الدروس
course cover
الدرس الأول: مقدّمة في بيان مراحل التكوين العلمي لطالب العلم
26 Dec 2015
26 Dec 2015

15034

0

0

course cover
تلخيص الدروس العلمية

القسم الأول

الدرس الأول: مقدّمة في بيان مراحل التكوين العلمي لطالب العلم
26 Dec 2015
26 Dec 2015

26 Dec 2015

15034

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الأول: مقدّمة في بيان مراحل التكوين العلمي لطالب العلم


بسم الله الرحمن الرحيم

بيان مراحل التكوين العلمي لطالب العلم *

الحمد لله الذي شرّف العلم والعلماء، وأقامهم على معالم دينه أدلاء، وجعلهم خير هذه الأمة، يعلّمون الناس الخير، ويفقهونهم في الدين، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، ويبيّنون لهم ما أنزل الله في كتابه من البيّنات والهدى.
والصلاة والسلام على إمام المتّقين، وسيّد المعلّمين، أعلم الناس بالله وأتقاهم، وأحبّهم إليه وأخشاهم له، وأحسنهم هدياً، وأفصحهم بيانا، نبيّنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اتّبع هداه أمّا بعد:

فهذه الدورة المختصرة في تلخيص الدروس العلمية يراد منها :

- تعريف الطالب بأهمية التلخيص العلمي.
- وبيان أنواعه.
- وشرح خطواته.
- وتعريف الطالب بمعايير جودة التلخيص؛ حتى يكون تلخيصه حسناً نافعاً.
- وتنبيه الطالب على جملة من الأخطاء الشائعة، وتحذيره مما يحرمه مواصلة طلب العلم كما ينبغي.
وقبل الحديث في تفصيل دروس هذه الدورة سأقدّم مقدّمة مهمّة في بيان مراحل التكوين العلمي لطالب العلم؛ حتى يكون الطالب على بيّنة من هذه المراحل، وليعرف ما يحتاج إليه في كلّ مرحلة منها، حتى يحسن سيره في طلب العلم بإذن الله تعالى، ويختصر على نفسه كثيراً من الجهد والوقت، ويستفيد من تجارب من سبقوه من طلاب العلم والعلماء الذين أفنوا حياتهم في تعلّم العلم وتعليمه؛ وسبروا طرائق ضبطه وتحصيله، وعانوا في سبيل ذلك ما عانوا، وذاقوا من حلاوة ثمرته ما ذاقوا، ووجدوا من الفائدة العلمية، وتبوؤا من المكانة العليّة ما هوّن عليهم تلك الشدائد والصعوبات.
كأنّك لم توتر من الدهر مرّة .. إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه

مراحل التكوين العلمي لدى طالب العلم

يمر طالب العلم والعالم في مسيرته العلمية بثلاث مراحل مهمّة هي:
· مرحلة التأسيس العلمي
· ومرحلة البناء العلمي.
· ومرحلة النشر العلمي.

وهذه المراحل الثلاث ينبني بعضها على بعض، والإخلال بما تتطلّبه كلّ مرحلة سيظهر أثره على طالب العلم في المراحل الأخرى، وهي مراحل يتفاوت العلماء وطلاب العلم فيها تفاوتا كبيراً؛ فأعلمهم أحسنهم أخذاً بما تتطلّبه كلّ مرحلة من هذه المراحل.
وتسميتها بهذه الأسماء إنما هي لأجل توصيف ما تتطلّبه كلّ مرحلة، ولو سمّيت بغير هذه الأسماء مما يدلّ على حقيقة المراد بها فالأمر مقارب.

أولاً: مرحلة التأسيس العلمي:

· معنى التأسيس العلمي:
يراد بالتأسيس العلمي أن يكون لدى الطالب في كل علم من العلوم الشرعية وما يعين عليها من العلوم المساعدة أساساً متيناً، على أصول مختصرة يتقن دراستها، ويضبط مسائلها، حتى يلمّ بعامّة مسائل تلك العلوم إلماماً حسناً بما يناسب المبتدئين من طلاب العلم، ينتقل بعد ذلك انتقالاً صحيحاً إلى مرحلة المتوسّطين.

· أهمية مرحلة التأسيس العلمي
مرحلة التأسيس العلمي هي أولى المراحل وأهمّها، فمن أحسن فيها كان ما بعدها يسيراً عليه، ومن أخلّ بها فهو إما طالب محروم من مواصلة طلب العلم، وإما طالب ظاهر النقص في الأدوات العلمية، وسيظهر أثر نقصه وتفريطه عليه في المراحل التالية؛ لأن البناء العلمي لطالب العلم كالبناء الحسّي للبنيان؛ إذا كان التأسيس جيداً؛ رفع الباني بناءه وشيّده تشييداً حسناً على أساس متين، ومن كان في تأسيسه خلل كان على خطر من أن يكون في بنيانه خلل يهدمه أو يشوّهه.

· كيف يكون التأسيس العلمي؟
يكون التأسيس العلمي الجيّد في كلّ علم بدراسة كتاب مختصر فيه بطريقة متقنة ميسّرة تحت إشراف علمي؛ فقيام التأسيس العلمي على هذه الركائز الأربع:
الركيزة الأولى: أن يدرس كتاباً مختصراً غير مطوّل، حتى يتمكن من الإلمام بمسائل ذلك العلم إلماماً شاملاً بما يناسب المبتدئين فيه في مدّة قصيرة نسبياً؛ فيعرف أبواب العلم الذي يدرسه، ويعرف مسائل كلّ باب، ويعرف خلاصة القول في كلّ مسألة، ويعرف كيف يدرس المسائل العلمية في ذلك العلم.
والركيزة الثانية: أن تكون دراسته دراسة متقنة؛ فلا يجاوز الدرس حتى يضبط مسائله جيداً، وإذا درس عددا من الدروس عاد إلى ما سبقت له دراسته بالمراجعة ليثبّت علمه به حتى لا ينساه.
فالدراسة المتقنة هي التي تنفع صاحبها بإذن الله تعالى، وأما الطالب الذي يقرأ الدرس قراءة عابرة، ثم يجاوزه إلى دروس أخرى من غير مراجعة ولا ضبط؛ فإنما هو كالذي يكتب على الرمل يوشك أن تذهب الريح بما كتب.
والركيزة الثالثة: أن تكون دراسته ميسّرة غير شاقة؛ لأنّ الذي يتكلّف طريقة عسرة عليه لا يواصل طلب العلم غالباً، وقد قيل: (المنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع).
والركيزة الرابعة: الإشراف العلمي، وذلك لأن طالب العلم في بداية طلبه للعلم يحتاج إلى من يرشده ويبصّره، ويعرّفه بجوانب الإجادة والإحسان لديه، ومواضع الخلل والتقصير، ويقوّم له دراسته وتحصيله، ويرشده إلى الخطة المنهجية التي تصلح له، ومن فرّط في هذه الركيزة كان على خطر من انحراف منهجه في طلب العلم، وكثرة الخطأ والالتباس لديه في تصور المسائل العلمية، والبناء عليها.

· كيف يكون ضبط المسائل العلمية؟
ضبط المسائل العلمية له طريقتان:
الأولى: ضبط الصدر، وهو حفظ المسائل العلمية عن ظهر قلب.
والثانية: ضبط الكتاب، وهو تقييد المسائل العلمية في كتاب يحفظها؛ وتسهل مراجعته.

ولا بد في الطريقتين من مداومة على المراجعة لتثبيت هذا الضبط حتى لا ينساه الطالب، وإذا اعتاد الطالب تعاهد محفوظاته ومدوّناته في طلب العلم بالمراجعة والإضافة فإنّها تثبت بإذن الله تعالى، وتتّسع مداركه شيئاً فشيئاً بكثرة المراجعة والتأمّل والإضافة، وتزداد بركته وتعظم بالإفادة منه.

· تفاوت طلاب العلم في الحفظ والفهم
تفاوت طلاب العلم في الحفظ والفهم ظاهر بيّن، ولذلك فإنّ طلاب العلم على أربع مراتب:
المرتبة الأولى: الذين جمعوا بين حسن الفهم وقوّة الحفظ؛ وهؤلاء بأفضل المنازل؛ فإنّهم يحصّلون علماً غزيراً في مدّة وجيزة إذا داوموا على طلب العلم باجتهاد على خطة صحيحة بإشراف علمي، وأصحاب هذه المرتبة قد يحصّل الطالب منهم في سنة ما لا يحصّله غيره في بضع سنوات.
والمرتبة الثانية: الذين رُزقوا حسن الفهم مع ضعف في الحفظ؛ فهؤلاء يوصون بالعناية بضبط المسائل العلمية جيداً بالكتابة؛ وأن يعتنوا بالتلخيص، ويعالجوا ضعف الحفظ بمداومة المراجعة لملخصاتهم وتهذيبها والإضافة إليها، ومواصلة طلب العلم بتدرّج حسن؛ ثم تعليم العلم لغيرهم والإفادة من ملخصاتهم؛ فإنّه يمكنهم بذلك حفظ قدر مهم من العلم في صدورهم، ومَن تعاهد العلم حفظه؛ ومن عمل به وأنفق منه بورك له فيه، وليحذر هؤلاء من آفتين خطيرتين:
الأولى: ترك المراجعة.
والثانية: التذبذب في مناهج الطلب.
والمرتبة الثالثة: الذين أوتوا قوّة الحفظ مع تعسّر الفهم ومشقّته، وهؤلاء يوصون بالعناية بالتواصل مع عالم أو طالب علم متمكّن ليختبر فهمهم لمسائل العلم، وكلما ضبطوا مسائل درس من الدروس فليعتنوا بحفظها، وبمواصلة الدراسة والضبط على هذه الطريقة يعالجون ما كان لديهم من تعسّر الفهم، وتتضح لهم الطريقة، ويحرزوا من العلم النافع حظاً وفيراً بإذن الله تعالى، ثم إذا أتمّوا مرحلة التأسيس العلمي ؛ فليعتنوا بالتخصص الذي يناسب حفظهم وملكاتهم العلمية، ومن تخصص في علم وضبط مسائله سهل عليه فهمه بإذن الله تعالى.
والمرتبة الرابعة: الذين لديهم ضعف في الحفظ وتعسّر في الفهم، وهؤلاء يرجى لهم أن يضاعف لهم أجر طلبهم للعلم؛ لما يجدون فيه من المشقة، ومن جاهد منهم وواصل طلب العلم، رجي له أن يوفّق لقدر حسن من الضبط العلمي يكفيه بإذن الله تعالى، ويبلّغه لأن يكون من أهل العلم، ومن صدق في طلب العلم صدقه الله.
وأصحاب هذه المراتب الأربع ينفعهم التلخيص العلمي الجيّد نفعاً كبيراً بإذن الله تعالى إذا أحسنوا طريقته.

· الصدق في طلب العلم:
لما حضرت معاذ بن جبل رضي الله عنه الوفاة قيل له أوصنا فقال: "إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما " كررها ثلاثا. رواه أحمد والترمذي والنسائي.
وقال إبراهيم النخعي: (قلَّ ما طلب إنسانٌ علماً إلا آتاه الله منه ما يكفيه). رواه ابن سعد.
فمن صدق في طلب العلم وفق له، لأنّ الله تعالى هو الذي يعلّم، والعبد إنّما يبذل أسباب التعلّم، وقد قال الله عز وجل: {واتقوا الله ويعلمكم الله}، وقال جلّ ذكره: {فاذكروا الله كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون}، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وارزقني علما تنفعني به» رواه النسائي في الكبرى والحاكم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وهذا يُستفاد منه أنّ من صدق في طلب العلم يسّر الله له أسباب التعلّم، حتى يحصّل علماً نافعاً مباركاً.
ويتحقق صدق الطلب بأمرين:
الأول: إخلاص النية لله تعالى، وتصحيح المقاصد.
والثاني: العزيمة على تحصيل العلم، ونبذ التواني.

· سمات مرحلة التأسيس العلمي:

تمتاز مرحلة التأسيس العلمي بأنها دراسة طويلة متأنيّة، وفيها مشقّة محتملة بإذن الله.
1: فأمّا طولها فهو طول نسبي؛ لأن الطالب قد يمكث في دراسة الكتاب المختصر الواحد أشهراً؛ لثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنّ أبواب ذلك العلم ومسائله جديدة عليه، لم يسبق له دراستها جيداً.
والأمر الثاني: أنه يحتاج إلى أن يُشرح له ذلك الكتاب، ولا سيما المتون والمنظومات العلمية.
وبعد اجتياز مرحلة التأسيس العلمي تكون قراءة الكتب في العلم الذي يطلبه أيسر عليه بإذن الله، ولا سيما إذا سار فيها على خطة متدرّجة، وأحسن دراسة كل كتاب؛ فإنّ حاجته للشرح في الكتب التالية ليست كحاجته لشرح أوّل كتاب؛ بل يكفيه تعليق يسير، لأن كثيراً من مسائل ذلك العلم قد درسها في الكتاب المختصر.
والأمر الثالث: أن همّة الطالب منصرفة إلى إتقان الدراسة، والتحقق من صحّة فهمه، وجودة ضبطه.
وهذا أمر عامّ في كلّ صنعة يتعلّمها المرء، فإنّه يمكث في أداء مهامّها الأولّية مدة طويلة، ثمّ تسهل عليه بعد ذلك، فالذي يتعلم الكتابة أول ما يتعلمها تكون كتابته بطيئة، لأن همته منصرفة إلى محاولة إتقان كتابة الأحرف، ثمّ كتابة الكلمات، ويحتاج إلى تدرب ومتابعة حتى ينطلق في الكتابة ويتمهّر فيها، وكذلك الذي يتعلم قيادة السيارة في أول الأمر تكون قيادته بطيئة، ويكون فيها ما يكون من التردد والاضطراب والخطأ لأن ذهنه منصرف إلى محاولة إتقان القيادة بسلام، قبل التفكير في تحسين مهارات القيادة، وهذه الأمثلة مع الفارق تقرّب الصورة للطالب المبتدئ في طلب العلم، وتبيّن له أنّه يحتاج في مرحلة التأسيس إلى وقت كاف لإتقان طريقة دراسة المسائل العلمية وضبطها.

2: وأما التأنّي في دراسة الكتب المختصرة في مرحلة التأسيس فأمر مهمّ؛ حتى يمكنه أن يدرسها بإتقان وضبط حسن، وينبغي لطالب العلم أن يحذر من العجلة في هذه المرحلة، وأن لا يسأم من التكرار والمراجعة، لأنّه لا سبيل إلى التأسيس العلمي الجيّد بغير تأنّ وضبط، وكلّ عجلة تفوّت على صاحبها ضبط بعض المسائل العلمية فسيكون لها أثر عليه فيما بعد.
وقد صحّ أن الله تعالى يحبّ الأناة، وكلّ خصلة يحبّها الله فهي مظنّة للبركة.

3: وأمّا المشقّة التي تكون في أوّل طلب العلم؛ فلا بدّ منها، وهي من حِكَم الابتلاء، لكن من صبر على مشقّة طلب العلم ومرارته رجي له أن يجد لذّته وحلاوته، وأن يسهّل الله له طريق الطلب، ويحبّبه إليه، وينير بصيرته حتى يعرف حسن عاقبته ، وعظيم ثمرته.

· محاذير وتنبيهات:

ينبغي أن يحذر الطالب في مرحلة التأسيس العلمي من الأخطاء الشائعة التي حرم بها كثير من طلاب العلم من مواصلة الطلب، ومن الانتفاع بما تعلّموه، ومن ذلك:
1: العجلة؛ فإن الاستعجال في قراءة الدروس من دون ضبط آفة تضعف انتفاع الطالب بدراسته، وتضيع عليه كثيراً من الجهد والوقت، لأنّ الدروس التي قرأها إذا لم يضبط مسائلها جيّدا فهو إما أن يتجاوزها من غير إتقان؛ فلا يمكنه البناء على ما درس، في المراحل اللاحقة، وسيضطر إلى دراسة الكتب المتقدّمة كما لو كان من المبتدئين، وإما أن يعود إلى ذلك الكتاب المختصر فيعيد دراسته بإتقان؛ فيكون قد أطال على نفسه الوقت، وضاعف الجهد.
2: التذبذب في مناهج الطلب، والتردد بين الكتب والشيوخ، وهذه آفة حرم بها كثير من طلاب العلم من مواصلة الطلب، فتمضي عليهم سنوات وهم لا يزالون في مرحلة المبتدئين، وقد كلّت قواهم ، وضعفت عزائمهم، لأنّهم لم يروا ثمرة واضحة لتحصيلهم العلمي يبلغون به مرتبة المتوسّطين من طلبة العلم على أدنى تقدير.
3: التوصيات الخاطئة من الطلاب المبتدئين، ومن لم يعرف بالخبرة في مناهج الطلب، وكم من طالب حرم مواصلة الطلب بوصيّة خاطئة من مبتدئ لم يجرّب أو رجل غير حكيم في التوصيات يوصي الطالب بما لا يلائمه، ولا يراعي الفروق بين الطلاب في الملكات والقدرات.
وينبغي لطالب العلم أن لا يقبل وصية منهجية من غير عالم أو طالب علم متمكّن صاحب خبرة ومعرفة بمناهج الطلب.
4: الاستجابة للقواطع والشواغل عن طلب العلم، وتأجيل طلب العلم، أو دراسة بعض الدروس العلمية لأدنى عارض.
وقد عُلم بالتجربة أن الذي يؤجل طلب العلم إلى حين تحسّن أحواله، وقلّة أشغاله لا يواصل طلب العلم غالبا، وإنما يواصل الطلب من جعل للعلم أولوية تزاحم أشغاله.
وذلك لأن طلب العلم فضيلة محفوفة بالمكاره، وليست مرتعاً سهلاً لضعفاء العزيمة والهمة؛ فمن صبر على المكاره واجتهد في الطلب ظفر بفضائل العلم وارتفع شأنه بسبب صبره على طلب العلم ابتغاء مرضاة الله، وقد كان العلماء يُبتلون بأمور شديدة فلا تصرفهم عن طلب العلم، ولا تثني عزائمهم، فرفع الله شأنهم وأعطاهم ما طلبوه بصدق وعزيمة، وقد قال يحيى بن أبي كثير: (العلم لا يستطاع براحة الجسد).

ثانياً: مرحلة البناء العلمي:

· معنى البناء العلمي
إذا أحسن الطالب تأسيسه العلمي؛ أمكنه أن يبدأ مرحلة رفع البناء العلمي وتشييده وتحسينه، فإذا كان الأساس متيناً والبناء حسناً متوازناً كان تحصيل الطالب تحصيلاً مؤصّلاً نافعاً بإذن الله تعالى، يبلغ به مرتبة أهل العلم بأيسر طريقة وأقلّ مؤونة.
والمراد بالبناء العلمي هنا تعلم الطالب لتفاصيل المسائل العلمية تعلما منظما متوازناً شاملاً لأبواب العلم الذي يطلبه.

· أهمية مرحلة البناء العلمي
مرحلة البناء العلمي مرحلة مهمّة جداً لأن فيها أكثر التحصيل العلمي المنظّم لطالب العلم، وهي المرحلة التي ينتقل بها الطالب من مستوى المبتدئين إلى مستوى المتقدّمين في طلب العلم بإذن الله تعالى.
ولذلك ينبغي أن يكون طالب العلم حسن الاستعداد لهذه المرحلة، وأن يعرف لها قدرها ويجتهد فيها اجتهاداً بالغاً.

· سمات مرحلة البناء العلمي
تمتاز الدراسة في مرحلة البناء العلمي بأنّها أيسر على الطالب، وأكثر فائدة، وأغزر مادّة علمية، وذلك لأمور:
أولها: أن العلم الذي يطلبه الطالب أضحى واضح المعالم لديه، وخطته المنهجية بيّنة.
ثانيها: أنّ كثيراً من مسائل ذلك العلم قد درسها الطالب على قدرٍ مناسب، فيسهل عليه بعد ذلك دراستها بتوسّع أكثر.
وثالثها: أن الطالب في هذه المرحلة يكون قد تبيّن له ما يجيده من المهارات وما يبرع فيه؛ فيوجّه عنايته إلى ما يحسن من العلوم، وبالطريقة التي تكون أنفع له وأيسر عليه، وهذا أمر يختلف فيه طلاب العلم كثيراً.
ويحتاج الطالب في هذه المرحلة إلى أمرين مهمّين:
الأول: إدارة وقته وتنظيمه ليمكنه مواصلة طلب العلم بإتقان.
والثاني: القدرة على تصنيف المسائل العلمية وفهرستها بمهارة؛ لأن التمهر في ذلك يختصر عليك كثيراً من الجهد والوقت.

· كيف يكون البناء العلمي؟
يكون البناء العلمي بخمسة أمور:
الأمر الأول: الدراسة المتدرّجة في كتب العلم الذي يطلبه؛ فبعد دراسته للكتاب المختصر؛ يبدأ بدراسة كتاب أوسع منه بما يناسب مرحلة المتوسّطين، ثمّ يتدرّج في دراسة كتب ذلك العلم حتى يصل فيه إلى مرحلة المتقدّمين بإذن الله تعالى.
والأمر الثاني: اتّخاذ أصل جامع في ذلك العلم، يكون كالحاوي لمسائله فيتعاهده بالمراجعة والتهذيب والإضافة حتى ينمو هذا الأصل العلم لديه بنموّ تحصيله العلمي، ويخرج بعد سنوات يسيرة بأصل علمي كبير نفيس جداً في ذلك العلم، يستظهر عامّة ما تضمّنه.
والأمر الثالث: القراءة المنظّمة في كتب ذلك العلم؛ ففي كلّ علم عدد كبير من الكتب المؤلفة في أبواب منه، أو مسائل مفردة، فينظم الطالب قراءته في كتب ذلك العلم، ويضيف إلى أصله العلمي ما يستطرفه من الفوائد.
والأمر الرابع: كثرة مطالعة الكتب التي تعدّ من أصول ذلك العلم، ففي كلّ علم كتب مرجعية يرجع إليها العلماء جيلاً بعد جيل، وينهلون من معينها، وإن انتقى منها كتاباً يدمن قراءته والرجوع إليه فحسن.
والأمر الخامس: قراءة سير علماء ذلك العلم، ومعرفة طبقاتهم ومراتبهم، والتفكّر طرق تعلمهم وتعليمهم لذلك العلم، وتنوّع مسالكهم وطرائقهم في ذلك، واستخراج الفوائد والعبر منها، وهذه المعرفة تفيد طالب العلم فوائد جليلة في تحسين أصله العلمي وتقويته، وتنبّهه إلى أمور كان في غفلة عنها.

·
عناية العلماء بالأصول العلمية
كان لكثير من العلماء أصولهم العلمية الخاصة بهم، وهي بمثابة العدّة العلمية، يداومون على مطالعتها وتحريرها والإضافة إليها، والإفادة منها، وهذه الأصول وإن كانت غير مشتهرة لدى كثير من طلاب العلم إلا أنّ لها أثراً كبيراً في التحصيل العلمي لدى العلماء.
وسبب عدم شهرة الأصول العلمية للعلماء أنهم لم يكونوا ينشرونها، بل ينتقون منها ما يصلح للنشر، ومن تأمّل سير العلماء المتقدّمين عرف عنايتهم بأصولهم العلمية، وأثرها في بنائهم العلمي وثرائهم المعرفي، ومن الأمثلة على ذلك:
أ: أن الإمام أحمد انتقى أحاديث مسنده من أصله الذي تضمّن سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث.
ب: وقال إسحاق بن راهويه: (كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي).
ج: وقال الإمام مسلم: (صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة).
د: وقال أبو داوود: (كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمّنته كتاب السنن).
هـ: جرى شبه تحدٍّ بين أصحاب الإمام أحمد من يكتب من كتاب الصلاة ما ليس في كتب أبي بكر بن أبي شيبة؛ فوجّه لهم أبو بكر الأثرم ستمائة ورقة على هذا الشرط !! ، وهذا لم يكن ليتأتّى له لولا أنّه كان لديه أصل علمي كبير قد اعتنى بجمعه وتصنيفه.
و: ما أجاب به الدارقطني في كتاب العلل مما يدلّ على سعة معرفته بالروايات وجمعه للطرق وتفطنّه لعلل الأسانيد علم أنّ ذلك لم يكن ليتهيّأ له من غير أصل علمي كبير متقن.
ز: ما ذكره ابن رشيق المغربي عن ابن تيمية رحمه الله أنّه وقف على خمسة وعشرين تفسيراً مسنداً، وأنه كتب نقول السلف مجردًا عن الاستدلال على جميع القرآن.
وهذا أصل علميّ مهمّ، أرى أنّه من أعظم أسباب القوة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية في التفسير.

والأمثلة على الأصول العلمية كثيرة ومتنوّعة، ومن تأمل كثرتها علم أنها من سنن العلماء في بنائهم العلمي وإعدادهم العدة العلمية، وأنّهم بذلوا في سبيل ذلك ما بذلوا ، وأمضوا من الوقت ما أمضوا، وإنما لم ينشروا تلك الأصول لأنّها كانت أصولاً خاصّة لضبط التحصيل العلمي، وليست للنشر، وإنما ينشرون ما ينتقونه منها.
والمقصود من هذا حث طلاب العلم على العناية ببناء أصولهم العلمية؛ وكلما أحسن الطالب بناءه ازداد معرفة بقيمته، وانتفاعاً به، ونهلاً منه، ومداومة على مطالعته حتى يكاد يحفظه.

· أنواع الأصول العلمية
للعلماء طرق متنوّعة في بناء أصولهم العلمية، وتنوّع هذه الطرق يفيد الطالب في اختيار أقرب الطرق إلى نفسه وموافقتها لما يحسنه.
النوع الأول: الأصول المبنية من كتب عالم من العلماء واسع المعرفة والاطلاع حسن الفهم كثير التأليف؛ فيقبل الطالب على كتبه ويلخص مسائلها؛ حتى يكون لديه أصل علمي حسن من كتب ذلك الإمام، ومعرفة حسنة بأقواله في المسائل، وبصيرة بمنهجه في ذلك العلم، ويستفيد من طريقته في المسائل التي درسها أصول دراسة نظائر تلك المسائل.
ولهذا النوع أمثلة كثيرة من أعمال العلماء، ومن ذلك:
أ: أن الإمام اللغوي أحمد بن يحيى (ثعلب) أقبل على كتب الفرّاء وحذقها وهو لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره.
ب: وأبو بكر الخلال صاحب كتاب السنة، أقبل على جمع مسائل الإمام أحمد وتصنيفها وترتيبها والتحقق من صحتها حتى صار إماما ذا شأن، وكانت كتبه من أهمّ مراجع الحنابلة.
ج: وكذلك فعل الفقيه الحنبلي ابن مفلح مع مسائل الإمام أحمد فقد كانت له براعة في جمعها وتصنيفها، ومعرفة بمصادرها، وتمييز مراتب الروايات عن الإمام أحمد، حتى قال عنه ابن القيم: (ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح).
د: وكما فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد الرحمن السعدي بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم حيث اعتنيا بها عناية بالغة فانتفعا بها.
هـ: وكما فعل بعض طلاب العلم المعاصرين بكتب الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ودروسه الصوتية؛ فإنّهم أقبلوا عليها إقبالاً حسناً حتى استظهروا مسائلها، وعرفوا أقواله في عامّة مسائل العلم.
وأمثلة هذا النوع كثيرة لدى العلماء، لكن يجب أن يُتنبّه إلى أنّ هذه الطريقة لا تؤتي ثمارها المأمولة حتى يصبر عليها الطالب مدة طويلة من الزمن، يتفقّه في كتب ذلك العالم، ويلخّص مقاصدها، ويفهرس مسائلها، حتى يستظهرها جيداً، ولا يحصل البناء العلمي الحسن بمجرد القراءة العابرة.

والنوع الثاني: العناية بالكتب الأصول في علم من العلوم؛ كأن يعتني طالب علم التفسير بتفسير مهمّ فيكثر من قراءته حتى يستظهر مسائله؛ ويعرف كوامنه، ويعتني طالب علم الفقه بكتاب جامع في الفقه فيضبط مسائله ويدمن قراءته، وقد سلك هذه الطريقة جماعة من العلماء.
أ: قال ابن فرحون المالكي: (لازمت تفسير ابن عطية حتى كدت أحفظه).
ب: ونقل القاضي عياض عن ابن التبان أنه قرأ المدونة أكثر من ألف مرة.
ج: والكافيجي شيخ السيوطي لقّب بذلك بسبب كثرة اشتغاله بكتاب الكافية لابن الحاجب قراءةً وإقراءً.
وقد كانت مكتبات بعض العلماء المعروفين قليلة الكتب بالنسبة لكثير من مكتبات طلاب العلم؛ وكانوا مع ذلك من كبار أهل العلم وكبار أهل الفتوى، لأنّهم كانوا يحسنون قراءة تلك الكتب، ودراسة ما فيها، وقد ذكر الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أنّ ضبط الصحيح القليل أولى من معالجة الكثير الذي لا يميز صحيحه من سقيمه، وأنّ من عجز عن معرفة القليل الصحيح فلا معنى لاستكثاره مما لا يميّزه.

والنوع الثالث: أن يتخذ أصلاً يستفيده من كتب متعددة فيلخّص مسائلها ويجمعها ويصنّفها؛ ولهذا أمثلة:
أ: وهذا كما لخّص الماوردي أقوال المفسّرين من مصادر متعددة في كتابه "النكت والعيون"، وتبعه على ذلك ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير في علم التفسير" وزاد عليه كثيراً.
ب: وكما جمع ابن الصلاح مقدّمته في علوم الحديث من مصادر كثيرة، أكثرها من كتب الخطيب البغدادي؛ فلخّصها، وهذّبها، ورتّبها، وأحسن تصنيفها وتقسيمها، حتى كانت مقدّمة نفيسة، وأصلاً علمياً مهمّا ثمّ هيّأها للنشر؛ ففرح بها أهل العلم، واعتنوا بها عناية كبيرة؛ حتّى عُدّ كتابه هذا من أصول الكتب المؤلّفة في علوم الحديث.
ج: وكما فعل السبكي في جمع الجوامع فإنّه لخّصه من نحو مائتي كتاب في أصول الفقه؛ واعتنى به أهل العلم فكثرت شروحه وحواشيه، حتى نظمه بعض أهل العلم.
د: وكما لخّص ابن تيمية أقوال السلف في التفسير من خمسة وعشرين تفسيراً مسنداً حتى صارت له معرفة حسنة واسعة بأقوال السلف في التفسير.

والنوع الرابع: التأليف لغرض التعلّم، وهذه الطريقة سلكها بعض أهل العلم كالسيوطي رحمه الله فإنّه ألّف التحبير في علم التفسير وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكرّر التأليف في علوم القرآن على صور مختلفة إلى أن ألّف كتابه الكبير "الإتقان في علوم القرآن" فكان كتاباً حسناً جامعا متقناً ، واعتنى به أهل العلم عناية حسنة، حتى عُدّ من أصول الكتب المؤلّفة في علوم القرآن.
وكما فعل الذهبي في علم التاريخ والسير؛ فإنّه كرر التأليف فيه وتلخيص الأحداث والسير من مصادر متعددة؛ فألّف تاريخ الإسلام، والعبر في خبر من غبر، وسير أعلام النبلاء، وغيرها كثير، حتى عدّت كتبه من أهمّ المراجع في التاريخ.
وقريب من هذه الطريقة طريقة ابن الملقّن والمبرد والعيني وابن قطلوبغا وغيرهم.

والنوع الخامس:
الاجتهاد في شرح كتاب من الكتب المختصرة الشاملة لعامّة مسائل العلم الذي يطلبه، فيشرحه شرحاً وافياً حافلاً يعتني بتحريره وتهذيبه حتى يكون أصلاً جامعًا لمسائل ذلك العلم، وقد سلك هذه الطريقة جماعة من أهل العلم رحمهم الله ، ومن ذلك:

أ: ما فعله ابن القيّم لمّا شرح كتاب منازل السائرين في كتابه العظيم "مدارج السالكين" فشرحه شرحاً وافياً بديعاً محرراً حتى كان من أهمّ مراجع علم السلوك.
ب: وما فعله الزركشي في عدد من الكتب؛ فإنّه شرح مقدمة ابن الصلاح شرحاً وافياً جامعاً مليئا بالفوائد والنقول المنتخبة من كتب أهل العلم، وشرح أيضاً جمع الجوامع للسبكي بالطريقة نفسها؛ حتى كانت كتبه تلك من أنفس الكتب المؤلّفة في تلك العلوم وأجمعها، وأغزرها مادّة علمية.
ج: وما فعله الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري؛ فإنّه شرحه شرحاً كبيراً وافياً أمضى فيه أكثر من ثلاثين سنة؛ واعتنى بتهذيبه وتحريره حتى عدّه العلماء مرجعاً مهماً لهم في شرح صحيح البخاري.
د: وما فعله السخاوي بألفية العراقي في الحديث؛ فإنّه شرحها شرحاً كبيراً وافياً محرراً في مجلدات عدة.

والنوع السادس: أن يقسّم العلم الذي يطلبه إلى أبواب كبيرة، ويكون له في كلّ قسم أصل علمي كبير؛ إما أن يؤلّف فيه أو يجعل لنفسه ملخّصاً خاصّا به، وقد سلك هذه الطريقة جماعة من أهل العلم، ومن ذلك ما فعله الخطيب البغدادي في أكثر أبواب علوم الحديث؛ فإنّه قد جعل بذلك لنفسه أصولاً علمية متعددة في علوم الحديث، وقد أحسن في جمعها وتهذيبها حتى عدّت كتبه من أهمّ المراجع لدى العلماء في علوم الحديث، حتى قال الحافظ ابن نقطة: "كل من أنصف عَلِمَ أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه".
وكذلك ما فعله ابن أبي الدنيا في أبواب متفرّقة من العلم مما تدعو الحاجة إليه؛ حتى قيل فيه: "ملأ ابن أبي الدنيا الدنيا علما".

والنوع السابع: الدراسات الجامعة المحررة لمسائل ذلك العلم، وهذا النوع من أصعب هذه الأنواع وأعظمها مشقّة، لكنه من أكثرها فائدة، ومن ذلك ما صنعه الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة في دراساته لأساليب القرآن؛ وأمضى في إعدادها أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً، وقال في كلمة الختام: (فقد أذن الله لهذا البحث أن يكتمل وأن يرى النور بعد أن أمضيت في إعداده وطباعته ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين عاماً تابعت فيها الدرس، وواليت البحث من غير كلل ولا ملل، فجاء في أحد عشر جزءاً ضخماً ، ولقد كنت أخشى أن يحول الأجل دون الأمل، فالحمد لله والشكر له على أن مد في عمري وهيأ لي الأسباب التي مكنتني من طباعته).
وقال: (وما من شك في أن هذه الدراسات قد أثرت الدراسات النحوية إثراء عظيماً، وحفلت بالكثير من الطرائف والفوائد والفرائد.
وما ذلك إلا لكثرة المراجع التي اعتمدت عليها وتنوعها.
لم أقتصر على كتب النحو وحدها، ولا على كتب الإعراب وحدها، ولا على كتب التفسير وحدها، وإنما شملت القراءات كثيراً من الكتب المختلفة. كما ارتكزت هذه الدراسات على استقراء أسلوب القرآن وقراءاته المتنوعة).ا.هـ.
وموسوعته هذه من أعاجيب العصر، وقد قال فيها الأستاذ محمود شاكر رحمه الله: (فماذا يقول القائل في عمل قام به فرد واحد، لو قامت عليه جماعة لكان لها مفخرة باقية؟!!
فمن التواضع أن يسمى هذا العمل الذي يعرضه عليك هذا الكتاب «معجمًا نحويًا صرفيًا للقرآن العظيم»؛ فمعلوم أن جل اعتماد المعاجم قائم على الحصر والترتيب، أما هذا الكتاب، فالحصر والترتيب مجرد صورة مخططة يعتمد عليها، أما القاعدة العظمى التي يقوم عليها، فهي معرفة واسعة مستوعبة تامة لدقائق علم النحو، وعلم الصرف، وعلم اختلاف الأساليب).

· ما هي الطريقة المثلى في البناء العلمي؟
من الخطأ اقتراح طريقة موحدة لجميع الطلاب في بناء الأصل العلمي، وذلك بسبب اختلاف الطلاب في أوجه العناية العلمية، واختلاف ملكاتهم وقدراتهم، وتباين الفرص العلمية المتاحة لهم.
وتنوّع مسالك العلماء في بناء أصولهم العلمية يفيد الطالب باختيار أقرب الطرق إليه، وأيسرها عليه، وأنفعها له.

· محاذير وتنبيهات
على طالب العلم أن يحذر من جملة من الأخطاء الشائعة؛ حتى يحصّن بناءه العلمي ويحسّنه، ومن هذه الأخطاء:
1: التصدّي للبناء العلمي على ضعف في التأسيس، وهذا الضعف سيكون له أثره في البناء العلمي، ومن أحسّ من نفسه ضعف تأسيس في العلم الذي يطلبه فليبادر إلى معالجته، حتى يبدأ مرحلة البناء العلمي على استعداد حسن بإذن الله تعالى.
2: ضعف التوازن في البناء العلمي، فتجد بعض الطلاب متبحّراً في أبواب من العلم الذي يطلبه ضعيفاً في الأبواب الأخرى منه.
3: العشوائية في القراءة، وهذه آفة حرم بها بعض طلاب العلم من إحكام أصولهم العلمية، وقادهم الاسترسال في القراءة العشوائية إلى إهمال أصولهم العلمية والتفريط فيها؛ حتى يكون منهم من يمضي سنوات في طلب العلم والقراءة الكثيرة غير المنظمة، ولا يستفيد سوى ثقافة عامة لا يستطيع البناء عليها.
4: التصدّر قبل التأهل، فيشتغل الطالب بالتصدر وما يتطلبه، ويغفل عن مواصلة بنائه العلمي.
وطالب العلم إذا ابتُلي بالحاجة إليه في بلد لا يوجد فيه من العلماء من يكفي لنشر العلم وتعليم الناس وتفقيههم في المسائل التي تتوقف عليها صحّة عباداتهم ومعاملاتهم؛ فعليه أن يوازن بين مواصلة بنائه العلمي، وتعليم الناس ما أحسن معرفته وتعلّمه من مسائل العلم، وليتجنّب القول بما لا يعلم، فإنّه إذا صدقت نيّته مع ذلك رُجي له أن يوفّق لحسن طلب العلم، وأن يبارك الله له في علمه، وليحرص على أن يجعله له أوقاتا يعتزل فيها للانكباب على التعلم الجادّ في مسائل ذلك العلم على طريقة متوسّطة بين التطويل والاختصار.
وليحذر هؤلاء من الحديث في مسائل الترف العلمي، وما يجلب النزاع ويثير الأهواء، فإنّ ذلك من مظان الافتتان والانحراف عن الجادّة في طلب العلم.
5: الإكثار المرهق، وهذه آفة تؤخّر طالب العلم كثيراً عن إتمام بنائه العلمي، وتهذيبه وتحسينه، فإنّه إذا أكثر على نفسه من المهامّ المتزامنة حتى يرهقها ضعف عزمه عن مواصلة البناء العلمي، وربّما توقّف وانقطع، ولذلك يوصى طالب العلم أن يختار في البناء العلمي طريقة ميسّرة يمكنه المداومة عليها وإتمامها حتى ينتفع بها.

ثالثاً: مرحلة النشر العلمي

والمراد بالنشر العلمي إفادة طلاب العلم من علمهم بعد إحسان التأسيس العلمي، وقطع شوط حسن في البناء العلمي، وهي مرحلة مهمّة لتحسين إفادة الطالب لغيره من علمه، فمن الناس من يحصّل علماً غزيراً لكن لا يُنتفع به كما يؤمّل منه، ولذلك أسباب يرجع قسم منها إلى أنه لم يسلك الطريقة المناسبة لنشر علمه.

أنواع النشر العلمي:

والنشر العلمي له أنواع كثيرة يمكن للعالم وطالب العلم تبليغ علمه عن طريقها:
ومنها: إلقاء الكلمات والدروس والمواعظ والخطب إلقاء صوتياً أو مرئياً.
ومنها: التصدر للفتوى وإجابة أسئلة السائلين.
ومنها: تأليف الكتب التعليمية المحررة؛ كشروح المتون العلمية وغيرها.
ومنها: كتابة الرسائل والمقالات.
ومنها: إعداد البحوث العلمية القيّمة.
ومنها: إعداد الفهارس العلمية والكشافات التحليلية.
ومنها: إجراء الدراسات العلمية المتخصصة في أبواب من العلم.
ومنها: النهوض ببعض الأعمال الدعوية التي تتطلب قدراً حسناً من التأهّل العلمي؛ ومنها: إقامة المشروعات العلمية المتنوّعة كتنظيم الدورات العلمية، وإنشاء المعاهد والهيئات العلمية، وإنشاء المواقع العلمية.

تنبيهات:
ينبغي أن يختار طالب العلم الطريقة الأوفق له في النشر العلمي، وأن يتدرّب على مهاراتها ويعدّ نفسه لها إعداداً حسناً:
- فمن الطلاب من يجيد الحديث والإلقاء، وله أسلوب مؤثر، فهؤلاء ينبغي لهم أن يعتنوا بما أنعم الله عليهم من هذه النعم، بتحسين سبل الإفادة منها.
- ومن الطلاب من لا يفتح له في الإلقاء، وكلما أراد أن يتجشّمه وجد مشقّة بالغة وحرجاً ، لكنّه قد فتح له في الكتابة فله بها أسلوب حسن مؤثر؛ فينبغي له أن يعتني بما فتح الله له.
- ومنهم من وهبه الله قدرة عالية على الإدارة وحسن القيادة والأعمال الميدانية؛ فهؤلاء يوصون بالنهوض بالمشروعات العلمية والدعوية، وأن يجتهدوا في ذلك.
إلى غير ذلك من أنواع الفتوحات في الملكات والقدرات، التي أرجو أن لا يعدم إحداها طالب علم صادق، ومن طلاب العلم من يجمع الله له عدداً منها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

والمقصود أن طالب العلم ينبغي له في مرحلة النشر العلمي أن يحرص على أمرين:
الأول: أن يعتني بجوانب الإحسان والإجادة إليه، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (قيمة كلّ امرئ ما يحسنه).
والثاني: أن يتجنّب تكلّف ما يشقّ عليه، فقد يكون ما زوي عنه فراغاً له ليعتني بما فتح له فيه، وليحذر من الموازنات الجائرة، ومحاكاة من لا يمكنه مقاربتهم فيما فتح لهم فيه، وليحرص على التعرّف على ما وهبه الله من المهارات والملكات العلمية النافعة، فيجتهد في تنميتها وتحسينها.
ولا بأس أن يعالج بعض جوانب الضعف لديه في الأمور الأخرى لكن بقدر لا يشقّ عليه، ولا يشغله عما فتح له فيه.
والكلام في تفاصيل مرحلة النشر العلمي يطول، ولعل الله يهيّئ مقاماً آخر لحسن الإفاضة فيه.

"اللهم انفعنا بما علمتنا ، وعلمنا ما ينفعنا ، وارزقنا علماً تنفعنا به "


* أصل هذا الدرس من دروس دورة التأصيل العلمي، وإنما قدّمته بين يدي هذه الدورة للفائدة العلمية.