28 Oct 2008
الدرس الثالث: التناسب بين رسالة نوح عليه السلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فَأَوَّلُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلى قَوْمِهِ لَمَّا غلوا في الصَّالحِينَ: وَدٍّ، وَسُواعٍ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ.
وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذي كَسَّرَ صُوَرَ هَؤُلاَءِ الصَّالحِينَ).
شرح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فَأَوَّلُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ(1) أَرْسَلَهُ اللهُ إِلى قَوْمِهِ لَمَّا غلوا في الصَّالحِينَ(2): وَدٍّ، وَسُواعٍ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ(3).
وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(4) وَهُوَ الَّذي كَسَّرَ صُوَرَ هَؤُلاَءِ الصَّالحِينَ(5)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ): ( (1) (فَأَوَّلُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نُوحٌ هو أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إلى أَهْلِ الأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} وَكَانَ بَنُو آدَمَ قَبْلَهُ عَشْرَةَ قُرُونٍ، كُلُّهُم عَلَى دِينِ الإِسْلاَمِ.
(2) (أَرْسَلَهُ اللهُ إِلى قَوْمِهِ لَمَّا غَلَوْا في الصَّالحِينَ)
فَأَوَّلُ مَا حَدَثَ الشِّرْكُ في قَوْمِ نُوحٍ بِسَبَبِ الغُلُوِّ؛ وهو
مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في مَحَبَّةِ الصَالِحِينَ وتَعْظِيمِهِم فَوْقَ مَا
شَرَعَهُ اللهُ؛ عَظَّمُوهُم تَعْظِيمًا غَيْرَ سَائِغٍ لَهُم بِأَنْ
عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِم، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُم، وإِنْ كَانُوا
مَا عَبَدُوهُم وإِنَّما عَبَدُوا الصُّوَرَ؛ لأَِنَّهُم لَمْ يَأْمُرُوهُم
بِعِبَادَتِهِم، وإنْ كَانُوا أَيْضًا لَمْ يَعْبُدُوا الصُّوَرَ وإِنَّما
عَبَدُوا الشَّيْطَانَ في الحَقِيقَةِ؛ لأَِنَّه الذي أَمَرَهُم.
وبه تُعْرَفُ مَضَرَّةُ الغُلُوِّ في الصَّالِحِينَ فإِنَّهِ الهَلاَكُ كُلُّ الْهَلاَكِ؛ فإِنَّ الشِّرْكَ بِهِم أَقْرَبُ إِلَى النُّفُوسِ مِن الشِّرْكِ بالأَشْجَارِ والأَحْجَارِ، وإِذَا وَقَعَ في القُلُوبِ صَعُبَ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا؛ ولهذا أَتَتِ الشَّرِيعَةُ بقَطْعِ وَسَائِلِهِ وذَرَائِعِهِ المُوصِلَةِ إِلَيْهِ والمُقَرِّبَةِ منه.
والوَسَائِلُ إِمَّا قَوْلِيَّةٌ أو فِعْلِيَّةٌ، وهؤلاء غَلَوْا فِعْلاً؛ غَلَوْا بِكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ إِلَى قُبُورِهِم، وهَذَا فيه مَشْرُوعٌ لكن زَادُوا فيه، وغَلَوْا بالعُكُوفِ وهو نَفْسُهُ عِبَادَةٌ ووَسِيلَةٌ إِلَى عِبَادَةِ أَرْبَابِهَا، فَلَمَّا رَأَى منهم الشَّيْطَانُ ذَلِكَ، زيَّنَ لَهُم تَصْوِيرَهُم.
وهَاتَانِ الذَّرِيعَتَانِ -التَّصْوِيرُ والعُكُوفُ- مِن أَعْظَمِ الوَسَائِلِ المُوصِلَةِ إِلَى الشِّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ ويَأْتِي.
(3) ثُمَّ ذَكَرَ المَغْلُوَّ فيهم: (وَدّ، وَسُوَاع، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْر)
وكَانُوا أَهْلَ خَيْرٍ وعِلْمٍ وصَلاَحٍ، فَمَاتُوا في زَمَنٍ
مُتَقَارِبٍ، فأَسِفُوا عَلَيْهِم، وفَقَدُوا مَا مَعَهُم مِن العِلْمِ،
فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ التَّرَدُّدَ إِلَى قُبُورِهِم واللُّبْثَ
عِنْدَهَا، ثُمَّ أَوْقَعَهُم فيما هو أَعْظَمُ مِن ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلاَ
أَدُلُّكُم عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ صَارَ أَهْونَ عَلَيْكُمْ
مِن التَّرَدُّدِ إِلَى قُبُورِهِم واللُّبْثِ عِنْدَهَا؛ فَدَلَّهُم عَلَى
تَصْوِيرِ تَمَاثِيلِهِم وقَالَ: إِذَا فَعَلْتُم ذَلِكَ كَانَ أَشْوَقَ
لَكُمْ إِلَى الإِكْثَارِ مِن العِبَادَةِ، فَكَأَنَّكُم تُشَاهِدُونَهُم
في مَجَالِسِهِم وعَلَى حَالاَتِهِم، ولَمْ يَكُنْ مَفْقُودًا منهم إِلاَّ
الأَجْسَامُ فَقَطْ؛ فَفَعَلُوا.
ثُمَّ انْقَرَضَ ذَلِكَ الجِيلُ وأَتَى جِيلٌ آخَرُ لَمْ يَدْرُوا لِمَ صُوِّرتْ تلك الصُّوَرُ.
فَقَالَ:
إنَّ مَن كَانَ قَبْلَكُم كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِمُ المَطَرَ،
يَعْنِي: يَسْأَلُونَهُم ويَزْعُمُونَ أَنَّهُم يَسْأَلُونَ اللهَ لَهُم.
فَوَقَعَ الشِّرْكُ في بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ الغُلُوِّ في الصَّالِحِينَ، فهو البَابُ الأَعْظَمُ المُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ باللهِ.
ولَمَّا
أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى قَوْمِهِ فَدَعَاهُم إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وحْدَه
ولَمْ يُجِبْهُ إِلاَّ القَلِيلُ، أَمَرَهُ اللهُ بصُنْعِ السَّفِينَةِ
فصَنَعَهَا، وأَرْسَلَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ الطُّوفَانَ وأَغْرَقَ
جَمِيعَ مَن عَصَوْهُ.
ورُوِيَ
أَنَّ السَّيْلَ أَلْقَى هذه الأَصْنَامَ في جُدَّةَ لَمَّا أُغْرِقَ
قَوْمُ نُوحٍ، ثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ سِنِينَ أَتَى إِبْلِيسُ إلى عَمْرِو
بنِ لُحَيٍّ الخُزَاعِيِّ -وكَانَ رَئِيسَ قَوْمِهِ تِلْكَ المُدَّةَ-
فَقَالَ لَهُ: ائْتِ جُدَّة، تَجِدْ بِهَا أَصْنَامًا مُعَدَّه، فَرِّقْهَا
في العَرَبِ، وادْعُ إِلَيْهَا تُجَبْ، فإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ
لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ مِنْهُم اثْنَانِ، فَفَعَلَ -لَعَنَهُ اللهُ-
فعُبِدَتْ.
(4) (وآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهو خَاتَمُ النَّبِيِّينَ كَمَا قَالَ تعَالَى: {وَلَـكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لاَ نَبِيَّ بَعْدِي)).
(5) (وَهُوَ الَّذي كَسَّرَ صُوَرَ هَؤُلاَءِ الصَّالحِينَ) المَعْبُودَةَ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ؛ صُوَرَ وَدٍّ وسُوَاعٍ ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرٍ.
فانْظُرْ
إِلَى آثَارِ الشِّرْكِ وعُرُوقِهِ إِذَا عَلِقَتْ مَتَى تَزُولُ
وتَنْمَحِي؟ فإنَّ هذه الأَصْنَامَ بَقِيَتْ مِن يَوْمِ عُبِدَتْ مِن دونِ
اللهِ حَتَّى بُعِثَ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكَسَّرَهَا.
فالشِّرْكُ إِذَا وَقَعَ عَظِيمٌ رَفْعُهُ وشَدِيدٌ؛فإِنَّ نُوحًا مَعَ كَمَالِ بَيَانِهِ ونُصْحِهِ ودَعْوَتِهِ إِيَّاهُم لَيْلاً ونَهَارًا سِرًّا وجِهَارًا أَخَذَ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا مَا أَجَابَهُ إلاَّ قَلِيلٌ، ومَعَ ذَلِكَ أَغْرَقَ اللهُ أَهْلَ الأَرْضِ كُلَّهُم مِن أَجْلِهِ، ومَعَ ذَلِكَ تِلْكَ الأَصْنَامُ الخَمْسَةُ مَا زَالَتْ حَتَّى بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكَسَّرَهَا.
فيُفِيدُكَ:
عِظَمَ
الشِّرْكِ إِذَا خَالَطَ القُلُوبَ صَعُبَ زَوَالُهُ، كَيْفَ أَنَّ
أَصْنَامًا عُبِدَتْ عَلَى وَقْتِ أَوَّلِ الرُّسُلِ ومَا كَسَّرَهَا
إِلاَّ آخِرُهُم).
شرح الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فَأَوَّلُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ(1) أَرْسَلَهُ اللهُ إِلى قَوْمِهِ لَمَّا غلوا(2) في الصَّالحِينَ(3): وَدٍّ، وَسُواعٍ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ(4).
وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(5) وَهُوَ الَّذي كَسَّرَ صُوَرَ هَؤُلاَءِ الصَّالحِينَ(6)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) هذا حقٌّ، فإنَّهُ لم يُبْعَثْ قبلَ نُوحٍ
علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رسولٌ، وبِهذا نَعْلَمُ خَطَأَ
المُؤَرِّخينَ الَّذينَ قالُوا: إنَّ إدْرِيسَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
كانَ قبلَ نُوحٍ؛(1) لأنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ}
[النساءُ: 163].
وفي الحديثِ الصَّحِيحِ في قِصَّةِ الشَّفاعةِ: ((أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ إِلَى نُوحٍ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ)).
فلا رسولَ قبلَ نُوحٍ بإجْماعِ العُلماءِ.
فنُوحٌ أوَّلُ الرُّسلِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ.
ونُوحٌ
عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أحَدُ الرُّسلِ الخمسةِ الَّذينَ همْ أُولُوا
العَزْمِ(2)، وهمْ: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم،
وإبْرَاهِيمُ، ومُوسَى، ونُوحٌ، وعِيسَى عليهم الصَّلاةُ والسلامُ، وقدْ
ذكَرَهم اللهُ في مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتابِهِ؛ في سُورةِ الأَحْزابِ
وسُورةِ الشُّورَى.
(2) يَعْنِي: أنَّ اللهَ أَرْسَلَ نُوحًا عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى قومِهِ لمَّا وَقَعَ فيهم الغُلُوُّ في
الصَّالِحينَ.
وقدْ بَوَّبَ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في كتابِ التَّوْحيدِ على هذهِ المَسْألةِ، فقالَ: (بابُ ما جاءَ أنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وتَرْكِهم دينَهم هُوَ الغُلُوُّ في الصَّالِحينَ).
والغُلُوُّ هوَ:مُجاوَزةُ الحَدِّ في التعَبُّدِ والعمَلِ والثَّناءِ قَدْحًا أوْ مَدْحًا(3).
والغلوُّ يَنْقَسِمُ إلى أربَعةِ أقْسامٍ: (4)
القسمُ الأوَّلُ: الغُلُوُّ في العَقِيدةِ، كغُلُوِّ أهلِ الكلامِ في الصِّفاتِ، حتَّى أَدَّى بهم إمَّا إلى التَّمثيلِ أو التَّعطيلِ.
والوَسَطُ مَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ بإثْباتِ
ما أَثْبَتَهُ اللهُ لِنفسِه، أوْ أَثْبَتَهُ لهُ رسولُهُ صلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الأسماءِ والصِّفاتِ مِنْ غيرِ تحريفٍ ولا
تَعْطيلٍ، ومِنْ غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ.
القسمُ الثَّاني: الغُلُوُّ
في العِباداتِ، كغُلوِّ الخَوارِجِ الَّذين يَرَوْنَ كُفْرَ فَاعِلِ
الكَبِيرةِ، وغُلُوِّ المُعتزلةِ حيثُ قالُوا: إنَّ فاعِلَ الكبيرةِ
بمَنْزِلةٍ بينَ المنزلَتَيْنِ، وهذا التَّشَدُّدُ قَابَلَهُ تَساهُلُ
المُرْجِئةِ حيثُ قالُوا: لا يَضُرُّ معَ الإيمانِ ذنْبٌ.
والوَسَطُ مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ:أنَّ فاعِلَ المَعصيةِ ناقِصُ الإيمانِ بِقَدْرِ المعصيةِ.
القسمُ الثَّالثُ: الغُلُوُّ
في المُعاملاتِ، وهوَ التَّشدُّدُ بتحريمِ كلِّ شيءٍ، وقَابَلَ هذا
التَّشدُّدَ تساهُلُ مَنْ قالَ بحِلِّ كلِّ شيءٍ يُنَمِّي المالَ
والاقتصادَ، حتَّى الرِّبا والغِشِّ وغيرِ ذلكَ.
والوَسَطُ أن يُقالَ:تَحِلُّ المُعاملاتُ المَبنيَّةُ على العَدْلِ، وهو ما وَافَقَ ما جاءَتْ بهِ النُّصوصُ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ.
القسمُ الرَّابعُ: الغُلُوُّ في العاداتِ، وهو التَّشدُّدُ في التمَسُّكِ بالعاداتِ القديمةِ، وعدمُ التَّحوُّلِ إلى ما هوَ خيرٌ مِنها.
أمَّا
إنْ كانَت العاداتُ مُتساوِيةً في المَصالحِ، فإنَّ كَوْنَ الإِنسانِ
يَبْقَى على ما هوَ عليهِ خيرٌ مِنْ تَلَقِّي العاداتِ الوافِدةِ.
(3) الصَّالحُ:
هوَ الَّذي قامَ بحقِّ اللهِ وبحقِّ عبادِ اللهِ(5).
(4) هذهِ أصنامٌ في
قومِ نُوحٍ عليهِ السَّلامُ، كانُوا رِجالاً صالِحينَ، وقدْ جاءَ في
صَحيحِ البُخَارِيِّ عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّهُ قالَ:
(هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا
هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَن انْصِبُوا إِلَى
مَجَالِسِهِم الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا
بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، وَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ
أُولَئِكَ وَنُسِيَ العِلْمُ عُبِدَتْ).
وهذا التَّفسيرُ فيهِ إشكالٌ؛ حيثُ يَقولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
(هذهِ أسماءُ رجالٍ صالحِينَ مِنْ قومِ نوحٍ)، وظاهرُ القرآنِ أنَّها قَبْلَ نُوحٍ، قالَ اللهُ تعالى: {قَالَ
نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ
سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [ نوحٌ: 21 - 23 ]، فظاهرُ الآيةِ أنَّ قومَ نوحٍ كانوا يَعْبُدُونَهم، وأنَّهُ نَهَاهم عنْ ذلكَ.
فسِياقُ
الآيةِ يَدُلُّ على ما ذَكَرهُ ابنُ عَبَّاسٍ، إلاَّ أنَّ ظاهرَ السِّياقِ
أنَّ هؤلاءِ القومَ الصَّالحينَ كانوا قبلَ نوحٍ عليهِ السَّلامُ(6)،
واللهُ أعلمُ.
(5) دليلُ ذلكَ قولُهُ تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزابُ: 40]، فلا نَبِيَّ بعدَ النَّبِيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإنْ قِيلَ: إنَّ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَنْزِلُ آخِرَ الزَّمانِ، وهوَ رَسولٌ.
فنَقولُ:
هذا حقٌّ، ولكنَّهُ لا يَنْزِلُ على أنَّهُ رسولٌ مُجَدِّدٌ، بلْ يَنْزِلُ
على أنَّهُ حَاكِمٌ بشَرِيعةِ النَّبيِّ محمَّدٍ عليهِ الصَّلاةُ
والسَّلامُ؛ لأنَّ الواجبَ على عِيسَى وعلى غيرِهِ مِن الأنبياءِ الإيمانُ
بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتِّباعُهُ ونَصْرُهُ، كما قالَ
اللهُ تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا
أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [ آلُ عمرانَ: 81 ]،
وهذا الرَّسولُ المُصَدِّقُ لِمَا مَعَهُمْ هوَ مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما صَحَّ ذلكَ عن الصَّحابيِّ الجليلِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي اللهُ عَنْهُ وغيرِهِ(7).
(6)
أيْ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَرَ صُوَرَ
الأصنامِ، وذلكَ يومَ الفتْحِ حينَ دَخَلَ الكعبةَ، فوَجَدَ حَوْلَهَا
وفيها ثلاثَمِائةٍ وسِتِّينَ صَنَمًا، وجَعَلَ يَطْعَنُها عليهِ الصَّلاةُ
والسَّلامُ بالحَرْبَةِ، وهوَ يَتْلُو قولَهُ تعالى: {جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراءُ: 81].
حاشية الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي على شرح ابن عثيمين
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) في التسليم بكونه خطأً كما ذكر المصنف ـ رحمه
الله ـ نظر، إذ هو المستفيض عند الأخباريين وأهل النسب، وما تعلق به من أن
نوحاً أول الرسل لا يدفع القول بأن إدريس قبله؛ لأنه كان نبياً ولم يكن
رسولاً مثله مثل آدم عليهما الصلاة والسلام.
(2) أولوا العزم: هم المتصفون به من الرسل كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ولم يصح في تعيينهم شيءٌ مأثور، لكن يستدل للقول المشهور فيهم بحديث الشفاعة الطويل مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.
(3) الثناء
يكون بالقدح كما يكون بالمدح ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وجبت))، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال: ((وجبت))، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)) ) متفق عليه واللفظ للبخاري.
وتعريف الغلو شرعاً: بأنه مجاوزة الحد في الدين، أقوم كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}.
(4) مأخذ هذه القسمة غير محرر، وأصح مأخذاً أن يقال:
الغلو ينقسم إلى قسمين:
الأول: غلو في باب الخبر.
والثاني: غلو في باب الطلب.
لأن
الغلو ـ كما تقدم ـ متعلق بالدين، والدين إما خبر، وإما طلب.
(5) فيندرج في (الصالح) بهذا المعنى كل من أجاب إلى حق الله وحق عباده من الرسل فمن دونهم، ويطلق تارةً ويراد به بعض أفراد المستجيبين لربهم كما في قوله تعالى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا}.
(6) نعم هم كانوا قبل نوح عليه الصلاة والسلام وهم من قومه فليس المقصود بقوم نوح من بُعث إليهم، بل هم الذين بعث منهم، كما يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش، ويدخل في اسم قريش من تقدمه منهم ممن لم يدرك دعوته.
(7) أخرجه ابن جرير الطبري في (جامع البيان) وابن أبي حاتم في (تفسيره) وفي تصحيح إسناده نزاع.
شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فَأَوَّلُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلى قَوْمِهِ لَمَّا غلوا في الصَّالحِينَ: وَدٍّ، وَسُواعٍ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ.
وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذي كَسَّرَ صُوَرَ هَؤُلاَءِ الصَّالحِينَ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قال: (فأولهم نوح عليه السلام)
نوح هو أول الرسل، وهو من أولي العزم من الرسل، وهو -عليه السلام- الذي
جعل الله -جل وعلا- ذريته هم الباقين في الأرض، أما آدم فإنه نبي مكلَّم
وليس برسول كما جاء في بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((آدم نبي مكلم)).
نوح-عليه السلام- بعث إلى قوم أشركوا بالله -جل وعلا- وشركهم كان في الصالحين.
قال: (أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين) الغلو: هو مجاوزة الحد، غلا في الشيء: جاوز الحد فيه، وتأليه البشر مجاوزة للحد.
وهؤلاء الصالحون:أولهم وَدّ، وَوَدٌّ هذا كان من عباد الله الصالحين، وهو أول من أُشرك به على الأرض، لما مات صوروا صورته كما يأتي في حديث ابن عباس.
فقوم
نوح تتابعوا من ذرية آدم، وذرية آدم على التوحيد، حتى أتى هؤلاء الصالحون:
ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، كانوا قوماً صالحين، فهنا شاع في الناس الرغبة
في الدنيا والبعد عن تذكر الآخرة، فكانوا إذا أرادوا أن يتشجعوا في العبادة
ذهبوا إلى هؤلاء - إلى قبورهم - إلى ود وإلى سواع وإلى يغوث وإلى يعوق
وإلى نسر فنظروا في قبورهم وبكوا عندها، فتشجعوا في العبادة ورجعوا.
فجاء
الشيطان، فتكلم عند قبرهم، قال: (ألا تصنعون أو ألا أصنع لكم صورة تتذكرون
بها وداً، وتتذكرون بها سواعاً؟) فصنع لهم صورة على هيئته، فجعلوها على
قبورهم، وثن وصنم، ثم بعد ذلك، يعني: هم حينما جعل ذلك أولاً ليس معبوداً
ولكن للتذكر ينظرونه فيتذكرونه، وأعمارهم كانت طويلة، ثم بعد ذلك قال: ألا
تجعلون من كل واحد صورة في بيت كل واحد منكم حتى يتذكر، ثم نقلهم بعد ذلك
إلى أن يُصحبوا في السفر، إلى آخره.
شاع في أولئك لأجل التذكر ولأجل الحث على العبادة، ولم يكن أول ذلك الجيل مشركاً.
فيما
بعدهم ذهب ذلك العلم، وقالوا: (ما اتخذ آباؤنا هذه الصور إلا لأنها آلهة،
إلا لأنها معظمة، فتوجهوا إليها بطلب التوسط، قالوا: هؤلاء لهم مكانة عند
الله؛ لأنهم صالحون فنتوسط بهم فيما نريد) فصار شرك قوم نوح من جهة التوسط
بالأرواح؛ أرواح صالحي بني آدم.
ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، ذكرهم الله -جل وعلا- في القرآن في سورة نوح، حيث قال جل وعلا: {وَقَالُوا
لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعاً وَلا
يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً}.
قال العلماء في قوله: {وَدًّا وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ}
فيها أن ودًّا هو الأَوَّل، وسُوَاعاً هو الثاني، ويغوث هو الثالث، وفيها
أيضًا تنبيه على أن هذه الآلهة متفاضلة عندهم، لأنه أتى في الثلاث الأول
بحرف (لا)، وفي الآخرة بلا حرف (لا)، {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} فلم يأت بحرف (لا) لأجل أن يفاضلوا بين أولئك وبين هذه.
فهذه
الآلهة كانت متفاضلة عندهم، وهذا التفاضل الّذي يُشعِرُ به اللفظ - كما
ذكره طائفة من المفسرين - هذا التفاضل إنما هو بتفاضل مصلحتهم من هذه
الآلهة والتوجّه بها، وهذا هو الموجود في هذا الزمن، وفي زمن الشيخ وزمن
انتشار الشركيات، فإن عند عبّاد القبور وعبّاد الأولياء أولئك ليسوا
متساوين؛ فبعضهم أقطاب وبعضهم أوتاد وبعضهم غوث، وهكذا.
فإذاً: التفاضل من جهة الروحانيات،من
جهة التوسط كان موجودًا في زمن نوح عليه السلام، فصرنا على أن ما كان في
زمن نوح عليه السلام، أن هؤلاء صالحون، وأنهم لم يعبدوا باتّخاذ قبورهم
أوثانًا من أول الأمر، وإنما عُبدوا بعد زمن لمّا نسي أول الأمر من اتخاذ
صورهم للتنشيط في العبادة، وعبد بعد ذلك.
- ففيه:أن الشيطان أتاهم بألا تسد الذرائع في هذا الباب، فجاء الأمر شيئًا فشيئًا حتى عبدوا تلك الآلهة.
- وفيه:أن
هؤلاء متفاضلون في الصلاح عندهم، وفيما ذكرنا أيضًا أن تفاضلهم إنما هو من
جهة أثر توسطهم بهذه الآلهة على ما يريدون من إنجاح حوائجهم.
ولهذا
ذكر البخاري في كتاب التفسير، في تفسير سورة نوح، قال: باب ودّ وسواع
ويغوث ويعوق ونسر، وذكر الحديث المعروف حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس
أنه قال في هذه الآية: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح).
وهذا
القدر وهو أنهم أسماء رجال صالحين هو الذي يعارض فيه كثير من المعارضين
اليوم، ويقولون: إن هذه الأسماء أن تعد أسماء رجال صالحين لم تأت إلا في
هذا الحديث عن ابن عباس، وهذا الحديث رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس،
وابن جريج له تفسير معروف، وفي تفسيره ذكر التصريح بأن عطاء هذا هو عطاء
الخراساني، كذلك ذكره عبد الرزاق في تفسيره - وهو مطبوع، طبع مؤخراً - قال:
(عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس) والعلماء يقولون علماء الجرح
والتعديل: (إن عطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس).
لهذا قال أولئك: هذه الرواية ضعيفة، وليست بصحيحة، وإن رواها البخاري.
والجواب عن ذلك:أن
ابن عباس -رضي الله عنهما- حينما ذكر أنها أسماء رجال صالحين، جعل البخاري
-رحمه الله تعالى- تلك الرواية أصلاً في تفسير الآية، ورواها بإسناده
المتصل إلى ابن عباس، وكون عطاء عند البخاري أتى بلا نسبة لا يعني أنه عند
البخاريعطاء الخراساني.
ودللوا
على ذلك بأن التفريق في روايات ابن جريج عن عطاء بأن منها ما هو عن
الخراساني خاصةً في التفسير إنما هو عن علي بن المديني، وعلي بن المديني
معروف في أنه إمام في العلل، وله كتاب في العلل، وكتبه معروفة مشهورة في
ذلك، والبخاري -رحمه الله- تلميذه؛ فلا يخفى عليه تعليل علي بن المديني
لهذه الرواية.
أنا
أُفصل هذا لأن الدعاة إلى عبادة القبور أو إلى أن التوسط بالصالحين ليس هو
شرك المشركين، الدعاة قالوا عمدتكم في ذلك رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس
ضعيفة، وإن رواها البخاري في صحيحه، فهذا رد لهذه الشبهة.
نقول: البخاري قال عن ابن جريج قال: قال عطاء عن ابن عباس.
ومن
المتقرر في علم الرجال أن ابن جُرَيج إذا قال: قال عطاء، وهو - يعني ابن
جريج - ممن عرف بالتدليس فإن قوله: قال عطاء محمول على السماع، وسماعه إنما
هو من عطاء بن أبي رباح، وليس من عطاء الخراساني، فنستدل بذلك على أن هذه
الرواية عند البخاري إنما هي عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس،
فإسنادها متصل في غاية الصحة، وابن حجر -رحمه الله - حينما عرض لهذه
المسألة قال: (وهي عندي - يعني هذه المسألة - عن عطاء الخراساني وعن عطاء
بن أبي رباح جميعًا).
لأن
البخاري -رحمه الله- مشترط في صحيحه ألا يروي الحديث إلا إذا كان متصلاً،
وهو لا يخفى عليه أن ابن جريج يروي عن عطاء الخراساني بانقطاع؛ وأن عطاءَ
الخرَاسَاني روايته عن ابن عباس ضعيفة، لا يخفى عليه ذلك؛ لأن هذا من
مشاهير العلم، ولأنه لم يرو بهذه الترجمة مما يظن أنه عن عطاء الخراساني
إلا حديثين رواها مسندة متصلة، فمن نازع في صحتها ينازع البُخَارِي -رحمه
الله- في تصحيحه لها، هذا واحد.
الثاني: أن
عَطاءَ في الرواية هو عطاء ابن أبي رباح، ولو كان روي في تفسير عبد الرزاق
وتفسير ابن جريج التصريح بأنه عطاء الخراساني، فإن ابن جريج قد يسمع من
هذا، وهذا يعني: قد يأخذ من عطاء بن أبي رباح، وقد يأخذ بواسطة عن عطاء
الخراساني، فهذا محتمل، وتغليط البخاري -رحمه الله- في تصحيحه للحديث غير
وارد.
الثالث: أن
الذين ذكروا هذه العلة ليسوا من المتقدمين من حفاظ الأحاديث، وإنما هم من
المتأخرين، والمتقدمون من أهل الحديث أدرى بالبيت؛ لأن فهمهم في العلل أعظم
من فهم من بعدهم.
فنخلص من ذلك إلى
أن رواية ابن عباس هذه هي الأصل في هذا الباب، وأن ودًّا وسواعًا ويغوث
ويعوق ونسرًا أنها أسماء رجال صالحين صارت في العرب، وأن أولئك لم يعبدوها
أول الأمر، وإنما أتاهم الشيطان فمثل لهم صوراً (فلما تنسّخ العلم) وفي
رواية (فلما نسي العلم عُبدت) يعني: لما نسي التوحيد وتنسّخ العلم ورثها
أناس لم يعرفوا حقيقة الأمر فعبدت.
يدل
على ذلك أن ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا هذه صارت في العرب معروفة،
وأبيات الشعر التي حُفظت عن العرب في ذلك في ذكر هذه الأصنام مشهورة.
فالله -جل وعلا- ذكرها عن قوم نوح، وهي موجودة في العرب بهذه الأسماء، والأشعار بها محفوظة.
ويؤيد
ذلك أيضاً أن العرب فيهم التعبيد لهذه الآلهة؛ فيهم من اسمه عبد ود، وفيهم
من اسمه عبد يغوث، وفيهم من اسمه عبد نسر وهكذا؛ فالتعبيد لها يدل على
أنها موجودة في العرب، وهي موجودة في قوم نوح بنص القرآن.
فلما
كان كذلك صارت هذه الرواية متفقة مع ظاهر القرآن، ومتفقة مع واقع العرب
المعروف الذي حفظ، فمن طعن فيها فإنما هو من جهة عدم استيعابه للمسألة.
كل شرك في العالم كان راجعاً إلى أحد نوعين لا ثالث لهما:
الأول: راجعٌ إلى أرواح الناس، أرواح الصالحين.
والثاني: راجع إلى أرواح الكواكب.
فالشرك بأرواح الصالحين كان في قوم نوح، والشرك بأرواح الكواكب كان في قوم إبراهيم.
وهل الكوكب له روح؟
الجواب:لا،
ولكن جعلوا لكل كوكب صنمًا، صوروا فيه شكل الكوكب؛ فلما كان كذلك زعموا أن
روحانية الكوكب تحل فيه؛ فتتقبّل ممن يأتي لها ويطلب، فترفع الحوائج إلى
الكوكب.
وعند هؤلاء الصابئة أن الكواكب تسيِّر العالم، وأن كل كوكب له أثر في العالم.
والصابئة الذين هم قوم إبراهيم، كان شركهم من جهة الكواكب كما هو معروف، قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً} الآيات.
فشركهم كان من جهة الكواكب.
لِمَ أشركوا بالكواكب؟
لأنهم
لما وضعوا الأوثان لهذه الكواكب جاءت الشياطين فتكلّمت عند الوثن، عند
الصنم، فلما تكلمت طلبوا منها أشياء فتحقق لهم ذلك ،فظنّوا أن الكواكب
مسيِّرة لأحداث هذا العالم.
فإذاً: نخلص من ذلك إلى أن الشرك وقع من جهة الشياطين في الجهتين،شياطين تكلمت بلسان الصالحين، تكلمت على أنها روح الصالح، فطلب منها وأجابت وعملت أشياء.
وشياطين تكلمت على لسان - كما يزعم أصحابه - لسان الكوكب، وكل شرك متفرع على أحد هذين النوعين:
- إمّا شرك بالعلويّات.
- أو شرك بالسفليات.
حقيقة الأمر أن الشياطين حينما تقول ذلك هي عبادة الجنّ، حينما يُطلب منها، فإن المعبود هو الجنِّي وليس هو الإنسي.
قال: (وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين) (هو الذي كسر) يعني بنفسه أو بمن أرسل.
محمد-عليه الصلاة والسلام- لما دخل مكة عام الفتح دخل وكان حول الكعبة أصنام كثيرة، فجعل ينكتهم بعصاه -عليه الصلاة والسلام- ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا}.
وكان من الأصنام:
إساف ونائلة، وكانت موجودة بجنب الكعبة.
ومنها:هبل،
وكان هبل من الأصنام التي في داخل الكعبة؛ لأن الكعبة كان في داخلها صور
وأصنام، وكان أيضاً بقربها - يعني على حافة الكعبة -كانت ثم أصنام، وهناك
أصنام أيضاً بعيدة حول المطاف، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كسر هذه
جميعاً.
ومن العجائب في ذلك:
أن
المؤرخين اتّفقوا على أن إساف رجل ونائلة امرأة، وأن إساف كان يتعشّق
نائلة، وأنهما قدما حاجَّين، وأنه لم يتمكن منها إلا في غفلة من الناس،
أتاها في الكعبة - والعياذ بالله - قال المؤرخون: فمسخا حجرين فأخرجوهما -
مسخا حجرين في داخل الكعبة - فلما نظر الناس إليهما عرفوا أن هذه صورة إساف
وصورة نائلة في الكعبة؛ فعلم أنهما أحدثا حدثًا، فأخرج الناس الحجرين إلى
خارج الكعبة ليعتبر الناس بحال من عصى في الحرم، فيكون ذلك أبلغ في إبعاده،
فأتى الزمان حتّى عُبِدَ (إساف) وعُبِدَت (نائلة).
(هبل)كان في داخل الكعبة، وكان هو أعظم الأصنام والصور التي في داخلها، وهكذا.
أما ودٌّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر فلم تكن من الأصنام التي حول الكعبة، وكانت متفرقة في العرب.
فقوله: (وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين) يعني: بمن أرسل، فإنه لما انتشر الإسلام فكل قوم فيهم هذا الوثن، أو هذا الصنم، كسره أصحابه بأمر النبي عليه الصلاة والسلام.
وقولنا:
بأمر النبي، ليس أمرًا خاصًّا بهذا الصنم، ولكن أمراً عاماً بكسر الأصنام
والأوثان، ومن أصنامهم اللات والعزى ومناة كما هو معروف.
تعبير الشيخ -رحمه الله- بقوله: (صور هؤلاء الصالحين) هذا مقصود؛ لأن أولئك جعلوا الصورة، وهل جعلهم الصورة لقصدها أم لأجل أنها توصل إلى صاحبها؟
معلوم
أن المشركين ليسوا قاصدين للصور من حيث هي،لم يقصدوا الصنم من حيث هو،
وإنما عندهم الصنم وسيلة إلى روح صاحبه، الوثن وسيلة إلى ما يحل بالبقعة،
أو يحل بالشيء من أرواح.
فإذاً:
هم قصدهم الأرواح التي تصعد إلى الملأ الأعلى فتوصل طلباتهم،وتوصل
حوائجهم، وما يريدون إلى الله جل وعلا، فيستجيب الله -جل وعلا- بهذه
الوساطة، هذه خلاصة شرك المشركين.
وأولئك الذين أشركوا هذا الشرك لم يكونوا بعيدين عن التعبد، بل كما ذكر الشيخ -رحمه الله- هنا: قال: (أرسله الله إلى أناس يتعبدون) ).
العناصر
- أول الرسل نوح عليه السلام
- أرسل نوح إلى قومه لما غلوا في الصالحين وعبدوهم
- معنى الغلو
- أقسام الغلو
- بيان حد الصالح من عباد الله؟
- تفسير قول الله تعالى: ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعاً ...) الآية
- بيان كيف بدأ الشرك في الأرض
- بيان كيف بدأ الشرك في جزيرة العرب
- ذكر أولي العزم من الرسل
- كفر من اعتقد بعثة نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم
بيان أن الشرك بالله على نوعين (شرك بأرواح الصالحين، وشرك بأرواح الكواكب)
بيان أن آخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم
- بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين
الأسئلة
س1: من أول الرسل؟ ولمن بعث؟ ولماذا؟
س2: بيّن معنى الغلو، واذكر أقسامه.
س3: كيف بدأ الشرك في الأرض؟
س4: كيف بدأ الشرك في جزيرة العرب؟
س5: من هم أولوا العزم من الرسل؟ مع ذكر الدليل.
س6: متى يكون الرجل صالحاً؟
س7: كيف تردّعلى من قصَر معنى التوحيد على توحيد الربوبية؟
س8: بين معنى العلم، وأقسامه من حيث الحاجة إلى الاستدلال.
س9: اذكر مراتب الإدراك مع بيان كل مرتبة.
س10: اذكر ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: {وقالوا لا تذرنّ آلهتكم …} الآية، واذكر ما قيل في الاعتراض عليه، وبيّن جواب الاعتراض.
س11: بين معنى (كشف الشبهات)
س12: تحدث باختصار عن حال الناس في الجزيرة العربية زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
س13: من آخر الرسل؟ ولمن بعث؟ ولم؟
شرح كشف الشبهات لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فَأَوَّلُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلى قَوْمِهِ لَمَّا غلوا في الصَّالحِينَ(1): وَدٍّ، وَسُواعٍ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ(2).
وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذي كَسَّرَ صُوَرَ هَؤُلاَءِ الصَّالحِينَ(3)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1) كَمَا قَالَ اللهُ -سُبْحَانَه وتَعَالَى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} فَدَلَّت الآيَةُ الكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الرُّسُلِ هو نُوحٌ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- فَنُوحٌ هو أَوَّلُ رَسُولٍ بعدَ حُدُوثِ الشِّرْكِ في الأَرْضِ، وتَتَابَعَتْ بَعْدَه الرُّسُلُ عَلَى هذا المَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ، وآخِرُهُم مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وهو خَاتَمُهُم، ولاَ نَبِيَّ بَعْدَه إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَه وتَعَالَى-: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي)) فهو آخِرُ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- وآخِرُ الأَنْبِياءِ؛ لأَِنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، فَلاَ يُبْعَثُ بعدَه لاَ رَسُولٌ ولاَ نَبِيٌّ، فَمَن اعْتَقَدَ أَنَّه يُبْعَثُ بَعْدَه رَسُولٌ أو نَبِيٌّ فهو كَافِرٌ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((وَسَيَخْرُجُ بَعْدِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي)) فَمنْ لَمْ يَعْتَقِدْ خَتْمَ الرِّسَالَةِ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وأَجَازَ أنْ يُبْعَثَ بعدَه نَبِيٌّ فهو كَافِرٌ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، مُكَذِّبٌ للهِ ولرَسُولِهِ ولإ جْمَاعِ المُسْلِمِينَ.
(2) هذه
أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ مَاتُوا في عَامٍ واحِدٍ
فحَزِنَ قَوْمُهُم عَلَيْهِم حُزْنًا شَدِيدًا، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ
إِلَيْهِم وقَالَ لَهُم: صَوِّرُوا صُورَهُم، وانْصِبُوهَا عَلَى
مَجَالِسِهِم مِن أَجْلِ أنْ تَتَذَكَّرُوا أَحْوَالَهُم، فَتَنْشَطُوا
عَلَى العِبَادَةِ؛ جَاءَهُم عن طَرِيقِ النَّصِيحَةِ، وهو يُرِيدُ لَهُم
الْهَلاَكَ، فَخَدَعَهُم بِهَذِه الحِيلَةِ، واعْتَبَرُوا هذه وَسِيلَةً
صَحِيحَةً؛ لأَِنَّها تُنَشِّطُ عَلَى العِبَادَةِ، فهذا فيه التَّحْذِيرُ
مِن فِتْنَةِ الصُّوَرِ، وفِتْنَةِ الغُلُوِّ في الصَّالِحِينَ، وهؤُلاَءِ
نَظَرُوا لِمَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ ولَمْ يَنْتَبِهُوا لِمَا يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا مِن المَفَاسِدِ، فالإِنْسَانُ لاَ يَنْظُرُ إِلَى المَصْلَحَةِ
الجُزْئِيَّةِ ويَنْسَى المَضَارَّ العَظِيمَةَ الَّتِي تَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا فِي المُسْتَقْبَلِ.
إلى أَنْ جَاءَ عَهْدُ الطَّاغِيَةِ مَلِكٍ مِن مُلُوكِ العَرَبِ يُقَالُ لَهُ:
عَمْرُو بنُ لُحَيٍّ الخُزَاعِيُّ، وكَانَ له سُلْطَانٌ عَلَى الحِجَازِ، وكَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِه رَجُلاً نَاسِكًا عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، ولَكِنْ ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ للعِلاَجِ فَوَجَدَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ، فَدَخَلَ في فِكْرِه هذا الشَّيْءُ، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِ الحِجَازِ والجَزِيرَةِ فَدَعَاهُم إِلَى الشِّرْكِ، وجَاءَ الشَّيطَانُ فَأَرْشَدَهُ إِلَى مَوَاطِنِ الأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ عِنْدَ قَوْمِ نُوحٍ، والَّتِي سَفَى عَلَيْهَا الرَّمْلُ بعدَ الطُّوفانِ، فَحَفَرَها ونَقَّبَ عَنْهَا، فاسْتَخْرَجَهَا ووَزَّعَهَا عَلَى أَحْياءِ العَرَبِ، فانْتَشَرَ الشِّرْكُ مِن ذَلِكَ الوَقْتِ.
وكَانَتْ هذِه الأَصْنَامُ المَوْرُوثَةُ عن قَوْمِ نُوحٍ هي أَكْبَرَ الأَصْنَامِ، وإلاَّ فَلَهُم أَصْنَامٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى إِنَّه كَانَ عَلَى الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وسِتُّونَ صَنَمًا، وكَانَت اللاَّتُ والعُزَّى ومَنَاةُ الثَّالِثَةُ الأُخْرَى هي أَكْبَرَ أَصْنَامِهِم.
(3)
هذه حَالُ العَرَبِ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ،
ودَعَاهُم إِلَى التَّوْحيدِ بِمَكَّةَ، وبَقِيَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً
يَدْعُوهُم إِلَى التَّوْحِيدِ، ويُنْكِرُ عَلَيْهِم عِبَادَةَ
الأَصْنَامِ، فاسْتَجَابَ له مَن أَرَادَ اللهُ له الهِدَايَةَ مِن
الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ إنَّ اللهَ
أَذِنَ لَهُم بالهِجْرَةِ إِلَى الحَبَشَةِ ثُمَّ إلى المَدِينَةِ.
وهَاجَرَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إلَى المَدِينَةِ،
واجْتَمَعَ حَوْلَه المُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ، وكَوَّنَ جُيُوشَ
التَّوْحِيدِ وصَارُوا يَغْزُونَ المُشْرِكِينَ.. إِلَى أَنْ جَاءَ فِي
السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِن الهِجْرَةِ إِلَى مَكَّةَ فَاتِحًا، وصَارَتْ
مَكَّةُ تَحْتَ سُلْطَةِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-
وعندَ ذَلِكَ كَسَّرَ هذه الأَصْنَامَ الَّتِي عَلَى الكَعْبَةِ، وغَسَلَ
الصُّوَرَ الَّتِي في جَوْفِ الكَعْبَةِ، وأَرْسَلَ إِلَى الأَصْنَامِ
الَّتِي حَوْلَ مَكَّةَ (اللاَّتِ والعُزَّى ومَنَاةَ) مِن الصَّحَابَةِ
مَن كَسَّرَهَا وهَدَمَهَا وانْتَشَرَ التَّوْحِيدُ وانْدَحَرَ الشِّرْكُ،
وللهِ الحَمْدُ.
وهذا
مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ: (كَسَّرَ صُوَرَ هَؤُلاَءِ
الصَّالِحِينَ) وذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وطَهَّرَ اللهُ بِهِ
حَرَمَهُ الشَّرِيفَ مِن هذه الأَصْنامِ.
وامْتَدَّ
التَّوْحِيدُ مِن بَعْثَتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وعَهْدِ
الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وعَهْدِ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ كُلِّهَا
خَالِيًا مِن الشِّرْكِ، فَلَمَّا انْتَهَت القُرُونُ المُفَضَّلَةُ
انْتَشَرَ التَّصَوُّفُ والتَّشَيُّعُ، وعندَ ذَلِكَ حَدَثَ الشِّرْكُ فِي
الأُمَّةِ بعِبَادَةِ القُبُورِ والأَضْرِحَةِ وتَقْدِيسِ الأَوْلِيَاءِ
والصَّالِحِينَ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، وهَذَا الشِّرْكُ مَوْجُودٌ فِي
الأُمَّةِ، ولَكِنْ يُقَيِّضُ اللهُ -جَلَّ وعَلاَ- مَنْ يُقِيمُ الحُجَّةَ
عَلَى العِبَادِ مِن الدُّعَاةِ المُخْلِصِينَ.
وهَكَذَا يَنْبَغِي ويَجِبُ عَلَى طَلَبَةِ العِلْمِ والدُّعَاةِ أنْ يَهْتَمُّوا بِهَذَا الأَمْرِ،وأَنْ
يَجْعَلُوا الدَّعْوَةَ للتَّوْحِيدِ وإِنْكَارِ الشِّرْكِ ودَحْضِ
الشُّبُهَاتِ مِن أَوْلَوِيَّاتِ دَعْوَتِهِم، فَهَذَا هو الوَاجِبُ.
وهذه دَعْوَةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِم الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؛ لأَِنَّ
كلَّ أَمْرٍ يَهُونُ دُونَ الشِّرْكِ، مَا دَامَ الشِّرْكُ مَوْجُودًا
فَكَيْفَ تُنْكَرُ الأُمُورُ الأُخْرَى! لاَ بُدَّ أَنْ نَبْدَأَ
بإِنْكَارِ الشِّرْكِ أَوَّلاً، ونُخَلِّصَ المُسْلِمِينَ مِن هذه
العَقَائِدِ الجَاهِلِيَّةِ، ونُبَيِّنَ لَهُم بالحُجَّةِ والبُرْهَانِ
وبالجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ إِذَا أَمْكَنَ ذلك، حتَّى تَعُودَ
الحَنِيفِيَّةُ إلى المُسْلِمِينَ، كُلٌّ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ
ومَقْدِرَتِهِ في كُلِّ مَكَانٍ وزَمَانٍ.
يَجِبُ عَلَى الدُّعَاةِ أَلاَّ يَغْفُلُوا عن هَذَا الأَمْرِ،ويَهْتَمُّوا
بأُمُورٍ أُخْرَى ويَبْذُلُوا جُهُودَهُم فيها ويُغَطُّوا أَعْيُنَهُم عَن
وَاقِعِ النَّاسِ الوَاقِعِينَ في الشِّرْكِ وعِبَادَةِ الأَضْرِحَةِ
واسْتِيلاَءِ الخُرَافِيِّينَ وطَوَاغِيتِ الصُّوفيَّةِ عَلَى عُقُولِ
النَّاسِ، هَذَا أَمْرٌ لاَ يَجُوزُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ، وكُلُّ دَعْوَةٍ
لاَ تَتَّجِهُ للنَّهيِ عنه فهي دَعْوَةٌ نَاقِصَةٌ أو دَعْوَةٌ غَيْرُ
صَالِحَةٍ أو دَعْوَةٌ غَيْرُ مُثْمِرَةٍ.
كَمَا
أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الإِقْرَارَ بتَوْحِيدِ
الرُّبُوبِيَّةِ لاَ يَكْفِي ولاَ يَنْفَعُ إلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهُ
الإِقْرَارُ بِتَوْحيدِ الأُلُوهِيَّةِ، وتَحَقُّقُهُ قَوْلاً وعَمَلاً
واعْتِقَادًا؛ لأَِنَّ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِم
نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- كَانُوا مُقِرِّينَ
بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبيَّةِ، ولَمْ يَنْفَعْهُم إِقْرَارُهُم بِهِ لَمَّا
كَانُوا جَاحِدِينَ لِتَوْحيدِ الأُلُوهِيَّةِ.