الدروس
course cover
الدرس الأول: بيان فضائل القراءة
3 Mar 2017
3 Mar 2017

4909

0

2

course cover
أصول القراءة العلمية

القسم الأول

الدرس الأول: بيان فضائل القراءة
3 Mar 2017
3 Mar 2017

3 Mar 2017

4909

0

2


0

0

0

1

1

الدرس الأول: بيان فضائل القراءة


القراءة من أعظم سبل تحصيل العلم، وأكثرها شيوعاً، وأحسنها أثراً، وأقربها نفعاً، وإذا أحسن طالب العلم اختيار ما يقرأ، وأحسن القراءة وداوم عليها؛ نبغ نبوغاً مبكراً وحصَّل تحصيلاً عظيماً يختصر عليه كثيراً من الجهد والوقت.
ويكفي في فضل القراءة وشرفها ودلالتها على العلم والحكمة أنَّ أولَّ ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.
والقراءة قد تكون من محفوظ وقد تكون من مكتوب، ولذلك يصحّ أن يقرأ الأميّ من حفظه.
وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم أميّا ففيه حكمة جليلة بيّنها الله تعالى بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) }.
قال قتادة: (كان نبيّ الله لا يقرأ كتابا قبله، ولا يخطه بيمينه، كان أُمِّيا، والأميّ الذي لا يكتب، {إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ} إذن لقالوا: إنما هذا شيء تعلَّمه محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه). رواه ابن جرير.
فلأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أميّا لا يكتب، وهو أعلم الناس لأنّه تلقّى علمَه بالوحي المبين من ربِّ العالمين كما قال الله تعالى: {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}.
وقد تكفّل الله له بحفظ الوحي وبيانه كما قال تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه}.
فكونه صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ليس فيه غضّ من مكانته، بل هو وصف كمال في حقه لأنه يفيد تمحّض ما تلقَّاه من أخبار الغيب عن ربّه جلّ وعلا ، لم يتلقّه بالقراءة في كتب الأولين.
وهذا يفيدنا فائدة مهمّة وهي أنّ القراءة في الكتب أحد أسباب المعرفة لا جميع أسبابها، وأنّ المطلوب هو تحصيل المعرفة الحسنة، ولذلك تنوّعت مصادر المعرفة عند العلماء فجمعوا بين القراءة في الكتب، وسؤال العلماء، وملازمتهم وسبر أحوالهم، والاستفادة من التجارب، والاعتبار بالعبر القديمة والحديثة، وعَقل الأمثال، والتفكّر والتدبّر، ونحو ذلك من مصادر المعرفة النافعة.
فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يدرك المقصد السامي من القراءة وهو تحصيل المعرفة النافعة الصحيحة؛ وكلّ ما أعان على هذه المعرفة فينبغي له أن يأخذ به ولا يحصر نفسه عند رسوم مطالعة الكتب، فقد يكون لقاؤه بعالم من العلماء وسؤاله عما أشكل عليه واستفادته من علمه وخبرته أنفع له من قراءة كتب كثيرة كما قال النووي رحمه الله: (ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أياما).
الفنّ هنا هو أي فرعٍ من فروع العلم؛ سُمّي فنّا لأنه يتفرّع من أصل العلم كما تتفرّع أغصان الشجرة وأفنانها.
وهذه المذاكرة ينتفع بها الانتفاع الأمثل مَن كان له تحصيلٌ حسن من المعرفة بالقراءة والمطالعة والبحث والدراسة ورصد المشكلات وتقييد الملحوظات والتعرف على مسالك المسائل؛ فإنه إذا ظفر بعالم حاذقٍ في علمٍ من العلوم بعد هذه المعرفة انتفع به انتفاعاً كبيراً.
والمقصود هنا بيان أنّ القراءة أحد أسباب المعرفة بل هي من أهمّ أسبابها، وأن النبي صلىّ الله عليه وسلم وإن لم يكن قارئاً فتحصيله للمعرفة أحسنَ التحصيل لأنه تلقاه بالوحي المبين، وأنّ هذا وصف كمال في حقّه.
وهذا نظير كونه صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر كما قال تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين}؛ فإنه وصف كمال في حقّه لأنه دليل على أن ما أتى به من الوحي هو من ربّ العالمين لم يؤلّفه من تلقاء نفسه.
ولما أنعم الله عليه بالقرآن كان هديه في قراءته أحسن الهدي إذ جمعَ المداومة على القراءة، وإحسان التلاوة بتدبّر ما يقرأ وعقل معانيه والعمل بما فيه، والتخلّق بأخلاق القرآن، والتأدّب بآدابه، واتباع هداه، ولذلك لمّا سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان خُلقه القرآن.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربّما قام في الليلة الواحدة بنحو عشرة أجزاء من القرآن سوى ما يقرأه في النهار من ورده الذي كان يحافظ عليه.
فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين كثرة التلاوة وحسنها وحسن العمل بما قرأه من القرآن.
ولو أنّ أحدنا أخذ نفسه بهذه الأمور الثلاثة: كثرة تلاوة القرآن، وحسن تلاوته، وحسن العمل به؛ لانتفع انتفاعاً كبيراً، وارتفعت درجته ارتفاعاً عظيماً.
ولمّا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتأسست الدولة الإسلامية في المدينة النبوية كان من أوائل ما اعتنى به النبي صلى الله عليه وسلم أن حثَّ الصحابة على تعلّم الكتابة.
قال ابن عباس: (كان ناسٌ من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة). رواه أحمد وابن المنذر والحاكم والبيهقي كلهم من طريق داوود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس به.
وقالت الشفاء بنت عبد الله الأنصارية رضي الله عنها: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: ((ألا تعلّمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة)). رواه أحمد وأبو داوود والنسائي وغيرهم من حديث أبي بكر ابن أبي حثمة عن جدته الشفاء بنت عبد الله.
وفي الباب أحاديث عن زيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.

والقراءة لها فضائل عظيمة:
فمن أعظم فضائلها: أنها من أهم أسباب تحصيل العلم، والتفقه في أحكام الدين، ومعرفة الهدى فيما يأتي ويذر.
ومن فضائلها: أنها توسّع المدارك وتغذّي العقل وتنمّيه، وتسمو بالهمّة وتقوّي العزيمة إذا أحسن القارئ اختيار ما يقرأ.
ومن فضائلها: أنها تزكّي النفس وتهذبها وتقوّيها، فللقراءة تأثير روحيّ لا ينكر؛ لأنها من غذاء الروح، وإذا تغذّت الروح قويت ،وفي اشتغال المرء بالقراءة انصراف عن كثير من اللغو وما يفسد النفس والعقل؛ وإذا اجتمع للنفس غذاء وحماية زكت ونمَت وقويت.
ففي القراءة أنس وسرور وراحة وحبور ، وما أحسن ما قال الثعالبي في كتابه التمثيل والمحاضرة: (الكتب بساتين العقلاء).
فهي لهم كالبساتين اليانعة التي فيها من كل الثمرات، وفيها الرَّوح والبهجة وتنوّع الحقول؛ فيقرأ القارئ لكلّ حالة ما يناسبها من الكتب والفصول:
- إن وجد في نفسه عزيمة للتفقّه في الدين وتفهّم المسائل قرأ في كتب أهل العلم من المفسرين والمحدّثين والفقهاء.
- وإن أراد معرفة أخبار الماضين واستلهام العبر والدروس منها قرأ في كتب التاريخ.
- وإن أراد الاسترواح إلى اللطائف والأمثال والحكم والأشعار قرأ في كتب الأدب والأشعار وطرائف الأخبار.
فهو كالمتنقّل بين البساتين؛ يجتني من ثمراتها، وينعم بتنوّع حقولها.

ومن فضائلها: أنها تختصر الوقت والجهد على طالب العلم إذا أحسن سلوك المنهج الصحيح للقراءة النافعة؛ فالطالب الذي يقرأ قراءة علمية صحيحة يحصّل في مدّة وجيزة أضعاف ما يحصّله غيره في سنوات طويلة.
ومن فضائلها: أنها تضيف إلى علم القارئ علم غيره وتجاريبهم ووصاياهم فينتفع بها انتفاعاً كبيراً، ويتجنّب الوقوع فيما حذّروا منه من الأخطاء والمزالق، ويسترشد بما دلّوا عليه من كنوز العلم والمعرفة فيرتقي بذلك.
والكلام في تعداد فضائل القراءة يطول، وقد تكلم جماعات من العلماء والأدباء في فضل القراءة والتنبيه على فوائدها وآثارها والتحفيز على استثمار الأوقات في القراءة النافعة بكلام كثير مبثوث في مظانه.

ونظم بعضهم في فضل القراءة أشعاراً حسنة، من أجودها قول ابن الأعرابي:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ... ألبّاء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلتَ أموات فما أنت كاذباً ... وإن قلتَ أحياء فلستَ مفندا


وقول المتنبّي:
أعز مكان في الدنيا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب

واليقين بفضائل القراءة وأهميتها له أثر كبير في تحفيز النفس لها والحرص عليها ومغالبة الشواغل والعوائق، والاحتيال لاستغلال الأوقات وفي كل ذلك قصص وأخبار وأعاجيب عن كبار القرّاء وروّادهم من المتقدّمين والمتأخرين.
وفي الدرس القادم بإذن الله تعالى بيان شيء من ذلك.