الدروس
course cover
الدرس الحادي عشر: نقد القراءة السريعة
11 Mar 2018
11 Mar 2018

4170

0

0

course cover
أصول القراءة العلمية

القسم الثاني

الدرس الحادي عشر: نقد القراءة السريعة
11 Mar 2018
11 Mar 2018

11 Mar 2018

4170

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الحادي عشر: نقد القراءة السريعة


عناصر الدرس:

  • تمهيد

  • بيان خطر القراءة السريعة على المبتدئين

  • التحذير من المغالطات في شأن القراءة السريعة

  • الطرق العلمية الصحيحة لتسريع القراءة

  • تجربة خاصة


تمهيد:
القراءة السريعة مع حسن الفهم وجودة الاستيعاب مطلب مهمّ لكثير من القراء، لكنّه من المطالب التي إذا اشتغل بها القارئ قبل حينها، واستعملها في غير مجالها كان لها أثر عكسي عليه؛ فأضعفت تحصيله العلمي من حيث أراد تقويته، وأكسبته سوء الفهم من حيث أراد إحسانه.
وبيان ذلك: أنّ طالب العلم في أوّل طلبه للعلم تكون حاجته إلى فهم المسائل العلمية وضبطها أشدّ، ليؤسس التصور الصحيح للمسائل العلمية، بما يعينه على إدراك متطلبات كلّ مسألة وفهم متعلقاتها، وإذا قرأ الكتاب الذي ينبغي له أن يحسن دراسته قراءة سريعة فوّت على نفسه إحسان فهم تلك المسائل غالباً، وخرج بتصور ضعيف ناقص، وربما اشتمل فهمه على جملة من الأخطاء التي لم يجعل لنفسه فرصة كافية لاكتشافها وتصحيحها، حتى يستفيد منها في نظائرها، وربما عوّد نفسه بتلك القراءة السريعة الاكتفاءَ بأخذ تصور سريع ناقص عن المسائل العلمية.
وإذا سار طالب العلم على هذه الطريقة كان تحصيله العلمي ضعيفاً هشاً غير مؤصّل ولا مترابط.
وعلى خلاف ما يظنّ كثير من الناس بأنّ الأناة في القراءة والدرس والعناية بضبط المختصرات تؤدي إلى التأخّر فإنّ المجرّب أنها من أسباب اختصار الوقت وتأهيل طالب العلم لمرحلة يُحسن فيها القراءة السريعة بمهارة يجمع فيها بين السرعة والضبط.
وقد يحتاج القارئ في بعض المواضع إلى التوقّف والنظر والتأمّل، وقد يعرض له في مواضع من الكتب ما يشكل وما يستغلق، لكنّه على وجه العموم يقرأ الكتاب قراءة سريعة حسنة إذا أتى الأمر من بابه، وتدرّج في مدارجه الصحيحة.

بيان خطر القراءة السريعة على المبتدئين:
القراءة السريعة في كتب أهل العلم خطر على المبتدئين لأنها مظنة الفهم الخاطئ وقصور النظر، وإكلال الذهن عن سبر غور المسائل العلمية؛ فتجد القارئ العجول يريد أن يحصل النتيجة السريعة كيفما اتفق له، فيقع له بذلك من الخلط والخطأ في التصور وضعف البناء العلمي ما يكون له أثر سيّء عليه.
وأخطر من ذلك أن يعتاد دراسة المسائل العلمية بهذه الطريقة؛ فيعوّد نفسَه السطحية في القراءة، والاستعجال في التصور، والإعراض عن متعلقات المسائل العلمية، وينفّرها من الدراسة المؤصّلة والتكرار والمراجعة، فيضعف تعاهده للمسائل العلمية على ضعفه في تحصيلها أصلاً؛ فيُضيع شطراً من عمره في ضعف على ضعف، أو يترقّى من جاهل بسيط إلى جاهل مركّب، ولا سيّما إذا صاحب تلك العجلة في القراءة اعتداد بالرأي وزهو في النفس واستعجال للتصدّر.
ومن الأخطاء التي لها أثر سيء على نفس طالب العلم أن يقايس نفسه بكبار القراء وهو ما يزال في أول الطريق؛ فتحمله نفسه على مجاراتهم من غير أن يتدرج في القراءة كما تدرجوا، ولا أن يتدرب كما تدربوا؛ فإذا رأى عجزه عن مجاراتهم، وتخلفه عن مراتبهم عاد على نفسه بالحسرات، بل ربما أيس وانقطع عن القراءة وطلب العلم.
وليعلم طالب العلم أنه لا يختصر على نفسه الجهد والوقت في الوصول لغايته بمثل إتقان الدراسة وضبط المختصرات على طريقة أهل العلم، والمداومة على ما يتيسّر له من التحصيل اليومي ولو كان قليلا.
وليتفطّن إلى أنّ المهارات العلمية لا بدّ فيها من تدرّج طبيعي، ومداومة على التمرين بما تطيقه النفس، والصبر على التكرار، واحتمال الخطأ والضعف في أول المشوار؛ حتى يشتدّ عوده فيها، ويعود صعبها سهلاً، وطويل شوطها قصيراً.

التحذير من المغالطات في شأن القراءة السريعة:
مما شاع في هذا العصر الدعوة للقراءة السريعة، وتأليف الكتب فيها، وقد تأمّلت بعض تلك الكتب مما هو مترجم أو مأخوذ من كتب أجنبية فوجدت مجال القراءة السريعة فيها غير المجالات التي يقرأ فيها طلاب العلم. وعامّة تلك الكتب تجارية تستند على محاولة إبهار القارئ وإدهاشه بما يجذبه ولا يمكنه تحقيقه، وفيها من المبالغات وتعميم الحالات الفردية شيء كثير.
ومن المغالطات في تلك الكتب ما يضرّ بمن انخدع بها، كدعوى بعضهم أنّ فلانا من أصحاب المناصب يقرأ ألفي كلمة في الدقيقة !! أو ثلاثة آلاف كلمة؛ فيظنّ أنه يقرأ كتباً علمية بهذه السرعة، وهم إنما يريدون أنه يقرأ تقارير إدارية قد يكون على علم مسبق بكثير مما اشتملت عليه؛ فلا يحتاج إلى قراءة تلك التقارير جملة جملة.
وكدعوى بعضهم أنّ
فلاناً يقرأ بطريقة x أو s فيستوعب ما يقرأ بسرعة مذهلة، ونحو ذلك من الترّهات، التي يعلم اللبيب أنّ الغرض منها إنما هو إبهار القارئ وإغرائه باقتناء الكتاب والترويج له.
وفي بعض تلك الكتب مع ذلك توصيات حسنة، و
تنبيهات على بعض الأخطاء الشائعة في القراءة، وهذا هو القدر المفيد منها، لكن
طالب العلم والمعرفة الصحيحة بحاجة إلى تبصيره بما ينفعه، وإرشاده لما يحسّن به قراءته من غير مبالغة ولا تهويل، ولا مغالطته بمقاييس غير مطّردة ولا صحيحة.

وتلك الكتب على ما فيها من المبالغة الظاهرة يكتنفها أمران:
أحدهما: أن تلك الكتب المؤلفة في القراءة السريعة موجهة في الأصل لغير طلاب العلم، وينتقي أصحابها أمثلتها بما لا يلائم حال طالب العلم مع كتب العلماء، فلا تتماثل قراءة كتاب دراسي بقراءة تقارير إدارية، ومقالات صحفية.
والأمر الآخر: أنّ القراءة في الكتب الأجنبية تختلف قوانينها عن القراءة في الكتب العربية، ولا سيما كتب أهل العلم.
فنظام الكتابة في الكتب الأجنبية يسهّل على القارئ سرعة القراءة؛ لأن الكاتب غالبا ما يقسّم أفكار المقالة أو الفصل من الكتاب إلى فقرات يناقش في كلّ فقرة منها فكرة واحدة، يذكر خلاصتها في أوّل الفقرة؛ فمن أراد أن يسرع في القراءة يمكنه أن يكتفي بقراءة أوائل الفقرات ليستوعب فكرة كلّ فقرة إن كان صاحب فطنة وذكاء.
وكتب أهل العلم قد تجد السطر الواحد منها يشتمل على مسألتين أو ثلاث، ولا سيما المختصرات في التفسير والعقيدة والفقه.

وهذا التحكم في انتقاء الأمثلة واختلاف مجال التطبيق قد لا يتفطن له القارئ المبتدئ؛ فينخدع بتلك المغالطات، ويحاول أن يقرأ كتب أهل العلم كما تُقرأ التقارير الإدارية والمقالات الصحفية.

الطرق العلمية الصحيحة لتسريع القراءة:
لتسريع القراءة مع العناية بالفهم والاستيعاب طرق علمية صحيحة تلائم طلاب العلم، ومنها:
1. أن يتدرّج في دراسة مختصرات في علم من العلوم؛ حتى يكون على معرفة حسنة بعامّة مسائله؛ ثمّ ينظّم قراءته في كتب ذلك العلم؛ فسيجد من نفسه قدرة على تسريع القراءة مع حسن الفهم بإذن الله تعالى.
وسبب ذلك أن كثيراً مما في تلك الكتب قد أصبح لديه مخزون معرفي سابق لقدر منها، يفيده هذا المخزون المعرفي في جانبين لهما أثر في تسريع القراءة:
الجانب الأول: تسريع تصور فهم المسائل العلمية، فليس حال من يقرأ كلاماً لأوّل مرة يطرق سمعه كحال من لديه معرفة بقدر منه.
والجانب الآخر: أن تنوّع تناول العلماء لتلك المسائل وما يقع في كلامهم من الزيادات والتفصيل يحفّزه ذهنه للتركيز، لأنّ الذهن له اشتغال سابق بتلك المسائل فما يقرأ من كلام له صلة بزيادة تفصيل أو تنبيه على أمر متعلق بتلك المسألة، أو تفسير لأمر كان مشكلاً عليه، كلّ ذلك مما يحفّز الذهن لإدراك ما يقرأ مع ما يشعر به من المتعة والانهماك في القراءة وسرعتها حتى يقرأ كثيراً في وقت وجيز.

2. أن يقرأ مَن كان له تحصيلٌ علمي لا بأس به كتباً متعددة لعالمٍ من العلماء؛ ولا سيما المكثرين منهم؛ ومن كان له عناية بعلم من العلوم؛ فيجد أن مؤلفاته تتكامل، ويعتاد لغته العلمية وأسلوبه في عرض المعلومات، فيختصر ذلك عليه كثيراً من الأعمال الذهنية في القراءة لما يقع بين تلك الكتب من التشارك في المادة العلمية وموارد الاستمداد وأساليب المعالجة وطرق العرض، ولذلك ترى من له عناية بكتب عالم من العلماء يميّز بين ما يصحّ عنه وما هو منحول عليه؛ لخبرته بتلك الأمور في كتبه.
والمقصود أن تحصيل الخبرة في كتب عالم من العلماء تعين على تسريع القراءة في كتبه وما يتعلق بها.
3. أن يقرأ قراءة منظمة يعتني فيها بتصحيح سلوكه في القراءة؛ من حيث جمع النفس على القراءة، واختيار ما يناسب مستواه العلمي، والعناية بالمقاصد، وتكامل المعارف، فإنه إذا رُزق مع هذا فطنة وذكاء تمرّنت نفسه على سرعة القراءة بمهارة يراعي فيها حسن الفهم والاستيعاب.
فيصل إلى مرتبة القراءة السريعة المتقنة بعد سنوات من المداومة على القراءة الصحيحة، وثراء المخزون المعرفي.
4. أن يكرر قراءة الكتاب الذي فهمه لغرض تعاهد مسائله حتى لا ينساها، وكان من شأن جماعات من أهل العلم تكرار قراءة بعض الكتب، بل ربما قرأ بعضهم بعض الكتب المطولة عشرات المرات، ومن كان هذا شأنه فإنّ قراءاته الأخيرة ليست كقراءته الأولى؛ لأنّ الأولى قراءة تأسيس ، والأخريات قراءة تعاهد؛ فيمكنه أن يقرأ المجلد قراءة تعاهد في جلسة واحدة من غير مشقّة، بل ربّما سُئل عن دقائق في الكتاب فأجاب باستظهار حسن.

تجربة خاصّة:
كنت قبل أكثر من عقدين من الزمان أقرأ في بعض الكتب المترجمة في مهارات القراءة السريعة وتنمية الاستيعاب لأحاول اختصار الوقت والجهد في قراءة كتب أهل العلم، واجتهدت في تطبيق ما وقفت عليه فلم أر أثراً يُذكر، وقدّمت العناية بتفهّم المسائل العلمية، ولو مكثت في المسألة الواحدة أياماً؛ فانتفعت بالدراسة وتفهّم المسائل العلمية أكثر من انتفاعي بمحاولة تسريع القراءة في ذلك الوقت.
وعرضت كتاباً من الكتب التي اشتغلت بإعدادها لنفسي على رجل من أهل العلم كنت أعرفه بسعة الاطلاع وكثرة القراءة؛ فأخذ يقرأ الكتاب أمامي لا يكاد يمكث في الصفحة الواحدة إلا أقل من دقيقة فيقلبها إلى غيرها، ويعلّق تعليقات تدلّ على فهمه وإدراكه، وقرأ صفحات وهو في ذلك الموقف فجعلت أتعجب من سرعة قراءته، وكنت أحسب لنفسي نحو ثلاث دقائق في قراءة الصفحة الواحدة.
فلما رآني أتعجب؛ قال: لو رأيت قراءة الشيخ بكر أبو زيد لكان تعجبك أشدّ؛ كانت قراءته أسرع من قراءتي بمراحل !!
فلما عدت إلى البيت اجتهدت في محاكاته فلم أقدر؛ فكنت إذا أسرعت في القراءة فات عليّ بعض ما في الصفحة واختلط علي الأمر واضطرب نظام الكتاب حتى أعود لأقرأ وأتفهم؛ ثم رأيت أن انصراف الهمة إلى تسريع القراءة يشغل حيزاً من التفكير ويُضعف الإدراك؛ فيؤثّر ذلك في الفهم وسرعة التصور.
وهم كانوا يقرءون على سجيتهم دون تكلف؛ ويفهمون ويناقشون ويستدركون !!
فأيقنت أنّ لسرعتهم في القراءة أسباباً تخفى عليّ.
ثمّ رأيت من الشيخ بكر أبو زيد بعد ذلك من سرعة القراءة ما صدّق عندي خبر ذلك الرجل.
وبقي أمر سرعة القراءة في ذهني أتأمّل أسبابه وأتعرّف طرقه؛ حتى أيقنت أنّ لأهل العلم أسباباً تساعدهم على تسريع القراءة:
أولها: الاستعداد الفطري؛ فإن الموصوفين بالسرعة العالية في القراءة مع جودة الفهم كانوا أفذاذاً منهم.
وثانيها: المخزون المعرفي الكبير؛ وقد تبيّن لي فرط جهلي إذ كنت أحاول محاكاتهم وليس لي مثل سعة علمهم، ولا طول تمرّنهم.
وثالثها: كثرة ممارسة القراءة، وترويض النفس على نمط جادّ في القراءة.
ورابعها: خبرتهم بمسالك المسائل العلمية ومناهج مؤلفيها وموارد استمدادهم وأدواتهم العلمية في معالجة تلك المسائل وأساليبهم في العرض؛ وهذه المعارف لها أثر كبير في تسريع القراءة، ومن أهل العلم من يرمز لها برموز أو يسمي بعضها بمصطلحات يدركها أهل العلم في ثوان معدودة، ويحتاج المبتدئون إلى شرح كثير وجهد كبير لمحاولة فهمها.
ولذلك لا يستغرب إذا قرأ أحد أولئك القراء الكبار أوّل كلام عالم من العلماء في مسألة من المسائل فيتصور مجمل كلامه في تلك المسألة وهو لم يقرأها من قبل، وسبب ذلك: أنه بهذه المعارف المتقدم ذكرها، وخبرته بطريقة المؤلف فيها سهل عليه تحصيل هذا التصور الذهني السريع؛ بل ربما استدرك عليه، ونقده في بعضها، فحصلت له القراءة السريعة من غير كدّ ذهنيّ ولا تكلّف.
وهذا أمر لا يختصّ بالقراءة؛ بل كلّ من كان له خبرة في أمر من الأمور فإنه قد يعرف من مباديها ما يبصّره بنهايتها.
والمقصود التنبيه إلى أنّ القراءة السريعة مطلب مهمّ لكن من الخطأ أن تُطلب من غير طريقها الصحيح.