الدروس
course cover
الدرس الثاني عشر: توصيات وتنبيهات
14 Mar 2018
14 Mar 2018

7613

0

0

course cover
أصول القراءة العلمية

القسم الثاني

الدرس الثاني عشر: توصيات وتنبيهات
14 Mar 2018
14 Mar 2018

14 Mar 2018

7613

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الثاني عشر: توصيات وتنبيهات


هذا الدرس هو خاتمة دروس هذه الدورة وسأذكر فيه جملة من التوصيات والتنبيهات لما فاتني ذكره في الدروس السابقة ليكون كالتتميم لفوائدها ، والجواب على ما وردني من أسئلة الدارسين.

الوصية الأولى: التذكير بأن القراءة لتعلّم العلم الشرعي عبادة:
وهذا الأمر إنما كررت التنبيه عليه لأجل حاجة طالب العلم إلى احتساب وقته وجهده في قراءة كتب العلم، وليعلم أن الشيطان يشتدّ كيده على من سلك سبيلاً يحبّه الله ويرضاه ليصرفه عن سبيل نجاته ورفعته، وهذه القضية إذا كانت حاضرة في ذهن طالب العلم أعانته على دفع كثير من الآفات التي تحول بين القراء وبين الانتفاع من قراءتهم، وربّ قارئين متجاورين بينهما كما بين السماء والأرض من الفضل وتفاوت المراتب؛ فالأوّل متعبّد لله بقراءته، مجاهد لنفسه، يحرّك قلبه بما يقرأ، متطلّع لما يقرّبه إلى الله، والآخر في غفلات عن هذه العبادات، بل مبتلى بآفات من الكبائر الباطنة كالعجب والحسد والبغي.
فأوصي نفسي وإخواني من طلاب العلم بمعرفة قدر ما أنعم الله علينا من نعمة الأبصار والأفئدة والقراءة والكتابة وأن نجتهد في شكر تلك النعم بصرفها فيما يقرّب إلى الله تعالى، وأن نحذر كلّ الحذر من اتّباع خطوات الشيطان والقراءة فيما يضرّ ولا ينفع، فأدنى ما يصيب العبد منها ذهاب الوقت في غير نفع، وشتات القلب، وتشويش الذهن، ومزاحمة الأعمال الفاضلة وإضعاف ثمرتها.

الوصية الثانية: التحذير من تثبيط المثبطين عن القراءة في كتب أهل العلم:
احذر تثبيط المثبطين وتعويق والمعوّقين عن القراءة في كتب أهل العلم، وما تنفث به أفواههم من سموم تفتك بالهِمَم ، وتوهن العزائم، وتزهّد بالفاضل وتولع بالواهي والمفضول، وليكن لك حصن حصين من اليقين بنفع القراءة في كتب العلماء، والبصيرة بفضلها، والاتساء بأهل العلم والإيمان في دراستهم وقراءتهم،
وانتهج نهجهم، واتّبع سبيلهم.
واعتبر بحال المخدوعين بتلك المثبطات؛ وكيف صرفتهم عن سبيل رفعتهم حتى جرفتهم إلى جرف هار فانهار بهم إلى درك الحرمان والشقاء؛ فكم من مخدوع بتزيين علم ضارّ حتى فتن به وصار هلاكُه بسببه، وكم من مخدوع بالتثبيط عن القراءة النافعة مسترسل مع النفس في تسويفها حتى فترت عزيمته، وسفلت همّته، وغُبِنَ في زهرة عمره وريعان شبابه، وعاد عاميّا بعد أن كان معدوداً من طلاب العلم.
والتثبيط له دركات وألوان وقد يصدر من أصناف من الناس منهم ضعيف المعرفة على ما لديه من محبة الخير، ومنهم المتعالم، ومنهم الحاسد، ومنهم صاحب الهوى المفتون.
ومن أدقّ أنواع التثبيط وأشدّها ضرراً - من حيث لا يحتسب كثيرٌ من القراء - تقديمُ القراءة في كتب مُلَح العلم وكتب المخلّطين والمتعالمين والكتب المترجمة والروايات والكتب الفكرية وقنوات التواصل والاغترار بزخارف ألفاظها، ولمعان بوارقها؛ حتى يصرف لها سَنَام الوقت وذروة النشاط فلا يبقى لكتب العلماء المشتملة على متين العلم إلا فضول الوقت والجهد؛ فيقرأها على حال ضعف وفتور فلا يجد لقراءته فيها أثراً يذكر لغلبة تلك الكتب على قلبه واستئثارها بعنايته؛ بل ربما فتن بها؛ فانحرف عن طلب العلم.

الوصية الثالثة: لا تكن كالسجين في مرحلة المبتدئين:
مرحلة الابتداء في كلّ علم مرحلة عسرة على النفس مع سهولتها في حقيقة الأمر، ذلك أنّ المبتدئ يجاهد نفسه لسلوك السبيل الأمثل لطلب العلم والقراءة في كتب العلماء، ودراسة المسائل العلمية؛ فإذا جاهد نفسه وصبر رجي له أن ييسّر الله له سبيلاً يحصّل به علماً غزيراً مباركاً، ويجتاز مرحلة المبتدئين في مدّة يسيرة.

وإني وإن كنت قد كررت في هذه الدروس وغيرها تحذير المبتدئين من جملة من الأمور؛ فإني لم أقصد أن يحبس طالب العلم نفسه في هذه المرحلة سنين طويلة، وإنما أردت له أن يجمع همّته على ما هو أنفع له حتى يتمّ هذه المرحلة في مدّة وجيزة.
والمعروف المشاهَد أ
نّ طالب العلم إذا داوم على الدراسة بانتظام وإتقان كَفَتْه أشهر يسيرة في بعض العلوم لاجتياز مرحلة المبتدئين فيها، والعلوم الموصوفة بالطول كالفقه والتفسير قد يكفيه فيها نحو عامين من المداومة على الدراسة.
ويُعرف اجتياز مرحلة الابتداء بضبط مختصر جامع لمسائل العلم، ومعرفة مواضع الإجماع والخلاف فيه، ومعرفة أئمة ذلك العلم ومراتب الكتب المؤلفة فيه؛ فهذه ثلاثة معالم تدور عليها العلوم.
وبعض العلوم ليس لها مختصر جامع فيدرس الطالب فيها عدداً من المختصرات تقوم مقام المختصر الجامع، وهذا ظاهر في علم العقيدة وعلم السلوك وعلوم اللغة.
ومن تأمّل أحوال العلماء المتقدّمين وجد عنايتهم بهذا الأمر ظاهرة بل كان أكثر ساعات أيامهم تذهب في الدراسة والحفظ والمراجعة، ولذلك كانوا يتمون كتباً كثيرة في مدد يسيرة:
- فهذا النووي رحمه الله قد ذُكر في سيرته أنه حفظ التنبيه في الفقه الشافعي في نحو أربعة أشهر ونصف، ثمّ حفظ المهذّب، ثم تدرّج به الأمر إلى أن شرح المهذّب في كتابه الماتع المبارك "المجموع"
الذي يعدّ من أهم كتب الفقه عند الشافعية.
- وابن قدامة المقدسي حفظ مختصر الخرقي في صغره، ثم تدرّج به الحال إلى أن شرحه وهو في أوائل الثلاثين من عمره في كتابه الكبير "المغني" الذي يعدّ عمدة في الفقه الحنبلي.
- وهذا ابن هشام النحوي كانت أكثر عنايته بعلم النحو؛ فلما أراد دراسة الفقه الحنبلي حفظ "مختصر الخرقي" في أقلّ من أربعة أشهر وهو في الثامنة والأربعين من عمره.
- وهذا جلال الدين السيوطي حفظ في صغره كتباً كثيرة في مبادئ العلوم حتى كانت له بها معرفة حسنة؛ وكان شيخه جلال الدين المحلي يكتب مختصراً في التفسير بدأ فيه من سورة الكهف إلى سورة الناس ثم عاد إلى أوّل المصحف فكتب تفسير سورة الفاتحة ثمّ مات سنة 864هـ قبل أن يتمّه، وجلال الدين السيوطي في الخامسة عشرة من عمره، وكان جلال الدين المحلّي أصولياً معروفاً بجودة التلخيص وحسن الاختصار بعبارات جامعة؛ فلما كان عام 870هـ عزم جلال الدين السيوطي على إكمال تفسير شيخه؛ فأكمله من أول تفسير سورة البقرة إلى نهاية سورة الإسراء في أربعين يوماً على طريقته ومنهجه، وهو في الحادية والعشرين من عمره، ثمّ فرغ من تبييضه في صفر من السنة التالية، وعُرف تفسيرهما بتفسير الجلالين، وهو من التفاسير المباركة التي عني بها العلماء، وله اليوم طبعات كثيرة جداً، وقرر في عدد من الجامعات والمدارس، وشرحه جماعة من العلماء، وله حواشٍ مطبوعة في مجلدات، وهو قد كتبه في سنّ مبكرة، وهذا لا يتأتّى إلا لمن كانت له معرفة حسنة بعلوم الآلة.
وكان من أوّل تصانيفه كتاب في تفسير الاستعاذة ألّفه وهو دون العشرين؛ أطال فيه وتوسّع، وذكر مباحث حسنة نافعة.
ولما بلغ الثالثة والعشرين من عمره كتب كتابه المعروف بالتحبير في علم التفسير، وهو من أجلّ كتب علوم القرآن وأشهرها، ولا يزال أهل العلم ينهلون منه إلى يومنا هذا، وهو أصل كتابه الكبير "الإتقان في علوم القرآن".
وهذا يدلّ دلالة واضحة أنّه لم يمكث في مرحلة المبتدئين إلا مدّة يسيرة حتى تأهّل للكتابة والتأليف.
والمقصود التنبيه إلى أنّ طالب العلم إذا عزم على دراسة مختصرٍ من المختصرات فليجتهد في ضبطه وإتقانه في أقلّ مدة ممكنة، وليحذر من تطويل أمد الدراسة؛ فكم من طالب أمضى في مرحلة المبتدئين ما كان يكفيه لأن يكون من العلماء.
وإنه ليحزنني أن أرى كثيراً من المنتسبين لطلب العلم تضيع عليهم سنوات من أعمارهم وهم لا يزالون معدودين من المبتدئين، وقد كان يكفي أحدهم في بعض العلوم أشهُرٌ قلائل يجتاز بها مرحلة المبتدئين بإتقان.
وقد جالست عدداً من هذا الصنف مدّة من الزمن وتأمّلت أحوال من عرفت منهم فوجدتهم يشتركون في ثلاث آفات لا يكاد يسلم أحد منهم منها كلّها أو من بعضها:

الآفة الأولى: العشوائية في القراءة
فقراءة أحدهم ليس لها نظام، يقرأ في كتاب ثمّ لا يتمّه، ويدرس عند شيخٍ دروساً معدودة، ثمّ يتحوّل عنه إلى شيخ آخر، ويدرس في كتاب فيجتهد اجتهاداً بالغاً في دروسه الأولى ثمّ يفتر وينقطع، حتى تضيع عليه سنوات طويلة وهو على هذا الحال.
ولو أنّهم صبروا حتى يتمّوا تلك الكتب المعدودة لكان خيراً لهم، ولأمكنهم اجتياز مرحلة الابتداء بسلام في مدّة وجيزة.

والآفة الثانية: تطويل أمد الدراسة في مرحلة الابتداء
ومن أشهر أشكال هذا التطويل وأكثرها شيوعاً الاقتصار على الدروس الأسبوعية في دراسة المتون العلمية؛ فما كان يكفيه أسبوعان من الدراسة اليومية يدرسه في عام كامل بالدروس الأسبوعية، وما يكفيه شهران يدرسه في أربعة أعوام، وهذه حقيقة مشاهدة.
بل أبلغني بعض طلاب العلم أنّه منذ تسع سنوات يدرس بلوغ المرام عند شيخٍ له فوصل إلى كتاب الحج، وهو ما يقارب ربع الكتاب.
ورأيت أحد المشايخ استهلّ شرح منار السبيل في درس أسبوعي، ثمّ وقفت عليه بعد ثلاثة عشر عاماً فوجدته قد قارب ثلث الكتاب، والذي يغلب على الظنّ أن أكثر الدارسين في حلقته قد تغيروا مراراً.
ولو أنّ دروسه كانت في خمسة أيام أو أربعة في الأسبوع لأمكنه أن يتمّ شرح الكتاب لهم في عامين أو أقلّ.
وهذا التطويل في أيّ علم من العلوم له آثار سلبية على طالب العلم، إذ يحبسه في مرحلة المبتدئين مدّة طويلة يكلّ فيها ذهنه، ويفتر فيها عزمه، ويضعف عن تنمية المهارات العلمية وصقلها، على ما يعتري المقتصرين على الدروس الأسبوعية من ضعف الترابط بين الدروس ونسيان كثير من العلم، وفتور في العزم بسبب طول أمد الدراسة.

والآفة الثالثة: ضعف العناية بالمراجعة
وهي آفة خطيرة شائعة، فإذا اجتمعت مع الآفتين السابقتين لم يبق للطالب سبب يحصّل به العلم؛ ذلك أنّ العلم كالنبات إذا تعاهدته حفظته، ورَسَخَتْ أصولُه ونمت فروعه وآتى ثماره، وإذا تركته عَدَت عليه عوادي الآفات فذهب أصله أو ذبل؛ فقلّ الانتفاع به.
وقد رأيت من أحوال بعض أولئك المقتصرين على الدروس الأسبوعية أنّ أحدهم ربما أتى موعد الدرس التالي ولم يفتح الكتاب فيما بينهما؛ بل ربما جعل الكتاب في سيارته لعلمه بحال نفسه، أنه لا يأخذه إلا للحلقة حتى لا يحضر للدرس بغير كتاب؛ فربما سألهم الشيخ عن مسائل شرحها لهم في دروس سابقة؛ فلا يكاد يجد منهم مجيباً، بل كثيراً ما كنت أسمع من المشايخ التنبيه على أمر المراجعة، وأنه لا يليق بطالب العلم أن يكون عهده بالكتاب حلقة شيخه.
وكان بعض الموفَّقين من طلاب العلم إذا رجع إلى بيته نظر في شرح شيخه، وانتخب عدداً من الشروح الأخرى للكتاب يوازن بينها ويلخص، ويدوّن ما يشكل عليه حتى يسأل شيخه، وهو مع ذلك ماضٍ في خطّته في الدراسة غير مقتصر على الدروس الأسبوعية، وإنما يستفيد منها وسيلة تواصل مع شيخه لسأله عمّا يشكل عليه، وليراجع ما يدرس؛ فإذا أتمّ زملاؤه شرح الكتاب في عامين أو ثلاثة فإذا به قد أتمّ كتباً كثيرة.
وليعلم طالب العلم أنّ مراحل طلب العلم لا تقاس بالأعمار؛ فربّ فتى لم يبلغ العشرين معدود من العلماء، ورجل مكتهل في طلب العلم لا يزال من المبتدئين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً تنفعنا به إنك أنت السميع العليم
اللهمّ هذا العمل منك ولك فتقبّله وبارك فيه إنّك إن بارك في شيء نفع
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فرغت من إعداد هذه الدورة
ليلة الخميس 27 جمادى الآخرة 1439هـ
ثمّ فرغت من مراجعة دروسها وتهذيبها لتخرج في كتاب
ضحوة يوم الأربعاء 25 رجب 1439هـ