10 Aug 2018
تفسير قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}
قال الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين }
هذه الآيات
الثلاث حمدٌ لله تعالى وثناء عليه وتمجيد له، كما في صحيح مسلم من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "
قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا
قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي...). الحديث.
فهذه الآيات الثلاث من القسم الذي جعله الله تعالى له من صلاة العبد لربّه بفاتحة الكتاب.
فهو حمدٌ لله تعالى بما حمد به نفسه، وثناء عليه بتكرير ذكر أسمائه
وصفاته، وتمجيد له بتكرير الثناء عليه بما وصف به نفسه من الصفات الجامعة
لمعاني المجد والعظمة.
تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
معنى {الحمد لله}
الحمد هو ذكر محاسن المحمود عن رضا ومحبة.
والتعريف في الحمد له معنيان:
المعنى الأول: استغراق الجنس، أي كلّ حمد
فالله هو المستحقّ له، فكلّ ما في الكون مما يستحقّ الحمد؛ فإنما الحمد
فيه لله تعالى حقيقة لأنه إنما كان منه وبه.
والمعنى الثاني: التمام والكمال، أي الحمد
التامّ الكامل من كلّ وجه وبكلّ اعتبار لله تعالى وحده؛ فهو المختصّ به؛
فالله تعالى لا يكون إلا محموداً على كلّ حال، وفي كلّ وقت، ومن كلّ وجه،
وبكلّ اعتبار.
- فهو تعالى محمود على كلّ ما اتّصف به من صفات الكمال والجلال والجمال.
- وهو محمود في جميع أمره.
- وهو محمود على كلّ ما خلق وقضى وقدّر.
فملأ حمدُه تعالى كلَّ شيء؛ {وإن من شيء إلا يُسبّح بحمده}.
والله تعالى له الحمد بالمعنيين كليهما.
فعلى المعنى الأول
كلّ حمدٍ حقيقته أنه لله تعالى لأنه هو المانّ به، وهو من آثار حمده، فما
أَعْطَى أحدٌ من خلقهِ شيئاً يُحمدُ عليه إلا مما أعطاه الله، ولا اتّصف
أحدٌ من خلق الله بصفة يُحمد عليها إلا لأنَّ الله تعالى هو الذي جبله
عليها وخلقه على تلك الصفة، ووفّقه لما اتصف به من السجايا والأخلاق
الحميدة.
وأمّا الحمد على المعنى الثاني فهو مختصٌّ بالله تعالى لا يُطلق على
غيره؛ لأنَّ معناه الحمد التامّ المطلق الذي لا يشوبه نقص ولا انقطاع، ولا
تخلو منه ذرَّة من ذرَّات الكون؛ وقد قال الله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبّح بحمده}، واقتران التسبيح بالحمد؛ لإفادة معنى التعظيم والتنزيه مع الحمد المشتمل على الحبّ والرضا.
معنى اللام في قوله تعالى: {لله}
اللام هنا للاختصاص على الراجح من أقوال أهل العلم؛ لأنَّ الحمدَ
معنىً أُسند إلى ذاتٍ؛ لكن مما تحسن معرفته أن الاختصاص يقع على معنيين:
أحدهما: ما يقتضي الحصر، كما تقول: "الجنة للمؤمنين" أي لا يدخلها غيرهم.
والآخر: ما يقع على معنى الأولوية والأحقية، كما يقال: الفضل للمتقدّم، أي هو أولى به وأحقّ.
إذا تبيّن لك الفرق بين هذين المعنيين؛ فاعلم أنهما يتواردان على
المعنيين المذكورين للحمد آنفاً؛ فإذا أريد المعنى الأول للحمد؛ فالاختصاص
يفيد معنى الأولوية والأحقية.
وإذا أريد المعنى الثاني للحمد فالاختصاص يفيد معنى الحصر.
الفرق بين الحمد والشكر
الفرق بين الحمد والشكر أنّ الحمد أعمّ من وجه، والشكر أعمّ من وجه آخر.
- فالحمد أعمّ؛ باعتبار أنه يكون على ما
أحسن به المحمود، وعلى ما اتّصف به من صفات حسنة يُحمد عليها، والشكر أخصّ
لأنه في مجازاة مقابل النعمة والإحسان.
- والشكر أعمّ من الحمد باعتبار أنّ الحمد يكون بالقلب واللسان، والشكر يكون بالقلب واللسان والعمل؛ كما قال الله تعالى: {اعملوا آل داوود شكرا}.
معنى (الرَّبّ)
(الرَّبُّ) هو الجامع لجميع معاني الربوبية من الخلق والرزق والملك
والتدبير والإصلاح والرعاية، فلفظ الربّ يطلق على هذه المعاني في لسان
العرب إطلاقاً صحيحاً، وشواهد هذه المعاني مبثوثة في معاجم اللغة، ودلائل
النصوص عليها ظاهرة بيّنة.
أنواع الربوبية:
ربوبية الله تعالى لخلقه على نوعين:
النوع الأول: ربوبية عامة بالخلق والملك والإنعام والتدبير، وهذه عامة لكل المخلوقات.
والنوع الثاني: ربوبية خاصة لأوليائه جل وعلا بالتربية الخاصة والهداية والإصلاح والنصرة والتوفيق والتسديد والحفظ.
والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها.
معنى (العالمين):
العالمون جمع عالَم، وهو اسم جمعٍ لا واحد له من لفظه، يشمل أفراداً كثيرة يجمعها صِنْفٌ واحد.
فالإنس عالَم، والجنّ عالَم، وكلّ صنف من الحيوانات عالَم، وكلّ صنف
من النباتات عالم، إلى غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى من عوالم
الأفلاك والملائكة والجبال والرياح والسحاب والمياه، وغيرها من العوالم
الكثيرة والعجيبة.
وقال تعالى: { وَمَا
مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ
إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ
ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
فكلُّ أمَّة من هذه الأمم عالَم. قال ابن كثير: (والعالم
جمعٌ لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السّماوات والأرض
في البرّ والبحر، وكلّ قرنٍ منها وجيلٍ يسمّى عالمًا أيضًا)ا.هـ.
معنى {ربّ العالمين}
وربوبيّة الله تعالى للعالمين ربوبيّة عامّة على ما تقدّم بيانه من معاني الربوبية.
- فهو تعالى {ربّ العالمين} الذي خلق العوالم كلَّها كبيرها وصغيرها على كثرتها وتنوعها وتعاقب أجيالها.
وفي هذه العوالم أممٌ لا يحصيها إلا من خلقها، وفي كل مخلوق من هذه المخلوقات دقائق وعجائب في تفاصيل خلقه تبهر العقول، أنشأها {ربّ العالمين} من
العدم على غير مثال سابق؛ فيستدل المتفكّر في شأنها بما تبيَّن له من
تلك العجائب على حكمة خالقها جل وعلا وسعة علمه، وعظيم قدرته، فتبارك
الله رب العالمين.
- وهو ربُّ العالمين المالك لكلِّ تلك العوالم فلا يخرج شيء منها عن
ملكه، وهو الذي يملك بقاءها وفناءها، وحركاتها وسكناتها، فيبقيها متى شاء،
ويفنيها إذا شاء، ويعيدها إذا شاء.
- وهو ربّ العالمين الذي دبَّر أمرها، وسيّر نظامها، وقدّر أقدارها، وساق أرزاقها، وأعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.
- وهو ربّ العالمين الذي له الملك المطلق والتصرّف التامّ، فما يقضيه
فيها نافذ لا مردّ له، وما يريد به أحدا من خلقه من نفع أو ضرّ فلا حائل
بينه وبينه، بل لا تملك جميع المخلوقات لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه
جل وعلا.
- وهو ربّ العالمين الذي لا غنى للعالمين عنه، ولا صلاح لشؤونهم إلا
به، كلّ نعمة ينعمون بها فإنما هي من فضله وعطائه، وكلّ سلامة من شرّ
وضرٍّ فإنما هي بحفظه ورعايته وإذنه، فهم الفقراء إليه فقراً دائماً
متّصلاً، وهو الغنّي الحميد.
- وهو ربّ العالمين الذي دلّت ربوبيّته للعالمين على كثير من أسمائه
الحسنى وصفاته العليا، فلا يرتاب الموفَّق في بديع خلقه، وعجائب حكمته،
وسَعَة مُلْكه، وشدّة قوّته، وتمام غناه، وعظمة مجده، وإحاطته بكل شيء،
وقدرته على كلّ شيء، إلى غير ذلك من الصفات التي يدلّ عليها التفكّر في خلق
الله تعالى وربوبيّته للعالمين.
- وهو تعالى {ربّ العالمين} المستحقّ لأن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا معه إلهاً آخر، كما أنهم لم يكن لهم ربٌّ سواه، ولهذا قال تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}؛ فاحتجّ على توحيد العبادة باسم الربوبية.
والمقصود أنّ تأمُّلَ معاني الربوبية والتفكر في آثارها في الخلق
والأمر يورث اليقين بوجوب التوحيد، وأنَّ العالم لا صلاح له إلا بأن يكون
ربه واحدا، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وقال: {مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
أقوال العلماء في المراد بالعالمين:
اختلف المفسّرون في المراد بالعالمين في هذه الآية على قولين صحيحين:
القول الأول: المراد جميع العالَمين، على ما تقدّم شرحه، وهو قول أبي العالية الرياحي، وقتادة، وقال به جمهور المفسّرين.
والقول الثاني: المراد بالعالمين في هذه
الآية: الإنس والجنّ، وهذا القول مشتهر عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه
سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وروي أيضاً عن ابن جريج.
وقد
استُدلّ له بقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ
عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} والمراد بهم هنا
المكلّفون من الإنس والجن.
وهذا القول صحيح المعنى في نفسه، ولعلّ
الصارف لهم إلى هذا المعنى اعتبار الخطاب للمكلّفين الذين هم الإنس
والجنّ، كما قال تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون}؛ فهم أولى من
يراد بلفظ العالمين؛ لأنهم المكلفون بالعبادة.
والقول الأوّل أعمّ، وهو قول جمهور المفسّرين.
والاختلاف في بعض أوجه التفسير الصحيحة كالاختلاف في القراءات
الصحيحة؛ فيجوز أن يستحضر القارئ أحد المعاني عند قراءته إذا لم يمكن
الجمع بينها.
قال
شيخ مشايخنا محمد الأمين الشنقيطي(ت:1393هـ) رحمه الله في تفسير سورة
الفاتحة: (قوله تعالى: {رب العالمين} لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في
موضع آخر بقوله: {قال فرعون وما رب العالمين . قال رب السماوات والأرض
وما بينهما}).
وهذا من أحسن ما يُستدلّ به على ترجيح القول الأول.
تفسير قول الله تعالى: {الرحمن الرحيم (3)}
تقدّم بيان معنى الاسمين الجليلين، وتضمّنهما صفة الرحمة، وبيان التناسب بين الاسمين، والحكمة من اقترانهما، وبيان أنواع الرحمة.
الحكمة من تكرار ذكر {الرحمن الرحيم} بعد ذكرهما في البسملة:
جواب هذه المسألة يتبيّن بتأمّل سياق الآيات في الموضعين ومقاصد تلك الآيات:
فالموضع الأول: البسملة، وغرضها الاستعانة
بالله تعالى والتبرّك بذكر اسمه واستصحابه على تلاوة القرآن وتدبّره
وتفهّمه والاهتداء به؛ فيكون لذكر هذين الاسمين في هذا الموضع ما لا
يخفى من المناسبة، وأن التوفيق لتحقيق هذه المقاصد إنما يكون برحمة الله
تعالى، والتعبّد لله تعالى بذكر هذين الاسمين مما يفيض على قلب القارئ
من الإيمان والتوكّل ما يعظم به رجاؤه لرحمة ربّه، وإعانته على تحقيق
مقاصده من التلاوة.
والموضع الثاني: {الحمد لله رب العالمين .
الرحمن الرحيم} جاء فيه ذكر هذين الاسمين بعد ذكر حمد الله تعالى
وربوبيّته العامّة للعالمين؛ فيكون لذكر الاسمين في هذا الموضع ما يناسب
من معاني رحمة الله تعالى وسعتها لجميع العالمين، وأنَّ رحمته وسعت كلّ
شيء، وأنه تعالى عظيم الرحمة كثير الرحمة فيكون ذكر هذين الاسمين من
باب الثناء على الله تعالى تقدمة بين يدي مسألته التي سيسألها في هذه
السورة.
وإذا ظهر الفرق بين مقصد ذكر هذين الاسمين في البسملة، وبين ذكرهما بعد
الحمد ؛ ظهر للمتأمّل معنى جليل من حكمة ترتيب الآيات على هذا الترتيب
البديع المحكَم.
وقد أساء من حَمَل على من يعدّ البسملة آية من الفاتحة ؛ بأنه لو كانت
الآية من الفاتحة لكان تكرار هذين الاسمين لغوا لا معنى له، وهذه زلَّة
منكَرة، واختيار المرء قراءة من القراءات أو مذهباً من مذاهب العدّ لا
يسوّغ له الطعن في غيره مما صحّ عند أهل ذلك العلم، بل تُعتقد صحّة
الجميع، والاختيار فيه سعة ورحمة، ويدخله الاجتهاد.
تفسير قول الله تعالى: {مالك يوم الدين (4)}
بيان مقصد الآية:
مقصد هذه الآية تمجيد الله تعالى والتفويض إليه؛ كما صحَّ في الحديث القدسي المتقدّم ذكره؛ فقد وردت فيه الروايتان في صحيح مسلم:
فأمَّا تمجيد العبد
لربّه بذكر ملكه ليوم الدين فتدلّ عليه لوازم هذا الوصف العظيم ودلائله
الباهرة؛ التي تدلّ على عظمة ملكه تعالى، وكثرة جُنده، وكمال قوّته، وقهره
لعباده، وقدرته على بعثهم بعد موتهم، وسعة علمه فلا يعزب عنه شيء،
وإحاطته بكلّ شيء، وإحصائه أعمال عباده، وسرعة حسابه ومجازاته إياهم،
وعدله في جزائه، ورحمته وإحسانه لأوليائه، وعزَّته وشدّة انتقامه من
أعدائه، وحكمته الباهرة في موافقة الجزاء للعمل، وقدرته على توفية كلّ
عاملٍ جزاءه، إلى غير ذلك من المعاني العظيمة، والصفات الجليلة الباهرة؛
التي هي من أظهر معاني تمجيد الله تعالى.
وأمَّا التفويض إلى
الله تعالى فيدّل عليه تلاشي كلّ ملك دون ملك الله تعالى، واضمحلال قدرة
كلّ أحد على أن يملك لنفسه أو لأحد غيره شيئاً، فلم يبق إلا التفويض لله
تعالى، وهذا المعنى كما دلَّ عليه لازم معنى الآية، ونصّ الحديث القدسي،
دلَّ عليه أيضاً قول الله تعالى في سورة الانفطار: {وما أدراك ما يوم الدين
ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}.
فيوم الدين هو يوم التفويض التامّ إلى الله تعالى من الخلق كلّهم برّهم وفاجرهم {وألقوا إلى الله يومئذ السلم}.
والمؤمن إذا تلا هذه الآية معتقداً معانيها عالماً بمقاصدها هداه ذلك إلى
تمجيد الله تعالى والتفويض إليه؛ فينفعه هذا التمجيد والتفويض يوم يلقى
ربَّه في ذلك اليوم العظيم.
القراءات في الآية:
في هذه الآية قراءتان سبعيتان متواترتان:
الأولى: {مالك يوم الدين} بإثبات الألف بعد الميم، وهي قراءة عاصم والكسائي.
والثانية: [مَلِك يوم الدين] بحذف الألف، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء وحمزة وابن عامر.
بيان معنى القراءتين:
أمَّا المَلِك فهو ذو المُلك، وهو كمال التصرّف والتدبير ونفوذ أمره على من تحت ملكه وسلطانه.
وإضافة المَلِك إلى يوم
الدين (ملك يوم الدين) تفيد الاختصاص؛ لأنه اليوم الذي لا مَلِكَ فيه
إلا الله؛ فكلّ ملوك الدنيا يذهب ملكهم وسلطانهم، ويأتونه كما خلقهم
أوَّل مرة مع سائر عباده عراة حفاة غرلاً؛ كما قال الله تعالى: {يوم هم
بارزون لا يخفى على اللّه منهم شيءٌ لمن الملك اليوم للّه الواحد
القهّار}.
وأمَّا المالك فهو الذي
يملِكُ كلَّ شيء يوم الدين، فيظهر في ذلك اليوم عظمة ما يَـمْلِكه جلَّ
وعلا، ويتفرّد بالمِلك التامّ فلا يملِك أحدٌ دونه شيئاً إذ يأتيه الخلق
كلّهم فرداً فرداً لا يملكون شيئاً، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً،
ولا يملك بعضهم لبعضٍ شيئاً { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ
لله}.
فالمعنى الأولّ صفة
كمال فيه ما يقتضي تمجيد الله تعالى وتعظيمه والتفويض إليه، والمعنى الثاني
صفة كمال أيضاً وفيه تمجيد لله تعالى وتعظيم له وتفويض إليه من أوجه
أخرى، والجمع بين المعنيين فيه كمال آخر وهو اجتماع المُلك والمِلك في حقّ
الله تعالى على أتمّ الوجوه وأحسنها وأكملها؛ فإذا كان من الناس من هو
مَلِكٌ لا يملِك، ومنهم من هو مالكٌ لا يملُك، فالله تعالى هو المالك
الملِك، ويوم القيامة يضمحلّ كلّ مُلك دون ملكه، ولا يبقى مِلكٌ غير
مِلكه.
المراد بيوم الدين
هذه الآية يفسّرها قول الله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}.
فالمراد بيوم الدين هنا
هو يوم القيامة، من غير خلاف بين المفسّرين، وسمّي يوم الدين لأنه يومٌ
يُدان الناس فيه بأعمالهم، أي يجازون ويحاسبون، كما قال الله تعالى:
{يومئذ يوفّيهم الله دينهم الحقّ} أي جزاءهم الذي يستحقونه.
وقال تعالى: {وإنَّ الدين لواقع} أي الجزاء كائن لا بدّ منه.
قال قتادة في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} قال: «يوم يدين الله العباد بأعمالهم» رواه عبد الرزاق وابن جرير.
معنى الإضافة في {مالك يوم الدين}
الإضافة في مالك يوم الدين لها معنيان:
المعنى الأول: إضافة على معنى (في) أي هو المالك في يوم الدين؛ ففي يوم الدين لا يملك أحد دونه شيئاً.
والمعنى الثاني: إضافة على معنى اللام، أي هو المالك ليوم الدين.
قال ابن السراج: (إن معنى مالك يوم الدين: أنه يملك مجيئه ووقوعه). ذكره أبو حيان.
وكلا الإضافتين تقتضيان الحصر، وكلاهما حقّ، والكمال الجمع بينهما.