10 Aug 2018
تفسير قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) }
تفسير قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}
تفسير قول الله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم}
مقصد الآية:
هذه الآية بيان للآية السابقة، وقد تضمَّنت على وجازة ألفاظها أحسن التعريف بالصراط المستقيم، وبيان سبب سلوكه، وأحوال سالكيه وثوابهم، وما يقتضيه هذا السبب من الواجبات، وبيّنت أنواع مخالفيه، وأحوالهم وعقوباتهم؛ ومناسبة عقوباتهم لأسباب مخالفاتهم، ببيان بديع محكم غاية الإحكام.
بيان معاني الإنعام في القرآن:
الإنعام يأتي في القرآن على معنيين:
المعنى الأوَّل: إنعام عامّ، وهو إنعام فتنة وابتلاء، كما في قول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ...﴾، وقوله: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وهذا الإنعام عام للمؤمنين والكافرين كما قال تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾.
وهذا الإنعام حجة على العباد ودليل على المنعم جل وعلا ليخلصوا له العبادة ويشكروه على نِعَمِه كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾.
وقال: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.
والنوع الثاني: الإنعام الخاص، وهو إنعام منَّة واجتباء، وهو الإنعام بالهداية إلى ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الأقوال والأعمال، وما يمنُّ به على بعض عباده من أسباب فضله ورحمته وبركاته.
وهو المقصود في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾.
بيان معنى الإنعام في هذه الآية:
إذا تبيّن ما تقدّم فالمراد بالإنعام في هذه الآية الإنعام الخاصّ بالهداية الخاصة والتوفيق والاجتباء والإعانة وصرف المعوّقات والوقاية من الفتن وكيد الشيطان وشرّ النفس.
فالإنعام في هذه الآية شامل لأسباب الهداية وأحوالها وثمراتها؛ فإنَّ العبد يحتاج إلى إنعام يعرّفه بسبيل الهدى ويبصّره به، وإنعام لإرادة اتّباع الهدى، وإنعام لإعانته على سلوك سبيله وصرف القواطع والمعوّقات عنه، وإنعام بتثبيته وتأييده حتى يجد ثمرة هدايته، وإنعام بتوفيقه للمداومة على سلوك هذا الصراط حتى يلقى ربَّه جلَّ علا وهو راضٍ عنه.
فإنعام الله تعالى على عبده في هدايته إلى صراطه المستقيم يشمل كلَّ ما ذُكِر وغيره مما لا يحيط به العبد علماً؛ ولو ذهب يعدّد هذه النعم لم يحصها، فألهمه الله وصفاً جامعاً شاملاً رضيه سبحانه وتعالى وتقبّله من عباده وأجابهم وأثابهم عليه، والله تعالى محيط بكلّ ما يحتاجه العبد من نعمه ليهتدي بهداه ويفوز برضاه ويسلم من سخطه وعقابه؛ فكان قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} كافياً في وصف الصراط المستقيم الذي يريد الهداية إليه وفيه.
المراد بالذين أنعم الله عليهم:
الذين أنعم الله عليهم قد بيّنهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾
فهذه الآية تضمّنت بيان أصناف الذين أنعم الله عليهم، وأنّهم على درجات في هذا الإنعام؛ فمن الدرجات ما اختصّ الله به أنبياءه ورسله، ومن هذه الدرجات ما جعل الأمَّة تتفاضل في طلبه وإدراكه.
وكل صنف من هؤلاء قد فضّل الله بعض أهله على بعض حتى الرّسل كما دلّ على ذلك قول الله تعالى: {تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض} ، فهم وإن كانوا في درجة الرسالة إلا أن بينهم تفاضلاً عظيماً فيما اختصّ الله به بعضهم دون بعض من الفضائل، ففضّل أولى العزم من الرسل على غيرهم، وفضّل بعضهم بأن كلّمهم، وفضّل نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن اتّخذهما خليلين، وفضّل نبيّنا صلى الله عليه وسلم بفضائل عظيمة من المقام المحمود والوسيلة والشفاعة الخاصة وغيرها مما اختصه الله به دون سائر النبيين والمرسلين.
فإذا كان هذا التفاضل جارياً في أفضل الدرجات وهي درجة النبوّة؛ فهو كذلك في سائر الدرجات؛ فالصدّيقون يتفاضلون، والشهداء يتفاضلون، والصالحون كذلك يتفاضلون تفاضلاً عظيماً في وصف الصلاح؛ فمنهم من يكون له أصل الصلاح، وهو ما يصحّ به إسلامه؛ فيكون موعوداً بالجنّة، ومنهم من يكون من المحسنين في صلاحهم؛ فيكون من أهل الدرجات العلى.
تنوّع عبارات السلف في بيان المراد بالذين أنعم الله عليهم:
تنوّعت عبارات السلف رحمهم الله تعالى في بيان المراد بالذين أنعم الله عليهم:
فروى بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {صراط الّذين أنعمت عليهم} قال: «طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، الّذين أطاعوك وعبدوك». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال الربيع بن أنس البكري: النبيون.
وقال مجاهد: هم المؤمنون، وهي رواية ابن جريج عن ابن عباس، ولم يدرك، وإنما أخذ ابن جريج عن أصحاب مجاهد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه) رواه ابن جرير.
وقال وكيع بن الجراح: {الذين أنعمت عليهم} المسلمين.
وهذه الأقوال لا تعارض بينها، وهي من باب التفسير بالمثال لتوضيح المعنى للسائل والمستمع، فيقع الاختلاف في اللفظ بحسب سؤال السائل ومقتضى الخطاب والحاجة إلى البيان، فيذكر المفسّر بعض معنى الآية بما يفيد السائل والمستمع، لا على أنَّ الآية لا تحتمل من المعنى إلا ما ذكر.
وكلّ هؤلاء من طبقات الذين ذكرهم الله في سورة النساء من الذين أنعم الله عليهم.
الحكمة من حذف متعلّق الإنعام في هذه الآية:
معنى متعلّق الإنعام يتبيّن بسؤال: أنعم الله عليهم بماذا؟
وما الحكمة من عدم التصريح به مع الحاجة إلى معرفته؟
وكلّ حذف في القرآن فله حكمة، ومن ذلك حذف متعلّق الإنعام في هذه الآية؛ والأظهر أنَّ الحذف للدلالة على العموم في كلّ ما من شأنه حصول تمام الهداية، وقد تقدّم بيان ما يحتاجه العبد من النعم العظيمة لتتمّ له نعمة الهداية، ولكثرة ما يحتاجه العبد من الهدايات في كلّ شأن من شؤونه.
وهذا نظير حذف متعلّق أفعل التفضيل في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ وذلك لإرادة العموم؛ أي أقوم في كل شيء يُحتاج إليه من أبواب الدين في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك والدعوة والسياسة وغيرها مما تتعلق به حاجة الفرد والأمة في الهداية إلى ما ينفع ويقرب إلى الله عز وجل، وتتحقق به النجاة والسلامة مما يُخشى ضرره.
تنبيه هذه الآية على سبب الهداية:
هذه الآية فيها تنبيه على سبب الهداية، وأنها لا تحصل إلا بإنعام الله تعالى على عبده، وأن العبد لولا إنعام الله عليه لما كان له أن يهتدي لمعرفة الحق، ولا لإرادة اتّباع الهدى، ولا للثبات على الهداية.
قال ابن جرير رحمه الله: (وفي هذه الآية دليلٌ واضحٌ على أنّ طاعة اللّه جلّ ثناؤه لا ينالها المطيعون إلاّ بإنعام اللّه بها عليهم وتوفيقه إيّاهم لها، أوَلا يسمعونه يقول: {صراط الّذين أنعمت عليهم}؟!!
فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداءٍ وطاعةٍ وعبادةٍ إلى أنّه إنعامٌ منهُ عليهم؟)ا.هـ.
بيان تمام نعمة الله تعالى على هذه الأمة:
قد أتمّ الله تعالى علينا نعمته بفضله ورحمته فهي نعمة تامّة غير ناقصة كما قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}
فالمراد بالنعمة هنا نعمة الهداية والبيان لما يحبّه الله عزّ وجلّ ويرضاه في كلّ شأن من شؤون المسلمين؛ فلم يترك الله أمراً يحتاج الناس فيه إلى بيان الهدى إلا وبيّنه علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
ومع تمام هذه النعمة فإنَّ المسلمين يتفاضلون في إدراك نصيبهم منها كلّ بحسب مبلغه من العلم والفقه في الدين.
وتمام هذه النعمة له أثر عظيم على نفس المؤمن إذ يطمئنّ به إلى أنَّ ما يطلبه قد تكفّل الله ببيانه وأتمّ النعمة به؛ فيحمله ذلك على تدبّر القرآن والتفقّه فيه وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى يزداد نصيبه من هذه النعمة العظيمة، ويجد ما يحتاج إليه من معرفة الهدى.
بيان ما يقتضيه وصف الإنعام:
ذكر الإنعام في هذه الآية فيه تنبيه على وجوب شكر النعمة، فالمؤمن اللبيب إذا قرأ هذه الآية؛ علم أنَّه يطلبُ نِعمةً تقتضي شكراً، فيعزم على شكر الله تعالى عند طلبه؛ فيوفّق بصلاح نيّته وصدقه وإخلاصه إلى شكر هذه النعمة؛ فيكون موعوداً بمزيدٍ من فضل الله ورحمته وبركاته، ولا يزال يسأل ربّه من نعمه، ويشكره على إنعامه، وربّه يكرمه ويزيده من فضله حتى يبلغ الدرجات العلى.
الحكمة من الإضافة في قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم}:
أثار ابن القيّم رحمه الله سؤالاً عن فائدة إضافة الصراط إلى الاسم الموصول المبهم دون أن يقول: (صراط النبيين والمرسلين) مثلاً.
وأجاب على هذا السؤال جواباً حسناً، وتلخيصه أن فيه ثلاث فوائد:
إحداها: التنبيه على علّة كونهم من المُنعم عليهم، وهي الهداية؛ فبهداية الله لهم كانوا من المنعم عليهم.
والثانية: قطع التعلّق بالأشخاص ونفي التقليد المجرّد عن القلب؛ واستشعار العلم بأنّ اتّباع من أمرنا باتّباعهم إنما هو امتثال لأمر الله.
والثالثة: أن الآية عامّة في جميع طبقات المنعَم عليهم؛ وأنه تعالى هو الذي هدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كلّ من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فكان ذكرهم بالوصف الجامع أوجز وأبلغ وأعمّ فائدة.
فائدة إسناد الإنعام في قوله: {أنعمتَ} إلى ضمير الخطاب:
وبيان هذا السؤال أنه تعالى قال: {الذين أنعمتَ عليهم} ولم يقل المنعَم عليهم كما قال: {المغضوب عليهم}.
وكلام أهل العلم في بيان الحكمة من ذلك يتلخّص في أمور:
أولها: توحيد الربّ جلّ وعلا، والتصريح بذكر إنعامه وحدَه، وأنّه لولا إنعامه لم يهتدِ أحد إلى الصراط المستقيم، فكان ذكر الضمير أدلَّ على التوحيد من قول (المنعَم عليهم).
والثاني: أنَّ ذلك أبلغ في التوسّل والثناء على الله تعالى؛ فإنّ ذلك يقتضي أنَّ كل مهتدٍ إلى الصراط المستقيم فإنّما اهتدى بما أنعم الله عليه، فيتوسّل بسابق إنعامه على كلّ من أنعم عليهم بأن يُلحقه بهم وأن يُنعم عليه كما أنعم عليهم.
قال ابن عاشور: (فيقول السائلون: اهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهمُّما بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات)ا.هـ.
والثالث: أن هذا اللفظ أنسب للمناجاة والدعاء والتقرب إلى الله تعالى والتضرّع إليه.
والرابع: أنَّ مقتضى شكر النعمة التصريح بذكر المنعِم ونسبة النعمة إليه.
قال ابن القيّم رحمه الله: (الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعِم بها، وأصل الشكر ذكرُ المنعِم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمّن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من ذكره وإضافة النعمة إليه ما ليس في ذكر "المنعَم عليهم" لو قاله فضمّن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ})ا.هـ.
الحكمة من تكرار ذكر الصراط:
وتوضيح هذا السؤال: أن قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم..} فيه ذِكْرُ الصراط أولاً معرّفاً باللام، ثمّ ذكره معرّفاً بالإضافة؛ ولم يختصر ذكر الصراط مع تقارب الموضعين.
فيقال في جواب هذا السؤال: أنّ ذكره في كلّ موضع له حكمة ومناسبة وفائدة لا تتحقق في غيره.
ففي الموضع الأول كان الأهمّ للسائل أن يُهدى إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الصحيح السهل المفضي إلى العاقبة الحسنة، وأنه طريق واحد كما دلّ عليه معنى التعريف والعهد الذهني.
وفي الموضع الثاني: أتى ذكر الصراط معرّفاً بالإضافة إلى الذين يُستأنس باتّباعهم واقتفاء آثارهم وليفيد بأنَّه صراط آمن مسلوك قد سلكه الذين أنعم الله عليهم ففازوا بفضل الله ورحمته وحسن ثوابه.
قال ابن القيّم رحمه الله: (وهذا كما إذا دللت رجلا على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها؛ فأنت تقول: (هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك)، ثم تزيد ذلك عنده توكيدا وتقوية فتقول: (وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة)، أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرا زائدا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسّي والمتابعة فإذا ذُكِرَ لها من تتأسّى به في سلوكها أَنِسْتَ واقتحمتها، فتأمّله)ا.هـ.
ولابن عاشور كلام حسن في جواب هذا السؤال أيضاً وخلاصته أن فيه تفصيلاً بعد إجمال مفيد؛ ليتمكّن الوصف الأوّل من النفوس، ثمّ يعقب بالتفصيل المبيّن لحدود الصراط وعلاماته وأحوال السالكين وأحكامهم.
تفسير قول الله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
هذه آية مستقلة عند جمهور أهل العدد، وفي العدّ المكيّ والكوفي قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} آية واحدة.
المراد بالمغضوب عليهم والضالين:
في تفسير هذه الآية أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار عن بعض الصحابة والتابعين:
فمن الأحاديث:
- حديث عديّ بن حاتم الطائي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال)). رواه أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم، وهو جزء من حديث طويل في خبر إسلام عديّ بن حاتم رضي الله عنه.
- وحديث بديل
بن ميسرة العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق، أنه أخبره من سمع النبي
صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بلقين،
فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟
قال: ((هؤلاء المغضوب عليهم))، وأشار إلى اليهود.
قال: فمن هؤلاء؟
قال: ((هؤلاء الضالون)) يعني النصارى) رواه عبد الرزاق وأحمد ومحمد بن نصر، وأبو يعلى.
ورواه ابن مردويه
في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير - من طريق بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن
شقيق، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب
عليهم، قال: ((اليهود)) ، قلت: الضالين؟ قال: ((النصارى)).
وقد حسّن الحافظ ابن حجر هذا الإسناد.
- وحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، ثم قال: «قال ربكم: ابنَ آدم، أنزلت عليك سبع آيات، ثلاث لي، وثلاث لك، وواحدة بيني وبينك، فأما التي لي: فـ{الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}، والتي بيني وبينك: {إياك نعبد وإياك نستعين}منك العبادة، وعليَّ العون لك، وأما التي لك: فـ{اهدنا الصراط المستقيم}هذه لك: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم}: اليهود، {ولا الضالين}: النصارى» رواه الطبراني في الأوسط، وفي إسناده سليمان بن أرقم متروك الحديث، وأبو سلمة لم يسمع من أبيّ بن كعب.
لكن العمدة على
حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه، فقد صححه جماعة من أهل العلم، واستشهد
لصحة معناه من القرآن جماعة من أهل العلم، ومن أوفاهم عبارةً شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله؛ إذ قال: (وقد دل كتاب الله على معنى هذا الحديث، قال
الله سبحانه: {قُلْ
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ
لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}، والضمير عائد إلى اليهود، والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} وهم المنافقون الذين تولوا اليهود باتفاق أهل التفسير، وسياق الآية يدل عليه.
وقال تعالى: {ضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ
وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وذكر في آل عمران قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم.
وقال في النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} إلى قوله: {قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا
كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة الحد، كما نهاهم عنه في قوله: {يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} {وَلَا تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} الآية.
واليهود مقصرون عن الحق، والنصارى غالون فيه)ا.ه.
وتفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصاري قد رُوي أيضاً عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم بأسانيد فيها نظر.
لكن صحّ عن جماعة من التابعين منهم: مجاهد، وزيد بن أسلم، والسدي، والربيع بن أنس البكري.
ولذلك توافقت أقوال السلف على تفسير المغضوب عليهم باليهود، وتفسير الضالين بالنصارى.
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: (ولا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافا).
وهذا لا يقتضي قصر هذا الوصف عليهم؛ لأنه وصف له سبب؛ فمن فعلَ مثلَ فعلِهم لقي مثل جزائهم.
وقد تظافرت أقوال السلف على:
- أنَّ
سبب الغضب على اليهود أنَّهم لم يعملوا بما علموا؛ فهم يعرفون الحقّ كما
يعرفون أبناءهم، لكنَّهم أهل عناد وشقاق وكِبْرٍ وحَسَد؛ وقسوة قلب،
يكتمون الحقَّ، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويعادون أولياء الله؛ فاستحقّوا
غضب الله.
-
وأنَّ النصارى ضلوا لأنّهم عبدوا الله على جهل، متبّعين في عباداتهم
أهواءهم، مبتدعين في دينهم ما لم يأذن الله به، قائلين على ربّهم ما ليس
لهم به علم؛ فكانوا ضُلّالاً لأنَّهم ضيّعوا ما أنزل الله إليهم من العلم،
ولم يسترشدوا به، وعبدوا الله بأهوائهم، وغلوا في دينهم، واتّخذوا أحبارهم
ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ بطاعتهم فيما يشرّعون لهم من العبادات،
وفي تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرّم الله؛ فضلّوا بذلك ضلالاً بعيداً.
التحذير من مشابهة اليهود والنصارى:
وقد صحّ عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه حذر أمّته من التشبّه باليهود والنصاري، وأخبر أنَّ
من هذه الأمّة من سيتبع سننهم؛ كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن».
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم».
ولأجل هذا اشتهر تحذير السلف رحمهم الله تعالى من التشبه باليهود والنصارى؛ لئلا يصيب من تشبّه بهم من جنس ما أصابهم من الجزاء.
قال ابن تيمية رحمه الله: (روى الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)) قال الترمذي حديث صحيح.
وقال سفيان بن عيينة: (كانوا يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى).
وكان غير واحد من السلف يقول: (احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون).
فمن عرف الحقَّ ولم يعمل به أشبه اليهود الذين قال الله فيهم: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} .
ومن عبد الله بغير علم بل بالغلو والشرك أشبه النصارى الذين قال الله فيهم: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}).ا.هـ.
الحكمة من تمييز الفريقين بوصفين متلازمين:
إن قيل: ما الحكمة
من تخصيص اليهود بوصف الغضب عليهم، والنصارى بوصف الضلال مع تلازم
الوصفين، وكون الفريقين ضُلالاً مغضوباً عليهم؛ لما تقرّر من أنّ المغضوب
عليه ضالّ غير مهتدٍ، وأنّ الضالّ سالكٌ سبيلاً يستحقّ به غضب الله.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى وَسَم كلَّ طائفة بما تُعرفُ به، حتى صارت كلّ صفة كالعلامة التي تعرف بها تلك الطائفة، وهذا حاصل جواب ابن جرير.
والثاني: أنَّ
أفاعيل اليهود من الاعتداء والتعنّت وقتل الأنبياء وغيرها أوجبت لهم
غضباً خاصّا، والنصارى ضلوا من أوّل كفرهم دون أن يقع منهم ما وقع من
اليهود، وهذا حاصل جواب ابن عطية.
والثالث: أنّ
اليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد، والنصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل،
وهذا جواب ابن القيّم وتبعه تلميذه ابنُ كثير رحمهما الله.
وقال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد: (الشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة، ومن عدم إرادته والعمل به أخرى..
فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به، وإيثار غير عليه بعد معرفته؛ فلم يكن ضلالا محضاً.
وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه؛ فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوباً عليهم ضالين.
ثم لما كان الهدى
والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره، وكان
الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق، والبغي يمنعه من إرادته؛ كان العبد
أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا
وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة؛ فيعلمه ويعرفه، ثم يجعله مريدا له
قاصدا لاتباعه؛ فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على
عمد وعلم، والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال)ا.هـ.
والوجه الرابع: التنبيه على سببي سلبِ نعمة الهداية:
- فمن ترك العمل
بالعلم استحقّ سلب نعمة الهداية؛ لمقابلته نعمة الله تعالى بما يُغضب الله
إذ لم يتّبع الهدى بعد معرفته به؛ كما فعلت اليهود. - ومن أعرض عن العلم
الذي جاء من عند الله ضلَّ عن الصراط المستقيم، وابتدع في دين الله ما لم
يأذن به الله؛ كما فعلت النصارى.
واستحضار هذا
المعنى مما يقوّي في نفس المؤمن الحرص على اتّباع هدى الله واجتناب ما
يعرّض العبد للحرمان من نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم.
الحكمة من تقديم المغضوب عليهم على الضالين
هذه المسألة مشتهرة في كتب التفسير، وفي الجواب عنها وجوه:
أحدها:
أن ذلك لمراعاة فواصل الآيات، وهذا الجواب وإن كان صحيحاً في نفسه إلا
أنّه لا يستقلّ بالجواب إذ لا بدّ من حكمة أخرى غير مجرّد مراعاة الفواصل،
وقد ذكره ابن عاشور وجهاً.
والثاني: لأنَّ اليهود متقدمون في الزمان على النصارى، ذكره ابن القيّم وجهاً.
والثالث: أن اليهود أغلظ كفراً من النصارى؛ فبدأ بهم، ، وهذا الجواب ذكره ابن القيّم رحمه الله، وهو جواب شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، قال: (قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه بخلاف المخالف عن جهل)ا.هـ.
والرابع: أن تقديم المغضوب عليهم على الضالين فيه فائدة بلاغية وهي تحقيق المقابلتين: المقابلة الخاصة والمقابلة العامة:
- فالخاصة بين العمل وتركه.
- والعامة بين العلم وعدمه.
وتوضيح ذلك أنَّ
الهداية لا تتحقّق إلا بعلم وعمل، والعلم متقدّم على العمل فكانت دائرته مع
ما يقابله أعمّ، والعمل بالعلم دائرته مع ما يقابله أخصّ؛ فتحقيق
المقابلة الخاصة مقدّم على تحقيق المقابلة العامّة؛ لتتمّ المقابلة
الخاصّة أولاً ثم تتمّ بعدها المقابلة العامّة لأنّها أشمل.
الحكمة من إبهام ذكر الغاضب في قوله: {غير المغضوب عليهم}
في قول الله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} أسند الفعل إليه جلّ وعلا، وقال هنا: {غير المغضوب عليهم} ولم يقل: ( الذين غضبت عليهم).
وهذا السؤال تكلّم
في جوابه جماعة من المفسّرين وذكروا في أجوبتهم وجوها عديدة، والأظهر أنَّ
ذلك لإفادة عظم شأن غضب الله عليهم، وأنه غضب الملك الجبّار الذي يغضب
لغضبه جنوده في السماوات وفي الأرض، فيجد آثار ذلك الغضب في كلّ حال من
أحواله.
وهذا نظير بغض الله
تعالى لمن يبغض من عباده، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا دعا
جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء
فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال ثم يوضع له القبول
في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال
فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال:
فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض).
وكما في صحيح ابن حبان من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس».
والمقصود أنَّ إبهام ذكر الغاضب هنا من فوائده عموم الغاضبين وكثرتهم.
والتعبير بالاسم
دون الفعل لما في الاسم من الدلالة على تمكّن الوصف منهم، وأنَّه ملازم
لهم، ففيه من المعنى ما لا يفيده قول: (غضبت عليهم) لأنه قد يدلّ على وقوع
الغضب مرّة واحدة.
وذكر ابن القيّم رحمه الله تعالى وجهين بديعين آخرين:
أحدهما: أنَّ
ذلك جارٍ على الطريقة المعهودة في القرآن من أن أفعال الإحسان والرحمة
والجود تضاف إلى الله تعالى، وأفعال العدل والجزاء والعقوبة يُحذف ذكر
الفاعل فيها أو يسند الفعل إلى من كان له سبب فيه؛ تأدّباً مع الله جلّ
وعلا، ولئلا يقع في بعض النفوس ما لا يصحّ من المعاني التي يُنزّه الله
عنها، كما في قول الله تعالى فيما حكاه عن الجنّ {وأنا لا ندري أشرّ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربّهم رشداً}
وقول إبراهيم الخليل: {الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين}.
فمن ذلك قوله تعالى: {الذين أنعمت عليهم} فأسند الضمير إليه جلَّ وعلا، وقوله: {المغضوب عليهم} حذف ذكر الفاعل، وقوله: {الضالين} أسند الفعل إلى من قام به، ولم يقل (الذين أضللتهم) لئلا يُفهم من ذلك نوع عذر لهم، مع أنّ ضلالهم بقضاء الله وقدره.
والآخر: أنّ ذلك أبلغ في تبكيتهم والإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم؛ بخلاف المنعم عليهم ففي إسناد فعل الإنعام إلى الله تعالى في قوله {أنعمت عليهم} ما يفيد عنايته بهم وتشريفهم وتكريمهم.
معنى "لا" في قوله تعالى: {ولا الضالين}:
لو قيل: (غير
المغضوب عليهم والضالين) لأوهم ذلك أن الوصفين لطائفة واحدة وأن الصراط
الآخر مشترك بينهما؛ فأتي بحرف "لا" للتأكيد على أنه المراد بالضالين طائفة
غير الطائفة المعطوفة عليها،، وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة.
قال ابن فارس :
(قيل فيه: إن "لا" إنما دخلت ها هنا مُزِيلةً لتوهُم متوهم أن الضّالين هم
المغضوب عليهم، والعرب تنعت بالواو، يقولون: مررت بالظريف والعاقل فدخلت
"لا" مُزِيلةً لهذا التوهّم ومُعلِمَةً أنَّ الضّالين هم غير المغضوب
عليه)ا.هـ.