامةُ الَّتي تتضمَّنُ عصمةَ الإمامِ، وأنَّهُ لا يقولُ خطأً، وأنَّ مقامَ الإمامةِ أرفعُ مِنْ مقامِ النُّبوَّةِ؛ لأنَّ الإمامَ يتلقَّى عَنِ اللهِ مباشرةً، والنَّبيُّ بواسطةِ الرَّسولِ، وهو جبريلُ، ولا يخطئُ الإمامُ عندَهُم أبداً، بل غلاتُهم يدَّعونَ أنَّ الإمامَ يَخْلُقُ؛ يقولُ للشَّيءِ: كنْ. فيكون!!
وهُمْ يقولُونَ: إنَّ الصَّحابةَ كفَّارٌ، وكلُّهم ارتدُّوا بعد النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حتَّى أبو بكرٍ وعمرُ عندَ بعضِهِم كانا كافِرَيْنِ وماتا على النِّفاقِ والعياذُ باللهِ، ولا يستثنونَ مِنَ الصَّحابةِ إلاَّ آلَ البيتِ، ونفراً قليلاً مِمَنْ قَالُوا: إنهَّم مِنْ أولياءِ آلِ البيتِ.
وقَدْ قَالَ صاحبُ كتابِ ((الفِصَل)): ((إنَّ غلاتَهُم كَفَّروا عليَّ بنَ أبي طالبٍ؛ قَالُوا: لأنَّ عليًّا أقرَّ الظُّلمَ والباطلَ حينَ بايَعَ أبا بكرٍ وعمرَ، وكانَ الواجبُ عليه أنْ ينكرَ بيعتَهُما، فلمّا لم يأخذْ بالحقِّ والعدلِ، ووافقَ على الظُّلمِ؛ صارَ ظالماً كافراً)).
-أمَّا الخوارجُ؛ فَهُم على العكسِ مِنَ الرَّافضةِ؛ حيثُ إنَّهم كَفَّروا عليَّ بنَ أبي طالبٍ، وكفَّرُوا معاويةَ بنَ أبي سفيانَ، وكفَّرُوا كلَّ مَنْ لم يكنْ على طريقتِهِم، واستحلُّوا دماءَ المسلمينَ، فكانُوا كَمَا وصَفَهُم النَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ))، وإيمانُهُم لا يتجاوزُ حناجرَهُم.
فالشِّيعةُ غَلَوا في آلِ البيتِ وأشياعِهِم، وبالغُوا في ذلِكَ، حتَّى إنَّ مِنْهُم مَنْ ادَّعى أُلوهيَّةَ عليٍّ، ومِنْهُم مَنْ ادَّعى أنَّهُ أحقُّ بالنُّبُوَّةِ مِنْ محمَّدٍ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخوارجُ بالعَكْسِ.
-أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فكانُوا وَسَطاً بَيْنَ الطائفتينِ؛ قَالُوا: نحنُ ننزلُ آلَ البيتِ منزلَتَهُم، ونرى أنَّ لهم حقَيْنِ عَلَيْنَا: حقَّ الإسلامِ والإيمانِ، وحقَّ القرابةِ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقَالُوا: قرابةُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها الحقُّ عَلَيْنا، لكنْ مِنْ حقِّها عَلَيْنا أنْ ننزلَهَا منزلَتَها، وأنْ لا نغلُوَ فيها. ويقولُونَ في بقيَّةِ أصحابِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهُم الحقُّ عَلَينْا بالتَّوقيرِ والإجلالِ والتَّرضِّيِ، وأنْ نكونَ كَما قَالَ اللهُ تعالَى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِين سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10]، ولا نعادِي أحداً مِنْهُم أبداً؛ لا آلَ البيتِ، ولا غيرَهم؛ فكلٌّ مِنْهُم نُعطِيهِ حقَّهُ؛ فصَارُوا وَسَطاً بينَ جُفاةٍ وغلاةٍ).

هيئة الإشراف

#3

20 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله


المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فهم وَسَطٌ في بابِ صفاتِ الله سبحانه وتعالى بينَ أهلِ التعطيلِ الجهميةِ وأهل التمثيل المُشَبِّهةِ، وهم وَسَطٌ في بابِ أفعالِ اللهِ تعالى بين الجَبْرِيَّةِ والقَدَرية، وفي بابِ وعيدِ اللهِ بينَ المُرْجِئةِ والوَعيديةِ من القَدَريةِ وغيرهم([1])، وفي باب أسماء الإيمان والدِّينِ بين الحروريةِ والمُعْتزِلةِ وبين المُرجئةِ والجهميةِ([2])، وفي أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ الرافضةِ والخَوارِجِ([3])).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (والمراد بالوسط العدول الخيار الذين جمعوا كل حق في أقوال الخلق وردّوا ما فيها من الباطل، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). فهذه الأمة وسط بين الأمم التي تميل إلى الغلوّ والإفراط والأمم التي تميل إلى التفريط المهلك، فمن الأمم من غلا في المخلوقين وجعل لهم من صفات الخالق وحقوقه ما جعل، ومنهم من جفا الأنبياء وأتباعهم حتى قتلهم وردّ دعوتهم. وهذه الأمة آمنت بكل رسول أرسله الله واعتقدت رسالتهم وعرفت مقاماتهم الرفيعة التي فضّلهم الله بها، ولم يغلو في أحد منهم، ومن الأمم من أحلّت كل طيبٍ وخبيث، ومنهم من حرّم الطيبات غلواً و مجافاة. وهذه الأمة أحلّ الله لهم الطيبات وحرّم عليهم الخبائث ونحو ذلك من الأمور التي مَنَّ الله على هذه الأمة بالتوسّط فيها. وكذلك أهل السُّنة والجماعة وسط بين فِرَق الأمة المبتدعة التي انحرفت عن الصّراط (فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين الجهمية أهل التعطيل، وبين المشبِّهة أهل التمثيل) كما تقدّم بيان ذلك وأن أهل السُّنة يثبتون جميع ما ثبت في النصوص من صفات الله على حقيقتها اللائقة بعظمة الباري، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية، فإن الجبرية يزعمون أن العبد مجبور على أفعاله لا قدرة له عليها وأن أفعاله بمنزلة حركات الأشجار، وكلّ هذا غلوّ منهم في إثبات القدر، والقدرية قابلوهم فنفوا متعلّق قدرة الله بأفعال العباد تنزيها لله بزعمهم. فأفعال العباد عندهم لا تدخل تحت مشيئة الله وإرادته وكلٌّ من هاتين الطائفتين ردّت طائفة كبيرة من نصوص الكتاب والسُّنة. وهدى الله أهل السُّنة والجماعة للتوسط بين الطائفتين المنحرفتين، فآمنوا بقضاء الله وقدره وشمولهما للأعيان والأوساط والأفعال التي من جملتها أفعال المكلفين وغيرهم، وآمنوا بأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وآمنوا مع ذلك بأن الله تعالى جعل للعباد قُدرة وإرادة تقع بها أقوالهم وأفعالهم على حسب اختيارهم وإرادتهم، فآمنوا بكل نصّ فيه تعميم قُدرة ومشيئة وبكل نصّ فيه إثبات أن العباد يعملون ويفعلون كل الأفعال الكبيرة والصغيرة بإرادتهم وقدرتهم،
([1]) وفي بابِ وعيدِ اللهِ بينَ المُرْجِئةِ والوَعيديةِ من القَدَريةِ وغيرهم. وذلك أن المرجئة جعلت الإيمان تصديقاً بالقلب فقط وأخرجت عنه جميع الأعمال الباطنة والظاهرة، وجوّزوا على الله أن يعذّب المطيعين وأن ينعِّم العاصين، وأما الوعيدية من القدَرية فخلَّدوا في النار كل من مات مصرّاً على الكبائر التي دون الشِّرك، فانحرفت كل واحدة، وردّت لأجل ذلك من النصوص ما ردّت، وهدى الله أهل السُّنة و الجماعة فتوسطوا وقالوا إن الإيمان اسم لجميع العقائد الدينية والأعمال القلبية والبدنية وأنه يكون ناقصاً إذا تجرأ المؤمن على المعاصي بدون توبة، وأن الله لا يظلم من عباده أحداً ولا يعذّب الطائعين بغير جُرمٍ ولا ذنبٍ، وأنه لا يخلَّد في النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولو فعل الكبائر، كما تواترت بذلك النصوص في الكتاب والسُّنة.

([2]) وفي باب أسماء الإيمان والدِّينِ بين الحروريةِ والمُعْتزِلةِ وبين المُرجئةِ والجهميةِ. وقد تقدّم ذلك، لكن الفرق بين الحرورية والمعتزلة، أن الحرورية وهم الخوارج يطلقون الكفر على العصاة من المؤمنين ويخلدونهم في النار، وأما المعتزلة فلا يطلقون عليهم الكفر، بل يقولون إنهم لا مسلمون ولا كُفار، ولكنهم يخلدون في النار كما تقول الخوارج. والنصوص تردّ قولهم جميعاً.

([3]) وفي أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ الرافضةِ والخَوارِجِ. فإن الرافضة تسبهم وتلعنهم وربما كفّرتهم أو كفّرت بعضهم، وأما الرافضة الغالية فإنهم مع سبّهم لطائفة من الصحابة وللخلفاء الثلاثة فإنهم يغلون في عليّ ويدّعون فيه الألوهية، وهم الذين حرّقهم علي بن أبي طالب بالنار. وقابلهم الخوارج فقاتلوه وقاتلوا الصّحابة و كفّروهم واستحلّوا دماءهم ودماء المسلمين. وهدى الله أهل السُّنة والجماعة فاعترفوا بفضل الصّحابة جميعاً و أنهم أعلى الأمة في كل خصلة، ومع ذلك فلم يغلوا فيهم ولم يعتقدوا عصمتهم بل قاموا بحقوقهم وأحبوهم لما لهم من الحقّ الأكبر على جميع الأمة كما سيأتي.


تعليقات ابن باز على شرح السعدي على الواسطية

قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): (يمتاز أهل السنة والجماعة على غيرهم من فرق أهل الضلالة والبدع؛ بأنهم وسط وموافقون للحق في جميع أبواب العلم والدين، فلم يغلوا ولم يفرطوا كفعل أهل البدع
* فهم وسط في باب صفات الله بين الجهمية المعطلة والمشبهة:
فـ " الجهمية " نفوا صفات الباري، و "المشبهة " أثبتوها وغلوا في إثباتها؛ حتى شبهوا الله بشخصه.
وأما " أهل السنة " فأثبتوها على الوجه اللائق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل.
* وهم وسط في باب أفعال الله بيمن الجبرية والقدرية:
لأن " الجبرية " غلوا في إثبات القدر، وزعموا أن العبد لا فعل له، بل هو بمثابة الشجرة التي تحركها الريح يمنة ويسرة.
و " القدرية" فرَّطوا بجانب الله، وقالوا: إن العبد يخلق فعله بدون مشيئة الله وإرادته.
و " أهل السنة " توسَّطوا، وقالوا: للعبد اختيار مشيئته، وليس بخلق فعله، بل الله خالقه، قال سبحانه:{لِمن شَاءَ منكُم أَن يسْتَقيمَ ومَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالمينَ } [التكوير:28،29].
* وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية في القدرية وغيرهم:
لأن " المرجئة " قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، وزعموا أن العاصي لا يدخل النار. والوعيدية من " القدرية " وأشباههم أنفذوا الوعيد الوارد في حق العصاة، وقالوا: إن السارق والزاني، ونحوهم من العصاة إذا لم يتوبوا مخلدين في النار.
و " أهل السنة " توسطوا في ذلك فقالوا: إن المعاصي تنقص الإيمان، وصاحبها تحت المشيئة وقد يدخل النار، ولكن لا يخلد فيها كما جاءت به النصوص عن النبي عليه الصلاة والسلام.
* وهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية:
لأن " الحرورية " و" المعتزلة " يقولون: إن الدين والإيمان قول، وعمل، واعتقاد ولكن لا يزيد ولا ينقص.
فمن أتى بكبيرة كالزنا ونحوه؛ كفر عند " الحرورية " وصار فاسقا عند المعتزلة خالدا في النار، ويقولون: هو في الدنيا ليس مؤمنا ولا كافرا، ولكن يجعله في منزلة بين المنزلتين، وهي الفسق.
وأما " المرجئة": وهم الذين يقولون: إن الإيمان قول فقط أو قول وتصديق بالقلب فهم يرون أن المعاصي لا تنقص الإيمان ولا يستحق صاحبها النار إذا لم يستحلها، و " الجهمية " مثل "المرجئة "؛ لأنهم يقولون: إن الإيمان مجرد المعرفة.
فـ " أهل السنة " توسطوا بين هذه الطوائف الأربع، فقالوا: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وقالوا: إن العاصي لا يكون كافرا لمجرد المعصية، ولا مخلَّداً في النار خلافا لقول الخوارج والمعتزلة.
وقالوا أيضا: إن المعاصي تنقص الإيمان، ويستحق صاحبها النار، إلا أن يعفو الله عنه خلافا للجهمية والمرجئة.
* وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.
لأن " الرافضة " غلوا في علي وأهل البيت.
و " الخوارج " كفّروا بعض الصحابة وفسّقوا بعضهم.
و " أهل السنة " خالفوا الجميع فوالوا جميع الصحابة، ولم يغلوا في أحد منهم " اهـ).

هيئة الإشراف

#4

20 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بلْ هُمُ الوَسَطُ في فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَما أنَّ الأمَّةَ هِيَ الوَسَطُ في الأمَمِ ) (1)
( فهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطيلِ الجَهْمِيَّةِ، وأَهْلِ التَّمْثيلِ المُشَبِّهَةِ ) (2).
( وهُمْ وَسَطٌ في بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بينَ الجَبْرِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ، [ وغيْرِهِمْ ] ) (3).
( وفي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بينَ المُرْجِئةِ و [ بَيْنَ ] الوَعيدِيَّةِ مِنَ القَدَرِيَّةِ وغَيْرِهِمْ ) (4).
( وَفي بَابِ [ أَسْماءِ ] الإِيْمانِ والدِّينِ بينَ الحَرُورِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ، وبَيْنَ المُرْجِئةِ والجَهْمِيَّةِ ) (5).
( وَفي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ [ الرَّافِضَةِ و [ بَيْنَ ] الخَوَارِجِ ) (6)
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) ثمَّ أخبرَ عن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بأَنَّهمْ وسطٌ بينَ فِرَقِ الضلالِ والزَّيغِ مِن هذهِِ الأُمَّةِ؛ كمَا أنَّ هذهِ الأَمَّةَ وسطٌ بينَ الأممِ السَّابقةِ؛ قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًَا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }.
ومعنى ( وَسَطًا ): عُدولاً خيارًا؛ كمَا وردَ الحديثُ بذلكَ.
فهذهِ الأمَّةُ وسطٌ بينَ الأممِ التَّي تجنَحُ إلى الغُلُوِّ الضارِّ والأممِ التَّي تميلُ إلى التَّفريطِ المُهْلِكِ.
فإنَّ مِنْ الأممِ مَنْ غلا في المخلوقِينَ، وجعلَ لهمْ مِن صفاتِ الخالقِ وحقوقِهِ ما جعلَ؛ كالنَّصَارى الَّذينَ غَلَوا في المسيحِ والرُّهبانِ.
ومِنْهُمْ مَنْ جفا الأنبياءَ وأتباعَهمْ، حتَّى قَتَلَهُم، وردَّ دعوتَهمْ؛ كاليهودِ الَّذينَ قَتَلوا زكرِيَّا ويَحيَى، وحاولوا قَتْلَ المسيحَ، ورَمَوْهُ بالبُهتانِ.
وأَمَّا هذهِ الأُمَّةُ؛ فقَدْ آمنتْ بكلِّ رسولٍ أرسلَهُ اللهُ، واعتقدَتْ رِسَالتَهمْ، وعَرَفَتْ لَهُمْ مقامَاتِهم َالرَّفيعةَ التَّي فضَّلَهمْ اللهُ بهَا.
ومِن الأممِ أيضًا مَنْ استحلَّتْ كلَّ خبيثٍ وطيِّبٍ.
ومنهَا مَنْ حرَّمَ الطَّيِّيباتِ غُلُوًّا ومجاوزةً.
وأَمَّا هذهِِ الأُمَّةُ؛ فقَدْ أحَلَّ اللهُ لهَا الطَّيِّيباتِ، وحرَّمَ عليهَا الخبائثَ..
إلى غيرِ ذلكَ مِن الأمورِ التَّي مَنَّ اللهُ على هذهِِ الأمَّةِ الكاملةِ بالتَّوسُّطِ فيهَا.
فكذلكَ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ متوسِّطون بينَ فرقِ الأُمَّةِ المبتدعَةِ التَّي انحرفتْ عن الصِّرَاطِ المستقيمِ.

(2) قولُهُ: ( فهُمُ وسطٌ في بابِ صفاتِ اللهِ … ) إلخ؛ يعني: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ وسَطٌ في بابِ الصِّفاتِ بينَ مَنْ ينفيهَا ويعطِّلُ الذَّاتَ العليَّةَ عنها، ويحرِّفُ ما وردَ فيهَا مِن الآياتِ والأحاديثِ عن معانيهَا الصَّحيحةِ إلى ما يعتقدُهُ هوَ مِن معانٍ بلا دليلٍ صحيحٍ، ولا عقلٍ صريحٍ؛ كقولِهِمْ: رحمةُ اللهِ: إرادتُهُ الإِحسانَ، ويدُهُ: قُدرتُهُ، وعينُهُ: حفظُهُ ورعايتُهُ، واستواؤُهُ على العرشِ: استيلاؤُهُ … إلى أمثالِ ذلكَ مِن أنْواعِ النَّفيِ والتَّعطيلِ التَّي أوَقَعَهُمْ فيهَا سوءُ ظنِّهمْ بربِّهمْ، وتوهُّمِهمْ أنَّ قيامَ هذهِ الصِّفاتِ بهِ لا يُعْقَلُ إلاَّ على النَّحوِ الموجودِ في قيامِهَا بالمخلوقِ.
ولقدْ أحسنَ القائلُ حيثُ يقولُ:
وقُصَارَى أَمْرِ مَنْ أَوَّلَ أَنْ  ظَنُّـوا  الظُّنُونـا ... فَيَقُولونَ عَلى الرَّحْمـنِ مَـا  لاَ  يَعْلَمونـا

وإنَّمَا سُمِّيَ أهلُ التَّعْطِيلِ جَهْمِيَّةً نسبةً إلى الجَهْمِ بنِ صفوانَ التَّرمذيِّ رأسِ الفتنةِ والضَّلالِ، وقَدْ تُوُسِّعَ في هذا اللَّفظِ حتَّى أصبحَ يُطلقُ على كلِّ مَنْ نفى شيئًا مِن الأسماءِ والصِّفاتِ، فهوَ شاملٌ لجميعِ فرقِ النُّفاةِ؛ مِن فلاسفةٍ، ومعتزلةٍ، وأشعريَّةٍ، وقرامطةٍ باطنيَّةٍ.
فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وسطٌ بينَ هؤلاءِ الجهمِيَّةِ النُّفاةِ وبينَ أهلِ التَّمثيلِ المشبِّهةِ الَّذينَ شَبَّهوا اللهَ بخلقِهِ، ومثَّلوهُ بعبادِهِ.
وقَدْ ردَّ اللهُ على الطَّائفتينِ بقولِهِ: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }، فهذا يردُّ على المشبِّهةِ. وقولُهُ: { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصيرُ } يردُّ على المعطِّلةِ.
وأَمَّا أهلُ الحقِّ؛ فهمُ الَّذينَ يثبتونَ الصِّفاتِ للهِ تعالى إثباتًا بلا تمثيلٍ، وينزِّهونَهُ عن مشابهةِ المخلوقاتِ تنزيهًا بلا تعطيلٍ، فجمعوا أحسنَ ما عندَ الفريقينِ؛ أعني: التَّنزيهَ والإِثباتَ، وتركوا ما أخطؤوا وأساؤوا فيهِ مِن التَّعطيلِ والتَّشبيهِ.

(3) قولُهُ: ( وهمْ وسطٌ … ) إلخ. قالَ الشَّيخُ العلاَّمةُ محمدُ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ مانعٍ في تعليقِهِ على هذهِِ العبارةِ ما نصُّهُ:
( اعلمْ أنَّ النَّاسَ اختلفوا في أفعالِ العبادِ؛ هلْ هيَ مقدورةٌ للرَّبِّ أمْ لا؟
فقالَ جَهْمٌ وأتباعُهُ – وهمُ الجَبْرِيَّةُ -: إنَّ ذلكَ الفعلَ مقدورٌ للرَّبِّ لا للعبدِ.
وكذلكَ قالَ الأشعريُّ وأتباعُهُ: إنَّ المؤثِّرَ في المقدْورِ قُدْرَةُ الرَّبِّ دونَ قدْرةِ العبدِ.
وقالَ جمهورُ المُعتزِلَةِ – وهمُ القَدَرِيَّةُ؛ أي: نفاةُ القدرِ -: إنَّ الرَّبَّ لا يقدْرُ على عينِ مقدْورِ العبدِ. واختلفوا: هلْ يقدرُ على مثلِ مقدْورِهِ؟ فأثبتَهُ البصريُّون؛ كأبي عليٍّ، وأبي هَاشمٍ، ونفاهُ الكعبيُّ وأتباعُهُ البغداديُّون.
وقالَ أهلُ الحقِّ: أفعالُ العبادِ بهَا صاروا مطيعِينَ وعصاةً، وهيَ مخلوقةٌ للهِ تعالى، والحقُّ سبحانَهُ منفردٌ بخلقِ المخلوقاتِ، لا خالقَ لهَا سواهُ.
فالجبريَّةُ غلَوْا في إثباتِ القدرِ، فنفَوْا فِعلَ العبدِ أصلاً.
والمعتزلةُ نفاةُ القدرِ جَعَلُوا العبادَ خالِقِينَ معَ اللهِ، ولهذا كانُوا مجوسَ هذهِِ الأُمَّةِ.
وهدَى اللهُ المؤمنينَ أهلَ السُّنَّةِ لِمَا اختلفوا فيهِ مِن الحقِّ بإذنِهِ، واللهُ يهدِي مَنْ يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ، فقالَوا: العبادُ فاعلون، واللهُ خالقُهُمْ وخالقُ أفعالِهِمْ؛ كمَا قالَ تعالى: { وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلونَ } ا. هـ.
وإنَّمَا نقلنَا هذهِ العبارةَ بنَصِّهَا؛ لأنَّهَا تلخيصٌ جيِّدٌ لمذاهبِ المتكلِّمينَ في القَدَرِ وأفعالِ العبادِ.

(4) قولُهُ: ( وفي بابِ وعيدِ اللهِ … ) إلخ؛ يعني: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ وسطٌ في بابِ الوعيدِ بينَ المفرِّطينَ مِن المُرجِئَةِ الَّذينَ قالَوا: لا يضرُّ معَ الإِيمانِ ذنبٌ، كمَا لا تنفعُ معَ الكفرِ طاعةٌ. وزعموا أنَّ الإِيمانَ مجرَّدُ التَّصديقِ بالقلبِ، وإنْ لمْ ينطقْ بهِ، وسُمُّوا بذلكَ نسبةً إِلى الإِرجاءِ؛ أي: التَّأخيرِ؛ لأنَّهُمْ أَخَّرُوا الأعمالَ عن الإِيمانِ.
ولا شكَّ أنَّ الإِرجاءَ بهذا المعنى كفرٌ يخرِجُ صاحِبَهُ عن الملَّةِ؛ فإنَّهُ لا بُدَّ في الإِيمانِ مِن قولٍ باللِّسانِ، واعتقادٍ بالجَنانِ، وعملٍ بالأركانَِ، فإذَا اختلَّ واحدٌ منهَا لمْ يكنْ الرجلُ مؤمنًا.
وأَمَّا الإِرجاءُ الذي نُسِبَ إلى بعضِ الأَئِمَّةِ مِن أهلِ الكوفَةِ؛ كأبي حنَيِفةَ وغيرِهِ، وهوَ قولُهُم: إنَّ الأعمالَ ليستْ مِن الإِيمانِ، ولكنَّهُمْ معَ ذلكَ يوافِقُون أهلَ السُّنَّةِ على أنَّ اللهَ يعذِّبُ مَنْ يعذِّبُ منِ أهلِ الكبائرِ بالنَّارِ، ثمَّ يخرجُهُمْ منهَا بالشَّفَاعَةِ وغيرِهَا، وعلى أَنَّهُ لا بدَّ في الإِيمانِ مِن نطقٍ باللِّسانِ، وعلى أنَّ الأعمالَ المفروضةَ واجبةٌ يستحقُّ تاركُهَا الذَّمَّ والعقابَ؛ فهذا النَّوعُ مِن الإِرجاءِ ليسَ كفرًا، وإنْ كانَ قولاً باطلاً مبتَدَعًا؛ لإِخراجِهِمْ الأعمالَ عن الإِيمانِ.
وأَمَّا الوعِيدِيَّةُ؛ فهمُ القائلون بأنَّ اللهَ يجبُ عليهِ عقلاً أنْ يعذِّبَ العاصِي؛ كمَا يجبُ عليهِ أنْ يُثيبَ المطيعَ، فمَنْ ماتَ على كبيرَةٍ ولمْ يتُبْ منهَا لا يجوزُ عندَهمْ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لهُ، ومذهبُهُمْ باطلٌ مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ؛ قالَ تعالى: { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }.
وقَد استفاضَتِ الأحاديثُ في خُروجِ عُصاةِ الموحِّدينَ مِن النَّارِ ودخولِهِمُ الجنَّةَ.
فمذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ وسطٌ بينَ نفاةِ الوعيدِ مِن المُرْجِئَةِ وبينَ مُوجِبِيهِ مِن القدَريَّةِ، فمَنْ ماتَ على كبيرةٍ عندَهمْ؛ فأمرُهُ مفوَّضٌ إلى اللهِ، إنْ شاءَ عاقبَهُ، وإنْ شاءَ عفا عنهُ؛ كمَا دلَّتْ عليهِ الآيةُ السَّابقةُ.
وإذَا عاقبَهُ بهَا؛ فإنَّهُ لا يخلُدُ خلودَ الكفَّارِ، بلْ يخرجُ مِن النَّارِ، ويدخلُ الجنَّةَ.

(5) قولُهُ: ( وفي بابِ أسماءِ الإِيمانِ … ) إلخ. كانَتْ مسألةُ الأسماءِ والأحكامِ مِن أوَّلِ ما وَقَعَ فيهِ النِّزاعُ في الإِسلامِ بينَ الطَّوائفِ المختلفةِ، وكانَ للأحداثِ السَّياسيِّةِ والحروبِ التَّي جرتْ بينَ عليٍّ ومُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما في ذلكَ الحينِ، وما تَرَتَّبَ عليهَا مِن ظُهُورِ الخوارجِ والرَّافضةِ والقدَريَّةِ أثرٌ كبيرٌ في ذلكَ النِّزاعِ.
والمرادُ بالأسماءِ هنَا أسماءُ الدِّينِ؛ مثلُ: مؤمنٌ، ومسلمٌ، وكافرٌ، وفاسقٌ … إلخ.
والمرادُ بالأحكامِ أحكامُ أصحابِهَا في الدُّنيا والآخرةِ.
فالخوارجُ الحروريَّةُ والمعتزلةُ ذهبوا إلى أَنَّهُ لا يستحقُّ اسمَ الإِيمانِ إلاَّ مَنْ صدَّقَ بجَنانِهِ، وأقرَّ بلسانِهِ، وقامَ بجميعِ الواجباتِ،و اجتنبَ جميعَ الكبائِرِ. فمرتكِبُ الكبيرةِ عندَهمْ لا يُسَمَّى مؤمنَا باتِّفَاقٍ بينَ الفريقَينِ.
ولكنَّهمُ اختلفوا: هلْ يُسمَّى كافرًا أو لا؟
فالخوارجُ يُسَمُّونهُ كافرًا، ويستحلُّون دمَهُ ومالَهُ، ولهذا كفَّروا عليًّا ومعاويةَ وأصحابَهُما، واستحلُّوا مِنْهُمْ ما يستحلُّون مِن الكفَّارِ.
وأَمَّا المُعتزِلَةُ؛ فقالوا: إنَّ مرتكبَ الكبيرةِ خرجَ مِن الإِيمانِ ولمْ يدخلْ في الكفرِ؛ فهوَ بمنزلةٍ بينَ المنزلتينِ، وهذا أحدُ الأصولِ التَّي قامَ عليهَا مذهبُ الاعتزالِ.
واتَّفقَ الفريقانِ أيضًا على أنَّ مَنْ ماتَ على كبيرةٍ ولمْ يَتُبْ منهَا؛ فهوَ مخلَّدٌ في النَّارِ.
فوَقَعَ الاتِّفاقُ بينهمَا في أمرَينِ:
1 – نفيُ الإِيمانِ عن مُرتكبِ الكبيرَةَ.
2 – خُلُودُهُ في النَّارِ معَ الكفَّارِ.
ووَقَعَ الخلافُ أيضًا في موضِعَينِ:
أحدُهمَا: تسميتُهُ كافرًا.
والثاني: استحلالُ دمِهِ ومالِهِ، وهوَ الحُكْمُ الدُّنيويُّ.
وأَمَّا المرجئةُ؛ فقَدْ سبقَ بيانُ مذهبِهِمْ، وهوَ أَنَّهُ لا يضرُّ معَ الإِيمانِ معصيةٌ، فمرتكبُ الكبيرةَ عندَهمْ مؤمنٌ كاملُ الإِيمانِ، ولا يستحقُّ دخولَ النَّارِ.
فمذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ وسطٌ بينَ هذينِ المذهبينِ، فمرتكبُ الكبيرةَ عندَهمْ مؤمنٌ ناقصُ الإِيمانِ، قَدْ نقُصَ مِن إيمانِهِ بقدْرِ ما ارتكبَ مِن معصيةٍ، فلا ينفُون عنهُ الإِيمانَ أصلاً؛ كالخوارجِ والمعتزلَةِ، ولا يقولون بأنَّهُ كاملُ الإِيمانِ؛ كالمرجئةِ والجهمِيَّةِ. وحكمُهُ في الآخرةِ عندَهمْ أَنَّهُ قَدْ يعفُو اللهُ عزَّ وجلَّ عنهُ فيدخلُ الجنَّةَ ابتداءً، أو يعذِّبُهُ بقدْرِ معصيتِهِ، ثمَّ يخرجُهُ ويدخلُهُ الجنَّةَ كمَا سبقَ، وهذا الحكمُ أيضًا وسطٌ بينَ مَنْ يقولُ بخلودِهِ في النَّارِ، وبينَ مَنْ يقولُ: إنَّهُ لا يستحقُّ على المعصيةِ عقابًا.

(6) قولُهُ: (وفي أصحابِ رسولِ اللهِ … ) إلخ. المعروفُ أنَّ الرَّافضةَ – قبَّحهمُ اللهُ – يَسُبُّونَ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ويلعنونَهُم، وربَّما كفَّروهمْ أو كفَّروا بعضَهُم، والغالبيَّةُ مِنْهُمْ – معَ سبِّهمْ لكثيرٍ مِن الصَّحابةِ والخلفاءِ – يَغْلُون في عليٍّ وأولادِهِ، ويعتقدْون فيهمْ الإِلهيَّةَ.
وقَدْ ظهرَ هؤلاءِ في حياةِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بزعامةِ عبدِ اللهِ بنِ سبأٍ الذي كانَ يهوديًّا وأسلمَ وأرادَ أنْ يكيدَ للإِسلامِ وأهلِهِ؛ كمَا كادَ اليهودُ مِن قبلُ للنَّصرانيِةِ وأفسدُوهَا على أهلِهَا، وقَدْ حرَّقهمْ عليٌّ بالنَّارِ لإِطفاءِ فتنَتِهم، ورُوِي عنهُ في ذلكَ قولُهُ:
لَمَّا رَأَيْتُ الأمْرَ أَمْرًا  مُنْكَرا ... أَجَّجْتُ نَارِي ودَعَوْتُ قُنْبَرا
وأَمَّا الخوارجُ؛ فقَدْ قابلوا هؤلاءِ الروافضَ، فكفَّروا عليًّا ومعاويةَ ومَنْ معهمَا مِن الصَّحابةِ، وقاتلوهُم، واستحلُّوا دماءَهُمْ وأموالَهُم.
وأَمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فكانُوا وسطًا بينَ غُلُوِّ هؤلاءِ وتقصيرِ أولئكَ، وهداهُمُ اللهُ إلى الاعترافِ بفضلِ أصحابِ نبيِّهِمْ، وأَنَّهُمْ أكملُ هذهِِ الأمَّةِ إيمانَا وإسلاَمًا وعلمًا وحكمةً، ولكنَّهمْ لمْ يَغْلُوا فيهمْ، ولمْ يعتَقِدُوا عصمتَهُم، بلْ قاموا بحقوقِهِمْ، وأحبُّوهمْ لعظيمِ سابقتِهِمْ وحسنِ بلائِهِمْ في نُصرةِ الإِسلامِ وجهَادِهِمْ معَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ).

هيئة الإشراف

#5

20 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بلْ هُمُ الوَسَطُ في فِرَقِ الأمَّةِ؛ كَما أنَّ الأمَّةَ هِيَ الوَسَطُ في الأمَمِ. فهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطيلِ الجَهْمِيَّةِ، وأَهْلِ التَّمْثيلِ المُشَبِّهَةِ. وهُمْ وَسَطٌ في بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بينَ الجَبْرِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ، وغيْرِهِم. وفي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بينَ المُرْجِئةِ وبين الوَعيدِيَّةِ مِنَ القَدَرِيَّةِ وغَيْرِهِم. وَفي بَابِ أَسْماءِ الإِيمانِ والدِّينِ بينَ الحَرُورِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ، وبَيْنَ المُرْجِئةِ والجَهْمِيَّةِ، وَفي باب أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وبين الخَوَارِجِ.(1) ).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((51) لَمَّا بَيَّنَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَوْقِفَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مِن النُّصوصِ الوَارِدَةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ في صفاتِ اللَّهِ تعالى، أرادَ أنْ يُبَيِّنَ مَكانَتَهُم بَيْنَ فِرَقِ الأُمَّةِ حتى يُعْرَفَ قَدْرُهم وفَضْلُهم بمُقَارَنَتِهم بغيرِهم. فإنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ. وبضِدِّها تتبَيَّنُ الأشياءُ، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: (بل هُم الوَسَطُ في فِرَقِ الأُمَّةِ) قال في المِصباحِ المُنِيرِ: الوَسَط بالتحريكِ: المُعْتَدِلُ، والمرادُ بالوَسَطِ هنا العَدْلُ الخِيارُ، قال تعالى في الآيةِ (143) مِن سورةِ البقرةِ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ).
فأهلُ السُّنَّةِ وسَطٌ بمعنى أنَّهم عُدولٌ خِيارٌ. وبمعنى أنَّهم متَوسِّطُونَ بَيْنَ فَريقَي الإفراطِ والتَّفريطِ، فَهُم وسَطٌ بَيْنَ الفِرَقِ المنْتَسِبةِ للإسلامِ، كما أنَّ الأُمَّةَ الإسلاميةَ وسَطٌ بَيْنَ الأُمَمِ. فهَذِهِ الأُمَّةُ وسَطٌ بَيْنَ الأُمَمِ التي تميلُ إلى الغُلُوِّ والإفراطِ، والأممِ التي تميلُ إلى التَّفريطِ والتَّساهُلِ. وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ وسَطٌ بَيْنَ فِرَقِ الأُمَّةِ المُبْتَدِعةِ التي انحرَفَتْ عن الصِّراطِ المُستَقِيمِ فَغَلاَ بعضُها وتَطَرَّفَ، وتَساهَلَ بعضُها وانحَرَفَ.
ثم بَيَّنَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْصيلَ ذَلِكَ، فقال: (فَهُمْ) أيْ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ:
أوَّلا: (وسَطٌ في بابِ صفاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى بَيْنَ أهلِ التَّعطيلِ الجَهْميَّةِ، وأهلِ التَّمثيلِ المُشَبِّهَةِ) فالجَهْميَّةُ نِسبةٌ إلى الجَهْمِ بنِ صفوانَ التِّرمذِيِّ. هؤلاء غَلَوْا وأفْرَطوا في التَّنْزِيهِ حتى نَفَوْا أسماءَ اللَّهِ وصفاتِه حَذَراً مِن التَّشبيهِ بِزَعْمِهم، وبذَلِكَ سُمُّوا مُعَطِّلةً؛ لأنَّهم عطَّلوا اللَّهَ مِن أسمائِه وصفاتِه.
(وأهلِ التَّمثيلِ المُشَبِّهَةِ) سُمُّوا بذَلِكَ؛ لأنَّهم غَلَوْا وأَفْرَطُوا في إثباتِ الصِّفاتِ حتى شَبَّهُوا اللَّهَ بِخَلْقِه، وَمثَّلُوا صِفاتِه بصِفاتِهم (تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ ).
وأهلُ السُّنَّةِ تَوَسَّطُوا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فأَثْبَتُوا صفاتِ اللَّهِ على الوَجْهِ اللاَّئقِ بجَلالِه مِن غيرِ تَشْبيهٍ ولا تمثيلٍ، فلم يَغْلُوا في التَّنْزِيهِ، ولم يَغْلُوا في الإثباتِ. بل نَزَّهُوا اللَّهَ بلا تعطيلٍ، وأَثْبَتُوا له الأسماءَ والصِّفاتِ بلا تمثيلٍ.
ثانيا: وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ (وَسَطٌ في بابِ أفعالِ اللَّهِ بَيْنَ الجَبْرِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ) فالجَبْريَّةُ نِسبةٌ إلى الجَبْرِ؛ لأنَّهم يقولونَ: إنَّ العبدَ مَجْبورٌ على فِعلِه فَهُم غَلَوْا في إثباتِ أفعالِ اللَّهِ حتى نَفَوْا أفعالَ العِبادِ، وزَعَموا أنَّهم لا يَفعلونَ شيئاً وإنَّما اللَّهُ هُوَ الفاعِلُ والعَبْدُ مَجبورٌ على فِعلِه، فحَركاتُه وأفْعالُه كُلُّها اضطرارِيَّةٌ كحَركاتِ المُرْتَعِشِ، وإضافةُ الفِعلِ إلى العبدِ مجازٌ.
(والقَدَريَّةُ) نسبةً إلى القَدَر غَلَوْا في إثباتِ أفعالِ العِبادِ، فقالوا: إنَّ العبدَ يَخْلُقُ فِعلَ نَفْسِه بدونِ مَشيئةِ اللَّهِ وإرادَتِه، فأفعالُ العِبادِ لا تَدخُلُ تَحْتَ مشيئةِ اللَّهِ وإرادَتِه، فاللَّهُ لم يُقدِّرْها ولم يُرِدْها، وإنَّما فَعلوها هم استقْلالاً.
وأهلُ السُّنَّةِ توَسَّطوا وقالوا: لِلعبدِ اختيارٌ ومشيئةٌ وفِعلٌ يَصدُرُ منه، ولكنَّه لا يَفعلُ شيئاً بدونِ إرادةِ اللَّهِ ومشيئَتِه وتقديرِه، قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الآيةُ (96) مِن سورةِ الصَّافَّاتِ، فأَثبتَ للعِبادِ عَملا هُوَ مِن خَلقِ اللَّهِ تعالى وتقديرِه. وقال تعالى: (وَمَا تَشَاءُون إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَاَلَمِينَ) الآيةُ (29) مِن سورةِ التَّكويرِ، فأَثبتَ للعِبادِ مشيئةً تأتي بعدَ مشيئةِ اللَّهِ تعالى. وسيأتي لِهَذَا مَزيدُ إيضاحٍ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى في مَبحثِ القَدَرِ.
ثالِثا: وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ وسَطٌ (في بابِ وعيدِ اللَّهِ ): التَّخويفِ والتَّهديدِ، والمرادُ هنا النُّصوصُ التي فيها توعَّدٌ للعُصاةِ بالعذابِ والنَّكالِ، وقولُه (بَيْنَ المُرجِئَةِ والوعِيديَّةِ مِن القدَريَّةِ وغيرِهم) المُرجِئةُ نسبةً إلى الإرجاءِ - وَهُوَ التَّأخيرُ - سُمُّوا بذَلِكَ لأنَّهم أخَّرُوا الأعمالَ عن مسمَّى الإيمانِ، حَيْثُ زَعَمُوا أنَّ مرتكِبَ الكبيرةِ غيرُ فاسِقٍ، وقالوا: لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذَنْبٌ كما لا يَنفَعُ مع الكُفرِ طاعةٌ، فعندهم أنَّ مرتكِبَ الكبيرةِ كاملُ الإيمانِ غيرُ مُعرَّضٍ للوعيدِ، فهم تساهَلوا في الحُكمِ على العاصي وأفْرطُوا في التَّساهُلِ حتى زعَموا أنّ المعاصيَ لا تَنقُصُ الإيمانَ ولا يُحكَمُ على مرتكِبِ الكبيرةِ بالفِسقِ.
وأمَّا الوَعِيديَّةُ: فَهُم الذينَ قالوا بإنفاذِ الوعيدِ على العاصِي، وَشدَّدُوا في ذَلِكَ حتى قالوا: إنَّ مُرْتَكِبَ الكبيرةِ إذا ماتَ ولم يَتُبْ فَهُوَ مُخَلَّدٌ في النَّارِ، وحَكَمُوا بخُروجِه مِن الإيمانِ في الدُّنْيا.
وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ توَسَّطُوا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فقالوا: إنَّ مُرْتَكِبَ الكبيرةِ آثِمٌ، ومُعَرَّضٌ لِلوعِيدِ، وناقِصُ الإيمانِ، ويُحْكَمُ عليه بالفِسْقِ -لا كما تقولُ المُرْجِئةُ: إنَّه كامِلُ الإيمانِ وَغَيْرُ مُعَرَّضٍ للوعيدِ- ولكنَّه لا يَخْرُجُ مِن الإيمانِ ولا يُخَلَّدُ في النَّارِ، إنْ دَخَلَها فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئةِ اللَّهِ، إنْ شاءَ عفَا عنه، وإنْ شاءَ عَذَّبَهُ بِقَدْرِ مَعصِيَتِه، ثم يُخْرَجُ مِن النَّارِ ويُدْخَلُ الجَنَّةَ (لا كما تقولُه الوعيدِيَّةُ بخُروجِه مِن الإيمانِ، وتخليدِه في النَّارِ) فالمُرْجِئةُ أخَذُوا بنُصوصِ الوعْدِ، والوعيديَّةُ أخَذُوا بنُصوصِ الوعيدِ، وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ جَمَعُوا بينهما.
رابعا: وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ وسَطٌ (في بابِ أسماءِ الإيمانِ والدِّينِ) أيْ: الحُكْمِ على الإنسانِ بالكُفْرِ، أو الإسلامِ، أو الفِسْقِ، وفي جزاءِ العُصاةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ والمعتزِلةِ، وبَيْنَ المُرْجئِةِ والجَهْميَّةِ) الحَرُوريَّةُ هُم الخوارِجُ، سُمُّوا بذَلِكَ نِسبةً إلى حَرُورَى، قريةٍ بالعراقِ اجتَمَعوا فيها حينَ خَرَجُوا على عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
والمعتزِلةُ هم أتباعُ واصلِ بنِ عطاءٍ الذي اعْتَزَلَ مَجْلِسَ الحسَنِ البَصْريِّ، وانحازَ إليهِ أتْباعُهُ بِسَببِ خلافٍ وَقَعَ بينهما في حُكْمِ مُرْتَكِبِ الكبيرةِ مِن المُسلِمِينَ، فقال الحسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ عن واصلٍ هذا: إنَّهُ قَد اعتَزَلَنا فَسُمُّوا معتزِلةً.
فمَذْهَبُ الخوارِجِ والمعتزِلةِ في حُكْمِ مُرْتَكِبِ الكبيرةِ مِن المُسلِمِينَ مَذْهَبٌ مُتَشَدِّدٌ حَيْثُ حَكَمُوا عليه بالخُروجِ مِن الإسلامِ، ثم قال المعتزِلةُ: إنَّهُ ليس بمُسْلِمٍ ولا كافِرٍ بل هُوَ بالمَنْزِلَةِ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ، وقال الخَوارِجُ: إنَّهُ كافِرٌ، واتَّفَقُوا على أَنَّهُ إذا ماتَ على تِلْكَ الحالِ أَنَّهُ خالِدٌ مُخَلَّدٌ في النَّارِ. وقابَلَتْهُم المُرْجِئةُ والجَهْميَّةُ فتَساهَلُوا في حُكْمِ مُرْتَكِبِ الكبيرةِ، وأفْرَطُوا في التَّساهُلِ معه، فقالُوا لا يَضُرُّ مع الإيمانِ مِعْصِيةٌ؛ لأنَّ الإيمانَ عندَهم هُوَ تصديقُ القلبِ فَقَطْ، أو مع نُطْقِ اللِّسانِ على خِلافٍ بَيْنَهم، ولا تَدْخُلُ فيه الأعمالُ، فلا يَزِيدُ بالطَّاعةِ، ولا يَنْقُصُ بالمعصيةِ، فالمعاصِي لا تَنْقُصُ الإيمانَ، ولا يَستَحِقُّ صاحِبُها النَّارَ إذا لم يَستحِلَّها.
وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ توَسَّطُوا بَيْنَ الفِرقتَيْنِ فقالوا: إنَّ العاصِيَ لا يَخْرُجُ مِن الإيمانِ لمجرَّدِ المعصيةِ، وَهُوَ تَحْتَ المشيئةِ، إنْ شاءَ اللَّهُ عفَا عنه، وإنْ شاءَ عذَّبَه في النَّارِ، لكنَّه لا يُخَلَّدُ فيها كما تقولُ الخوارِجُ والمعتزِلةُ، والمعاصي تَنْقُصُ الإيمانَ ويَستحِقُّ صاحِبُها دُخولَ النَّارِ إلاَّ أنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عنه، ومرتكِبُ الكبيرةِ يكونُ فَاسِقا ناقِصَ الإيمانِ، لا كما تقولُ المُرْجِئةُ: إنَّهُ كامِلُ الإيمانِ، واللَّهُ تعالى أعْلَمُ.
خامساً: وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ وَسَطٌ في حَقِّ (أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم بَيْنَ الرَّافِضةِ والخوارج ِ): الصَّحابِيُّ هُوَ مَن لَقِيَ النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم مُؤْمِنا به، وماتَ على ذَلِكَ. والرَّافِضَةُ اسمٌ مأخوذٌ مِن الرَّفْضِ، وَهُوَ التَّرْكُ.
سُمُّوا بذَلِكَ؛ لأنَّهم قالوا لِزَيْدِ بنِ عَلِيِّ بنِ الحُسينِ: تَبَرَّأْ مِن الشَّيخَيْنِ أبي بكرٍ وعُمَرَ، فأبى وقال: مَعَاذَ اللَّهِ، فَرَفَضوه فَسُمُّوا الرَّافِضةَ.
ومذهبُهم في صحابةِ رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أنَّهُم غَلَوْا في عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأهلِ البيتِ، وفَضَّلُوهم على غيرِهم، ونصَبُوا العداوةَ لبِقيَّةِ الصَّحابةِ خُصوصا الخلفاءَ الثَّلاثةَ: أبا بكرٍ وَعُمرَ وعُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وسَبُّوهم ولَعَنُوهم، وربما كفَّروهم، أو كفَّروا بعضَهم، وقابَلَهُم الخوارِجُ فكفَّروا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكفَّروا معه كثيرا مِن الصَّحابةِ، وقاتَلُوهم واستحَلُّوا دِماءَهُمْ وأمْوالَهم.
وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ خالَفوا الجميعَ، فوَالَوْا جميعَ الصَّحابةِ، ولم يَغْلُوا في أَحَدٍ منهم، واعتَرَفوا بفَضْلِ جميعِ الصَّحابةِ، وأنَّهم أفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بعد نَبِيِّها، ويأتي لهَذَا مَزيدُ بيانٍ).

هيئة الإشراف

#6

20 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (فالأُمَّةُ الإسلاميةُ وسَطٌ بين المِلَلِ ، وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطٌ بين الفِرَقِ المُنْتَسِبَةِ للإسلامِ والوَسَطُ العَدلُ الخِيارُ ، قال تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } وقال :{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } وفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ ومُسْنَدِ الإمامِ أحمدَ عن معاويةَ بنِ حَيْدَةَ عن أبيه قال : قال رسولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم:
(( أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) وهو حديثٌ مشهورٌ وقد حسَّنَه الترمذيُّ ، ويُروى مِن حديثِ معاذِ بنِ جبَلٍ وأبي سعيدٍ نحوُه .
وروى أحمدُ والبُخارِيُّ ، عن أبي سعيدٍ ، قال : قال رسولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم : " يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ ، وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ . فَيُقَالُ لِنُوحٍ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ " قال : فذلك قولُه :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) قال : والوَسَطُ : العَدْلُ " فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلاَغِ ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ " .
فأمَّةُ محمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم أَشْرفُ الأُمَمِ ورَسُولُها أفضلُ الرُّسلِ ، وشريعَتُها أكملُ الشرائعِ . وأهلُ السُّنَّةِ والحديثِ وسَطٌ في الفِرَقِ ، ودِينُ اللَّهِ تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه ، وخيرُ الناسِ النَّمطُ الوَسَطُ ، الذين ارتَفَعوا عن تَقْصيرِ المُفَرِّطِين ، ولم يَلْحَقوا بلَغْوِ المُعتَدِين ، وقد جَعلَ اللَّهُ سبحانه هذه الأُمَّةَ وَسَطاً وهي الخيارُ الَعدلُ لتَوسُّطِها بين الطَّرفَيْنِ المَذمومَيْنِ . والعَدلُ هو الوسَطُ بين طَرَفَيِ الجَوْرِ والتفريطِ ، والآفاتُ إنما تَتطرَّقُ إلى الأطرافِ ، والأوساطُ محمِيَّةٌ بأطرافِها ، فخِيارُ الأمورِ أوْساطُها . قال الشاعِرُ :
هِيَ الْوَسَطُ الْمَحْمِيُّ  فَاكْتَنَفَـتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
وأهلُ الحديثِ جَعَلوا الرسولَ الذي بَعثَه اللَّهُ إلى الخَلْقِ هو إمامَهم المعصومَ الذي لا يَنْطِقُ عن الهَوى ، عنه يأخُذون دِينَهم ، فالحَلالُ ما حلَّلَه ، والحَرامُ ما حرَّمَه ، والدِّينُ ما شَرَعَه ، وكُلُّ قولٍ يُخالِفُ قولَه فهو مردودٌ عندهم ، وإن كان الذي قاله مِن خِيارِ المسلِمِينَ وأعْلَمِهم ، وهو مأجورٌ فيه على اجتهادِه ، لكنهم لا يُعارِضونَ قولَ اللَّهِ وقولَ رسولِه بشيءٍ أصْلاً . لا نَقْلٍ نُقِلَ عن غيرِه ، ولا رأيٍ رآه غيرُه ، ومَن سِواه مِن أهلِ العِلمِ فإنما هم وسائطُ في التبليغِ عنه ، إما للفظِ حديثِه، وإما لِمعناه ، فقومٌ بلَّغُوا ما سَمِعوا منه مِن قرآنٍ وحديثٍ ، وقومٌ تَفقَّهوا في ذلك وعَرَفوا معناه ، وما تنازَعُوا فيه رَدُّوه إلى اللَّهِ والرسولِ ، فلهذا لم يجتمِعْ قطُّ أهلُ الحديثِ على خلافِ قولِه في كلمةٍ واحدةٍ ، والحقُّ لا يَخرُجُ عنهم قطُّ ، وكُلُّ ما اجتَمَعوا عليه فهو مما جاءَ به الرسولُ صلى اللَّه عليه وسلم ، وكُلُّ مَن خالَفَهم مِن خارِجيٍّ ورافضيٍّ ومعتزِليٍّ وجَهْمِيٍّ وغيرِهم مِن أهلِ البِدَعِ فإنما يُخالِفُ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم ، بل مَن خالَفَ مذاهِبَهم في الشرائعِ العَمليةِ كان مُخالِفاً للسُّنَّةِ الثابتةِ .
وكُلٌّ مِن هؤلاء يوافِقُهم فيما خالَفَ فيه الآخَرَ ، فأهلُ الأهواءِ معهم بمنزِلةِ أهلِ المِلَلِ مع المسلِمِينَ ، فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ في الإسلامِ كأهلِ الإسلامِ في المِلَلِ .
فإنْ قِيلَ : فإذا كان الحقُّ لا يَخْرُجُ عن أهلِ الحديثِ فلِمَ لم يُذْكَرْ في أصولِ الفِقهِ أنَّ إجماعَهم حُجَّةٌ وذُكِرَ الخلافُ في ذلك ، كما تُكُلِّمَ على إجماعِ أهلِ المدينةِ وإجماعِ العِتْرةِ ؟
قيل : لأنَّ أهلَ الحديثِ لا يتَّفِقُونَ إلا على ما جاء عن رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم وما هو مَنْقولٌ عن الصحابةِ، فيكونُ الاستدلالُ بالكتابِ والسُّنَّةِ وبإجماعِ الصحابةِ مُغْنياً عن دعوى إجماعٍ يُنازِعُ في كوْنِه حُجَّةً بعضُ الناسِ ، وهذا بخلافِ مَن يدَّعِي إجماعَ المتأخِّرينَ مِن أهلِ المدينةِ إجماعاً ، فإنهم يَذْكُرون ذلك في مسائِلَ لا نصَّ فيها بلِ النصُّ على خِلافِها ، وكذلك المُدَّعُون إجماعَ العِتْرةِ يدَّعُون ذلك في مسائِلَ لا نصَّ معهم فيها ، بل النصُّ على خلافِها ، فاحتاجَ هؤلاءِ إلى دعوى ما يَدَّعُونه مِن الإجماعِ الذي يزعُمونَ أنه حُجَّةٌ .
وأما أهلُ الحديثِ فالنصوصُ الثابتةُ عن رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم هي عُمْدَتُهم ، وعليها يُجْمِعون إذا أجْمَعوا، لا سِيَّما وأئِمَّتُهُم يقولونَ : لا يكونُ قطُّ إجماعٌ صحيحٌ على خلافِ نصٍّ إلا ومع الإجماعِ نصٌّ ظاهرٌ معلومٌ يُعرَفُ أنه معارِضٌ لذلك النصِّ الآخَرِ ، فإذا كانوا لا يُسَوِّغونَ أن تُعارَضَ النصوصُ بما يُدَّعَى مِن إجماعِ الأُمَّةِ لِبُطلانِ تعارُضِ النصِّ والإجماعِ عندهم فكيف إذا عُورِضَتِ النصوصُ بما يُدَّعى مِن إجماعِ العِتْرةِ أو أهلِ المدينةِ ؟
وكُلُّ مَن سِوى أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ مِن الفِرَقِ فلا ينفردُ عن أئمَّةِ الحديثِ بقولٍ صحيحٍ بل لا بدَّ أنْ يكونَ معه مِن دينِ الإسلامِ ، ما هو حقٌّ وبسببِ ذلك وقعَتِ الشُّبْهَةُ ، وإلا فالباطِلُ المَحْضُ لا يَشْتَبِهُ على أحدٍ ، ولهذا سُمِّي أهلُ البِدَعِ أهلَ الشُّبُهاتِ ، وقيل فيهم : إنهم يَلْبِسونَ الحقَّ بالباطِلِ ، وهكذا أهلُ الكتابِ معهم حقٌّ وباطلٌ . ولهذا قال تعالى :{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وقال :{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وقال عنهم : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً } وقال عنهم :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ } وذلك لأنهم ابْتَدَعوا بِدَعاً خَلَطُوها بما جاءَتْ به الرسلُ ، وفَرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيَعاً ، فكان في كُلِّ فريقٍ منهم حقٌّ وباطلٌ ، وهذا حالُ أهلِ البِدَعِ كُلِّهِم ، فإنَّ معهم حقاً وباطلاً ، فرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيَعاً ، كُلُّ فريقٍ يُكَذِّبُ بما مع الآخَرِ مِن الحقِّ ويُصدِّقُ بما معه مِن الباطِلِ كالخوارجِ والشيعةِ .
فهؤلاء يكذِّبون بما ثَبَتَ مِن فضائلِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي اللَّه عنه ، ويُصدِّقُونَ بما رُوِي في فضائلِ أبي بكرٍ وعُمَرَ رضي اللَّه عنهما ، ويُصدِّقون بما ابتدَعُوه مِن تكفيرِه وتكفيرِ مَن يَتَوَلاَّه ويُحِبُّه .
وهؤلاء يُصدِّقون بما رُوِي في فضائلِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ويُكذِّبون بما رُوِي في فضائلِ أبي بكرٍ وعُمَرَ ، ويُصدِّقون بما ابتَدَعوه مِن التكفيرِ والطعْنِ في أبي بكرٍ وعُمَرَ وعثمانَ .
ودينُ الإسلامِ وسَطٌ بين الأطرافِ المتجاذِبةِ ، فالمسلمون وَسَطٌ في التوحيدِ بين اليهودِ والنصارى ، فاليهودُ تَصِفُ الرَّبَّ بصفاتِ النقْصِ التي يختَصُّ بها المخلوقُ ، ويُشَبِّهونَ الخالِقَ بالمخلوقِ ، كما قالوا : إنه بَخِيلٌ وإنه فقيرٌ ، وإنه لمَّا خَلَقَ السماواتِ والأرضَ تَعِبَ ، وهو سبحانه الجَوادُ الذي لا يَبْخَلُ ، والغَنِيُّ الذي لا يَحتاجُ إلى غيرِه ، والقادِرُ الذي لا يمَسُّه لُغوبٌ ، والقُدرةُ والإرادةُ والغِنَى عمَّن سِواهُ هي صفاتُ الكمالِ التي تَستلْزِمُ سائِرَها .
والنَّصارى يَصِفُون المَخلوقَ بصِفاتِ الخالِقِ التي يختَصُّ بها ، ويُشبِّهون المخلوقَ بالخالِقِ حيثُ قالوا :{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } و { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } وقالوا :{ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } و { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فالمسلمون وحَّدُوا اللَّهَ ووَصَفُوه بصفاتِ الكمالِ ، ونزَّهُوه عن جميعِ صفاتِ النقصِ ، ونزَّهُوه عن أنْ يُماثِلَه شيءٌ مِن المخلوقاتِ في شيءٍ مِن الصفاتِ ، فهو موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ لا بصفاتِ النقْصِ وليس كمِثْلِه شيءٌ لا في ذاتِه ولا في صِفاته ولا في أفعالِه .
وكذلك في النُّبُوَّاتِ فاليهودُ تَقْتُلُ بعضَ الأنبياءِ وتَستكْبِرُ عن اتِّباعِهِم وتكذِّبُهم وتتَّهِمُهم بالكبائرِ ، والنصارى يَجْعلون مَن ليس بنَبيٍّ ولا رسولٍ نَبِيًّا ورسولاً ، كما يقولون في الحَوارِيِّين أنهم رُسلٌ بل يُطِيعون أحْبارَهم ورُهْبانَهم كما تُطاعُ الأنبياءُ ، فالنصارى تُصدِّقُ بالباطلِ ، واليهودُ تُكذِّبُ بالحقِّ .
ولهذا كان في مُبْتَدِعَةِ أهلِ الكلامِ شَبَهٌ مِن اليهودِ ، وفي مُبتَدِعةِ أهلِ التَّعَبُّدِ شَبَهٌ مِن النصارَى ، فآخِرُ أولئك الشكُّ والريْبُ ، وآخِرُ هؤلاء الشطْحُ والدعاوى الكاذبةُ ؛ لأنَّ أولئك كذَّبُوا بالحقِّ فصاروا إلى الشكِّ ، وهؤلاء صدَّقُوا بالباطِلِ فصاروا إلى الشطْحِ .
وأما الشرائعُ ، فاليهودُ مَنَعوا الخالقَ أنْ يَبعَثَ رسولاً بغيرِ شريعةِ الرسولِ الأوَّلِ ، وقالوا : لا يجوزُ أنْ يُنْسَخَ ما شَرَعَه ، والنصارى جوَّزُوا لأحْبارِهم أنْ يُغَيِّروا مِن الشرائعِ ما أرْسَلَ اللَّهُ به رسولَه ، فأولئك عَجَّزوا الخالِقَ ومنَعُوه ما تَقتضيه قُدرتُه وحِكمتُه في النبواتِ والشرائعِ ، وهؤلاء جوَّزُوا للمخلوقِ أنْ يُغيِّرَ ما شَرَعَه الخالقُ فضَاهَوا المخلوقَ بالخالِقِ .
وكذلك في العِباداتِ ، فالنصارى يَعبدونه بِبِدَعٍ ابْتدعُوها ما أَنْزَلَ اللَّهُ بها مِن سلطانٍ , واليهودُ مُعْرضِون عن العباداتِ حتى في يومِ السبتِ الذي أمَرَهُم اللَّهُ أنْ يتفرَّغُوا فيه لِعبادَتِه ، إنما يَشتغِلونَ فيه بالشهواتِ ، فالنصارى مُشْرِكون به ؛ واليهودُ مَستكْبِرون عن عِبادَتِه .
والمسلمونَ عَبَدوا اللَّهَ وحْدَه بما شَرَعَ ، ولم يَعْبدوه بالبِدَعِ . وهذا هو دِينُ الإسلامِ الذي بَعَثَ اللَّهُ به جميعَ النَّبِيِّينَ ، وهو أنْ يَستَسْلِمَ العبدُ لِلَّهِ لا لِغيرِه ، وهو الحَنِيفِيَّةُ دِينُ إبراهيمَ ، فمَن استسْلَمَ له ولِغيرِه كان مُشْرِكاً ، ومَن لم يَستَسْلِمْ له فهو مُسْتكْبِرٌ .
وقد قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } وقال :{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
وكذلك في أمْرِ الحلالِ والحرامِ في الطعامِ واللِّباسِ ، وما يَدْخُل في ذلك مِن النجاساتِ فالنَّصارى لا تُحَرِّمُ ما حرَّمَه اللَّهُ ورسولُه ، ويَسْتَحِلُّونَ الخَبَائِثَ المُحرَّمة كالمَيْتةِ والدمِ ولَحْمِ الخِنزيرِ حتى أنهم يَتَعبَّدون بالنجاساتِ كالبولِ والغائطِ ، ولا يَغْتَسِلون مِن جنابةٍ ، ولا يَتَطَّهرونَ للصلاةِ ، وكُلَّما كان الراهِبُ عندهم أبعدَ عن الطهارةِ ، وأكثرَ مُلابَسةً للنَّجاسةِ كان مُعَظَّماً عندهم .
واليهودُ حرَّمَتْ عليهم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لهم ، فهم يُحرِّمون مِن الطَّيِّباتِ ما هو منفعةٌ للعِبادِ ، ويَجْتَنِبونَ الأمورَ الطاهرةَ مع النجاساتِ ، فالمرأةُ الحائضُ لا يأكلونَ معها ولا يُجالِسُونها ، فهم في آصَارٍ وأغلالٍ عُذِّبُوا بها ، وأولئك يَتَناوَلونَ الخبائِثَ المُضِرَّةَ مع أنَّ الرُّهْبانَ يُحرِّمون على أنفسِهِم طيباتٍ أُحِلَّتْ لهم فيُحَرِّمُون الطيِّباتِ ، ويُباشِرون النجاساتِ ، وهؤلاء يُحرِّمون الطيِّباتِ النافعةَ ، مع أنهم مِن أخبثِ الناسِ قُلوباً وأَفْسَدِهم بواطِنَ ، وطهارةُ الظاهرِ إنما يُقْصدُ بها طهارةُ القلبِ ، فهم يُطَهِّرونَ ظواهِرَهُم ، ويُنَجِّسون قُلوبَهم .
وكذلك أهلُ السُّنَّةِ في الإسلامِ متَوَسِّطُونَ في جميعِ الأمورِ ، فهُمْ في عَلَيٍّ وسَطٌ بينَ الخوارجِ والروافِضِ ، وكذلك في عثمانَ وسَطٌ بين المَرْوانِيةِ والزَيْدِيةِ ، وكذلك في سائِرِ الصحابةِ ، وَسَطٌ بين الغُلاةِ فيهم والطاعِنينَ عليهم ، وهم في الوعيدِ ، وَسَطٌ بين الخوارجِ والمعتزلةِ ، وبينَ المُرجئةِ . وهم في القَدَرِ وسَطٌ بين القَدَريةِ مِن المعتزِلة ونحوِهم وبين القَدَريةِ المُجْبِرةِ مِن الجهميةِ ونحوِهم ، وهم في الصفاتِ وسَطٌ بين المعطِّلةِ والمُمَثِّلَةِ .
والمقصودُ أنَّ كُلَّ طائفةٍ سوى أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ المُتبِعِينَ آثارَ رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلا يَنفرِدونَ عن سائرِ طوائفِ الأُمَّةِ إلاَّ بقولٍ فاسدٍ لا يَنفرِدونَ قطُّ بقولٍ صحيحٍ ، وكُلُّ مَن كان عن السُّنَّةِ أبعدَ كان انفِرادُه بالأقوالِ والأفعالِ الباطلةِ أكثرَ . وليس في الطوائفِ المُنْتسِبينَ إلى السُّنَّةِ أبعدُ عن آثارِ رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم مِن الرافِضةِ .
وأمَّا الخوارجُ والجهميةُ والمعتزِلةُ فإنهم أيضاً لا يَنفرِدونَ عن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بحقٍّ . بل كُلُّ ما معهم مِن الحقِّ ففي أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ مَن يقولُ به . ولكن ما يَبلُغُ هؤلاء مِن قِلَّةِ العقلِ وكثرةِ الجهلِ ما بلغَتِ الرافضَةُ .
وكذلك الطوائفُ المنتسِبونُ إلى السُّنَّةِ مِن أهلِ الكلامِ والرَّأْيِ مِثلُ : الكُلاَّبيَّةِ والأشعريَّةِ والكَرَّاميةِ والسالِميةِ . ومثلُ طوائفِ الفقهِ مِن الحنفيةِ والمالكيةِ والسُّفْيَانِيَّةِ والأوزاعيَّةِ والشافعيَّةِ والحنبليَّةِ والدَّاوُديةِ وغيرِهم مع تعظيمِ الأقوالِ المشهورةِ عن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ لا يُوجدُ لِطائفةٍ منهم قولٌ انفرَدوا به عن سائرِ الأُمَّةِ ، وهو صوابٌ بل ما مع كُلِّ طائفةٍ منهم مِن الصوابِ يُوجَدُ عند غيرِها مِن الطوائفِ ، وقد يَنفرِدون بخطأٍ لا يُوجَدُ عند غيرِهم ، لكنْ قد تَنفرِدُ طائفةٌ بالصوابِ عمَّن يُناظرُها مِن الطوائفِ كأهلِ المذاهبِ الأربعةِ ، قد يُوجَدُ لكُلٍّ منهم أقوالٌ انفرَدَ بها وكان الصوابُ المُوافِقُ للسُّنَّةِ معه دونَ الثلاثةِ ، لكن يكونُ قولُه قد قالَه غيرُه مِن الصحابةِ والتابِعينَ وسائرِ علماءِ الأُمَّةِ بخلافِ ما انفرَدوا به ، ولم يُنقَلْ عن غيرِهم . فهذا لا يكونُ إلا خطأً ، وكذلك أهلُ الظاهرِ كُلُّ قولٍ انفردوا به عن سائرِ الأُمَّةِ فهو خطأٌ .
وأمَّا ما انفردوا به عن الأربعةِ وهو صوابٌ فقد قاله غيرُهم مِن السلفِ وأمَّا الصوابُ الذي يَنفرِدُ به كُلُّ طائفةٍ مِن الثلاثةِ فهو كثيرٌ ، لكنَّ الغالبَ أنه يوافِقُه عليه بعضُ أَتباعِ الثلاثةِ ، وبالجُملةِ فما اختصَّ به كُلُّ إمامٍ مِن المحاسنِ والفضائلِ كثيرٌ ليس هذا موضعَ استقصائِه ، فإنَّ المقصودَ أنَّ الحقَّ دائماً مع سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم وآثارِه الصحيحةِ ، وإنَّ كُلَّ طائفةٍ تُضافُ إلى غيرِه إذا انفرَدَتْ بقولٍ عن سائرِ الأُمَّةِ لم يكُنِ القولُ الذي انفردتْ به إلا خطأً بخلافِ المضافِينَ إليه أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ ، فإنَّ الصوابَ معهم دائماً ، ومَن وافَقَهم كان الصوابُ معه دائماً لمُوافَقَتِه إياهم ، ومَن خالَفَهم فإنَّ الصوابَ معهم دُونه في جميعِ أمورِ الدينِ ، فإنَّ الحقَّ مع الرسولِ ، فمن كان أعْلَمَ بسُنَّتِه وأتْبَعَ لها كان الصوابُ معه .
وهؤلاء همُ الذين لا يَنتصِرونَ إلا لقولِه ولا يُضافُونَ إلاَّ إليه ، وهم أعْلَمُ الناسِ بسُنَّتِه وأَتْبَعُ لها ، وأكثرُ سلَفِ الأُمَّةِ كذلك لكنَّ التفرُّقَ والاختلافَ كثيرٌ في المتأخِّرينَ ، والذين رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهم في الأُمَّةِ هو بما أحْيَوْهُ مِن سُنَّتِه ونُصْرَتِه .
وهكذا سائرُ طوائفِ الأُمَّةِ ، بل سائرُ طوائفِ الخَلْقِ ، كُلُّ خَيْرٍ معهم فيما جاءتْ به الرسُلُ عن اللَّهِ ، وما كان مِن خطأٍ أو ذنْبٍ فليس مِن جهةِ الرسلِ )) (( فهم وسطٌ في بابِ صفاتِ اللَّهِ سبحانه وتعالى بين أهلِ التعطيلِ الجهميَّةِ وأهلِ التمثيلِ المشبِّهةِ )).
الجهمية ُ: هم المنتسِبونَ إلى جَهْمِ بنِ صَفْوانَ الترمذيِّ الذي أظهَرَ مَقالةَ التعطيلِ فنَفَى أسماءَ الرَّبِّ تعالى وصفاتِه ، وكان تلقَّى مذهَبَه عن الجعدِ بنِ درهمٍ فنَشَره ونُسِبَ إليه .
وكان ذلك في أواخِرِ دولةِ بني أُمَيَّةَ . وقد نَفَى الجهمُ أنْ يكونَ اللَّهُ كلَّم موسى تكليماً ، ونفَى مَحبةَ اللَّهِ وغيرَ ذلك مِن الأسماءِ والصفاتِ .
ثم انتقلَ مذهَبُه إلى المعتزلةِ وغيرِهم فنَفَوُا الصفاتِ دونَ الأسماءِ ، وكِلا القولَيْنِ ضلالٌُ وباطلٌ لم يَقُلْه أحدٌ مِن سلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِها . بل هو بدعةٌ منكَرةٌ (( واعْلَمْ أنَّ الجهميةَ المَحْضةَ كالقَرامطةِ ومَن ضَاهَاهم ، يَنْفونَ عنه تعالى اتِّصافَه بالنقِيضَيْنِ حتى يقولونَ ليس بموجودٍ ولا ليس بموجودٍ ولا حيٍّ ولا ليس بِحَيٍّ . ومعلومٌ أنَّ الخُلُوَّ عن النقيضَيْنِ ممتنِعٌ في بَداهةِ العقولِ كالجَمعِ بين النقيضَيْنِ ، وآخرونَ وَصَفُوه بالنفْيِ فقط، فقالوا: ليس بِحَيٍّ ولا سميعٍ ولا بصيرٍ ، هؤلاء أعْظَمُ كُفراً مِن أولئك مِن وجهٍ .
فإذا قيل لهؤلاء : هذا مُسْتَلْزِمٌ وَصْفَه بنقيضِ ذلك كالموتِ والصَّمَمِ والبَكَمِ ، قالوا : إنما يَلزَمُ ذلك لو كان قابلاً لذلك ، وهذا الاعتذارُ يَزيدُ قَولَهم فساداً ، وكذلك مَن ضَاهَى هؤلاء وهم الذين يقولون : ليس بِداخِلِ العالَمِ ولا خارِجِه . إذا قيلَ : هذا ممتنِعٌ في ضرورةِ العقلِ ، كما إذا قيل ليس بقديمٍ ، ولا مُحْدَثٍ ، ولا واجِبٍ ، ولا ممْكِنٍ ، ولا قائمٍ بنَفْسِه ، ولا قائمٍ بغيرِه ، قالوا : هذا إنما يكونُ إذا كان قابلاً لذلك )) (( وأنكَرَ الجهميةُ حقيقةَ المَحبةِ مِن الطرفَيْنِ زعماً منهم أنَّ المحبةَ لا تكونُ إلا مناسَبةً بين المُحِبِّ والمحبوبِ ، وأنه لا مناسَبةَ بين القديمِ والمحدثِ توجِبُ محبَّتَه ، وقاسُوا به المحبةَ .
وكان أوَّلَ مَن أَحْدثَ هذا في الإسلامِ الجعدُ بنُ دِرْهَمٍ في أوائلِ المائةِ الثانيةِ ، فضحَّى به خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ القسريُّ أميرُ العراقِ والمَشرِقِ بواسِطَ ، خطَبَ يومَ الأضْحى فقال : أيها الناسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحاياكُم فإنِّي مُضَحٍّ بالجعدِ بنِ درهمٍ، إِنه زَعَم أنَّ اللَّهَ لم يَتَّخِذْ إبراهيمَ خليلاً ، ولم يُكلِّمْ موسى تكليماً ، ثم نَزَلَ فذَبَحَه .
فكان قد أخَذَ هذا المذهبَ عن الجعدِ الجهمُ بنُ صفوانَ فأظهَرَه عليه وإليه أُضِيفَ قولُ الجهميةِ ، فقتَلَه سلمُ بنُ أحوزَ أميرُ خراسان بها .
ثم نَقَلَ ذلك إلى المعتزلةِ عمرُو بنُ عُبيدٍ ، وأُظْهِرَ قولُهم في زمَنِ الخليفةِ المُلقَّبِ بالمأمونِ حتى امتُحِنَ أئمةُ الإسلامِ ودُعوا إلى الموافقةِ لهم على ذلك .
وأَصْلُ هذا مأخوذٌ عن المُشرِكينَ والصَّابِئَةِ مِن البَراهِمَةِ والمُتفلسِفةِ ومُبتدِعةِ أهلِ الكتابِ الذين يزعُمون أنَّ الرَّبَّ ليس له صفةٌ ثُبوتيةٌ أَصْلاً ، وهؤلاء هم أعداءُ إبراهيمَ الخليلِ عليه السلامُ ، وهم يَعبدونَ الكواكِبَ والنجومَ ، ويَبنونَ لها الهياكِلَ والمَعاقِلَ وغيرَها ، وهم يُنكِرون في الحقيقةِ أنْ يكونَ إبراهيمُ خليلاً وموسى كَلِيما ، وأن الخُلَّةَ هي كمالُ المحبةِ المُستغِرقَةِ للحُبِّ كما قيل :
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيـلُ خَلِيـلا

وقد أحسَنَ مَن قال :
عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً ... إِلَى النَّارِ وَاشْتَقَّ اسْمَهُ مِنْ  جَهَنَِّم


وقال الإمامُ أبو حنيفةَ : بَالَغَ جهمٌ في نفْي التشبيهِ حتى قال : إنَّ اللَّهَ ليس بشيءٍ .
وقال ابنُ المبارَكِ : إنا لنَحْكِي كلامَ اليهودِ والنصارَى ونَستَعْظِمُ قولَ جهمٍ . وله :
وَلاَ أَقُولُ بِقَوْلِ الْجَهْمِ إِنَّ لَـهُ ... قَوْلاً يُضارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانَا


وقال في الكافيةِ الشافيةِ :
وَلأَجْلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الْـ ... ـقَسْرِيُّ يَـوْمَ ذَبَائِـحِ الْقُرْبَـانِ

إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَيْسَ خَلِيلَـهُ ... كَلاَّ وَلاَ مُوسَى الْكِلْيمَ الدَّانِي

شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ  صَاحِبِ ... سُنَّةٍ لِلَّهِ دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ
وَلَقَدْ تَقَلَّدَ كُفْرَهُمْ خَمْسُونَ فِي ... عَشْرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي  الْبُلدَانِ
وَالَّلاَلَكَائِيُّ الإِمَامُ حَكَاهُ عَنْـ ... ـهُمْ بَلْ حَكَاهُ قَبْلَهُ  الطَّبَرَانِي

فَقَتَلَ خالدٌ القَسْرِيُّ الجَعدَ في خلافةِ هشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ .
وكان الجهمُ بعده بخُراسانَ فأظَهَرَ مقالتَه هناكَ ، وتَبِعَهُ عليها ناسٌ بعدَ أنْ تركَ الصلاةَ أربعينَ يوماً شَكًّا في رَبِّه .
وذلك لِمُناظَرَتِه قوماً مِن المُشركِينَ مِن فلاسفةِ الهندِ يُقالُ لهم السمنيةُ الذين يُنْكِرون مِن العِلمِ ما سِوى المُحسُوساتِ.
قالوا له : ربُّك الذي تَعْبدُه هلْ يُرى أو يُشَمُّ أو يُذَاقُ أو يُلْمَسُ ؟ فقال : لا ، فقالوا : هو مَعدومٌ ، فبَقِي أربعينَ يوماً لا يَعبدُ شيئاً ، ثم لمَّا خلا قَلْبُهُ مِن إلَهٍ يَعبدُه نَقَشَ الشيطانُ في قَلبِه اعتقاداً نحَتَه فِكْرُه ، فقال : إنه الوجودُ المُطلَقُ ونَفَى جميعَ الصفاتِ ، وقال : إنه هو هذا الهواءُ مع كُلِّ شيءٍ ، وفي كُلِّ شيءٍ ، ولا يَخْلُو منه شيءٌ ، واتَّصَلَ بالجعدِ .
وقُتِلَ الجهمُ سنةَ 128ه ، قَتَلَه سلمُ بنُ أحوزَ بخراسانَ على ما ذَكَرَه الطبَريُّ . ولكنْ كانتْ مَقالَتُه قد فَشَتْ في الناسِ ، وتَقلَّدَها المعتزلةُ ، ولكنْ كان الجهمُ أدْخَلَ في التعطيلِ منهم ؛ لأنه يُنْكِرُ الأسماءَ والصفاتِ ، وهم يُنكِرون الصفاتِ دُون الأسماءِ .
(( وأصلُ قولِ الجهميةِ هو نَفْيُ الصفاتِ بما يزعُمونه مِن دعوى العقلياتِ التي عارَضوا بها النصوصَ . إذا كانَ العقلُ الصريحُ الذي يَستحِقُّ أنْ تُسَمَّى قضاياهُ عقلِيات مَوافِقاً للنصوصِ لا مُخالِفاً . ولمَّا كان قد شاعَ في عُرْفِ الناسِ أنَّ قولَ الجهميةِ مَبْناهُ على النفْيِ صارَ الشعراءُ يَنْظِمُونَ هذا المعنى كقولِ أبي تمامٍ :
جَهْمِيَّةُ الأَوْصَافِ إِلاَّ أَنَّهُمْ ... قَدْ لَقَّبُوهَا جَوْهَرَ الأَسْمَاءِ

فهؤلاءِ ارْتَكَبُوا أربعَ عظائمَ :
( إحداها ) رَدُّهم لنصوصِ الأنبياءِ عليهم الصلواتُ والسلامُ .
( والثاني ) رَدُّهم ما يُوافِقُ ذلك مِن معقولِ العقلاءِ .
( الثالثُ ) جَعْلُ ما خالَفَ ذلك مِن أقوالِهم المُجملَةِ أو الباطلةِ هي أصولَ الدِّينِ .
( الرابعُ ) تكفيرُهم أو تفسِيقُهم أو تَخْطِئَتُهم لمَن خالَفَ هذه الأقوالَ المُبْتدَعةَ المخالِفةَ لصحيحِ المنقولِ وصريحِ المعقولِ )) (( ثم أصلُ هذه المَقالةِ - التعطيلِ للصفاتِ - إنما هو مأخوذٌ مِن تلامِذةِ اليهودِ والمشركينَ وضُلاَّلِ الصابِئِينَ ، فإنَّ أوَّلَ مَن حُفِظَ عنه أنه قال هذه المَقالةَ في الإسلامِ - أعْنِي أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ليس على العرشِ حقيقةً ، وإنما استوى بمعنى استولى ونحوَ ذلك - أوَّلَ ما ظهَرَتْ هذه المقالةُ مِن الجعدِ بنِ درهمٍ ، وأخَذَها عنه الجهمُ بنُ صفوانَ وأظهَرَها فنُسِبَتْ مقالةُ الجهميةِ إليه .
وقد قِيلَ : إنَّ الجعدَ أخَذَ مقالَته عن أبَانَ بنِ سَمعانَ ، وأخَذَها أبَانُ مِن طالوتَ بنِ أُخْتِ لَبيدِ بنِ الأَعْصَمِ ، وأخَذَها طالوتُ مِن لبيدِ بنِ الأعصمِ اليهوديِّ الساحِرِ الذي سحَرَ النبيَّ صلى اللَّه عليه وسلم .
وكان الجعدُ بنُ درهمٍ هذا - فيما قيل - مِن أرضِ حرَّانَ - وكان فيهمْ خَلْقٌ كثيرٌ مِن الصابِئَةِ والفلاسفةِ بقايا نَمْرُوذَ ، والكَنْعَانيِّينَ الذين صنَّفَ بعضُ المتأخِّرين في سِحْرِهم . ونمرودُ هو مَلِكُ الصابئةِ والكلدانيَّةِ المشرِكينَ ، كما أنَّ كِسْرى مَلِكُ الفُرسِ والمجوسِ ، وفِرْعونَ مَلِكُ مِصرَ ، والنجاشيَّ مَلِكُ الحَبَشةِ النَّصارى ، فهذا اسمُ جنسٍ لا عَلَمٌ .
فكان الصابئةُ - إلا قليلاً منهم - إِذْ ذاكَ على الشرْكِ وعُلماؤُهم هم الفلاسفةُ ، وكانوا يَعبدونَ الكواكبَ ويَبنونَ لها الهياكِلَ .
ومذهبُ النُّفاةِ مِن هؤلاء في الرَّبِّ سبحانه : أنه ليس له إلا صفاتٌ سلبيَّةٌ أو إضافيةٌ أو مركبةٌ منها ، وهم الذين بَعَثَ اللَّهُ إبراهيمَ الخليلَ صلى اللَّه عليه وسلم إليهم ، فيكونُ الجعدُ قد أخَذَها عن الصابئةِ والفلاسفةِ ، وكذلك أبو نصرٍ الفارَابِيُّ دخَلَ حرانَ وأخَذَ عن فلاسفةِ الصابِئِينَ تمامَ فَلْسَفَتِه ، وأخَذَها الجهمُ أيضاً ( فيما ذَكَرَه الإمامُ أحمدُ وغيرُه ) لما ناظَرَ السُّمَنِيَّةَ بعضَ فلاسفةِ الهندِ الدهْرِيِّين الذين يَجحَدُون مِن العلومِ ما سِوى الحِسِّياتِ ، فهذه أسانيدُ جهمٍ تَرجعُ إلى اليهودِ والصابِئينَ ، والمشرِكينَ ، والفلاسفةُ الضالُّون هم : إما مِن الصابِئِينَ ، وإما مِن المشرِكينَ .
ثم لمَّا عُرِّبَتِ الكُتُبُ الرُّوميةُ واليونانيةُ في حُدودِ المائةِ الثانيةِ زادَ البلاءُ مع ما أَلْقَى الشيطانُ في قُلُوبِ الضُّلاَّلِ ابتداءً مِن جِنسِ ما ألقاهُ في قُلُوبِ أشباهِهِم .
ولما كان في حُدودِ المائةِ الثالثةِ انتشرَتْ هذه المقالةُ التي كان السلَفُ يُسَمُّونَها مقالةَ الجهميةِ بسببِ بِشرِ بنِ غِياثٍ المَرِّيسيِّ وطَبَقَتِه ، وكلامُ الأئمةِ مِثلِ : مالكٍ ، وسفيانَ بنِ عيينةَ ، وابنِ المبارَكِ ، وأبي يُوسُفَ ، والشافعيِّ ، وأحمدَ ، وإسحاقَ ، والفضيلِ بنِ عِياضٍ ، وبِشْرٍ الحافيِّ ، وغيرِهم كثيرٌ في ذَمِّهِم وتضلِيلِهم .
وأهلُ التمثيلِ المشبِّهةُ الذين غَلَوْا في الإثباتِ فقالوا في صفاتِ اللَّهِ : إنها كصفاتِ المخلوقِينَ ، فيقولون : يدٌ كيَدِي ، وسمعٌ كسَمعِي ، ونحوَ ذلك ، كما يُرْوَى عن داودَ الجوارِبيِّ ، وهشامِ بنِ عبدِ الحَكمِ الرافضيِّ ، ويونُسَ بنِ عبدِ الرحمنِ القُمِّيِّ، وهشامٍ الجوالِيقِيِّ .
وقولُهم عَكْسُ قولِ الجهميةِ وكُلٌّ مِن الطائفتَيْنِ قد مَثَّلَ اللَّهَ بخَلْقِه (( فلا يُوجَدُ أحدٌ مِن أهلِ التعطيلِ الجهميةِ وأهلِ التمثيلِ المشبِّهةِ إلاَّ وفيه نوعٌ مِن الشرْكِ العَمَليِّ ؛ إذْ أصْلُ قَولِهم فيه شِرْكٌ ، وتسويةٌ بينَ اللَّهِ وبين خَلْقِه ، أو بَيْنَه وبينَ المَعْدُوماتِ ، كما يُسَوِّي المعطلةُ بينه وبينَ المعدوماتِ في الصفاتِ السَّلْبِيَّةِ التي لا تستَلْزِمُ مَدْحاً ولا ثُبوتَ كمالٍ ، أو يُسَوُّونَ بينه وبين الناقصِ مِن الموجوداتِ في صفاتِ النقْصِ ، وكما يُثْبِتونَ إذا أَثْبَتُوا هم ومَن ضَاهاهُم مِن المُمثِّلَةِ مُساواةً بينه وبين المخلوقاتِ في حقائِقها حتى يَعبدوها ، فيَعدِلون عن ربِّهم ، ويَجعلُون له أنداداً ويُشبِّهونَ المخلوقَ بربِّ العالَمينَ )) .
وأهلُ السُّنَّةِ وسطٌ بين ضَلالتَيْنِ ، فطريقتُهم إثباتُ الأسماءِ والصفاتِ مع نَفْيِ مماثلَةِ المَخْلوقاتِ . ولكنَّ المعطِّلةَ يُلَقِّبونَ أهلَ السُّنَّةِ بألقابٍ يَنْتقِصونَهم بها فيُسَمُّونَهم حَشويةً ومُجسِّمةً ونابتةً . ولقد أحسَنَ مَن قال :
فَإِنْ كَانَ تَجْسِيماً ثُبُوتُ صِفَاتِهِ ... فإنِّي بَحَمْدِ اللَّهِ رَاضٍ مُسْلِـمُ

(( وأوَّلُ مَن ابتَدعَ لفظَ الحشويةِ المعتزلةُ ، فإنهم يُسَمُّون الجماعةَ والسَّوادَ الأعظَمَ الحَشْوَ ، كما تُسَمِّيهم الرافضةُ الجمهورَ . وحَشْوُ الناسِ هم عمومُ الناسِ وجمهورُهم ، وهم غيرُ الأعيانِ المُتميِّزِينَ ، يُقال : هذا مِن حَشْوِ الناسِ ، كما يُقالُ: هذا مِن جمهورِهم .

وأوَّلُ مَنْ تكلَّم بهذا عمرُو بنُ عُبيدٍ . قال : وكان عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ حَشْوياً ، فالمعتزِلةُ سَمَّوُا الجماعةَ حَشْواً كما تُسَمِّيهم الرافضةُ الجمهورَ )) .
(( والمقصودُ هنا : أنَّ الأقوالَ التي ليسَ لها أصلٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ كأقوالِ النُّفَاةِ التي تَقُولُها الجهميةُ والمعتزِلةُ وغيرُهم ، وقد يدْخُلُ فيها ما هو حقٌّ وباطلٌ هم يَصِفُونَ بها أهلَ الإثباتِ للصفاتِ الثابتةِ بالنصِّ ، فإنهم يقولونَ : كُلُّ مَن قال : إنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ ، وأنَّ اللَّهَ يُرى في الآخرةِ ، أو أنه فوقَ العالَمِ فهو مُجَسِّمٌ مُشبِّهٌ حَشْويٌّ .
وهذه الثلاثةُ مما اتفَقَ عليها سلَفُ الأُمَّةِ وأئمَتُها ، وحكى إجماعَ السُّنَّةِ عليها غيرُ واحدٍ مِن الأئمةِ والعالِمينَ بأقوالِ السلَفِ)).
وقال بعضُ العلماءِ :
فَإنْ كَانَ تَجْسِيماً ثُبُوتُ صِفَاتِهِ ... وَتَنْزِيهُهَا عَنْ كُلِّ تَأْوِيلِ مُفْتَـرِ
فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ رَبِّـي  مُجَسِّـمٌ ... هَلُمُّوا شُهُوداً وَامْلأُوا كُلَّ مَحْضَرِ

وأهلُ السُّنَّةِ يُؤمِنون بما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه مِن غيرِ تَكْييفٍ. (( ولمَّا كان أحبَّ الأشياءِ إليه- سبحانه - حَمْدُه ومَدْحُه ، والثناءُ عليه بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه كان إنكارُها وجَحْدُها أَعْظَمَ الإلحادِ والكُفْرِ به ، وهو شَرٌّ مِن الشِّرْكِ . فالمعطِّلُ شرٌّ مِن المُشْرِكِ ، فإنه لا يستوي جَحْدُ صفاتِ المَلِكِ وحقيقةِ مُلْكِه والطعْنُ في أوصافِه هو والتشريكُ بينه وبين غيرِه في المُلْكِ .

فالمُعطِّلونَ أعداءُ الرسُلِ بالذاتِ . بل كُلُّ شِرْكٍ في العالَمِ فأصْلُه التعطيلُ . فإنه لولا تعطيلُ كمالِه أو بعضِه وظَنِّ السوءِ به لمَا أُشْرِكَ به كما قال إمامُ الحنفاءِ ، وأهلِ التوحيدِ لقولِه ( أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أيْ فما ظَنُّكُمْ به أنْ يجازِيَكم ، وقد عَبَدْتُم معه غيرَه ؟ وما الذي ظنَنتُم به حتى جَعَلْتم معه شركاءَ ؟ أظننَتْم أنه مُحتاجٌ إلى الشركاءِ والأعوانِ ؟ أَم ظنَنْتُم أنه يَخْفَى عليه شيءٌ مِن أحوالِ عِبادِه حتى يحتاجَ إلى شركاءَ تُعَرِّفُه بها كالمُلوكِ ؟ أمْ ظنَنْتُم أنه لا يَقدِرُ وحده على استقلالِه بتدبيرِهم وقضاءِ حوائجِهم ؟ أمْ هو قاسٍ فيحتاجُ إلى شفعاءَ يستعطِفونَه على عِبادِه ؟ أمْ ذليلٌ فيَحتاجُ إلى ولِيٍّ يَتَكثَّرُ به مِن القِلَّةِ ويَتَعزَّزُ به مِن الذِّلَّةِ ؟ أم يَحْتاجُ إلى الولَدِ ، فيتَّخِذُ صاحبةً يكونُ الولدُ منها ومنه ؟ تعالى اللَّهُ عن ذلك عُلُواًّ كبيراً .
والمقصودُ أنَّ التعطيلَ مبدأُ الشركِ وأساسُه فلا تَجِدُ معطِّلاً إلا وشِركُه على حسَبِ تعطِيلِه فمُستَقِلٌّ ومُستَكْثِرٌ .
والرسلُ مِن أوَّلِهم إلى خاتَمِهم - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم أجمعين - أُرْسِلوا بالدعوةِ إلى اللَّهِ ، وبيانِ الطريقِ المُوصِلِ إليه ، وبيانِ حالِ المَدْعُوِّينَ بعد وُصولِهم إليه .
فهذه القواعدُ الثلاثُ ضروريةٌ في كُلِّ مِلَّةٍ على لِسانِ كُلِّ رسولٍ ، فقعدَتْ المعطِّلةُ والجهميةُ على رأسِ القاعدةِ الأولى فحَالُوا بينَ القُلُوبِ وبين معرفةِ ربِّها وسَمَّوْا إثباتَ صِفاتِه وعُلُوِّه فوقَ خَلْقِه واستوائِهِ على عرشِه تشبيهاً وتجسيماً وحَشْوًا ، فنَفَّرُوا عنه صبيانَ العقولِ ، وسَمَّوْا نُزولَه إلى سماءِ الدنيا وتكَلُّمَه بمشيئتِه ورضاه بعد غضَبِه ، وغضَبَه بعد رضاه ، وسَمْعَه الحاضرَ لأصواتِ العبادِ ، ورُؤْيتَه المقارِنَةَ لأفعالِهم ونحوَ ذلك حوادِثَ ، وسَمَّوْا وَجْهَه الأعلى ويدَيْه المبسوطتَيْنِ وأصابَعه التي يَضَعُ عليها الخلائقَ يومَ القيامةِ جوارحَ وأعضاءَ مَكْراً منهم وكِبَاراً ))
(( وَهُم وَسَطٌ في بابِ أفعالِ اللَّهِ بين الجَبْريةِ والقَدَريةِ ))
الجَبريةُ: أتباعُ جهمِ بنِ صفوانَ الترمذيِّ ، يقولون : إنَّ العبدَ مَجْبورٌ على فِعلِه وحَرَكاتِه وأفعالُه كُلُّها اضطراريةٌ كحَركاتِ المُرْتَعِشِ والعُروقِ النَّابِضةِ وحَركاتِ الأشجارِ في مَهَبِّ الريحِ ، وإضافَتُها عندهم إلى الخَلْقِ مجازٌ .
ونشَأَ القولُ بالجَبْرِ بعد أنْ حدثَتْ بِدعةُ القدَريةِ النُّفاةِ الذين يقولون : إنَّ أفعالَ العبادِ ليست مخلوقةً لِلَّهِ ، بل العبدُ هو الذي يَخْلُقُ فِعلَه ، ولذا كانوا مَجوسَ هذه الأُمَّةِ .
(( فإنه لما ظهَرَتِ القدَريةُ النُّفاةُ للقَدَرِ ، وأنْكَروا أنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يشاءُ ، ويَهدِي مَن يشاءُ ، وأنْ يكونَ خالِقاً لكُلِّ شيءٍ ، وأنْ تكونَ أفعالُ العبادِ مِن مَخلوقاتِه ، وأنكَرَ الناسُ هذه البدعةَ فصار بعضُهم يقولُ في مُناظَرَتِه: هذا يَلْزَمُ منه أنْ يكونَ اللَّهُ مُجْبِراً للعبادِ على أفعالِهم ، وأنْ يكونَ قد كلَّفَهم ما لا يُطِيقونَه فالتَزَمَ بعضُ مَن ناظَرَهم مِن المُثْبِتةِ إطلاقَ ذلك ، وقال : نعم يَلْزَمُ الجَبْرُ والْجَبْرُ حقٌّ فَأنْكَرَ الأئمةُ كالأوزاعِيِّ وأحمدَ بنِ حنبلٍ ونحوِهما على الطائفتَيْنِ ، ويُروى إنكارُ إطلاقِ الجَبْرِ عن الزُّبَيديِّ ، وسفيانَ الثوريِّ ، وعبدِ الرحمنِ بنِ مَهديٍّ ، وغيرِهم ، وقال الأوزاعيُّ وأحمدُ ونحوُهما مَن قال: إنه جَبْرٌ فقد أخطأَ ، ومَن قال : لم يُجْبَرْ فقد أخْطأَ ، بل يُقالُ : إنَّ اللَّهَ يَهدِي مَن يشاءُ ويُضِلُّ مَن يَشاءُ ونحوُ ذلك .
وقالوا : ليس للجَبْرِ أصلٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ ، وإنما الذي في السُّنَّةِ لفظُ الجَبْلِ لا لفظُ الجَبْرِ ، فإنه قد صَحَّ عن النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لاِشَجِّ عبدِ القيسِ : " إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ " فقال : أَخُلُقَيْنِ تخلَّقْتُ بهما أَم خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عليهما ؟ فقال : " بل خُلُقَيْنِ جُبِلْتَ عليهما " فقال : الحمدُ لِلَّهِ الذي جَبَلَنِي على خُلُقَيْنِ يُحِبُّهما اللَّهُ.
وقالوا : إنَّ لفظَ الجبرِ لفظٌ مُجمَلٌ ، فإنَّ الجَبْرَ إذا أُطْلِقَ في الكلامِ فُهِمَ منه إجبارُ الشخصِ على خلافِ مُرادِه كما تقولُ الفقهاءُ : إنَّ الأبَ يُجْبِرُ ابنتَه على النكاحِ أو لا يُجبِرُها ، وأنَّ الثَّيِّبَ البالِغَ العاقِلَ لا يُجْبِرُها أحدٌ على النكاحِ بالاتِّفاقِ، وفي البِكْرِ البالغِ نِزَاعٌ مشهورٌ ويقولون : إنَّ ولِيَّ الأمْرِ يُجْبِرُ المَدينَ على وفاءِ دَيْنِه ، ونحو ذلك , فهذه العباراتُ معناها إجبارُ الشخصِ على خلافِ مُرادِه وهو كلفظِ الإكراهِ . إما أنْ يُحْمَلَ على الفِعلِ الذي يَكرَهُه ويُبْغِضُه فيَعمَلَ خَوفاً مِن وَعيدِه ، وإما أنْ يُفْعَلَ به الشيءُ مِن غيرِ فِعلٍ منه .
ومعلومٌ أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى إذا جَعَلَ في قلبِ العبدِ إرادةً للفِعلِ ومحبةً له حتى يَفعلَه كما قال تعالى :{ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } لم يكن هذا جَبراً بهذا التفسيرِ . ولا يَقدِرُ على ذلك إلا اللَّهُ تعالى فإنه هو الذي جَعَلَ الراضيَ راضياً ، والمُحِبَّ مُحِباًّ ، والكارِهَ كارِهاً ، وقد يُرادُ بالجَبرِ نفْسُ جَعْلِ العبدِ فاعِلاً ونَفْسُ خَلْقِه مُتَّصِفاً بهذه الصفاتِ .
كما في قولِه تعالى ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) فالجَبْرُ بهذا التفسيرِ حقٌّ ، ومنه قولُ علِيٍّ رضي اللَّهُ عنه في الأثرِ المشهورِ عنه في الصلاةِ على النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم : اللهم دَاحيَ المَدْحُوَّاتِ، فاطِرَ المَسمُوكاتِ ، جبَّارَ القلوبِ على فِطْرَتِها ، شَقِيِِّها وسَعيدِها . فالأئمةُ منعَتْ مِن إطلاقِ القولِ بإثباتِ لفظِ الجَبْرِ أو نَفْيِه لأنه بدعةٌ يَتناولُ حقاً وباطلاً )) .
((فالقدريةُ حَجَروا على اللَّهِ وألْزَموه شريعةً ، حرَّموا عليه الخروجَ عنها ، وخُصومهُم مِن الجَبْريةِ جوَّزوا عليه كُلَّ فِعلٍ يَتنزَّه سبحانه عنه. إذْ لا يليقُ بغِناه وحَمْدِه وكمالِه ما نزَّه نفْسَه عنه وحَمِدَ نفْسَه بأنه لا يَفعَلُه ، فالطائفتانِ متقابِلتانِ غايةَ التقابُلِ.
والقَدَريةُ أثْبَتوا له حِكمةً وغايةً مطلوبةً مِن أفعالِه حسَبَ ما أثْبَتوه لخَلْقِه .
والجبريةُ نَفَوْا حِكمتَه اللائقةَ به التي لا يُشابِهُه فيها أحدٌ . والقدريةُ قالتْ : إنه لا يُريدُ مِن عِبادِه طاعَتَهم وإيمانَهم ، وإِنه لا يَسألُ ذلك منهم .
والجبريةُ قالت : إنه يُحِبُّ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ ويرضاه مِن فاعِله .
والقدريةُ قالت : إنه يَجِبُ عليه سبحانه أنْ يفعَلَ بكُلِّ شخصٍ ما هو الأصلح له ، والجبريةُ قالت : إِنه يجوزُ عليه أنْ يعذِّبَ أولياءَه وأهلَ طاعَتِه ومَن لم يُطِعْه قطُّ ، ويُنَعِّمَ أعداءَه ومَن كفَرَ به وأَشْرَك ، ولا فَرْقَ عنده بين هذا وهذا .
وكذلك القدَريةُ قالت : إنه ألقى إلى عبادِه زِمامَ الاختيارِ ، وفوَّضَ إليهم المشيئةَ والإرادةَ ، وإنه لم يخُصَّ أحداً منهم دونَ أحدٍ بتَوفيقٍ ولُطْفٍ ولا هِدايةٍ ، بل ساوَى بينهم في مَقْدُورِه ، ولو قَدَرَ أن يَهدِيَ أحداً ولم يَهْدِه كان بُخْلاً ، وإنه لا يهدي أحداً ولا يُضِلُّه إلا بمعنى البيانِ والإرشادِ ، وأمَّا خَلْقُ الهُدى والضلالِ فهو إليهم ليس إليه .
وقالتِ الجبريةُ : إنه سبحانه أجْبَرَ عبادَه على أفْعالِهم ، بل قالوا : إن أفعالَهم هي نفْسُ أفعالِه ، ولا فِعْلَ لهم في الحقيقةِ ولا قُدرةَ ولا اختيارَ ولا مشيئةَ ، وإنما يعذِّبُهم على ما فَعلَه هو لا على ما فَعلوه ، ونِسبةُ أفعالِهم إليه كحَركاتِ الأشجارِ والمياهِ والجماداتِ ، فالقدريةُ سَلَبُوه قُدْرَته على أفعالِ العبادِ ومَشيئَتَه لها . والجبريةُ جَعَلوا أفعالَ العبادِ نفْسَ أفعالِه ، وأنهم ليسوا فاعِلين لها في الحقيقةِ ولا قادِرينَ عليها ، فالقدريةُ سَلَبَتْه كمالَ مُلكِه ، والجبريةُ سَلَبَتْه كمالَ حِكْمتِه ، والطائفتانِ سلبَتْه كمالَ حَمْدِه .
وأهلُ السُّنَّةِ الوَسَطُ أَثْبَتوا كمالَ المُلْكِ والحَمْدِ والحِكْمةِ ، فوصفوه بالقدرةِ التامَّةِ على كُلِّ شيءٍ مِن الأعيانِ وأفعالِ العبادِ وغيرِهم ، وأَثْبَتوا له الحِكمةَ التامَّةَ في جميعِ خَلْقِه وَأَمْرِه )) .
(( ومُحقِّقو أهلِ السُّنَّةِ يقولون : إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُدرةَ العبدِ وإرادَته ، وذلك مستلزمٌ لِحقيقةِ فِعلِ العبدِ . ويقولون : إنَّ العبدَ فاعِلٌ لفِعلِه حقيقةً . واللَّهُ سبحانه جَعلَه فاعِلاً له مُحْدِثاً له ، وهذا قولُ جماهيرِ أهلِ السُّنَّةِ مِن جميعِ الطوائفِ ، وهو قولُ كثيرٍ مِن أصحابِ الأشعريِّ كأبي إسحاقَ الإسفرايينيِّ ، وأبي المعالي الجُوَينيِّ الملقَّبِ بإمامِ الحرمَيْن وغيرِهم ، وإذا كان هذا قولُ مُحقِّقي المعتزلةِ والشيعةِ ، وهو قولُ جمهورِ أهلِ السُّنَّةِ وأئمتِهم .
بَقِي الخلافُ بين القدريةِ الذين يقولون : إنَّ الداعِيَ يَحصُلُ في قلبِ العبدِ بلا مشيئةٍ مِن اللَّهِ ولا قُدرةٍ ، وبين الجهميةِ المُجَبِّرَةِ الذين يقولون : إنَّ قُدرةَ العبدِ لا تأثيرَ لها في فِعلِه بوجهٍ مِن الوجوهِ ، وإِنَّ العبدَ ليس فاعِلاً لفِعلِه كما يقولُ ذلك الجهمُ بنُ صفوانَ إمامُ المُجَبِّرةِ ومَن اتَّبَعَه ، وإن أَثْبتَ أحدُهم كَسْباً لا يُعقَلُ كما أثبته الأشعريُّ ومَن وافَقَه ، وإنْ كان هذا النزاعُ في هذا الأصلِ بين القدريةِ النُّفاةِ لكونِ اللَّهِ يُعِينُ المؤمنينَ على الطاعةِ ، ويَجْعلُ فيهم داعياً إليها ، ويُخلِّصُهم بذلك دون الكافرين ، وبين المُجَبِّرةِ الغُلاةِ الذين يقولون : إنَّ العبادَ لا يفعلونَ شيئاً ولا قُدرةَ لهم على شيءٍ ، أو لهم قُدرةٌ لا يفعلون بها شيئاً ، ولا تأثيرَ لها في شيءٍ ، فكِلا القولَيْنِ باطلٌ مع أنَّ كثيراً مِن الشيعةِ يقولون بقولِ المُجَبِّرةِ .
وأمَّا السلَفُ والأئمةُ القائِلون بإمامةِ الخلفاءِ الثلاثةِ ، فلا يقولون لا بهذا ولا بهذا . ومَن أقَرَّ بالأمرِ والنهيِ ، والوعدِ والوعيدِ ، وفِعلِ الواجباتِ ، وتَرْكِ المحرَّماتِ ، ولم يَقُلْ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ أفعالَ العبادِ ، ولا يَقدِرُ على ذلكَ ، ولا شاء المعاصيَ ، هو قَد قَصدَ تعظيم الأمرِ وتنزيهَ اللَّهِ تعالى عن الظُّلْمِ ، وإقامةَ حُجَّةِ اللَّهِ على نفْسِه لكنْ ضاقَ عطَنُه فلم يُحْسِنِ الجمعَ بين قُدرةِ اللَّهِ التامَّةِ وبين مشيئَتِه العامَّةِ وخَلْقِه الشامِلِ ، وبين عَدْلِه وحِكمَتِه وأمْرِه ونَهْيِه ووعدِه ووعيدِه ، فجَعلَ لِلَّهِ الحمدَ ولم يَجعلْ له تمامَ المُلْكِ .
والذين أَثْبتوا قُدْرَته ومشيئَتَه وخَلْقَه وعارَضوا بذلك أمْرَه ونهْيَه ووَعْدَه ووعيدَه شرٌّ مِن اليهودِ والنَّصارى .
والمُنكِرونَ للقدَرِ وإن كانوا في بدعةٍ فالمُحْتجُّون به على الأمْرِ أَعْظَمُ بدعةً ، وإنْ كان أولئك يُشْبِهونَ المجوسَ فهؤلاء يُشبهونَ المشركينَ المكذِّبينَ للرسُلِ الذين قالوا: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دِونِهِ من شَيْءٍ ) وقد كان في أواخرِ عصرِ الصحابةِ رضي اللَّه عنهم أجمعين جماعةٌ مِن هؤلاء القَدَريةِ .
وأمَّا المُحْتَجُّون بالقَدَرِ على الأمْرِ فلا يُعرفُ لهم طائفةٌ مِن طوائفِ المسلِمِينَ معروفةٌ ، وإنما كَثُروا في المتأخِّرين وسَمَّوْا هذا حقيقةً وجَعَلوا الحقيقةَ تُعارِضُ الشريعةَ ، ولم يُميِّزوا بين الحقيقةِ الدِّينيةِ الشرْعيةِ التي تتضمَّنُ تحقيقَ أحوالِ القُلوبِ كالإخلاصِ والصَّبْرِ والشُّكْرِ والتوكُّلِ والمَحبةِ لِلَّهِ وبين الحقيقةِ الكوْنيةِ القَدَريةِ التي يُؤمَنُ بها ولا يُحْتَجُّ بها على المعاصي ، لكنْ يُسَلَّمُ إليها عندَ المصائبِ ، فالعارِفُ يَشهَدُ القدَرَ في المصائبِ فيَرْضَى ويُسَلِّمُ ويَستغفِرُ ويتوبُ مِن الذنوبِ والمصائبِ ، كما قال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ) فالعبدُ مأمورٌ بأنْ يَصبِرَ على المصائبِ ويستغفرَ مِن المعايبِ .
ومِن هذا البابِ حديثُ احتجاجِ آدمَ وموسى عليهما السلامُ . وقد أخْرَجاه في الصحيحَيْنِ وغيرِهما عن أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه ، فإنَّ الحديثَ إنما تضمَّنَ التسليمَ للقدَرِ عندَ المصائبِ ، فإنَّ موسى لم يَلُمْ آدمَ لحقِّ اللَّهِ الذي في الذنْبِ ، وإنما لامه لأجلِ ما لَحِقَ الذُّرِّيَّةَ مِن المصيبةِ . فإنَّ آدَمَ كان قد تابَ مِن الذنْبِ وموسى أعْلَمُ باللَّه مِن أنْ يَلومَ تائِباً . وأيضاً فآدمُ وموسى أعْلَمُ باللَّهِ مِن أنْ يَحتَّجَّ أحدُهما على الذنْبِ بالقدَرِ ويقبَلَه الآخرُ ، فإنَّ هذا لو كان مَقبولاً لَكان لإبليسَ الحُجَّةُ بذلك . والخَائِضُونَ فِي القَدَرِ بِالبَاطِلِ ثَلاثةُ أَصْنافٍ : المُكَذِّبونَ بِه ، والدَّافِعونَ لِلأمْرِ والنَّهْيِ ، والطَّاعِنونَ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الأَمْرِ وَالْقَدَرِ ، وَهؤلاءِ شَرُّ الطَّوائِفِ وَحُكِيَ فِي ذَلِك مُنَاظرَةٌ عَنْ إبْلِيسَ ، والدَّافِعونَ لِلأمْرِ بِه بَعْدَهمْ فِي الشَّرِّ وَالمُكَذِّبونَ بِه بَعْدَ هَؤلاءِ .
وَلَيْسَ فِي المُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالى يَفْعَلُ مَا هُوَ قَبِيحٌ مِنْهُ وَمَنْ قَال : إنَّهُ خَالِقُ أَفْعالِ العِبَادِ يقُولُ : أنَّ ذَلِك الفِعْلَ القَبِيحَ مِنْهُمْ لا مِنْهُ ، كَمَا أنَّهُ صَارَ لَهُمْ لا لَهُ ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ فَاعِلُ ذَلِك الفِعْلِ ، وَالأكْثَرُونَ يقُولُونَ إنَّ ذَلِك الفِعْلَ مَفْعُولٌ لَهُ وَهُو فِعْلٌ لِلعَبْدِ . فَمَنْ قالَ : إذَا خَلَقَ اللَّهُ مَا هُو ضَارٌّ لِلعِبَادِ جازَ أنْ يَفْعَلَ مَا هُو ضَارٌّ كانَ قَوْلُه باطِلا . كذَلِك إذَا جازَ أنْ يَخْلُقَ فِعْلَ العَبْدِ الَّذِي هُوَ قَبِيحٌ مِنَ العَبْدِ لَيْسَ خَلْقُه قَبِيحًا مِنْهُ لَمْ يَسْتلزِمْ أنْ يَخْلُقَ مَا هُو قَبِيحٌ مِنْهُ لا فِعْلَ لِلعَبدِ فِيه .
وَالمُثْبِتونَ لِلقَدَرِ لَهُمْ فِي قُدْرَةِ العَبْدِ قَوْلانِ :
( أحَدُهُما ) أنَّ قُدْرَتَه لا تَكُونُ إلا معَ الفِعْلِ وعَلَى هَذا فالكَافِرُ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أنَّه لا يُؤْمِنُ لا يَقْدِرُ عَلَى الإيمَانِ أَبَدا .
( والثَّانِي ) أنَّ القُدْرَةَ نَوْعانِ فَالقُدْرَةُ المَشْرُوطةُ فِي التَّكْلِيفِ تكُونُ قَبْلَ الفِعْلِ وَبِدُونِ الفِعْلِ وقَدْ تَبْقَى إلَى حِينِ الفِعْلِ والقُدْرَةُ المُسْتَلْزِمَةُ لِلفِعْلِ لا بُدَّ أنْ تكُونَ مَوْجودَةً عِنْدَ وُجُودِهِ ، وَأَصْلُ قَوْلِهِمْ : إنَّ اللَّهَ خَصَّ المُؤمِنِينَ بِنِعْمَةٍ يَهْتَدونَ بِهَا لَمْ يُعْطِهَا الكَافِرَ ، وأنَّ العَبْدَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ قادِرًا حِينَ الفِعْلِ خِلافا لِمَنْ زَعَمَ أنَّه لا يَكُونُ قادِرًا إلا قَبْلَ الفِعْلِ ، وأنَّ النِعْمَةَ علَى الكافِرِ والمُؤْمِنِ سَواءٌ . وإذَا كانَ لا بُدَّ مِنْ قُدْرَةٍ حَالَ الفِعْلِ ، فإذَا كانَ قادِرًا قَبْلَ الفِعْلِ وبَقِيَت القُدْرَةُ إلَى حِينِ الفِعْلِ لَمْ يَنْقُضْ هذَا أَصْلَهُمْ ، لكِنْ مُجَرَّدُ القُدْرَةِ الصَّالِحَةِ لِلضِّدَّيْنِ يَشْتَرِكُ فِيهَا المُؤْمِنُ والكافِرُ فَلا بُدَّ لِلمُؤمِنِ مَا يَخُصُّهُ اللَّهُ بِه مِنَ الأسْبَابِ الَّتِي بِها يَكُونُ مُؤمِنًا ، وهَذا يَدخُلُ فِيه إرَادةُ الإيمَانِ وهَذِه الإرَادَةُ يُدْخِلُونها فِي جُمْلَةِ القُدْرةِ المُقَارِنةِ لِلفِعْلِ ، وهُو نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ، وَتَكلِيفُ مَا لا يُطَاقُ علَى وَجْهَيْنِ :
الأوَّلُ : مَا لا يُطَاقُ لِلعَجْزِ عنْهُ كتَكْلِيفِ الزَّمِنِ المَشْيَ وتَكلِيفِ الإنْسَانِ الطَّيَرَانَ وَنَحْوِهِ ، فَهَذا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أهْلِ السُّنَّةِ المُثْبِتِينَ لِلقَدَرِ .
والثَّانِي : مَا لا يُطَاقُ لِلاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ كاشتِغَالِ الكافِرِ بِالكُفْرِ فإنَّه هُو الَّذِي صَدَّه عَن الإيمَانِ وكالقَاعِدِ فِي حَالِ قُعُودِهِ ، فإنَّ اشتِغَالَهُ بِالقُعُودِ يَمنَعُهُ أنْ يكُونَ قائِمًا ، والإرَادَةُ الجازِمَةُ لأَحَدِ الضِّدَّيْنِ تُنَافِي إرادَةَ الضِّدِّ الآخَرِ ، وتَكلِيفُ الكافِرِ الإيمَانَ مِنْ هَذا البَابِ ، ومِثْلُ هَذا لَيْسَ بِقَبِيحٍ عَقْلا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلاءِ ، بَلِ العُقَلاءُ مُتَّفِقونَ علَى أمْرِ الإنسَانِ وَنَهْيِهِ بمَا لا يَقْدِرُ علَيْهِ حَالَ الأمْرِ والنَّهْيِ لاشتِغَالِهِ بِضِدِّهِ إذَا أمْكَنَ أنْ يَتْرُكَ ذَلِك الضِّدَّ ويَفْعَلَ الضِّدَّ المَأْمُورَ بِه ، وإنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ يُسَمَّى هَذا تَكلِيفَ مَا لا يُطَاقُ لِكَوْنِهِ تَكلِيفًا بِمَا انتَفَتْ فِيه القُدْرَةُ المُقَارِنَةُ لِلفِعْلِ ؟
فَمِنَ المُثْبِتِينَ لِلقَدَرِ مَنْ يُدْخِلُ هَذا فِي تَكْلِيفِ مَا لا يُطَاقُ كَمَا يَقُولُهُ القَاضِي أبُو بَكْرٍ والقَاضِي أبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُما ، وَيَقُولُونَ مَا لا يُطَاقُ علَى وَجْهَيْنِ مِنْهُ مَا لا يُطَاقُ لِلعَجْزِ عَنْهُ ، ومَا لا يُطَاقُ لِلاشتِغَالِ بِضِدِّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذا لا يَدْخُلُ فِيمَا لا يُطَاقُ وهَذا هُوَ الأشْبَهُ بِمَا فِي الكِتَابِ والسُّنَّةِ وكَلامِ السَّلَفِ ، ولَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَأمُورِ بِه أنْ يكُونَ العَبْدُ مُريدا لَهُ ، ولا مِنْ شَرْطِ المَنْهِيِّ عَنْهُ أنْ يكُونَ العَبْدُ كارِهًا لَهُ فإنَّ الفِعْلَ يَتَوقَّفُ علَى القُدْرةِ والإرَادَةِ ، الَمْشُرُوطُ فِي التكْلِيفِ أنْ يكُونَ العَبْدُ قادِرًا علَى الفِعْلِ لا أنْ يكُونَ مُرِيدًا لَهُ ، لَكِنَّهُ لا يُوجَدُ إلا إذَا كانَ مُرِيدًا لَهُ ، والإرَادَةُ شَرْطٌ فِي وُجُودِهِ لا فِي وُجُوبِهِ .
وجُمْهُورُ أهْلِ الإثْبَاتِ علَى أنَّ العَبْدَ فاعِلٌ لِفِعْلِه حَقِيقَةً ، ولَهُ قُدْرةٌ واختِيَارٌ وقُدْرَتُهُ مُؤَثِّرةٌ فِي مَقْدُورِها كَمَا تُؤَثِّرُ القُوَى والطَّبَائِعُ وغَيْرُ ذَلِك مِنَ الشُّرُوطِ والأسْبَابِ . وبِالجُمْلَةِ فَجُمْهُورُ أهْلِ السُّنَّةِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ يقُولُونَ : إنَّ العَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ وإرَادَةٌ وفِعْلٌ وهُوَ فاعِلٌ حَقِيقَةً واللَّهُ خَالِقُ كُلِّ ذَلِك كُلِّهِ ، كَمَا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا دَلَّ علَى ذَلِك الكِتَابُ والسُّنَّةُ، قالَ تَعَالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) فأَثْبَتَتْ مَشِيئةَ العَبْدِ وأَخْبَرَ أنَّها لا تكُونُ إلا بِمَشيئَةِ الرَّبِّ تَعَالى . وقَدْ أَخْبَرَ أنَّ العِبَادَ يفْعَلُونَ ويَصْنَعونَ ويَعْمَلونَ ويُؤمِنُونَ ويَكْفُرونَ ويَتَّقُونَ ويَفْسُقُونَ ويَصْدُقونَ ويَكْذِبونَ فِي مَوَاضِعَ ، وأَخْبَرَ أنَّ لَهُم استِطَاعَةً وقُوَّةً فِي غَيْرِ مَوضِعٍ . وأئِمَّةُ أهْلِ السُّنَّةِ وجُمهُورُهم يقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا كُلَّهُ ، والخَلْقُ عِنْدَهم لَيْسَ هُوَ المَخْلُوقَ ، فَيُفَرِّقونَ بَيْنَ كَوْنِ أفْعَالِ العِبَادِ مَخْلوقَةً مَفْعولَةً لِلرَّبِّ وبَيْنَ أنْ تكُونَ نَفْسَ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ فَعَلَ يَفْعَلُ فِعْلا ، فَإنَّها فِعْلٌ لِلعَبْدِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ولَيْسَت فِعْلا لِلرَّبِّ تَعَالى بِهَذا الاعْتِبَارِ ، بَلْ هِيَ مَفْعُولةٌ لَهُ والرَّبُّ تَعَالى لا يَتَّصِفُ بِمَفْعُولاتِهِ ولَكنَّ هَذِه الشَّنَاعاتِ لَزِمَتْ مَنْ لا يُفَرِّقُ بَيْنَ فِعْلِ الرَّبِّ ومَفْعُولِهِ ويقُولُ مَع ذَلِك : إنَّ أفْعَالَ العِبَادِ فِعْلُ اللَّهِ كَمَا يقُولُ ذَلِك الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ ومُوَافِقُوه والأشْعَرِيُّ وأتْبَاعُه ومَنْ وافَقَهم مِنْ أتْبَاعِ الأئَمَّةِ . وكَذَلِك أيْضًا لَزِمَتْ مَنْ لا يُثْبِتُ في المَخْلوقاتِ أسْبَابًا وَقُوًى وطَبَائِعَ ، ويَقُولونَ : إنَّ اللَّهَ يَفعَلُ عِنْدَها لا بِهَا ، فَيَلْزَمُ أنْ لا يَكُونَ فَرْقٌ بَيْنَ القَادِرِ والعاجِزِ . وإنْ أَثْبَتَ قُدْرَةً وقَال إنَّها مُقْتَرِنَةٌ بالكَسْبِ ، قِيلَ لَهُ : لَمْ تُثْبِتْ فَرْقًا مُعَوَّلا بَيْنَ مَا تُثْبِتُهُ مِنَ الكَسْبِ وَتَنْفِيه مِنَ الفِعْلِ ولا بَيْنَ القَادِرِ والعَاجِزِ ، وإذَا كانَ مُجَرَّدُ الاقْتِرَانِ لا اختِصَاصَ لَهُ بالقُدْرَةِ فإنَّ فِعْلَ العَبْدِ يُقَارِنُ حَيَاتَهُ وعِلْمَهُ وإرَادَتَه وَغَيْرَ ذَلِك مِنْ صِفَاتِه ، فإذَا لَمْ يَكُنْ لِلقُدرَةِ تَأثِيرٌ إلا مُجَرَّدَ الاقْتِرَانِ فَلا فَرْقَ بَيْنَ القُدْرَةِ وغَيْرِها . وكَذَلِك قَوْلُ مَنْ قَال : القُدْرَةُ مُؤَثِّرَةٌ فِي صِفَةِ الفِعْلِ لا فِي أصْلِه كَمَا يقُولُ القَاضِي أبُو بَكْرٍ وَمَنْ وافَقَه ، فإنَّه أَثْبَتَ تأثِيرًا بِدُونِ خَلْقِ الرَّبِّ فَلِزَمَ أنْ يكُونَ بَعْضُ الحَوادِثِ لَمْ يَخْلُقْه اللَّهُ تَعَالى ، وإنْ جُعِلَ ذَلِك مُعَلَّقا بِخَلْقِ الرَّبِّ فَلا فَرْقَ بَيْنَ الأصْلِ والصِّفَةِ وأمَّا أئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُهم فيَقُولُون مَا دَلَّ عَلَيْه الشَّرْعُ والعَقْلُ . قَال تَعَالى : (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) وقَال : (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) وَمِثْلُ هَذا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّةِ يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالى أنَّهُ يُحْدِثُ الحَوَادِثَ بالأسْبَابِ ، وكَذَلك دَلَّ الكِتَابُ والسُّنَّةُ علَى إثْبَاتِ القُوَى والطَّبَائِعِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ فِي الحَيَوانِ وغَيْرِه كَمَا قَال تَعَالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ومِثْلُ هَذا كَثِيرٌ . وهَؤلاءِ يُثْبِتُونَ لِلعَبْدِ قُدْرَةً ويَقُولُون : إنَّ تأثِيرَها فِي مَقْدُورِها كتَأثِيرِ سائِرِ الأشْيَاءِ فِي مُسَبَّبَاتِها . والسَّبَبُ لَيْسَ مُسْتَقِلاًّ بالمُسَبَّبِ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مَا يُعَاوِنُهُ ، فكَذَلك قُدْرَةُ العَبْدِ لَيْسَت مُسْتَقِلَّةً بالمَقْدُورِ . وأَيْضا فالسَّبَبُ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ ويَعُوقُه وكَذَلك قُدْرَةُ العَبْدِ واللَّهُ تَعَالى خَالِقُ السَّبَبِ ومَا يَمْنَعُهُ ، وصَارِفٌ عَنْه مَا يُعَارِضُه ويَعُوقُه وكَذَلك قُدْرَةُ العَبْدِ .
وفِي بَابِ وَعِيدِ اللَّهِ بَيْنَ المُرْجِئَةِ والوَعِيدِيَّةِ مِنَ القَدَرِيَّةِ وغَيْرِهِم ، وفِي بَابِ أسمَاءِ الإيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الحَرُورِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ وبَيْنَ المُرْجِئَةِ والجَهْمِيَّةِ) .
قَال القَسْطَلانِيُّ : المُرْجِئَةُ نِسْبَةٌ إلَى الإرْجَاءِ أيِ التَّأْخِيرِ ؛ لاِنَّهُمْ أَخَّرُوا الأعْمَالَ عَنِ الإيمَانِ حيْثُ زَعَمُوا أنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ غَيْرُ فَاسِقٍ ا.ه . وقَالوا : لا يَضُرُّ مَع الإيمَانِ ذَنْبٌ كمَا لا يَنْفَعُ مَع الكُفْرِ طَاعَةٌ . فعِنْدَهُم أنَّ الأعْمَالَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الإيمَانِ وأنَّ الإيمَانَ لا يَتَبَعَّضُ ، وأنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ كامِلُ الإيمَانِ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلوَعِيدِ .
(وسُمِّيَت المُرْجِئَةَ لِنَفْيِهِم الإرْجَاءَ وأنَّه لا أَحَدَ مُرْجَأٌ لاِمْرِ اللَّهِ إمَّا يُعَذِّبُهُم وإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِم ، وقَدْ تُسَمَّى الجَبْرِيَّةُ قَدَرِيَّةً ؛ لاِنَّهُمْ غَلَوْا فِي إثبَاتِ القَدَرِ ، وكَمَا يُسَمَّى الَّذِينَ لا يَجْزِمُونَ بِشَيءٍ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ بَلْ يَغْلُونَ فِي إرْجَاءِ كُلِّ أمْرٍ ، حَتَّى الأنْوَاعِ فَلا يَجْزِمُونَ بِثَوَابِ مَنْ تَابَ كَمَا لا يَجْزِمُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ وكَمَا لا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنٍ . وكَانَتِ المُرْجِئَةُ الأُولَى يُرْجِئونَ عُثْمانَ وَعَلِيًّا ولاَ يَشْهَدُونَ بِإيمَانٍ ولاَ كُفْرٍ) .
والوَعِيدِيَّةُ القَائِلُونَ بِإنفَاذِ الوَعِيدِ وأنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ إذَا مَاتَ ولَمْ يَتُبْ مِنْها هُو خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . وهَذا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ وهُو مَذْهَبُ الخَوَارِجِ ، قَالُوا : لاِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ وقَدْ تَوَعَّدَ العَاصِينَ بِالعِقَابِ ، فلَوْ قِيلَ : إنَّ المُتَوَعَّدَ بِالنَّارِ لا يَدْخُلُها لَكَانَ تَكْذِيبًا لِخَبَرِ اللَّهِ . وأهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَعِنْدَهُم أنَّ مُرتَكِبَ الكَبِيرَةِ آثِمٌ ومُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ ، وهُو تَحْتَ المَشِيئَةِ إنْ شاءَ اللَّهُ غَفَرَ لَهُ وإنْ شاءَ عَذَّبَه بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ ثُمَّ أدْخَلَه الجَنَّةَ إمَّا بشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ أوْ بِغَيْرِ ذَلِك ، كَمَا قَالَ تَعَالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) قَالُوا : وإخْلافُ الوَعِيدِ كَرَمٌ يُمْدَحُ بِه بِخِلافِ إخلافِ الوَعْدِ : كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُه  أوْ  وَعَدْتُـه ... لَمُخْلِفُ إيعَادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي
وَالحَرُورِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى قَرْيَةِ حَرُورَاءَ ، وهِيَ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيها الخَوَارِجُ حِينَ خَرَجُوا علَى عَلِيٍّ ، فَسُمِّيَت خَوَارِجَ حَرُورَاءَ ، قَالَ ابنُ الأثِيرِ فِي النِّهَايَةِ :

الحَرُورِيَّةُ طَائِفَةٌ مِنَ الخَوَارِجِ نِسْبَةً إلَى حَرُورَاءَ بِالْمَدِّ والقَصْرِ ، وهُو مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الكُوفَةِ وكَانَ أوَّلُ مُجْتَمَعِهِم وتَحْكِيمِهِم فِيها وهُم أحَدُ الخَوَارِجِ الَّذِينَ قَاتَلَهُم عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه .
(والْمُعْتَزِلَةُ هُم أتْبَاعُ عَمْرِو بنِ عُبَيْدٍ ووَاصِلِ بنِ عَطَاءٍ وأصْحَابِهِما ، سُمُّوا بِذَلِك لَمَّا اعْتَزَلُوا الجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَه اللَّهُ فِي أوَائِلِ المِائَةِ الثَّانِيَةِ ، وكَانُوا يَجْلِسونَ مُعْتَزِلِينَ فيَقُولُ قَتَادَةُ وغَيْرُه : أُولَئِك المُعْتَزِلَةُ . ويُقَالُ إنَّ واصِلَ بنَ عَطَاءٍ هُو الَّذِي وَضَعَ أُصولَ مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ وتَابَعَه عَمْرُو بنُ عُبَيْدٍ تِلْميذُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ، فَلَمَّا كانَ زَمَنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ صَنَّفَ لَهُم أبُو الهُذَيْلِ كِتَابَيْنِ وبَنَى مَذْهَبَهُم علَى الأُصولِ الخَمْسَةِ الَّتِي سَمَّوْها : العَدْلَ ، والتَّوْحِيدَ وإنْفَاذَ الوَعِيدِ ، والمَنْزِلَةَ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ ، والأمْرَ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ ، ولَبَسُوا فِيها الحَقَّ بالبَاطِلِ) وقَدِ اختُلِفَ فِي مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ مِنْ أهْلِ القِبْلَةِ فِي الاسْمِ والحُكْمِ ، فقَالَت الخَوَارِجُ : هُو كافِرٌ ومُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . ووَافَقَت المُعْتَزِلَةُ علَى القَوْلِ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ ، وخَالَفُوا فِي تَسْمِيَتِه كافِرًا وقَالُوا : هُو فاسِقٌ وهُو فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الإيمَانِ والكُفْرِ .
وأمَّا المُرْجِئَةُ ورَئِيسُهُم الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ فَقَالُوا فِي مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ إنَّه مُؤْمِنٌ كامِلُ الإيمَانِ . وكَذَلِك قَالَ الجَهْمِيَّةُ . فالجَهْمُ قَدِ ابتَدَعَ التَّعْطِيلَ والجَبْرَ والإرْجَاءَ كَمَا قَالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ:
جَبْرٌ وإرْجَاءٌ وجِيمُ تَجَهُّمٍ ... فتَأَمَّلِ المَجْمُوعَ فِي المِيزَانِ
والجَهْمُ أصَّلَهَا جَمِيعا فَاغْتَدَتْ ... مَقْسُومَةً فِي النَّاسِ  بِالمِيـزَانِ

وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ فَقَدْ تَوَسَّطُوا بَيْنَ فِرَقِ الضَّلالِ . فقَالُوا : إنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ عَاصٍ بِكَبِيرَتِهِ ويُسَمَّى فاسِقًا ولا يُسَمَّى كافِرًا بَلْ يَقُولُونَ هُو مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإيمَانِ ، أوْ مُؤمِنٌ بِإيمَانِه فاسِقٌ بِكَبِيرَتِه وهُو تَحْتَ المَشِيئَةِ فحَاصِلُ النِّزَاعِ فِي هَذِه المَسْألَةِ أنَّ (( الخَوَارِجَ والمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ : صَاحِبُ الكَبَائِرِ الَّذِي لَمْ يَتُبْ مِنْها مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لَيْسَ مَعَه شَيءٌ مِنَ الإيمَانِ . ثُمَّ الخَوَارِجُ تَقُولُ : هُو كافِرٌ والمُعْتَزِلَةُ تُوَافِقُهُم علَى الحُكْمِ لا علَى الاسْمِ والمُرْجِئةُ تَقُولُ : هُو مُؤمِنٌ تَامُّ الإيمَانِ لا نَقْصَ فِي إيمَانِه بَلْ إيمَانُه كَإيمَانِ الأنبِيَاءِ والأولِيَاءِ .

وهَذَا نِزَاعٌ فِي الاسْمِ ثُمَّ تَقُولُ فُقَهَاؤهُم مَا تَقُولُه الجَمَاعَةُ فِي أهْلِ الكَبَائِرِ ، فِيهِم مَنْ يَدخُلُ النَّارَ ، وفِيهِم مَنْ لا يَدْخُلُ كَمَا دَلَّتْ علَى ذَلِك الأحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ واتَّفَقَ عَلَيْه الصَّحَابَةُ والتَّابِعُونَ لَهُم بِإحسَانٍ فَهؤلاءِ لا يُنَازِعُونَ أهْلَ السُّنَّةِ والحَدِيثِ فِي الآخِرَةِِ ، وإنَّمَا يُنَازِعُونَهم فِي الاسْمِ ويُنَازِعُونَ أيْضًا فِيمَنْ قَالَ ولَمْ يَفْعَلْ . وكَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ المُرْجِئةِ تَقُولُ : لا نَعْلَمُ أنَّ أحَدًا مِنْ أهْلِ القِبْلَةِ مِنْ أهْلِ الكَبَائِرِ يَدْخُلُ النَّارَ ولا أنَّ أحَدًا مِنْهُم لا يَدْخُلُها ، بَلْ يُجَوِّزُ أنْ يَدْخُلَها جَمِيعُ الفُسَّاقِ ويُجَوِّزُ أنْ لا يَدْخُلَها أحَدٌ مِنْهُم ويُجَوِّزُ دُخُولَ بَعْضِهِم . ويَقُولُونَ مَنْ أذْنَبَ وتَابَ لا يُقْطَعُ بِقَبُولِ تَوْبَتِه ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَدْخُلَ النَّارَ أيْضًا فَهُم يَقِفُونَ فِي هَذَا كُلِّه . ولِهَذا سُمُّوا الوَاقِفَةَ . وهَذَا قَوْلُ القَاضِي أبِي بَكْرٍ وغَيْرِه مِنَ الأشْعَرِيَّةِ وغَيْرِهِم فيَحْتَجُّ أولَئِك بِنُصُوصِ الوَعِيدِ وعُمُومِها ويُعَارِضُهم هَؤلاءِ بِنُصوصِ الوَعْدِ وعُمُومِها فَقَالَ أُولئكَ الفُسَّاقُ لا يَدْخُلونَ فِي الوَعْدِ ؛ لأنَّه لا حَسَنَات لَهُم لأنَّهُم لَمْ يَكُونُوا مِنَ المُتَّقِينَِ وقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالى ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) وقَالَ ( لاتُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى ) وقَالَ ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) فَهَذِه النُّصوصُ وغَيْرُها تَدُلُّ علَى أنَّ المَاضِيَ مِنَ العَمَلِ قَدْ يَحْبَطُ بِالسَّيِّئاتِ وأنَّ العَمَلَ لا يُقْبَلُ إلا مَع التَّقْوَى ، والوَعْدُ إنَّمَا هُو لِلمُؤْمِنِ وهَؤلاءِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) وَقَالَ : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ ) والفَاسِقُ لَيْسَ بِمُؤمِنٍ فلا يَتَناوَلُه الوَعْدُ . وقَوْلِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّمَ: " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ، ومَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا " ونَحْوِ ذَلِك .
وتَقُولُ المُرْجِئَةُ : الأعْمَالُ لا تَحْبَطُ إلا بِالكُفْرِ قَالَ تَعَالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وقَالَ (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ويَقُولُونَ قَالَ اللَّهُ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) فَقَدْ أَخْبَرَ أنَّ الثَّلاثَةَ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلاةِ المُرْجِئَةِ : أنَّ أحَدًا مِنْ أهْلِ التَّوْحِيدِ لا يَدْخُلُ النَّارَ وهَذَا لا أَعْرِفُ بِه قَائِلا مُعَيَّنًا فَأَحْكِيه عَنْه . ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْكِيهِ عَنْ مُقَاتِلِ بنِ سُلَيْمَانَ والظَّاهِرُ أنَّه غَلَطٌ عَلَيْه . وعِنْدَ الجَهْمِيَّةِ : الإيمَانُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالقَلْبِ وعِلْمِه . هَذَا قَوْلُ جَهْمٍ والصَّالِحِيِّ والأشْعَرِيِّ فِي المَشْهُورِ عَنْه وأَكْثَرِ أصْحَابِهِ . وعِنْدَ فُقَهَاءِ المُرْجِئَةِ : هُو قَوْلُ اللِّسَانِ مَع تَصْدِيقِ القَلْبِ وعَلَى القَوْلَيْنِ أعْمَالُ القُلُوبِ لَيْسَتْ مِنَ الإيمَانِ عِنْدَهُم كَأعْمَالِ الخَوَارِجِ فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِقَلْبِه ولِسَانِه مَع كَرَاهَةِ مَا نَزَّلَ اللَّهُ . وحِينَئِذٍ فَلا يَكُونُ هذَا كافِرًا عِنْدَهم . وأهْلُ السُّنَّةِ والحَدِيثِ وأئِمَّةُ الإسْلامِ المُتَّبِعونَ لِلصَّحَابَةِ مُتَوَسِّطونَ بَيْنَ هَؤلاءِ وهَؤلاءِ لا يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ أحَدٍ مِنْ أهْلِ القَبْلة فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُه الخَوَارِجُ والمُعْتَزِلَةُ لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم مِنَ الأحَادِيثِ الصَّحِيحةِ أنَّه يَخْرُجُ مِنْها مَنْ كانَ فِي قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وإخْرَاجُهُ مِنَ النَّارِ مَنْ يَخْرُجُ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم فِي مَنْ يَشْفَعُ لَهُ مِنْ أهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِه .
وَهَذه أحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ بِالحَدِيثِ .
فَهَذِه مَذَاهِبُ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ والقَدَرِيَّةِ فِي الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ وفِي أفْعَالِ اللَّهِ وفِي حُكْمِ العُصَاةِ مِنْ أهْلِ التَّوْحِيدِ . وكَثِيرٌ مِنْ أهْلِ البِدَعِ مَنْ يَكُونُ عِنْدَه بِدَعٌ شَتَّى كالجَهْمِيَّةِ والشِّيعَةِ والقَدَرِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ .
وأهْلُ السُّنَّةِ هُم المُهْتَدونَ المُتَّبِعونَ لِلكِتَابِ والسُّنَّةِ وآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ . فإنَّ بِدْعَةَ الخَوَارِجِ حَدَثَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم وكَلَّمَه رَئِيسُهُم ذُو الخُوَيْصِرَةِ فَقَال : اعدِلْ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَال النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم : " وَيْلَكَ ! مَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟ " وأمَرَ بِقِتَالِهم فِي أحَادِيثَ مَشْهُورَةٍ ومَعْرُوفَةٍ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ . وقَاتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الخَوَارِجَ فِي مَوْقِعَةِ النَّهْرَوَانِ . ثُمَّ حَدَثَتْ بِدْعَةُ المُعْتَزِلَةِ ) .
(وأَمَّا الجَهْمِيَّةُ نُفَاةُ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ فَإنَّمَا حَدَثُوا فِي أوَاخِرِ الدَّوْلَةِ الأُمَوِيَّةِ ) .
وكَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ لَمْ يُدْخِلْهُم فِي الثِّنْتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً مِنْهُم يُوسُفُ بنُ أسْبَاطٍ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ مُبَارَكٍ قَالُوا : أصُولُ البِدَعِ أرْبَعَةٌ : الخَوَارِجُ والشِّيعَةُ والقَدَرِيَّةُ والمُرْجِئَةُ فَقِيلَ لَهُم الجَهْمِيَّةُ ؟ فَقَالُوا لَيْسَ هَؤلاءِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ . ولِهَذا تَنَازَعَ مَنْ بَعْدَهُم مِنْ أصحَابِ أحْمَدَ وغَيْرِهِم هَلْ هُمْ مِنَ الثِّنْتَيْنِ والسَّبْعِينَ فِرْقَةً علَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُما عَنْ أصْحَابِ أحْمَدَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ بنُ حامِدٍ فِي كِتَابِه فِي الأُصُولِ . والتَّحْقِيقُ أنَّ التَّجَهُّمَ المَحْض وهُو نَفْيُ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ كَمَا يُحْكَى عَنْ جَهْمٍ والغَالِيَّةِ مِنَ المَلاحِدَةِ ونَحْوِهِم مِنْ نَفْيِ أسْمَاءِ اللَّهِ الحُسْنَى كُفْرٌ بَيِّنٌ مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ بالاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ .
أمَّا نَفْيُ الصِّفَاتِ مَع إثبَاتِ الأسْمَاءِ كقَوْلِ المُعْتَزِلَةِ فَهُو دُونَ هَذا لَكِنَّه عَظِيمٌ أيْضًا . وأمَّا مَنْ أثْبَتَ الصِّفَاتِ المَعْلُومَةَ بِالعَقْلِ والسَّمْعِ وإنَّما نَازَعَ فِي قِيَامِ الأمُورِ الاخْتِيَارِيَّةِ كَابنِ كُلاَّبٍ ومَنِ اتَّبَعَه فَهَؤلاءِ لَيْسُوا جَهْمِيَّةً بَلْ وافَقُوا جَهْمًا فِي بَعْضِ قَوْلِه وإنْ كَانُوا خَالَفُوه فِي بَعْضِه . وهَؤلاءِ مِنْ أقْرَبِ الطَّوائِفِ إلَى السَّلَفِ وأهْلِ السُّنَّةِ والحَدِيثِ وكَذَلك السَّالِمِيَّةُ والكَرَّامِيَّةُ ونَحْوُ هَؤلاءِ يُوَافِقُونَ فِي جُمْلَةِ أقْوَالِهِم المَشْهُورَةِ؛ فَيُثْبِتُونَ الأسْمَاءَ والصِّفَاتِ والقَضَاءَ والقَدَرَ فِي الجُمْلَةِ؛ لَيْسُوا مِنَ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ النُّفَاةُ لِلصِّفَاتِ وَهُم أيْضًا يُخَالِفُونَ الخَوَارِجَ والشِّيعَةَ فَيَقُولُون بِإثْبَاتِ خِلافَةِ الأرَبْعَةِ وتَقْدِيمِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ ولا يَقُولُونَ بِخُلودِ أحَدٍ مِنْ أهْلِ القِبْلَةِ فِي النَّارِ لكِنَّ الكَرَّامِيَّةَ والكُلاَّبِيَّةَ وأكْثَرَ الأشْعَرِيَّةِ مُرْجِئَةٌ وأقْرَبُهُم الكُلاَّبِيَّةُ يَقُولُونَ : الإيمَانُ هُو التَّصْدِيقُ بالقَلْبِ والقَوْلُ بِاللِّسَانِ ، والأعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْه كَمَا يُحْكَى هَذا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهاءِ الكُوفَةِ مَثْلِ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحَابِه .
وأمَّا الأشْعَرِيُّ فالمَعْرُوفُ عَنْه وعَنْ أصْحَابِه أنَّهُم يُوافِقُونَ جَهْمًا فِي قَوْلِه فِي الإيمَانِ وأنَّه مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ القَلْبِ أوْ مَعْرِفَةِ القَلْبِ لَكِنْ قَدْ يُظْهِرُونَ مَع ذَلِك قَوْلَ أهْلِ الحَدِيثِ ويَتَأَوَّلُونَه ويَقُولُونَ بِالاستِثْنَاءِ علَى المُوَافَاةِ فَلَيْسُوا مُوَافِقِينَ لِجَهْمٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وإنْ كَانُوا أقْرَبَ الطَّوَائِفِ إلَيْه فِي الإيمَانِ وفِي القَدَرِ أيْضًا فَإنَّه رَأْسُ الجَبْرِيَّةِ، يَقُولُ لَيْسَ لِلعَبْدِ فِعْلٌ ألبَتَّةَ . والأشْعَرِيُّ يُوَافِقُه علَى أنَّ العَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ ولا لَهُ قُدْرَةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي الفِعْلِ ولَكِنْ يَقُولُ هُو كَاسِبٌ ، وَجَهْمٌ لا يُثْبِتُ شَيْئًا لَكِنْ هَذَا الكَسْبُ يَقُولُ أكْثَرُ النَّاسِ: إنَّهُ لا يُعْقَلُ فَرْقٌ بَيْنَ الَّذِي نَفَاه والكَسْبِ الَّذِي أثْبَتَه .
وأمَّا الكَرَّامِيَّةُ فَلَهُم فِي الإيمَانِ قَوْلٌ ما سَبَقَهُم إلَيْه أحَدٌ قَالُوا : هُو الإقْرَارُ بِاللِّسَانِ وإنْ لَمْ يَعْتَقِدْ بِقَلْبِه . وقَالُوا : المُنَافِقُ هُو مُؤْمِنٌ ولَكِنَّه مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . وبَعْضُ النَّاسِ يَحْكِي عَنْهُم أنَّ المُنَافِقَ فِي الجَنَّةِ ، وَهَذا غَلَطٌ عَلَيْهِم بَلْ هُم يَجْعَلُونَهُ مُؤْمِنًا مَع كَوْنِه مُخَلَّدا فِي النَّارِ فَيُنَازِعُون فِي الاسْمِ لا فِي الحُكْمِ . وَقَدْ بُسِطَ القَوْلُ عَلَى مَنْشَأ الغَلَطِ حَيْثُ ظَنُّوا أنَّ الإيمَانَ لا يَكُونُ إلا شَيْئًا مُتَمَاثِلا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ إذَا ذَهَبَ بَعْضُه ذَهَبَ سَائِرُه .
ثُمَّ قَالَتِ الخَوَارِجُ والمُعْتَزِلَةُ هُو أَدَاءُ الوَاجِبَاتِ واجْتِنَابُ المُحَرَّمَاتِ فاسْمُ المُؤْمِنِ مِثْلُ اسْمِ البَرِّ والتَقِيِّ وهُو المُسْتَحِقُّ لِلثَّوَابِ فإذَا تَرَكَ بَعْضَ ذَلِك زَالَ عَنْه اسْمُ الإيمَانِ والإسْلامِ . ثُمَّ قَالَت الخَوَارِجُ ومَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذا ولا هَذا فَهُو كافِرٌ . وقَالَت المُعْتَزِلَةُ : بَلْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةً بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ ، فَنُسَمِّيهِ فاسِقًا لا مُسْلِمًا ولا كافِرًا ونَقُولُ إنَّه مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ وهَذا هُو الَّذِي امتَازَتْ بِه المُعْتَزِلَةُ وإلا فَسَائِرُ بِدَعِهِم قَدْ قَالَها غَيْرُهُم فَهُم وافَقُوا الخَوَارِجَ فِي حُكْمِه ونَازَعُوهُم ، ونَازَعُوا غَيْرَهُم فِي الاسْمِ . وقَالَت الجَهْمِيَّةُ والمُرْجِئَةُ : بَلِ الأعْمَالُ لَيْسَت مِن الإيمَانِ لَكِنَّه شَيْئَان أوْ ثَلاثةٌ يَتَّفِقُ فِيها جَمِيعُ النَّاسِ : التَّصْدِيقُ بالقَلْبِ والقَوْلُ بِاللِّسَانِ أوِ المَحَبَّةُ والخُضُوعُ مَع ذَلِك . وقَالَت الجَهْمِيَّةُ والأشْعَرِيَّةُ والكَرَّامِيَّةُ : بَلْ لَيْسَ إلا شَيْئًا واحِدًا يَتَمَاثَلُ فِيه النَّاسُ . وهَؤلاءِ الطَّوَائِفُ أصْلُ غَلَطِهِم ظَنُّهُم أنَّ الإيمَانَ يَتَماثَلُ فِيه النَّاسُ . وأنَّه إذَا ذَهَبَ بَعْضُه ذَهَبَ كُلُّه . وَكِلا الأمْرَيْنِ غَلَطٌ فَإنَّ النَّاسَ لا يَتَماثَلُون لا فِيما وَجَبَ مِنْه ولا فِيمَا يَقَعُ مِنْهُم بَلِ الإيمَانُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ قَدْ لا يَكُونُ مِثْلَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى غَيْرِه . كَمَا كانَ الإيمَانُ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنِ الوَاجِبُ مِنْه كالوَاجِبِ بِالمَدِينَةِ ، ولا كَانَ فِي آخِرِ الأمْرِ كَمَا كانَ فِي أوَّلِه ولا يَجِبُ علَى أهْلِ الضَّعْفِ والعَجْزِ مِنَ الإيمَانِ مَا يَجِبُ عَلَى أهْلِ القُوَّةِ والقُدْرَةِ عَلَى العُقُولِ والأبْدَانِ . بَلْ أهْلُ العِلْمِ بِالقُرآنِ والسُّنَّةِ ومَعَانِي ذَلِك يَجِبُ عَلَيْهِم من تَفْصِيل الإيمَانِ مَا لا يَجِبُ علَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا عَرَفُوا وأهْلُ الجِهَادِ يَجِبُ عَلَيْهِم مِنَ الإيمَانِ فِي تَفْصِيلِ الجِهَادِ مَا لا يَجِبُ علَى غَيْرِهِم وكَذَلِك وُلاَةُ الأمْرِ وأهْلُ الأمْوَالِ يَجِبُ علَى كُلٍّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا أمَرَ اللَّهُ بِه ونَهَى عَنْه وأخْبَرَ بِه مَا لا يَجِبُ عَلَى غَيْرِه والإقْرَارُ بِذَلك مِنَ الإيمَانِ .
ومَعْلُومٌ أنَّه وإنْ كانَ النَّاسُ كُلُّهُم يَشْتَرِكُون فِي الإقْرَارِ بالخَالِقِ وتَصْدِيقِ الرَّسُولِ جُمْلَةً ، فالتَّفْصِيلُ لا يَحْصُلُ بالجُمْلَةِ ، ومَنْ عَرَفَ ذَلِك مُفَصَّلا لَمْ يَكُنْ مَا أُمِرَ بِه ووَجَبَ عَلَيْه مِثْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِك . وأيْضًا فَلَيْسَ النَّاسُ مُتَمَاثِِلِينَ فِي فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِه مِنَ اليَقِينِ والمَعْرِفَةِ والتَّوْحِيدِ وحُبِّ اللَّهِ وخَشْيَتِه والتَّوَكُّلِ عَلَيْه والصَّبْرِ لِحُكْمِه وغَيْرِ ذَلِك مِمَّا هُو مِنْ إيمَانِ القُلُوبِ ولا فِي لَوَازِمِ ذَلِك الَّتِي تَظْهَرُ علَى الأبْدَانِ .
وإذَا قُدِّرَ أنَّ بَعْضَ ذَلِك زَالَ لَمْ يَزَلْ سَائِرُه بَلْ يَزِيدُ الإيمَانُ تَارَةً ويَنْقُصُ تَارَةً . كَمَا ثَبَتَ ذَلِك عَنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم مِثْلِ عُمَرَ بنِ حَبِيبٍ وغَيْرِه أنَّهُم قَالُوا : الإيمَانُ يَزِيدُ ويَنْقُصُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا المَوْضِعِ إذِ المَقْصُودُ هُنا أنَّ طَوائِفَ أهْلِ البِدَعِ منْ أهْلِ الكَلامِ وغَيْرِهِم لَيْسَ فِيهِم مَنْ يُوَافِقُ الرَّسُولَ فِي أُصولِ دِينِه لا فِيمَا اشْتَرَكُوا فِيه ولا فِيمَا انْفَرَدَ بِه بَعْضُهُم فإنَّهُم وإنِ اشْتَرَكُوا فِي مَقَالاتٍ فَلَيْسَ إجْمَاعُهُم حُجَّةً ولا هُمْ مَعْصُومُون مِنَ الاجْتِمَاعِ علَى خَطَأٍ)).
((وفِي أصْحَابِ رسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم بَيْنَ الرَّافِضَةِ ، والخَوَارِجِ )) فالرَّافِضَةُ غَلَوْا فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأهْلِ البَيْتِ ، ونَصَبُوا العَدَاوَةَ لِجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ كالثَّلاثَةِ وكَفَّرُوهُمْ ومَنْ وَلاهُم وفَسَّقُوهُم . وقَالُوا : لا وَلاءَ إلا بِبَرَاءٍ ، أيْ لا يَتَوَلَّى أحَدٌ عَلِيًّا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وكَفَّرُوا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا وقَالُوا : إنَّ عَلِيًّا إمَامٌ مَعْصُومٌ .
والخَوَارِجُ يُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وعَلِيًّا وكَثِيرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ واسْتَحَّلُّوْا قِتَالَهُم ، وسَبَبُ تَسْمِيَةِ الشِّيعَةِ بالرَّافِضَةِ أنَّهُم رَفَضُوا زَيْدَ بنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ كَمَا رَوَى ابنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِه أنَّ عِيسَى بنَ يُونَسَ سُئِلَ عَنِ الرَّافِضَةِ والزَّيْدِيَّةِ فقَالَ : أمَّا الرَّافِضَةُ فَأوَّلُ مَا تَرَفَّضَتْ جَاءتْ إلَى زَيْدِ بنِ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ فَقَالُوا لَهُ : تَبَرَّأْ مِنْ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ حَتَّى نَكُونَ مَعَك ، فقَالَ بَلْ أَتَوَلاَّهُمَا وأَبْرَأُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْهُما فَقَالُوا : إذًا نَرْفُضُك فُسُمِّيَتِ الرَّافِضَةَ . وأمَّا الزَّيْدِيَّةُ فَقَالُوا : نَتَوَلاَّهُمَا ونَبْرَأُ مِمَّنْ تَبْرَأُ مِنْهُما ، فخَرَجُوا مَع زَيْدٍ فَسُمُّوا الزَّيْدِيَّةَ (( ولَفْظُ الرَّافِضَةِ إنَّما ظَهَرَ لَمَّا رَفَضُوا زَيْدَ بنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ فِي خِلافَةِ هِشَامٍ . قَالَ أبُو حاتِمٍ البُسْتِيُّ : قُتِلَ زَيْدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بِالكُوفَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ ، وصُلِبَ علَى خَشَبَةٍ وكَانَ مِنْ أفَاضِلِ أهْلِ البَيْتِ وعُلَمَائِهِمْ وكَانَتِ الشِّيعَةُ تَنْتَحِلُهُ )) .
ورَوَى أبُو عُمَرَ والظَّلَمَنْكِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ قَالَ فِي الرَّافِضَةِ : يُرِيدونَ أنْ يَغْمِصُوا دِينَ الإسلامِ كَمَا غَمَصَ بُولصُ بنُ يُوشَع مَلِكُ اليَهُودِ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ ولا تَتَجَاوَزُ صَلاتُهُم آذَانَهُمْ ، قَدْ حَرَّقَهُم عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بالنَّارِ ونَفَاهُم مِنَ البِلادِ مِنْهُم عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ، يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ صَنْعاءَ نَفَاهُ إلَى سَابَاطَ ، وأبُو بَكْرٍ الكَرَوَّسُ نَفَاهُ إلَى الجَابِيَّةِ وحَرَّقَ مِنْهُم قَوْمًا أَتَوْه فقَالُوا : أنْتَ هُوَ فَقَال : مَنْ أنَا ؟ فقَالُوا : أنْتَ رَبُّنَا فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُجِّجَتْ فَأُلْقُوا فِيهَا وفِيهِم قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه :
لَمَّا رَأَيْتُ الأمْرَ أمْرًا  مُنْكَرًا ... أجَّجْتُ نَارِي ودَعَوْتُ قَنْبَرا
((وأوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا أرَادَ بِذَلك إفْسَادَ دِينِ الإسلامِ كَمَا فَعَلَ بُولصُ صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى حَيْثُ ابْتَدَعَ لَهُمْ بِدَعًا أفْسَدَ بِها دِينَهُمْ وكَانَ يَهُودِيًّا فَأظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا لِقَصْدِ إفْسادِ مِلَّتِهِم وكَذَلِك كانَ ابنُ سَبَأٍ يَهُودِيًّا فَقَصَدَ ذَلِك وسَعَى فِي الفِتْنَةِ ولَمْ يَتَمَكَّنْ لَكِنْ حَصَلَ بِسَبَبِه بَيْنَ المُؤمِنِينَ تَحْرِيشٌ وفِتْنَةٌ قُتِلَ فِيها عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه . ولَمَّا حَدَثَتْ بِدَعُ الشِّيعَة فِي خِلافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَدَّها وكَانَتْ ثَلاثَ طَوَائِفَ غَالِيَّةً سَيِّئية ومُفَضِّلَةً ، فَحَرَّقَ عَلِيٌّ الغَالِيَّةَ لَمَّا خَرَجَ إلَيْهِم مِنْ بَابِ كِنْدَةَ فَسَجَدُوا لَه : فقَالَ : مَا هَذا ؟ قَالُوا : أنْتَ هُو اللَّهُ ، فَخَدَّ الأخَادِيدَ وأَضْرَمَ فِيها النَّارَ ثُمَّ قَذَفَهُم فِيهَا .

وأمَّا السَبَئِيَّةُ فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا أنَّ ابنَ سَبَأٍ يَسُبُّ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما طَلَبَه لِيَقْتُلَه فَهَرَبَ إلَى قَرْقِيسيَاءَ وكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يُدَارِي أُمَرَاءَه لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا ولَمْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لَه فِي كُلِّ مَا يَأمُرُهُم بِه .
وأمَّا المُفَضِّلَةُ فقَالَ : لا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أبِي بَكْرٍ وعُمَرُ إلا جَلَدْتُه حَدَّ المُفْتَرِي )) .
((وأُصُولُ الدِّينِ عِنْدَ الإمَامِيَّةِ أرْبَعَةٌ : التَّوْحِيدُ،والعَدْلُ،والنُّبُوَّةُ ، والإمَامَةُ هِي آخِرُ المَرَاتِبِ ، والتَّوْحِيدُ والعَدْلُ والنُّبُوَّةُ قَبْلَ ذَلِك وَهُمْ يُدْخِلُونَ فِي التَّوْحِيدِ نَفْيَ الصِّفَاتِ ، والقَوْلُ بأنَّ القُرآنَ مَخْلُوقٌ وأنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الآخِرَةِ ويُدْخِلُونَ فِي العَدْلِ : التَّكْذِيبَ بِالقُدْرَةِ وأنَّ اللَّهَ لا يَقْدِرُ أنْ يَهْدِيَ مَنْ يَشَاءُ ولا يَقْدِرُ أنْ يُضِلَّ مَنْ يَشاءُ وأنَّه قَدْ يَشاءُ مَا لا يَكُونُ ويَكُونُ مَا لا يَشَاءُ وغَيْرَ ذَلِك ، فَلا يَقُولُونَ : إنَّه خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ ولا أنَّهُ علَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ولا أنَّه مَا شَاءَ كَانَ ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ .
وَقَوْلُهم فِي الإمَامَةِ أسْخَفُ قَوْلٍ وأفْسَدُه فِي العَقْلِ والدِّينِ فإنَّهُم يَحْتَالُون علَى مَجْهُولٍ ومَعْدُومٍ لا يُرَى لَه عَيْنٌ ولا أَثَرٌ ولا يُسْمَعُ لَه حِسٌّ ولا خَبَرٌ ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُم مِنَ الأمْرِ الْمَقْصُودِ بِإمَامَتِه شَيءٌ فإنَّهُم قَالُوا : إنَّ عَلِيًّا مَعْصُومٌ وأنَّه الأحَقُّ بالإمَامَةِ:
وقَدْ نَصَّ عَلِيٌّ عَلَى الحَسَنِ ، والحَسَنُ عَلَى الحُسَيْنِ إلَى أنِ انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إلَى المُنْتَظَرِ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ صَاحِبِ السِّرْدَابِ الغائِبِ ولَيْسَ عِنْدَهُم نَقْلٌ ثَابِتٌ عَنْه . ولَمَّا دَخَلَ السِّرْدَابَ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ التَّمْيِيزِ فإنَّهُ دَخَلَ سِرْدَابَ سَامُرَّاءَ عَلَى قَوْلِهِم سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ أوْ نَحْوَِها ولَمْ يَعُدْ ، بَلْ كَانَ عُمُرُه إمَّا سَنَتَيْنِ وإمَّا ثَلاثًا وإمَّا خَمْسًا ونَحْوَ ذَلِك ولَيْسَ فِيهِم أحَدٌ يَعْرِفُه لا بِعَيْنِه ولا صِفَتِه . لَكِنْ يَقُولُون : إنَّ هَذا الشَّخْصَ الَّذِي لَمْ يَرَه أحَدٌ ولَمْ يُسْمَعْ لَه خَبَرٌ هُو إمَامُ زَمَانِهِم فَلا يُعْرَفُ لَه حَالٌ يُنْتَفَعُ بِه فِي الإمَامَةِ فإنَّ مَعْرِفَةَ الإمَامَة الَّتِي تُخْرِجُ الإنْسَانَ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ هِي المَعْرِفَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِها طَاعَةٌ وجَمَاعَةٌ ، خِلافَ مَا كانَ عَلَيْه أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ ، فإنَّهُم لَمْ يَكُنْ لَهُم إمَامٌ يَجْمَعُهُم ولا جَمَاعَةٌ تَعْصِمُهُم . واللَّهُ تَعَالى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم وهَدَاهُم بِه إلَى الطَّاعَةِ والجَمَاعَةِ . وهَذَا المُنْتَظَرُ لا يَحْصُلُ بِمَعْرِفَتِه طَاعَةٌ ولا جَمَاعَةٌ ، فَلَمْ يُعْرَفْ مَعْرِفَةً تُخْرِجُ الإنسَانَ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ بَلِ المُنْتَسِبُون إلَيْه أعْظَمُ الطَّوَائِفِ جَاهِلِيَّةً ، وأَشْبَهُهُم بِالجَاهِلِيَّةِ وإنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي طَاعَةِ غَيْرِهِم ، أمَّا طَاعَةُ كافِرٍ أوْ طَاعَةُ مُسْلِمٍ هُو عِنْدَهم مِنَ الكُفَّارِ أوِ النَّوَاصِبِ لَمْ يَنْتَظِمْ لَهُم مَصْلَحَةٌ لِكَثْرَةِ اخْتِلافِهِم وافْتِرَاقِهِم وخُرُوجِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ .
ولَوْ كانَ إمَامُهُم المُنْتَظَرُ مَوْجُودًا بِيَقِينٍ لَمَا حَصَلَ بِه مَنْفَعَةٌ لِهَؤلاءِ المَسَاكِينِ فَكَيْفَ وعُقَلاءُ النَّاسِ يَعْلَمُونَ أنَّه لَيْسَ مَعَهُم إلا الإفْلاسُ وأنَّ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ العَسْكَرِيَّ لَمْ يَنْسِلْ ولَمْ يُعَقِّبْ . كَمَا ذَكَرَ ذَلِك مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وعَبْدُ البَاقِي بنُ قَانِعٍ وغَيْرُهُما مِنْ أهْلِ العِلْمِ بالنَّسَبِ وهُمْ يَقُولُونَ إنَّه دَخَلَ السِّرْدَابَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيه وعُمُرُه إمَّا سَنَتَانِ ، وإمَّا ثَلاثٌ وإمَّا خَمْسٌ وإمَّا نَحْوُ ذَلِك . ومِثْلُ هَذَا بِنَصِّ القُرْآنِ يَتِيمٌ يَجِبُ أنْ يُحْفَظَ لَه مَالُه حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْه الرُّشْدُ ويَحْضِنُه مَنْ يَسْتَحِقُّ حَضَانَتَه مِنْ قَرَابَتِه فَلَوْ كانَ مَوْجُودًا يَشْهَدُه العِيانُ لَمَا جَازَ أنْ يَكُونَ هُو إمَامَ أهْلِ الإيمَانِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعْدُومًا أوْ مَفْقُودًا مَع طُولِ هَذِه الغَيْبَةِ)) .
وعُمْدَةُ الرَّافِضَةِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ آثَارٌ تُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ أهْلِ البَيْتِ فِيها صِدْقٌ وكَذِبٌ وقَدْ أُصِّلَتْ لَها ثَلاثَةُ أُصُولٍ :
(أحَدُها) أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْ هَؤلاءِ إمَامٌ مَعْصُومٌ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ لا يَقُولُ إلا حَقًّا ولا يَجُوزُ لأَحَدٍ أنْ يُخَالِفَهُ ولا يَرُد مَا يُنَازِعُه فِيه غَيْرُه إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ، فَيَقُولُون عَنْه مَا كَانَ هُو وأهْلُ بَيْتِه يَتَبَرَّءُونَ مِنْه .
(والثَّانِي) أنَّ كُلَّ مَا يَقُولُه واحِدٌ مِنْ هَؤلاءِ فإنَّه قَدْ عُلِمَ مِنْه أنَّه قَال : أنَا أنْقُلُ كُلَّ مَا أقُولُه عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم ، ويَا لَيْتَهُم قَنِعُوا بِمَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ كَعَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بَلْ يَأتُونَ إلَى مَنْ تَأَخَّرَ زَمَانُه كَالعَسْكَرِيَّيْنِ فيَقُولُون : كُلُّ مَا قَالَه واحِدٌ مِنْ أُولئِك فالنَّبِيُّ قَدْ قَالَه . وكُلُّ مَنْ لَه عَقْلٌ يَعْلَمُ أنَّ العَسْكَرِيَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ أمْثَالِهِما مِمَّنْ كَانَ فِي زَمَانِهِما مِنَ الهَاشِمِيِّينَ لَيْسَ عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ مَا يَمْتَازُون بِه عَنْ غَيْرِهِم ويَحْتَاجُ إلَيْهِم فِيه أهْلُ العِلْمِ ولا كَانَ أهْلُ العِلْمِ يَأخُذُونَ عَنْهم كَمَا يَأخُذونَ عَنْ عُلَماءِ زَمَانِهِم ، وكَمَا كَانَ أهْلُ العِلْمِ فِي زَمَنِ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ وابْنِه أبِي جَعْفَرٍ وابنِ ابْنِه جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ ، فإنَّ هَؤلاءِ الثَّلاثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم قَدْ أخَذَ أهْلُ العِلْمِ عَنْهُم كَمَا كانُوا يَأخُذُون عَنْ أمْثَالِهم بِخِلافِ العَسْكَرِيَّيْنِ ونَحْوِهِما ، فإنَّه لَمْ يَأْخُذْ أهْلُ العِلْمِ المَعْرُوفُون بِالعِلْمِ عَنْهُم شَيْئًا ، فَيُرِيدُون أنْ يَجْعَلُوا مَا قَالَه الوَاحِدُ مِنْ هَؤلاءِ هُو قَوْلَ الرَّسُولِ الَّذِي بَعَثَه اللَّهُ إلَى جَمِيعِ العَالَمِينَ، بِمَنْزِلَةِ القُرْآنِ والمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَنِ وهَذا مِمَّا لا يَبْنِي عَلَيْه دِينَه إلا مَنْ كانَ مِنْ أبْعَدِ النَّاسِ عَنْ طَرِيقَةِ أهْلِ العِلْمِ والإيمَانِ .
وأَصَّلُوا أصْلا ثَالِثًا وهُو أنَّ إجْمَاعَ الرَّافِضَةِ هُو إجْمَاعُ العِتْرَةِ وإجْمَاعُ العِتْرَةِ مَعْصُومٌ ، والمُقَدِّمَةُ الأُولَى كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ، والثَّانِيَةُ فِيها نِزَاعٌ فَصَارَت الأقْوَالُ الَّتِي فِيها صِدْقٌ وَكَذِبٌ علَى أُولئِكَ بِمَنْزِلَةِ القُرْآنِ لَهُم وبِمَنْزِلَةِ السُّنَّةِ المَسْمُوعَةِ مِنَ الرَّسُولِ وبِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ الأُّمَّةِ وَحْدَهَا )) .
وأمَّا الخَوَارِجُ فَهُم الَّذِين خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بَعْدَ التَّحْكِيمِ فقَاتَلَهُم علِىٌّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ .
وقَدْ أمَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم بِقِتَالِهِم فِي الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . قَال الإمَامُ أحْمَدُ : صَحَّ الحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم فِي الخَوَارِجِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ ا.ه . وقَدْ أخْرَجَها مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه ورَوَى البُخَارِيُّ مِنْها ثَلاثَةَ أحَادِيثَ .
((وكَانَ المُسْلِمُون علَى مَا بَعَثَ اللَّهُ بِه رَسُولَهُ مِنَ الهُدى ودِينِ الحَقِّ المُوَافِقِ لِصَحِيحِ المَنْقُولِ وصَرِيحِ المَعْقُولِ . فلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأَرْضَاه ، ووَقَعَت الفِتْنَةُ فَاقْتَتَلَ المُسْلِمُون بِصِفِّينَ مَرَقَتِ المَارِقَةُ الَّتِي قَال فِيها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم تَمْرُقُ مَارِقَةٌ علَى حِينِ فِرْقَةٍ مِن المُسْلِمِينَ يَقْتُلُهم أَوْلى الطَّائِفَتَيْنِ بِالحَقِّ وكَانَ مُرُوقُهَا لَمَّا حَكَمَ الحَكَمَانِ وافْتَرَقَ النَّاسُ علَى غَيْرِ اتِّفَاقٍ . وَحَدَثَتْ أيْضًا بِدَعُ الشِّيَعِ كَالغُلاَةِ المُدَّعِينَ الإلَهِيَّةَ فِي عَلِيٍّ والمُدَّعِينَ النَّصَّ علَى عَلِيٍّ السَّابِّينَ لأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ فعَاقَبَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الطَّائِفَتَيْنِ قَاتَلَ المَارِقِينَ وأمَرَ بِإحْرَاقِ أُولئِكَ الَّذِين ادَّعَوْا فِيه الإلَهِيَّةَ فإنَّه خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَسَجَدُوا لَه ، فقَال لَهُم : مَا هَذا ؟ فَقَالُوا : أَنْتَ هُو قَالَ : مَنْ أنَا ؟ قَالُوا : أنْتَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَه إلا هُوَ ! فَقَال : وَيْحَكُم ! هَذا كُفْرٌ ، ارْجِعُوا عَنْه وإلا ضَرَبْتُ أعْنَاقَكُم فَصَنَعُوا بِه فِي اليَوْمِ الثَّانِي والثَّالِثِ كَذَلِك وأخَّرَهُم ثَلاثَةَ أيَّامٍ لأنَّ المُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فَلَمَّا لَمْ يَرْجِعُوا أمَرَ بِأَخادِيدَ مِنْ نَارٍ فَخُدَّتْ عَنْه بَابَ كِنْدَةَ وَقَذَفَهُم فِي تِلْك النَّارِ وَرُوِيَ عَنْه أنَّه قَالَ:
لَمَّا رَأَيْتُ الأمْرَ أمْرًا  مُنْكَرًا ... أَجَّجْتُ نَارِي ودَعَوْتُ قَنْبَرا
وقَتْلُ هَؤلاءِ وَاجِبٌ بِالاتِّفَاقِ ، لَكِنْ فِي جَوَازِ تَحْرِيقِهِم نِزَاعٌ ، فَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَأَى تَحْرِيقَهم وخَالَفَه ابنُ عَبَّاسٍ وغَيْرُه مِنَ الفُقَهاءِ . وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ : أمَّا أنَا فَلَوْ كُنْتُ لَمْ أُحَرِّقْهُم لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم أنْ يُعَذَّبَ بِعَذابِ اللَّهِ ولَضَرَبْتُ أعْنَاقَهُم لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم : " مَنْ بَدَّلَ دِينَه فَاقْتُلُوه " . وهَذَا الحَدِيثُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ .وأمَّا السَّبَّابَةُ الَّذِين يَسُبُّونَ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ فَإنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَلَغَه ذَلِك طَلَبَ ابنَ السَّوْدَاءِ الَّذِي بَلَغَه ذَلِك عَنْه . وقِيلَ : إِنَّه أرَادَ قَتْلَه فَهَرَبَ مِنْه إلَى قَرْقِيسيَاءَ . وأمَّا المُفَضِّلَةُ الَّذِين يُفَضِّلُونَه علَى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ فَرُوِيَ عَنْه أنَّه قَال : لا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي علَى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ إلا ضَرَبْتُه حَدَّ المُفْتَرِي . وقَدْ تَوَاتَرَ عَنْه أنَّه كَانَ يقُولُ عَلَى مِنْبَرِ الكُوفَةِ : خَيْرُ هَذِه الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّها أبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ .

رُوِيَ هَذا عَنْه مِنْ أكثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا ، ورَوَاه البُخَارِيُّ وغَيْرُه . ولِهَذا كانَتِ الشِّيعَةُ المُتَقَدِّمُون كُلُّهُم مُتَّفِقِينَ علَى تَفْضِيلِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِك غَيْرُ وَاحِدٍ . فَهاتَانِ البِدْعَتَانِ : بِدْعَةُ الخَوَارِجِ والشِّيعَةِ حَدَثَتَا فِي ذَلِك الوَقْتِ لَمَّا وَقَعَت الفِتْنَةُ، ثُمَّ فِي أوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ لَهُم بِإحْسَانٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وعَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ وجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ ووَاثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ ( حَدَثَتْ بِدْعَةُ القَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ ) ثُمَّ إنَّه فِي أوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ مِنْ أوَائِلِ المِائَةِ الثَّانِيَةِ حَدَثَتْ بِدْعَةُ الجَهْمِيَّةِ مُنْكِرَةِ الصِّفَاتِ وكَانَ أوَّلَ مَنْ أظْهَرَ ذَلِك الجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَذا المَذْهَبِ الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ ودَخَلَتْ فِيه بَعْدَ ذَلِك الْمُعْتَزِلَةُ .
ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ هَذا فِي الإسْلامِ المَلاحِدَةُ مِنَ المُتَفَلْسِفَةِ وغَيْرِهِم حَدَثُوا وانْتَشَرُوا بَعْدَ انْقِرَاضِ العُصُورِ المُفَضَّلَةِ وصَارَ كُلُّ زَمانٍ ومَكانٍ يَضْعُفُ فِيه نُورُ الإسْلامِ يَظْهَرُونَ فِيه . وكَانَ مِنْ أسْبَابِ ظُهُورِهِم أنَّهُم ظَنُّوا أنَّ دِينَ الإسْلامِ لَيْسَ إلا مَا يَقُولُه أُولئكَ المُبْتَدِعُونَ)) .
((والبِدَعُ مُتَنَوِّعَةٌ فالخَوَارِجُ مَع أنَّهُم مَارِقُون يَمْرُقُون مِنَ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، وقَدْ أمَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم بِقِتَالِهم . واتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وعُلَماءُ المُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهم . وصَحَّ فِيهم الحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم مِنْ عَشْرَةِ أوْجُهٍ رَوَاها مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه رَوَى البُخَارِيُّ مِنْها ثَلاثَةً : لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ ، بَلْ هُم مَعْرُوفُون بالصِّدْقِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ حَدِيثَهُم مِنْ أَصَحِّ الحَدِيثِ لكِنَّهم جَهِلُوا وَضَلُّوا فِي بِدْعَتِهم ولَمْ تَكُنْ بِدْعَتُهم عَنْ زَنْدَقَةٍ وإلْحَادٍ بَلْ عَنْ جَهْلٍ وضَلالٍ فِي مَعْرِفَةِ مَعَانِي الكِتَابِ .
وأمَّا الرَّافِضَةُ فَأَصْلُ بِدْعَتِهِم عَنْ زَنْدَقَةٍ وإلْحَادٍ وتَعَمُّدُ الكَذِبِ فِيهِم كَثِيرٌ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِذَلك حَيْثُ يَقُولُون : دِينُنَا التَّقِيَّةُ وهُو أنْ يَقُولَ أحَدٌ بِلِسانِه خِلافَ مَا فِي قَلْبِه وهَذا هُو الكَذِبُ والنِّفَاقُ ويَدَّعُون مَع هَذا أنَّهُم هُم المُؤمِنُونَ دُونَ غَيْرِهم مِنْ أهْلِ المِلَّةِ وَيَصِفُون السَّابِقِينَ الأوَّلِينَ بِالرِّدَّةِ والنِّفَاقِ فَهُم فِي ذَلِك كَمَا قِيلَ (( رَمَتْنِي بِدَائِها وانْسَلَّتْ )) إذْ لَيْسَ فِي المُظَاهِرِينَ لِلإسْلامِ أقْرَبُ إلَى النِّفَاقِ والرِّدَّةِ مِنْهُم ولا يُوجَدُ المُرْتَدُّون والمُنَافِقُون فِي طَائِفَةٍ أكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِم واعْتَبِرْ ذَلِك بِالغَالِيَّةِ مِن النُّصَيْرِيَّةِ وغَيْرِهِم وبِالمَلاحِدَةِ والإسْمَاعِيلِيَّةِ وأمْثَالِهِم . وعُمْدَتُهم فِي الشَّرْعِيَّاتِ مَا يُنْقَلُ لَهُم عَنْ بَعْضِ أهْلِ البَيْتِ وذَلِك النَّقْلُ مِنْه مَا هُو صِدْقٌ ومِنْه مَا هُو كَذِبٌ عَمْدًا أوْ خَطَأً ، ولَيْسُوا أهْلَ مَعْرِفَةٍ بِصَحِيحِ المَنْقُولِ وضَعِيفِه كَأَهْلِ المَعْرِفَةِ بِالحَدِيثِ . ثُمَّ إذَا صَحَّ النَّقْلُ عَنْ هَؤلاءِ فَإنَّهُم بَنَوْا وُجُوبَ قَبُولِ قَوْلِ الوَاحِدِ مِنْ هَؤلاءِ علَى ثَلاثَةِ أُصُولٍ : علَى أنَّ الوَاحِدَ مِنْ هَؤلاءِ مَعْصُومٌ مَثْلَ عِصْمَةِ الرَّسُولِ ، وعلَى أنَّ مَا يَقُولُه أحَدُهم فإنَّما يَقُولُه نَقْلا عَنِ الرَّسُولِ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم وأنَّهُم قَدْ عُلِمَ مِنْهُم أنَّهم قَالوا مَهْمَا قُلْنَا فإنَّما نَقُولُه نَقْلا عَنِ الرَّسُولِ ، ويَدَّعُون العِصْمَةَ فِي هَذا النَّقْلِ . الثَّالِثُ أنَّ إجْمَاعَ العِتْرَةِ حُجَّةٌ ، ثُمَّ يَدَّعُون أنَّ العِتْرَةَ هُم الاثْنَا عَشَرَ ويَدَّعُون أنَّ مَا نُقِلَ عَنْ أحَدِهم فَقَدْ أَجْمَعُوا كُلُّهُم علَيْه . فَهَذِه أُصُولُ الشَّرْعِيَّاتِ عِنْدَهم وهِيَ أُصُولٌ فَاسِدَةٌ . لا يَعْتَمِدُون علَى القُرْآنِ ولا علَى الحَدِيثِ ولا علَى الإجْمَاعِ إلا لكون المعصوم منهم . ولا على القياسِ وإنْ كَانَ جَلِيًّا واضِحًا .
وأمَّا عُمْدَتُهم فِي النَّظَرِ والعَقْلِيَّاتِ فَقَدِ اعْتَمَدَ مُتَأَخِّرُوهم علَى كُتُبِ المُعْتَزِلَةِ فِي الجُمْلَةِ ، والمُعْتَزِلَةُ أعْقَلُ وأصْدَقُ ولَيْسَ فِي المُعْتَزِلَةِ مَنْ يَطْعَنُ فِي خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالى علَيْهم أجمَعِينَ بَلْ هُم مُتَّفِقُون علَى تَثْبِيتِ خِلافَةِ الثَّلاثَةِ.
وأمَّا التَّفْضِيلُ فَأَئِمَّتُهم وجُمْهُورهم كَانُوا يُفَضِّلُون أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وفِي مُتَأَخِّرِيهم مَنْ تَوَقَّفَ فِي التَّفْضِيلِ ، وبَعْضُهم فَضَّلَ عَلِيًّا فَصَارَ بَيْنَهم وبَيْنَ الزَّيْدِيَّةِ نَسَبٌ رَاجِحٌ مِنْ جِهَةِ المُشَارَكَةِ فِي التَّوْحِيدِ والعَدْلِ والإمَامَةِ والتَّفْضِيلِ ، وكَان قُدَمَاءُ المُعْتَزِلَةِ وأئِمَّتُهم كَعَمِْرو بنِ عُبَيْدٍ ووَاصِلِ بنِ عَطَاءٍ وغَيْرِهم مُتَوَقِّفِين فِي عَدَالَةِ عَلِيٍّ علَيْه السَّلامُ فيَقُولُون أوْ مَنْ يَقُولُ مِنْهم قَدْ فَسَقَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا عَلِيٌّ وإمَّا طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ لا بِعَيْنِها فإنْ شَهِدَ هَذا وهَذا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهما لَفِسْقِ أحَدِهما لا بِعَيْنِها ، وإنْ شَهِدَ عَلِيٌّ مَع شَخْصٍ آخَرَ فَفِي قَبُولِ شَهَادَةِ عَلِيٍّ بَيْنَهم نِزَاعٌ ، وكَان مُتَكَلِّمُو الشِّيعَةِ كَهِشَامِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ وهِشَامٍ الجَوَالِيقِيِّ ويُونُسَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ القُّمِّيِّ وأمْثَالِهِم يَزِيدُون فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ بِمَا يَقُولُه أهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ فَلا يَمْنَعُون مِنَ القَوْلِ بِأنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وأنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الآخِرَةِ وغَيْرِ ذَلِك مِنْ مَقَالاتِ أهْلِ السُّنَّةِ والحَدِيثِ حَتَّى يَبْتَدِعُون فِي الغُلُوِّ فِي الإثْبَاتِ والتَّجَسُّمِ والتَّنْقِيصِ مَا هُو مَعْرُوفٌ مِنْ مَقَالاتِهم الَّتِي ذَكَرَها النَّاسُ ولَكِنْ فِي أوَاخِرِ المِائَةِ الثَّانِيَةِ دَخَلَ مَنْ دَخَلَ مِنَ الشِّيعَةِ فِي أقْوَالِ المُعْتَزِلَةِ كَابْنِ النُّوبَخْتِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ الآرَاءِ والدِّيَانَاتِ وأمْثَالِه وجَاءَ بَعْدَ هَؤلاءِ المُفِيدُ بنُ النُّعْمَانِ وأتْبَاعُه . ولِهَذا نَجِدُ المُصَنِّفِينَ فِي المَقَالاتِ كالأشْعَرِيِّ لا يَذْكُرُون عَنْ أحَدٍ مِنَ الشِّيعَةِ أنَّه يُوافِقُ المُعْتَزِلَةَ فِي تَوْحِيدِهم وعَدْلِهم إلا عَنْ بَعْضِ مُتَأخِّرِيهم ، وإنَّما يَذْكُرون عَنْ قُدَمَائِهم التَّجْسِيمَ وإثْبَاتَ القَدَرِ وغَيْرِه وأوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْه فِي الإسْلامِ أنَّه قَال : إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ هُو هِشَامُ بنُ عَبْدِ الحَكَمِ وقَدْ كَان ابنُ الرَّاوَنْدِيِّ وأمْثَالُه مِنَ المَعْرُوفِينَ بِالزَّنْدَقَةِ والإلْحَادِ صَنَّفُوا لَهُمْ كُتُبًا أيْضًا علَى أُصُولِهم )) .
وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ فإنَّهُم وَسَطٌ بَيْنَ النِّحَلِ المُخْتَلِفةِ ، فَهُم يُوَالُون الصَّحَابَةَ جَمِيعًا ويَتَرَضَّوْن عَنْهُم ويُنْزِلُونَهم مَنَازِلَهُم الَّتِي يَسْتَحِقُّونَها فَلا يَغْمِصُونَهم حَقَّهُم ولا يَغْلُون فِيهم (( فإنَّ أهْلَ السُّنَّةِ فِي الإسْلامِ مُتَوَسِّطُون فِي جَمِيعِ الأمُورِ فَهُم وَسَطٌ بَيْنَ الخَوَارِجِ والرَّوَافِضِ وكَذَلِك فِي عُثْمَانَ وَسَطٌ بَيْنَ المَرْوَانِيَّةِ والزَّيْدِيَّةِ وكَذَلِك فِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَسَطٌ بَيْنَ الغُلاَةِ فِيهِم والطَّاعِنِينَ عَلَيْهم )) .
ومِنْ كَذِبِ الرَّافِضَةِ وضَلالِهم تَسْمِيَتُهُم أهْلَ السُّنَّةِ نَاصِبَةً حَيْثُ لَمْ يُوَافِقُوهُم علَى بِدْعَتِهم وظُلْمِهم . وإتْيَانِهم بِألفَاظٍ مُجْمَلَةٍ.
((كَمَا إذَا قَال الرَّافِضِيُّ أنْتُم نَاصِبَةٌ تَنْصِبُون العَدَاوَةَ لاِلِ مُحَمَّدٍ فَقِيلَ لَه : نَحْنُ نَتَوَلَّى الصَّحَابَةَ والقَرَابَةَ فقَالَ : لا وَلاءَ إلا بِبَرَاءٍ ، فَمَنْ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَتَوَلَّ القَرَابَةَ فَيَكُونُ قَدْ نَصَبَ لَهُم العَدَاوَةَ فَيُقَالُ لَه : هَبْ أنَّ هَذا يُسَمَّى نَصْبًا فَلِمَ ؟ قُلْت : إنَّ هَذا مُحَرَّمٌ ؟ فَلا دَلالَةَ لَك عَلى ذَمِّ النَّصْبِ بِهَذا التَّفْسِيرِ كَمَا لا دَلالَةَ علَى ذَمِّ الرَّفْضِ بِمَعْنَى مُوَالاَةِ أهْلِ البَيْتِ إذَا كانَ الرَّجُلُ مُوَالِيًا لاِهْلِ البَيْتِ كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ ورَسُولُه ومِنْه قَوْلُ القَائِلِ :
إنْ كانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلانِ أنِّي رَافِضِـي
وقَوْلُه :

لَئِنْ كانَ نَصْبًا وَلاءُ الصِّحَابِ ... فإنِّي كَمَا زَعَمُـوا  نَاصِبِـي

وإنْ كانَ رَفْضًا وَلاءُ الجَمِيعِ ... فَلا برَحِ الرَّفْضُ مِنْ  جَانِبِي


وطَرِيقَةُ أهْلِ البِدَعِ أنَّهُم يَجْمَعُون بَيْنَ الجَهْلِ والظُّلْمِ (( فَيَبْتَدِعُون بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِلكِتَابِ والسُّنَّةِ وإجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ويَكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُم فِي بِدْعَتِهم كَالخَوَارِجِ المَارِقِينَ الَّذِين ابْتَدَعُوا تَرْكَ العَمَلِ بِالسُّنَّةِ المْخَالِفَةِ فِي زَعْمِهم لِلقُرْآنِ وابْتَدَعُوا التكفير بالذُّنُوبِ وكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُم حتَّى كَفَّرُوا عُثْمَانَ وعَلِيَّ بنَ أبِي طَالِبٍ ومَنْ وَلاهُما مِنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ وسَائِرِ المُؤْمِنِينَ . نَقَلَ الأشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ المَقالاتِ أنَّ الخَوَارِجَ مُجْمِعَةٌ علَى تَكْفِيرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه .

وكَذَلِك الرَّافِضَةُ ابْتَدَعوا تَفْضِيلَ عَلِيٍّ علَى الثَّلاثَةِ وتَقْدِيمَه فِي الإمَامَةِ والنَّصَّ علَيْه ودَعْوَى العِصْمَةِ لَه ، وكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهم وهُم جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وجُمْهُورُ المُؤمِنِينَ حتَّى كَفَّرُوا أبَا بَكْرٍ وعُثْمَانَ ومَنْ تَوَّلاهُم .
هَذا هُو الَّذِي علَيْه أئِمَّتُهُم . وكَذَلِك الجَهْمِيَّةُ ابْتَدَعَتْ نَفْيَ الصِّفَاتِ المُتَضَمِّنَ فِي الحَقِيقَةِ لِنَفْيِ الخَالِقِِ ولِنَفْيِ صِفَاتِه وأفْعَالِه وأسْمَائِه وأظْهَرَت القَوْلَ بأنَّه لا يُرَى وأنَّ كَلامَه مَخْلُوقٌ خَلَقَه فِي غَيْرِه لَمْ يَتَكَلَّمْ هُو بِنَفْسِه وغَيْرِ ذَلِك ، ثُمَّ امْتَحَنُوا النَّاسَ فَدَعَوْهُم إلَى هَذا وجَعَلُوا يُكَفِّرُون مَنْ لَمْ يُوَافِْقهم علَى ذَلِك . وكَذَلِك القَدَرِيَّةُ ابْتَدَعَت التَّكْذِيبَ بالقَدَرِ وأنْكَرَت مَشِيئَةَ اللَّهِ النَّافِذَةَ وقُدْرَتَه التَّامَةَ وخَلْقَه لِكُلِّ شَيءٍ ، وكَفَّرُوا أوْ مِنْهُم مَنْ كَفَّرَ مَنْ خَالَفَه وكَذَلِك الحُلُولِيَّةُ والمُعَطِّلَةُ لِلذَّاتِ والصِّفَاتِ يُكَفِّرُ كَثِيرٌ مِنْهم مَن خَالَفَهم فالَّذِين يَقُولُون : إنَّه بِذَاتِه فِي كُلِّ مَكانٍ مِنْهُم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه ، والَّذِين يَقُولون: إنَّه لا مُبَايِنٌ لِلمَخْلوقَاتِ ولا عَالٍ عَلَيْها مِنْهُم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه ، والَّذِين يَقُولُون لَيْسَ كَلامُه إلا مَعْنًى واحِدًا قائِمًا بِذَاتِه ، ومَعْنَى التَّوْرَاةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ العَزِيزِ لَيْسَ هُو كَلامَه بَلْ كَلامُ جِبْرِيلَ أوْ غَيْرِه فَمِنْهم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه والَّذِين يَقُولُون بِقِدَمِ بَعْضِ أحْوَالِ العَبْدِ كالَّذِين يَقُولُون بِقِدَمِ صَوْتِه بِالقُرْآنِ أوْ قِدَمِ أفْعَالِه أوْ صِفَاتِه وقِدَمِ أشْكَالِ المِدَادِ فَمِنْهم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه والَّذِين يَقُولُون بِقِدَمِ رُوحِ العَبْدِ أوْ بِقِدَمِ كَلامِه مُطْلَقًا أوْ قِدَمِ أفْعَالِه الصَّالِحَةِ أوْ أفْعَالِه مُطْلَقًا فَمِنْهُم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه والَّذِين يَقُولُون إنَّ اللَّهَ يَرَى بِلا عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا مِنْهم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه والَّذِين يُهِينُون المُصْحَفَ ورُبَّمَا كَتَبُوه بِالنَّجَاسَةِ فَمِنْهُم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه ، ونَظَائِرُ هَذا مُتَعَدِّدَةٌ .
وأئِمَّةُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ وأهْلِ العِلْمِ والإيمَانِ فِيهم العِلْمُ والعَدْلُ والرَّحْمَةُ فَيَعْلَمُون الحَقَّ الَّذِين يَكُونُون بِه مُوَافِقِين لِلسُّنَّةِ سَالِمِينَ مِنَ البِدْعَةِ ويَعْدِلُون علَى مَنْ خَرَجَ مِنْهُما ولَوْ ظَلَمَهُم . كَمَا قَال تَعَالى :{ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَيَرْحَمُون الخَلْقَ فَيُرِيدُون لَهُم الخَيْرَ والهُدَى والعِلْمَ لا يَقْصِدُون لَهُم الشَّرَّ ابتِدَاءً بَلْ إذَا عَاقَبُوهم وبَيَّنُوا خَطَأَهُم وجَهْلَهُم وظُلْمَهم كَان قَصْدُهُم بِذَلِك بَيَانَ الحَقِّ ورَحْمَةَ الخَلْقِ والأمْرَ بالمَعْرُوفِ بِالنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ وأنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لِلَّهِ وأنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِي العُلْيَا فَالمُؤْمِنُون أهْلُ السُّنَّةِ هُم يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ومَنْ قَاتَلَهم يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ . كَالصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَع أهْلِ الرِّدَّةِ وكَعَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ مَع الخَوَارِجِ المَارِقِينَ ومَع الغُلاةِ والسبئِيَّةِ فَأعْمَالُهم خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالى مُوَافِقَةٌ لِلسُّنَّةِ وأعْمَالُ مُخَالِفِيهم لا خَالِصَةٌ ولا صَوَابٌ ، بَلْ بِدْعَةٌ واتِّبَاعُ الهَوَى .
ولِهَذا يُسَمَّوْنَ أهْلَ البِدَعِ وأهْلَ الأهْوَاءِ . قَال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ رَحِمَه اللَّهُ فِي قَوْلِه تَعَالى :{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } قَال : أَخْلَصُه وأَصْوَبُه قَالُوا : يَا أبَا عَلِيٍّ مَا أخْلَصهُ وأصْوَبهُ ؟ قَال :
إنَّ العَمَلَ إذَا كَان خَالِصًا ولَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وإذَا كَان صَوَابًا ولَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا والخَالِصُ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ والصَّوَابُ أنْ يَكُونَ علَى السُّنَّةِ . فَلِهَذا كَان أهْلُ العِلْمِ لا يُكَفِّرُون مَنْ خَالَفَهم وإنْ كَان ذَلِك المُخَالِفُ يُكَفِّرُهم لأنَّ الكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ . فَلَيْسَ لِلإنسَانِ أنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِه كَمَنْ كَذَبَ عَلَيْك وزَنَى بِأهْلِكَ لَيْسَ لكَ أنْ تَكْذِبَ علَيْه وتَزْنَِي بِأهْلِه لأنَّ الكَذِبَ والزِّنَا حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالى .
وكَذَلِك التَّكْفِِير حَقٌّ لِلَّهِ فَلا يَكْفُرُ إلا مَنْ كَفَّرَه اللَّهُ ورَسُولُه . وأيْضًا فإنَّ تَكْفِيرَ الشَّخْصِ المُعَيَّنِ وجَوَازَ قَتْلِه مَوْقُوفٌ عَلَى أنْ تَبْلُغَه الحُجَّةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَها وإلا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ يَكْفُرُ . ولِهَذا لَمَّا اسْتَحَلَّ طَائِفَةٌ مِن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ كَقُدَامَةَ بنِ مَظْعُونٍ وأصْحَابِه شُرْبَ الخَمْرِ وظَنُّوا أنَّها تُبَاحُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا علَى مَا فَهِمُوه مِنْ آيَةِ المَائِدَةِ اتَّفَقَ عُلَماءُ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وغَيْرِهِما عَلَى أنَّهُم يُسْتَتابُونَ فإنْ أَصَرُّوا عَلَى الاسْتِحْلالِ كَفَرُوا ، وإنْ أقَرُّوا بِه جُلِدُوا ، فَلَمْ يُكَفِّرْهم بِالاسْتِحْلالِ ابْتِدَاءً لاِجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَت لَهُم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم الحَقُّ ، فإذَا أًصَرُّوا علَى الجُحُودِ كَفَرُوا . وقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ الَّذِي قَال لاِهْلِه : إذَا أنَا مِتُّ فاسْحَقُونِي ثُمَّ ذُرُّونِي فِي اليَمِّ فَواللَّهِ لَئِنْ قَدرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبني عَذَابًا مَا عَذَّبَه أحَدًا مِنَ العَالَمِينَ . فأمَرَ اللَّهُ البَرَّ فَرَدَّ مَا أَخَذَ مِنْه وأمَرَ البَحْرَ فَرَدَّ ماَ أخَذَ مِنْه وقَال : مَا حَمَلَك علَى مَا فَعَلْتَ ؟ فقَال : خَشْيَتُك يَا رَبِّ ، فَغَفَرَ لَه . فَهَذا اعْتَقَدَ أنَّه إذَا فَعَلَ ذَلِك لا يَقْدِرُ اللَّهُ علَى إعَادَتِه وأنَّه لا يُعِيدُه أوْ جَوَّزَ ذَلِك وكِلاهُما كُفْرٌ ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَه الحَقُّ بَيَانًا يَكْفُرُ بِمُخَالَفَتِه فَغَفَرَ اللَّهُ لَه . ولِهَذا كُنْتُ أقُولُ لِلجَهْمِيَّةِ مِن الحُلُولِيَّةِ والنُّفَاةِ الَّذِين نَفَوْا أنَّ اللَّهَ تَعَالى فَوْقَ العَرْشِ لَمَّا وَقَعَتْ مِحْنَتُهم : أَنَا لَوْ وافَقْتُكم كُنْتُ كَافِرًا ؛ لأنِّي أعْلَمُ أنَّ قَوْلَكم كُفْرٌ وأنْتُم عِنْدِي لاَ تَكْفُروَن لأنَّكُم جُهَّالٌ ، وكَان هَذا خِطَابًا لِعُلَمَائِهم وقُضَاتِهم وشُيُوخِهم وأُمَرَائِهم . وأَصْلُ جَهْلِهم شُبُهاتٌ عَقْلِيَّةٌ حَصَلَتْ لِرُءوسِهِم فِي قُصُورٍ مِنْ مَعْرِفَةِ المَنْقُولِ الصَّحِيحِ والمَعْقُولِ الصَّرِيحِ المُوَافِقِ لَه وكَان هَذا خِطَابَنَا).

هيئة الإشراف

#7

20 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بلْ هُمُ الوَسَطُ في فِرَقِ الأمَّةِ؛(1)
كَما أنَّ الأمَّةَ هِيَ الوَسَطُ في الأمَمِ. (2)
( فهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطيلِ الجَهْمِيَّةِ.(3)
وأَهْلِ التَّمْثيلِ المُشَبِّهَةِ، وهُمْ وَسَطٌ في بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بينَ الجَبْرِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ، [ وغيْرِهِم ] ).(4)
( وفي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بينَ المُرْجِئةِ و [ بين ] الوَعيدِيَّةِ مِنَ القَدَرِيَّةِ وغَيْرِهِم ).(5)
( وَفي بَابِ [ أَسْماءِ ] الإِيْمانِ والدِّينِ بينَ الحَرُورِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ، وبَيْنَ المُرْجِئةِ والجَهْمِيَّةِ، وَفي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ [ الرَّافِضَةِ و [ بين ] الخَوَارِجِ).(6)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: وسَطٌ: يأتي بمعنى التَّوَسطِ بينَ الشيئيْنِ، ويأتي بمعنى العدلِ الخيارِ، فأهلُ السُّنَّةِ وسطٌ، أي عدولٌ خيارٌ معتدلونَ بين الطرفيْنِ المنحَرِفَيْنِ في جميعِ أمورهِم، وفي الحديثِ: ((خَيْرُ الأمورِ أَوْسَاطُهَا)).
قال عليٌّ رضي اللهُ عنه: خيرُ الناسِ النمطُ الأوسطُ الَّذي يرجعُ إليهم الغالي ويلحقُ بهم التالي، ذكرهُ ابنُ المباركِ عن محمدِ بنِ طلحةَ عن عليٍّ، وقد مدحَ اللهُ أهلَ التوسطِ بينَ الطرفينِ المنحرفيْن، ونهى اللهُ عن الإفراطِ والتفريطِ والغلوِ والتقصيرِ في غيرِ موضعٍ مِن كتابِه، قال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ )، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا). وقال بعضُ السلَفِ: دينُ اللهِ بينَ المُغالي فيه والمُجافي عنْه. وفي حديثِ ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)) أخرجهُ النسائيُّ وابنُ ماجةَ وصححهُ ابنُ خزيمةَ، وابنُ حبانَ، وصححهُ الحاكِمُ.
والغلوُّ: هوَ المبالغةُ في الشَّيءِ والتشديدُ فيه بتجاوزِ الحدِّ، قالَ الشاعِرُ:
ولا تغلُ في شيءٍ مِن الأمرِ واقتصد كلا طرفي قصدِ الأمورِ ذميم
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) قالها ثلاثاً،
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: ومِن كيدِ عدوِّ اللهِ إبليسَ أن يشمَّ قلبَ العبدِ، فإنْ رأى عندهُ قوةَ إقدامٍ وعلوَّ همةٍ قلَّلَ عندهُ المأمورَ وأوهمهُ أنَّه لا يكفي، وأنهُ يحتاجُ معهُ إلى مبالغَةٍ، وإنْ رأى الغالبَ عندهُ الانكفافَ والإحجامَ ثبَّطهُ عنِ المأمورِ وثقَّلهُ عليه، حتى يتركَهُ أو بعضَه، كما قال بعضُهم: ما أمرَ اللهُ بأمرٍ إلاَّ وللشيطانِ فيهِ نزغتانِ، إمَّا إلى إفراطٍ وتقصيٍر، وإمَّا إلى مجاوزةٍ وغلوٍّ، ولا يبالي بأيِّهما ظفَرَ، وقد اقتطعَ أكثرُ الناسِ إلاَّ القليلَ في هذين الوادِيينِ، انتهى.

(2)قَولُهُ: كما أنَّ هذه الأمَّةَ هي الوسطُ في الأممِ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، أي: عَدلاً خيارًا، لتوسُّطِها بين الطَّرفين المذمُومينِ، فلم يَغلوا غلوَّ النَّصارى، ولم يُقَصِّروا كتقصيرِ اليهودِ، ولكنَّهم أهلُ وسطٍ واعتدالٍ، فهم مُعتدلون في بابِ توحيدِ اللهِ إذ كان اليهودُ يصفونَ اللهَ بالنقائِصِ ويشبِّهونه بالمخلوقِ، كما أخبرَ اللهُ عنهمْ أنهم: (قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) ونَفى عنْ نفسهِ اللغوبَ الَّذي وصفوهُ بِه، والنصارى يصفونَ المخلوقَ بصفاتِ الخالقِ التي اختصَّ بها، فلا يشركهُ فيها غيرُهُ كالإلهيةِ وغيرِهَا، وقالوا بأنَّ المسيحَ هوَ اللهُ، وقالوا: ابنُ اللهِ وثالثُ ثلاثَةٍ، وأمَّةُ محمدٍ وسطٌ يعبدونَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ويصفونَه بما وصفَ بهِ نفسَه ووصفهُ بهِ رسولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فوصفوهُ بصفاتِ الكمالِ ونزَّهوهُ عنْ صفاتِ النَّقصِ والعيبِ، وكذلكَ في النبوَّاتِ، فاليهودُ تقتلُ الأنبياءَ، وتستكبرُ على أتباعهِم، والنَّصارى يجعلونَ مَن ليس بنبيٍّ ولا رسولٍ نبيًّا ورسولاً، وهذه الأمَّةُ تؤمنُ بجميعِ أنبياءِ اللهِ ورسلِه، وأمَّا الشرائعُ فاليهودُ منعوا الخالقَ أنْ يبعثَ رسولاً بغيرِ شريعةِ الرَّسولِ الأوَّلِ، والنصارى جوَّزوا لأحبارهمْ أنْ يُغيروا مِن الشرائعِ ما بعثَ اللهُ بهِ رُسُلَهُ، وكذلكَ في العباداتِ النصارى يعبدونهُ ببدعٍ ما أنزلَ اللهُ بها مِن سلطانٍ، واليهودُ معرضونَ عن العباداتِ، والمسلمونَ عبدوهُ بما شرعَ ولم يعبدوهُ بالبدَعِ.
وكذلكَ في حقِّ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، فلم يَغلوا فيهم كما غلتِ النَّصارى في المسيحِ، ولا جَفوهم كما جفتْ فيهم اليهودُ، فالنَّصارى عبدوهم واليهودُ قتلوهمْ وكذَّبوهم، والأمَّةُ الوسطى هي هذه الأمَّةُ، آمنوا بهمْ وعزَّروهم ونَصروهم، فهذهِ الأمَّةُ أفضلُ الأممِ على الإطلاقِ، قالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) الآيةَ – وفي حديثِ أبي هريرةَ: ((أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ)، وأمَّا قَولُهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- في بني إسرائيلَ: (وَفَضَّلْنَاكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) فالمرادُ أنه -سُبْحَانَهُ- فضَّلهمْ على عالمي زَمانِهمْ، كشعبِ بُخْتَنَصَّرَ وغيرهِمْ.

(3) قَولُهُ: فهمْ وسطٌ في بابِ صفاتِ اللهِ: أي أهلُ السُّنَّةِ وسطٌ، أيْ عدلٌ خيارٌ معتدلونَ بينَ الطرفينِ المنحرفيْنِ، فهم معتدلونَ في بابِ توحيدِ اللهِ، يصفونهُ -سُبْحَانَهُ- بما وصفَ بهِ نفسهُ وبما وصفهُ بهِ رسولهُ أعرفُ الناسِ بربهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِنْ غيرِ تعطيلٍ فلا ينْفي عنهُ ما وصفَ بهِ نفسهُ أوْ وصفهُ بهِ رسولُهُ، ولا تشبيهَ فلا يقالُ لهُ سمعٌ كأسماعِنا، ولا بصرٌ كأبصارِنا ونحوُ ذلكَ، كما قال سُبْحَانَهُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فقَولُهُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ردٌّ على المشبِّهَةِ، وقَولُهُ: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ردٌّ على المعطلَةِ.
قَولُهُ: أهلُ التعطيلِ: أي الذين نَفوا حقائقَ أسماءِ اللهِ وصفاتهِ وعطلوهُ منها، مِن الجهميةِ والمعتزلةِ والأشاعرةِ وأشباههِم، فالجهميةُ نفَوا صفاتِ اللهِ لَفظَها ومعناها، وزعموا أنَّ إثباتَها يفضيِ إلى التشبيهِ فعطَّلوهَا، فرُّوا مِن شيءٍ ووقعوا في أشدَّ منْهُ، فإنهم لم يعطِّلوها حتى شَبَّهوا اللهَ -سُبْحَانَهُ- بخلقهِ، واعتقدوا أنَّ صفاتِ اللهِ كصفاتِ المخلوقِ، فعطلوها فرارًا منَ التشبيهِ بزعمِهِم، فوقَعوا في أشدَّ مِن ذلكَ، وهو تشبيهُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بالمعدوماتِ والناقصاتِ، فشبَّهوا أوَّلاً وعطلوا ثانيًا، ثم شَبَّهوا ثالثًا، فإنَّ مَن لا صفاتَ لهُ بالكليَّةِ لا وجودَ لَهُ، فإنَّ مَن ليسَ لهُ سمعٌ ولا بصرٌ ولا قدرةٌ، ولا إرادةٌ ولا هو فوقَ ولا أسفلَ ولا يمينَ ولا شمالَ إلى آخرِ ما هوَ موجودٌ في كُتبهم ليسَ لهُ وجودٌ بالكليةِ، بلْ هوَ مقدَّرٌ في الأذهانِ لا وجودَ له في الأعيانِ، تعالى اللهُ عنْ قَولِهِمْ علوًّا كبيرًا، وكلامُ العلماءِ في ذمِّهمْ وأنهم يدورونَ على أنْ يقولوا ليسَ ثمَّ إلاَّ العدمُ المحضُ كثيرٌ، وأمَّا المعتزلةُ فأثبتوا الأسماءَ ونَفَوا المعانيَ، فيقولون إنُّهُ -سُبْحَانَهُ- سميعٌ بلا سمعٍ، بصيرٌ بلا بصرٍ، عليمٌ بلا علمٍ إلى غيرِ ذلك مما يقولونه، وتصوُرَ هذا المذهبِ كافٍ في ردِّه وإبطالِه، وأمَّا الأشاعرةُ فأثبتوا للهِ بعضَ الصفاتِ ونفَوا البعضَ، فاضطربوا وتناقَضُوا.
قَولُهُ: الجهميةُ: نسبةً إلى الجهمِ بنِ صفوانَ التِّرمذيِّ الضَّالِّ، والنسبةُ إليهِ جَهميٌّ بفتحِ الجيمِ، والجهمُ أخذَ بدعتهُ هذه، أي بدعةُ تعطيلِ الصفاتِ مِن الجعدِ بنِ درهَمٍ، فهو أولُ مَنْ تكلمَ في التعطيلِ في الإسلامِ، فقتلهُ خالدُ بنُ عبدِ الله القسريُّ بعدَ أنْ استشارَ علماءَ التابِعين فأفتَوْا بقتلِه، فخطبَ في يومِ عيدِ الأضحى فقالَ: يا أيها الناسُ ضحُّوا تقبَّلَ اللهُ ضحاياكمْ فإني مُضَحٍّ بالجعدِ بنِ درهَمٍ، فإنه زعمَ أنَّ اللهَ لم يتخذْ إبراهيمَ خليلاً ولمْ يكلمْ موسى تكليمًا، فنَزلَ فذبحهُ في أصلِ المنبرِ، قال ابن القيِّمِ رحمهُ اللهُ:

ولـذا ضَـحَّـى بجـعـدٍ  خـالـدٌ  الـ ... ـقـسـريُّ يــومَ ذبـائـحِ القـربـانِ
إذْ قـالَ إبراهـيـمُ لـيـسَ  خليـلَـه ... كـلاَّ ولا موسـى الكلـيـمُ  الـدَّانـي
شكـرَ الضَّحيـةَ كـلُّ صاحـبِ  سُنَّـةٍ ... لله درُّكَ مـــن أخـــي قـربــانِ


والجعدُ بنُ درهمٍ أوَّلُ مَن قال بخلقِ القرآنِ، أخذَ بدعتَه عن أبانَ بنِ سمعانَ، وأخذها أبانُ عن طالوتَ بنِ أختِ لبيدِ بنِ الأعصمِ زوجِ بنْتِه، وأخذَها لبيدُ عن يهوديٍّ باليمنِ، وأخذَ هذه البدعةَ عنِ الجعدِ الجهمُ بنُ صفوانَ التِّرمذيُّ، وأخذَ عن الجهمِ بِشرٌ المَرِّيسيُّ، وأخذها عن بشرٍ أحمدُ بنُ أبي داودَ، وأما الجهمُ بنُ صفوانَ فقتلهُ سلمُ بنُ أحوزَ أميرُ خراسانَ سنةَ مائةٍ وثمانيةٍ وستينَ، ونُسبت الطائفةُ إلى الجهْمِ؛ لأنَّه الَّذي ناضلَ عن هذا المذهبِ الخبيثِ وأظهرهُ ودعا إليهِ، وتقلدَ هذا المذهبَ الخبيثَ بعدهُ المعتزلَةُ، ولكنْ كانَ الجهمُ أدخلَ في التعطيلِ مِنهم؛ لأنَّهُ ينكرُ الأسماءَ حقيقةً وهمْ لا ينكرونَ الأسماءَ بل الصفاتِ، قال جمعٌ مِن العلماءِ في الجهميةِ: إنهم ليسوا مِن فرقِ هذهِ الأمَّةِ الثنتينِ والسبعينَ فرقَةً، منهم عبدُ اللهِ بنُ المباركِ ويوسفُ بنُ أسباطٍ وغيرُهم.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في (النُّونيَّةِ):

ولقدْ تقلدَ كُفرَهمْ خمسونَ في ... عشرٍ منَ العلماءِ في البلـدانِ
واللالكائيِّ الإمامُ حكاهُ عنهم ... بلْ قدْ حكاهُ قبلهُ  الطبرانـيِ


قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: المشهورُ مِن مذهبِ الإمامِ أحمدَ وعامَّةِ أئمَّةِ السنةِ تكفيرُ الجهميةِ، وهم المعطلةُ لصفاتِ الرحمنِ، فإنَّ قَولَهُمْ صريحٌ في مناقضةِ ما جاءتْ بهِ الرسلُ من الكتابِ والسنَّةِ، وحقيقةُ قَولِهِمْ جحودُ الصانعِ وجحودُ ما أخبرَ بهِ على لسانِ رسولهِ بلْ وجميعِ الرسُلِ، ولهذا قال عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ: إنا لنحكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى ولا نستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ الجهميَّةِ، وقال غيرُ واحدٍ من الأئمَّةِ: إنهم أكفرُ مِن اليهودِ والنصارَى.

(4) قَولُهُ: وأهلُ التمثيلِ المشبهةُ: أهلُ التمثيلِ المشبهةُ الذينَ شبَّهوا اللهَ بخلقهِ ومثَّلوه بهم – تعالى اللهُ عنْ قَولِهِمْ علوًّا كبيرًا – والتشبيهُ ينقسمُ إلى قسمينِ كما تقدَّمَ:
الأوَّلِ: تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، كما تقولُ: للهِ يدٌ كأيدينا، وعينٌ كأعيننا، وقدمٌ كأقدامنَا.
الثاني: تشبيهُ المخلوقِ بالخالقِ كتشبيهِ الأصنامِ والأوثانِ باللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى عنْ ذلكَ- فإنهُ -سُبْحَانَهُ- لا شبيهَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا نظيرَ، قال تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)(فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ)(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فالمعطِّلةُ غَلوا في النَّفيِ حتى شبَّهوه بالمعدوماتِ والناقصاتِ، والمشبهةُ غَلوا في الإثباتِ حتى شَبهوهُ بالمخلوقاتِ، وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أثبتوا للهِ الأسماءَ والصفاتِ ونفَوا عنه مشابهةَ المخلوقاتِ.
قَولُهُ: وهم وسطٌ في أفعالِ اللهِ بينَ الجبريةِ والقدريَّةِ: فالجبريةُ نفوا أفعالَ العبادِ، وزعموا أنهمْ لا يفعلونَ شيئًا ألبتَّةَ، وإنَّما اللهُ هو فاعلُ تلكَ الأفْعَالَ حقيقةً، فهي نفسُ فعلِه لا أفعَالِهم، والعبيدُ ليس لهم القدرةُ ولا إرادةٌ ولا فعلٌ ألبتَّةَ، وإنَّما أفعالُ العبادِ كحفيفِ الأشجارِ أو كحركةِ المرتعشِ والكلُّ فعلُ اللهِ، وعليهِ فسائرُ الأفعالِ طاعةٌ؛ لأنَّها موافِقةٌ لإرادَةِ اللهِ الكونيَّةِ القَدَرِيَّةِ، فالزِّنا واللِّواطُ والقتلُ وشربُ الخمرِ على هذا القولِ طاعاتٌ، وقدْ قالَ بعضُ غلاتِهمْ:

أصبحتُ منفعلاً لما يختارُهُ ... ربِّي ففعلِي كلُّه  طاعاتُ


ولا شكَّ في فسادِ هذا المذهبِ، وأدلَّةُ الكتابِ والسنَّةِ بل والعقلُ متواطِئةٌ على ردِّه وإبطالِه، بلْ لا يمكنُ أن تعيشَ أمَّةٌ على هذا المذهبِ الخبيثِ، أو تَنْتَظمَ أمورُها، ولاَ شكَّ أنَّ هذا المذهبَ مخالفٌ لجميعِ أديانِ الأنبياءِ، والجبريَّةُ سمُّوا بذلكَ لأنَّهم يقولونَ: إنَّا مجبورونَ على أفعالِنَا، فَغلوا في إثباتِ القَدَرِ، وزعموا أنَّ العبدَ لا فِعلَ له ألبتَّة، قال في التعريفاتِ: الجبريَّةُ مِن الجبرِ، وهوَ إسنادُ فعلِ العبدِ إلى اللهِ، والجبريَّةُ اثنانِ متوسطةٌ تثبتُ للعبدِ كسبًا في الفعلِ كالأشعريَّةِ، وخالصةٌ لا تثبتُ كالجهميَّةِ، انتهى.
ولفظُ جبرٍ لفظٌ مبتدعٌ أنكرهُ السَّلفُ، كالثوريِّ، والأوزاعيِّ، وأحمدَ، وغيرهِم، وقالوا: الجبرُ لا يكونُ إلاَّ مِن عاجِزٍ، فيقالُ جَبر كما جاءتْ بهِ السُّنَّةُ، أشارَ إلى ذلكَ الشيخُ تقيُّ الدينِ وابنُ القيِّمِ رحمهما اللهُ، وأصلُ قولِ الجبريةِ مأخوذٌ عن الجهمِ بنِ صفوانَ، فهو إمامُ المجبِّرَةِ، والجبريَّةُ عكسُ القَدَرِيَّةِ نفاةِ القَدَرِ، فإنَّ القَدَرِيَّةَ نُسبوا إلى القدرِ لنفيهمْ إياهُ، وقدْ تُسمَّى الجبريَّةُ قَدَريَّةً؛ لأنهم غَلوا في إثباتِ القَدَرِ، والتَّسميةُ على النَّافين أغلبُ: قال الشيخُ تقيُّ الدينِ في (تائيَّتهِ):

ويُدْعَى خصومُ اللهِ يومَ معادِهِـمْ ... إلى النَّارِ طُـرًّا فرقـةَ القَدَريَّـةِ
سواءٌ نَفَوْا أو قد سَعَوْا ليُخَاصِمُوا ... بهِ اللهَ أو مَـاروا بِـه للشَّريعَـةِ


فالقَدَرِيَّةُ النُّفاةُ همُ الَّذين وَرَدَ فيهم الحديثُ الَّذي في السُّنَنِ أنَّهم مجوسُ هذهِ الأمَّةِ، وأكثرُ المعتزلَةِ على هذا المذهبِ الباطِلِ، فإنهم يقولونَ: إنَّ أفعالَ العبادِ وطاعتِهِمْ ومعاصيهِمْ لم تدخلْ تحتَ قضاءِ اللهِ وقدَرِه، فاللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على زعمِهمْ لا يَقْدِرُ على أفعالِ العبادِ ولا شاءَها منهمْ، ولكنَّهم يعملونَها دونَ مشيئةِ اللَّهِ وقدرتِه، وأنَّ اللَّهَ لا يَقدِرُ أنْ يَهدِيَ ضالاً ولا يُضِلَّ مهتديًا، فأثبتوا خالِقًا مع اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وهذا إشراكٌ مع اللَّهِ في توحيدِ الرُّبُوبيَّةِ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ-: "وقَولُ القدريَّةِ يتضمَّنُ الإشراكَ والتَّعطِيلَ، فإنَّه يتضمَّنُ إِخْراجَ بَعضِ الحوادثِ عن أنْ يكونَ لها فاعِلٌ، ويتضمَّنُ إثباتَ فاعِلٍ مستقِلٍّ غيرِ اللَّهِ، وهاتان شُعبتانِ مِن شُعَبِ الكُفرِ، فإنَّ أَصْلَ كُلِّ كُفرٍ هو التَّعطيلُ والشِّركُ". انتهى. (منهاج).وقد وَرَدَتْ أحاديثُ في ذمِّ القدريَّةِ وأنَّهم مجوسُ هذه الأمَّةِ، وذلك لمضُاهاةِ قولِهم لقولِ المجوسِ، فإنَّ المجوسَيُثبِتونَخالِقَيْنِ، خالِقِ الخيرِ وخالِقِ الشَّرِّ، وهما النُّورُ والظُّلمةُ، فالنُّورُ خالِقُ الخيرِ، والظُّلمةُ خالِقَةُ الشَّرِّ، وكذلك القدريَّةُ أَثْبَتوا خالِقَيْنِ: أَثْبَتوا أنَّ اللَّهَ خالِقُ الحيوانِ وأنَّ الحيوانَ يَخْلُقُ فِعلَ نَفْسِه، فمِمَّا ورَدَ في ذَمِّهِم ما رواه أبو داودَ في "سننِه" مِن حديثِ ابنِ عمرَ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلاَ تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُمْ)). ورُوِيَ في ذمِّ القَدَرِيَّةِ أحاديثُ أُخَرُ، تكلَّمَ أهلُ الحديثِ في صِحَّةِ رَفْعِها، والصَّحيحُ أنَّها موقوفةٌ، وأوَّلُ مِن تكلَّمَ في القَدرِ معبدٌ الجهنيُّ، ثمَّ غيلانُ الدِّمشقيُّ، وكانَ ذلكَ في آخرِ عصرِ الصَّحابَةِ، وأنكرَ عليهمُ الصَّحابةُ وتبرَّءوا منهم وبَدَّعُوهم، فالجبريَّةُ غَلَوْا في إثباتِ القدَرِ، والمعتزِلَةُ غَلَوْا في نَفْيِه، وهَدى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوسَطِ الَّذي تؤيِّدُه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فأَثْبَتوا أنَّ العِبادَ فاعِلون حقيقةً، وأنَّ أفعالَهم تُنْسَبُ إليهم على جِهةِ الحقيقةِ لا على جِهةِ المجازِ، وأنَّ اللَّهَ خالِقُهم وخالِقُ أفعالِهم، كما قال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) وأثبتوا للعبدِ مَشيئةً واختيارًا تابِعَيْنِ لمشيئةِ اللَّهِ، كما قال –سبحانه-: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وسيأتي الكلامُ على هَذِهِ المباحِثِ إنْ شاءَ اللَّهُ.

(5) قولُه: وفي بابِ وعيدِ اللَّهِ: الوعيدُ: التَّخوِيفُ و التَّهديدُ، فالوعيدُ والإيعادُ في الشَّرِّ، وأمَّا الوَعْدُ والعِدَةُ ففي الخيرِ، كما قال الشَّاعرُ:
وإنِّي وإنْ أوْعدتُه أوْ وعَدْتُه لمُخْلِفُ إِيعَادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدي
قولُه: المُرْجِئةُ: المُرْجِئةُ نسبةٌ إلى الإرجاءِ، أيْ: التَّأخيرِ؛ لأنَّهم أخَّروا الأعمالَ عن الإيمانِ، حَيْثُ زَعَموا أنَّ مرتكبَ الكبيرةِ غيرُ فاسقٍ، وأنَّ النَّاسَ في الإيمانِ سواءٌ، فإيمانُ أفْسَقِ النَّاسِ كإيمانِ الأنبياءِ، وأنَّ الأعمالَ الصَّالِحةَ ليست مِن الإيمانِ، ويكذِّبون بالوعيدِ والعِقابِ بالكُلِّيَّةِ، ومذهبُهم باطلٌ تردُّه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولا شكَّ أنَّ هذا المذهبَ مِن أخبثِ المذاهبِ وأفسدِها؛ إذ يدعو إلى الانسلاخِ مِن الدِّينِ وإهمالِ جميعِ الأعمالِ، واستباحةِ جميعِ المنكَراتِ، وهؤلاء أَحدُ فِرَقِ المبتَدِعةِ، قال الشَّيخ تقيُّ الدِّينِ: "لا تختلفُ نصوصُ أحمدَ أنَّه لا يكفِّرُ المُرْجِئةَ، فإنَّ بِدعَتَهم مِن جِنسِ اختلافِ الفقهاءِ في الفروعِ" والمُرْجِئةُ فِرقتانِ:
الأُولى: الذين قالوا: إنَّ الأعمالَ ليست مِن الإيمانِ، وهُم مع كونِهم مبتدعةً في هَذَا القولِ فقد وافَقوا أهلَ السُّنَّةِ على أنَّ اللَّهَ يعذِّبُ مَن يعذِّبُه مِن أهلِ الكبائرِ بالنَّارِ، ثم يخرِجُهم بالشَّفاعةِ، كما جاءتْ به الأحاديثُ الصَّحيحةُ، وعلى أنَّه لا بُدَّ في الإيمانِ أنْ يتكلَّمَ به بلسانِه، وعلى أنَّ الأعمالَ المفروضةَ واجبةٌ وتارِكُها مستحِقُّ للذَّمِّ والعِقابِ، وقد أُضِيفَ هَذَا القولُ إلى بعضِ الأئِمَّةِ مِن أهلِ الكوفةِ.
أما الفِرقةُ الثَّانيةُ: فهم الذين قالوا: إنَّ الإيمانَ هُوَ مجرَّدُ التَّصدِيقِ بالقلبِ، وإنْ لم يَتكلَّمْ به، ولا شكَّ في فسادِ هَذَا القولِ، ومصادمَتِه لأدلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّ الإيمانَ قولٌ باللِّسانِ، وعملٌ بالأركانِ، واعتقادٌ بالجَنَانِ، فإذا اخْتَلَّ واحدٌ مِن هَذِهِ الأركانِ لم يكُن الرَّجُلُ مؤمِنا، وعلى هَذَا أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ودَرَج على هَذَا السَّلَفُ الصَّالِحُ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بعدَهم مِن أئِمَّةِ المسلِمِينَ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بتصرُّفٍ.
قولُه: الوعيديَّةُ: وهُم القائِلون بالوعيدِ، وهُوَ أصْلٌ مِن أصولِ المعتزِلة، وهُوَ أنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ لمرتكبِ الكبيرةِ إلاَّ بالتَّوبةِ، وأنَّ أهلَ الكبائرِ مخلَّدون في النَّارِ، ويخرِجُونهم مِن الإيمانِ بالكُلِّيَّةِ، ويكذِّبون بشفاعةِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وغيرِه زعْمًا منهم أنَّه إذا أوْعَدَ عبيدَه فلا يجوزُ أنْ يعذِّبَهم ويُخلِفَ وعيدَه، وهَذَا المذهبُ يقولُ به المعتزِلةُ والخوارجُ، وهُوَ باطلٌ تردُّه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ المتواترةُ والإجماعُ، قال اللَّهُ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) قال في (فَتحِ المَجِيدِ): وفي الآيةِ ردٌّ على الخوارجِ المكفرِّين بالذُّنوبِ، وعلى المعتزِلةِ القائِلينَ بأنَّ أصحابَ الكبائرِ يخلَّدون في النَّار، وليسوا عندهم بمؤمِنين ولا كفارٍ، ولا يجوزُ أنْ يُحمَلَ قولُه سبحانه: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) على التَّائبِ، فإنَّ التَّائبَ مِن الشِّركِ مغفورٌ له، كما قال تعالى: (قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذَّنُوبَ جَمِيعًا) فهُنا عَمَّمَ وأَطْلَقَ؛ لأنَّ المرادَ هنا التَّائبُ، وهناك خصَّ وعلَّقَ؛ لأنَّ المرادَ به مَن لم يَتُبْ، هَذَا ملخَّصُ كلامِ شيخِ الإسلامِ تقيِّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
أمَّا القولُ الوسَطُ الذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فهُوَ أنَّ الفاسِقَ معه بعضُ الإيمانِ، وأصلُه معه جميعُ الإيمانِ الواجبِ الذي يستوجِبُ به الجَنَّةَ، فهُوَ تحت مشيئةِ اللَّهِ إنْ عفى عنه أدخَلَه الجَنَّةَ مِن أوَّلِ وهلةٍ، وإلاَّ عذَّبه بقدْرِ ذُنوبِه، ثم أدخَلَه الجَنَّةَ، فلا بدَّ له مِن دخولِ الجَنَّةِ، فلا يُعطَى الإيمانَ المطلَقَ، ولا يُسلَبُ عنه مُطلَقُ الإيمانِ، بل يُقالُ مؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه، أو يقالُ مؤمِنٌ ناقصُ الإيمانِ، وهَذَا هُوَ الحقُّ الذي دلَّتْ عليه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ودَرَج عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، عَكْسَ ما عليه الخوارجُ والمعتزِلةُ والمُرْجِئةُ، فالمُرْجِئةُ في طرَفٍ، والخوارجُ والمعتزِلةُ في طرَفٍ آخَرَ، فالخوارجُ والمعتزِلةُ غَلَوْا، والمُرْجِئةُ جَفَوْا، فالمُرْجِئةُ يقولونَ: لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذنبٌ، والخوارجُ يقولون: يكفَّرُ المسلمُ بكُلِّ ذنبٍ. وَكَذَلِكَ المعتزِلةُ يقولون: يَحبَطُ إيمانُه كُلُّه بالكبيرةِ فلا يبقى معه شيءٌ مِن الإيمانِ، لكنَّ الخوارجَ يقولون: يَخرجُ مِن الإيمانِ، ويدخُلُ في الكُفْرِ، والمعتزِلةُ يقولون: يخرجُ مِن الإيمانِ، ولا يدخُلُ في الكُفرِ، بل يكونُ في منزِلةٍ بَيْنَ مَنـزِلتَيْنِ، وبقولِهم بخروجِه مِن الإيمانِ أوْجَبوا له الخلودَ في النَّارِ، وكِلاهما مخالِفٌ للسُّنَّةِ المتواترةِ ولإجماعِ سلَفِ الأمَّةِ وَأئِمَّتِها.
وأمَّا استدلالُهم بقولِه سبحانه: (لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى) فقدْ بَيَّنَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّ هَذَا الصِّلِيَّ لأهلِ النَّارِ الذين هم أهلُها، كما في حديثِ أبي سعيدٍ، وأنَّ الذين ليسوا هُم مِن أهلِها، فإنِّها تُصيبُهم بذُنوبِهم، وأنَّ اللَّهَ يُميتُهم فيها حتَّى يصيروا فَحْما، ثم يُشَفَّعُ فيهم فيخرجون، ويؤتَى بهم إلى نَهرِ الحياةِ فيَنبُتون كما تَنْبُتُ الحبَّةُ في حميلِ السَّيلِ، وهَذَا المعنى مستفِيضٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بل متواتِرٌ في أحاديثَ كثيرةٍ في الصَّحيحَيْنِ وغيرِهما مِن حديثِ أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ وغيرِهما، قال والصِّلِيُّ المذكورُ في الآيةِ هُوَ الصِّلِيُّ المطلَقُ، وهُوَ المُكْثُ فيها والخلودُ على وجهٍ يَصِلُ العذابُ إليهم دائما، فأمَّا مَن دخَلَ وخَرَجَ فإنَّه نوعٌ مِن الصِّلِيِّ المطلَقِ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بتصرُّفٍ.

(6) قولُه: وفي بابِ أسماءِ الإيمانِ والدِّينِ: أيْ أنَّ هؤلاء تَنازعوا في الأسماءِ والأحكامِ أيْ: أسماءِ الدِّينِ: مِثلَ مسلمٍ وكافرٍ وفاسقٍ، وَكَذَلِكَ في أحكامِ هؤلاء في الدُّنْيَا والآخرةِ، فالخوارجُ والمعتزِلةُ متَّفِقونَ في اسمِ الدِّينِ مِثلَ مؤمنٍ ومسلمٍ وفاسقٍ وكافرٍ، إلاَّ أنَّ المعتزِلةَ أحْدَثوا المنـزِلةَ بَيْنَ المنـزِلتَيْنِ، وَهَذِهِ خاصَّةُ المعتزِلةِ التي اختُصُّوا بها دونَ غيرِهم دونَ سائرِ أقوالِهم، فقد شارَكهم فيها غيرُهم، فالخوارجُ والمعتزِلةُ يقولون: إنَّ الدِّينَ والإيمانَ قولٌ وعملٌ واعتقادٌ، ولكنْ لا يَزيدُ ولا يَنقُصُ، ومَن أتى كبيرةً كفَرَ عندَ الحَروريَّةِ، وصار فاسقًا عندَ المعتزِلةِ في منـزلةٍ بَيْنَ المنـزِلتَيْنِ، لا مؤمِنٌ ولا كافرٌ. وأمَّا الحُكمُ، فالمعتزِلةُ وافَقوا الخوارجَ على حُكمِهم في الآخرةِ، فعندَهم أنَّ مَن أتى كبيرةً فهُوَ خالدٌ مخلَّدٌ في النَّارِ لا يَخرجُ منها لا بشفاعةٍ ولا بغيرِ شفاعةٍ، أمَّا في الدُّنْيَا فالخوارجُ حَكَموا بكفرِ العاصي واستحَلُّوا دَمَه ومالَه، وأمَّا المعتزِلةُ فحَكَموا بخروجِه مِن الإيمانِ ولم يُدخِلُوه في الكفرِ، ولم يستحِلُّوا منه ما استحلَّتْهُ الخوارجُ، وقابَلتُهم المُرْجِئةُ والجهميَّةُ ومَن اتَّبعَهُم، فقالوا: ليس مِن الإيمانِ فِعلُ الأعمالِ الواجبةِ، ولا تَرْكُ المحظوراتِ البَدَنيَّةِ، فإنَّ الإيمانَ لا يَقبلُ الزِّيادةَ ولا النُّقصانَ، بل هُوَ شيءٌ واحدٌ يَستوي فيه جميعُ المؤمنينَ مِن الملائكةِ والمقتَصِدينَ والمُقرَّبِينَ والظَّالِمينَ، فالمُرْجِئةُ يقولون: الإيمانُ مجرَّدُ التَّصديقِ، والجهميَّةُ يقولون: مجرَّدُ المعرفةِ، والأعمالُ ليست مِن الإيمانِ، فإيمانُ أفسقِ النَّاسِ كإيمانِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وقالوا: لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذنْبٌ، فالخوارِجُ والمعتزِلةُ غَلَوْا، والمُرْجِئةُ والجهميَّةُ جَفَوا، وهَدى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوَسَطِ، وهُوَ كما تَقدَّمَ أنَّ الإيمانَ والدِّينَ قولٌ وعملٌ واعتقادٌ، وأنَّه يَزيدُ ويَنقُصُ، وأنَّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ بإيمانِه، فاسقٌ بكبيرتِه، أو مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ، وأمَّا حُكمُه في الآخرةِ، فهُوَ تحتَ مشيئةِ اللَّهِ، إنْ شاءَ عفا عنه، وأدخَلَه الجَنَّةَ مِن أوَّلِ وهلةٍ، وإلاَّ عذِّبَ بقَدْرِ ذُنوبهِ ثم دخَلَ الجَنَّةَ، فلا بدَّ له مِن دخولِ الجَنَّةِ، هَذَا هُوَ القولُ الحقُّ الذي تدلُّ عليه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وعليه السَّلَفُ الصَّالِحُ والأئِمَّةُ.
قولُه: الحروريَّةُ: هم الخوارجُ، سُمُّوا حروريَّةً نسبةً إلى قريةِ حَروراءَ بالفتحِ والمَدِّ، قريةٌ بالعراقِ قريبةٌ مِن الكوفةِ اجتمعوا فيها حين خرجُوا على عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- فسُمِّيَ الخوارجُ حَروريَّةً.
وأمَّا المعتزِلةُ فهم أصحابُ واصلِ بنِ عطاءٍ الغزَّالِ، اعتزلَ عن مجلِسِ الحسَنِ البصريِّ، وأخَذَ يقرِّرُ أنَّ مرتكبَ الكبيرةِ لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، ويُثبِتُ له المنـزِلةَ بَيْنَ المنـزِلتَيْن. فقال الحسَنُ: قد اعتزلَ عنَّا واصِلٌ، ويُلقَّبُون بالقَدَريَّةِ لإسنادِهم أفعالَ العِبادِ إلى قُدْرتِهم، وقالوا: إنَّ مَن يقولُ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه مِن اللَّهِ أولى باسمِ القَدَريَّةِ، ويردُّه قولُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((القَدَريَّةُ مَجوسُ هَذِهِ الأمَّةِ)). ولَقَّبوا أنْفُسَهم بأصحابِ العدلِ والتَّوحيدِ، لقولِهم بوُجوبِ الأصلحِ على اللَّهِ، وقولِهم بنَفْي الصِّفاتِ، وبأنَّ كلامَه مخلوقٌ مُحدَثٌ، وبأنَّه غيرُ مَرئيٍّ في الآخرةِ، ويجِبُ عليه رعايةُ الحكمةِ في أفعالِه، وثوابُ المطيعِ والتَّائبِ، وعِقابُ صاحبِ الكبيرةِ، ثم افترَقوا عشرين فِرقةً يكفِّر بعضُهم بعضا.
قولُه: الرَّافضةُ: من الرَّفْضِ وهُوَ التَّرْكُ، سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لأنَّهم قالوا لِزَيدِ بنِ عليِّ بنِ الحُسينِ بنِ أبي طالِبٍ: "تبرَّأْ مِن الشَّيخَيْنِ أبي بكرٍ وعُمرَ –رضي اللَّهُ عنهما-" فقال: "معاذَ اللَّهِ، وَزِيرا جَدِّي" فتركوه ورَفضوه، فسُمُّوا رافِضةً، والنِّسبةُ رافضيٌّ، والرَّافِضةُ فِرقٌ شتَّى، قد تكفَّلَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميَةَ ببَيانِ مذهبِهم والردِّ عليهم في كتابِه (منهاجِ السُّنَّةِ) ويُلقَّبون بالشِّيعةِ، وكان هَذَا اللَّقَبُ في الأصلِ للذين ألَّفُوه في حياتِه كسلْمانَ وأبي ذَرٍّ والمقدادِ وعمارٍ وغيرِهم، ثم صار بعد ذلك لقبًا على مَن يَرى تفضيلَه على كُلِّ الصَّحابةِ، ويرى أمورًا أُخْرى لا يَرضاها عليٌّ ولا أَحدٌ مِن ذُرِّيَّتِه ولا غيِرهم ممَّن يُقتدَى به، قال في (المنهاجِ): سُمُّوا بالشِّيعةِ لمَّا افْترَقَ النَّاسُ فِرقتَيْنِ: فرقةٌ شايَعتْ أولياءَ عثمانَ، وفرقةٌ شايَعتْ عليًّا –رضي اللَّهُ عنه-. ولم يكونوا يُسَمَّوْن رافضةً في ذلك الوقتِ، وإنَّما سُمُّوا رافضةً لمَّا خرجَ زيدُ بنُ عليِّ بنِ الحسينِ في الكوفةِ في خلافةِ هشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ، فسألَتْهُ الشِّيعةُ عن أبي بكرٍ وعُمرَ فتَرَحَّم عليهما فرَفَضَه قومٌ. فقال: رفضتموني فسُمُّوا رافضةً، وتولاَّه قومٌ فسُمُّوا زَيْديَّةً لانتسابِهم إليه. انتهى.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "أوَّلُ مَن ابتدعَ الرَّفضَ عبدُ اللَّهِ بنُ سبأٍ، وكان منافقًا زِنديقًا أرادَ إفسادَ دينِ الإسلامِ، كما فَعلَ بولس صاحبُ الرسائلِ التي بأيدي النَّصارى، حَيْثُ ابتدعَ لهم بِدعًا أفسَدَ بها دِينَهم –وكان يهوديًّا – فأظْهَرَ النَّصرانيَّةَ نفاقًا لقَصدِ إفسادِ مِلَّتهِم، وَكَذَلِكَ كانَ ابنُ سبأٍ يهوديًّا فأظْهرَ الإسلامَ والتَّنسُّكَ والأمرَ بالمعروفِ والنَّهْيَ عن المنكَرِ، ليتمكَّنَ بِذَلِكَ مِن أغراضِه الفاسدةِ، فسعى في فتنةِ عثمانَ بنِ عفَّانَ وقتْلِه، ثم لما قَدِمَ الكوفةَ أظْهَرَ الغُلُوَّ في عليِّ بنِ أبي طالبٍ، فبَلَغ ذلك علِياًّ فطلَبه ليَقتُلَه فهرب إلى قرقيسا". انتهى.
والرَّافضةُ مِن أخبثِ الطَّوائِفِ حتى أخْرجَهُم بعضُ العلماءِ مِن فِرقِ الأُمَّةِ، ورُوِيَ عن الشَّعْبيِّ أنَّه قال: أحذِّرُكم هَذِهِ الأهواءَ المُضِلَّةَ وشَرُّها الرَّافِضةُ، لم يدخلوا في الإسلامِ رغبةً ولا رهبةً، ولكنْ مَقْتاً لأهلِ الإسلامِ، وبَغْياً عليهم، قد حرَّقَهُم عليُّ بنُ أبي طالبٍ ونفاهُم إلى البُلدانِ، منهم عبدُ اللَّهِ بنُ سبأٍ – يهوديٌّ مِن أهلِ صنعاءَ نفاه إلى ساباط – وعبدُ اللَّهِ بنُ يسارٍ – نَفاهُ إلى خازر – وكلامُ أهلِ العِلمِ في ذمِّهِم كثيرٌ جداًّ.
وأمَّا الخوارجُ فسُمُّوا بِذَلِكَ لخُروجِهم على عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ عنه- ومفارقَتِهم له، وقد ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((تمرُقُ مارِقةٌ على حينِ فُرْقةٍ مِن النَّاسِ، تقتُلُهم أوْلى الطَّائفتَيْنِ بالحَقِّ)) فخَرجوا في زَمَنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ عنه- فقتَلَهُم عليٌّ وطائفتُه. وقال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في حقِّهم: ((يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَؤونَ الْقُرآنَ لاَ يُجاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْراً عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ)). وقد روى مسلمٌ أحادِيثَهم في "صحيحِه" مِن عشَرةِ أوجُهٍ، واتَّفقَ الصَّحابةُ على قِتالِهم، وفي التِّرْمِذِيِّ عن أبي أمامةَ الباهِليِّ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في الخوارجِ: ((إِنَّهُمْ كِلاَبُ أَهْلِ النَّارِ)). وقرأ هَذِهِ الآيةَ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). وقال الإمامُ أحمدُ: "صحَّ الحديثُ في الخوارجِ مِن عشَرةِ أوجُهٍ". وقد خرجَّها مسلمٌ في "صحيحِه"، وخرَّجَ البخاريُّ طائفةً منها، وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الخوارجُ هم أوَّلُ مَن كفَّرَ المسلِمِينَ بالذُّنوبِ، ويكفِّرونَ مَن خالَفهم في بِدْعَتِهم، ويَستحِلُّون دمَه ومالَه، وأوَّلُ بدعةٍ حَدَثتْ في الإسلامِ بدعةُ الخوارجِ والشِّيعةِ حديثًا في أثناءِ خلافةِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، فعاقَبَ الطَّائفتَيْنِ، أمَّا الخوارجُ فقاتَلُوه فقتَلَهم، وأمَّا الشِّيعةُ فحرَّقَ غالبيتَهُم بالنَّارِ، وطلبَ قتْلَ عبدِ اللَّهِ بنِ سبأٍ فهرَبَ منه، وأمَرَ بجَلْدِ مَن يُفضِّلُه على أبي بكرٍ وعمَرَ، وروي عنه من وُجوهٍ كثيرةٍ، أنَّه قال: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعد نبِّيها أبو بكرٍ وعمرُ. ورواهُ عنه البخاريُّ في "صحيحِه". انتهى.
فالخوارجُ والرَّافضةُ في أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في طرَفَيْ نَقيضٍ، فالرَّافضةُ غَلَوْا في عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأهلِ البيتِ، وكفَّروا جميعَ الصَّحابةِ كالثَّلاثةِ، ومَن وَالاهُم وفسَّقُوهم، ويكفِّرون مَن قاتلَ علِياًّ، ويقولون إنَّ علياًّ إمامٌ معصومٌ، وقالوا: لا ولاءَ إلا ببراءٍ، أيْ لا يتولَّى أحدٌ علياًّ حتى يتبرَّأَ مِن أبي بكرٍ وعمرَ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ عليهم.
وأمَّا الخوارجُ فإنهم يكفِّرون علياًّ وعثمانَ ومَن وَالاهُما، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فقولُهم في الصَّحابةِ وسَطٌ لم يَغْلُوا غُلُوَّ الرَّافضةِ، ولم يَجْفُوا كالخوارجِ، بل وَالَوْا جميعَ الصَّحابةِ وأَحَبُّوهم وعرَفُوا فضْلَهُم وأنْزَلُوهم مَنازِلَهُم التي يستحِقُّونها، فلم يَغمِطوهم حقَّهُم، ولم يَغْلُوا فيهم واعتقدوا أنَّهم أفْضلُ هَذِهِ الأمَّةِ عِلماً وعَملاً، فرِضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعين).