10 Aug 2018
الدرس الثاني: تفسير الاستعاذة
تفسير الاستعاذة:
الاستعاذة هي الالتجاء إلى من بيده العصمة من شرِّ ما يُستعاذ منه.
قال الحصين بن الحمام المري:
.....................................................فعوذي بأفناء العشيرة إنما ..... يعوذ الذليلُ بالعزيز ليُعصما
والعِصمة هي المنَعَة والحماية ، قال الله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}، وقال: {ما لهم من الله من عاصم}.
وقد أمر الله تعالى بالاستعاذة به من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن؛ قال الله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم * إنّه ليس له سلطانٌ على الّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون}.
وأمر بالاستعاذة
منه مطلقاً في مواضع من القرآن، وبيّن أن الشيطان عدوّ للإنسان، إنما يريد
أن يغوي بني آدم ليكونوا من أصحاب النار، وأن من أعظم حبائله الوسوسة التي
يغرّ بها بعض بني آدم ويستزلّهم بها حتى يُنسيهم ما وعدهم الله به من وعد
الحقّ إذا آمنوا به وأطاعوه، ولذلك جاء الأمر الصريح باتّخاذه عدوا يجب
الحذر منه والانتهاء عن اتّباع خطواته.
فقال تعالى: {
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا
يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ
يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}.
وقال تعالى: {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ
كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ
فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}.
وقال تعالى: { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)}
- وقال تعالى: {وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه سميعٌ عليمٌ}.
- وقال تعالى: {قل ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين * وأعوذ بك ربّ أن يحضرون}
- وقال تعالى: {وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه هو السّميع العليم}.
وهذه الآيات تدلّ
دلالة بيّنة على أن للشيطان من الشرور ما يستوجب استعاذة المسلم منه بربّه
جلّ وعلا، وأنه لا سلامة من شرّه وكيده إلا بتحقيق الاستعاذة بالله تعالى.
وللشيطان شرور
كثيرة متنوّعة لا يخلو منها شأن من شؤون الإنسان؛ كما في صحيح مسلم من حديث
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)).
وأصل كيد الشيطان يبدأ بالوسوسة ولا يكاد يسلم منها أحد، فمن استعاذ بالله منه عصمه، ومن استجاب لوساوسه استزلّه، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}
وقال تعالى: {
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ
الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
وقد يتعرّض الشيطان
لبعض الصالحين بالإيذاء والتخويف والإضرار بأنواع من الضرر، ومن ذلك كيد
بعض مردة الجنّ لبعض الصالحين، وما يكون من همزات الشياطين ونزغهم، قال
الله تعالى في شأن أيّوب عليه السلام: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربّه أنّي مسني الشيطان بنصب وعذاب}
ومن هذا النوع ما
يحصل لبعض الصالحين من الابتلاء بالسحر والعين وتسلط الشياطين، وما يحصل
لهم من الآفات التي تُضعف أبدانهم ويتسلط عليهم الشيطان بأنواع من الأذى.
وهذا التسلّط شفاؤه
الصبر والتقوى؛ فمن صبر واتّقى كانت عاقبته حسنة، ورفع الله عنه بلاءَه
وأعظم جزاءه؛ فإنَّ الله تعالى لا يديم البلاء على عبده، ولا يجعل عاقبة من
اتّبع هداه سيّئة، وقد قال الله تعالى: {فاصبر إنّ العاقبة للمتقين}، وقال الله تعالى: {إنه من يتق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين}.
وهؤلاء لا يتمكن
الشيطان منهم تمكناً تاماً ما بقي معهم الإيمان بالله جل وعلا والعمل
الصالح، ومهما بلغ بهم الأذى فإن الله يجعل لهم مخرجاً وفرجاً، والله تعالى
لا يديم البلاء على عبده، وعظم الجزاء مع عظم البلاء.
ومن هذا الإيذاء ما
حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن كما في مسند الإمام أحمد ومصنف
ابن أبي شيبة وغيرهما من حديث أبي التيَّاح قال: سأل رجلٌ عبدَ الرحمن بن
خَنْبَش رضي الله عنه وكان شيخاً كبيراً قد أدرك النبيَّ صلى الله عليه
وسلم: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين كادته الشياطين؟
قال: (جاءت
الشياطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية، وتحدَّرت عليه من
الجبال، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم).
قال: (فرعب؛ جعل يتأخر).
قال: (وجاء جبريل عليه السلام؛ فقال: يا محمد قل).
قال: ((ما أقول؟)).
قال: (قل:
((أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق
وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ
في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل
طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن))؛ فطفئت نار الشياطين وهزمهم الله عزَّ وجل).
فهذه التعويذة نافعة لمن وجد شيئاً من أذى الشياطين وتبدّيهم له وتفلّتهم عليه.
أما من أمعن في اتباع خطوات الشيطان وأعرض عن ذكر الله فإنه يؤول به الأمر إلى أن يستحوذَ عليه الشيطان حتى يضلَّه ضلالاً بعيداً، كما قال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}
وقال تعالى: {فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
(98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}.
ومن ضيّع الصلاة وتعامى عن ذكر الله تعالى كان على خطر من استحواذِ الشيطان عليه كما قال الله تعالى: {وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
وفي المسند والسنن من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من ثلاثة في قرية لا يؤذّن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)).
ولا سبيل للعصمة من
كيد الشيطان إلا بالاستعاذة بالله والإيمان به والتوكّل عليه، كما بيّنه
الله تعالى في آية النحل، ويبنغي للمؤمن أن يدرك حاجته لإعاذة الله له من
شرّ الشيطان، وأنه لو وكله الله إلى نفسه وكله إلى عجز ومضيعة، وإلى عدوّ
شديد العدواة عظيم الحسد، دائم الكيد لإضلاله ما دامت روحه في جسده، فمن
أدرك ذلك أثمر له هذا الإدراك يقيناً يورثه الافتقار الدائم إلى الله تعالى
والاعتصام به {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، وأثمر
له هذا اليقين العملَ بما أرشد الله تعالى إليه وأرشد إليه رسوله صلى
الله عليه وسلم مما يعصم الله به عبده من كيد الشيطان، وأصل ذلك ومعناه
الجامع: تقوى الله عزّ وجلّ بأداء الفرائض والانتهاء عن المحرمات، والتوبة
مما يحصل من العبد من ذنب باقتراف محرّم أو تضييع واجب.
ومن ذلك:
قراءة السور والآيات والأدعية والأذكار والتعويذات الشرعية التي جعلها
الله سبباً مباركاً للعصمة من كيد الشيطان،ومنها: المعوذات وآية الكرسي إذا
أصبح وإذا أمسى، وقراءة آخر آيتين من سورة البقرة، وقراءة سورة البقرة،
وقراءة الأذكار والتعويذات الشرعية، وهي متنوّعة وميسّرة، ولله الحمد،
وفضلها عظيم، وأثرها نافع جداً.
ومن ذلك: التسمية في المواضع المندوب إلى التسمية فيها؛ عند الدخول والخروج، وعند الأكل والشرب والجماع والرمي وكلّ أمر ذي بال.
وينبغي للمؤمن أن يحرس مداخل الشيطان على الإنسان، وأهمها: الغفلة، والهوى، والغضب، والفرح، والشهوة، والشحّ، والفضول.
فهذه المداخل التي
يدخل منها الشيطان على كثير من الناس فيستزلّهم؛ فمن أقام دون كلّ مدخل
منها حرساً من ذكر الله والاعتصام به والعمل بما أرشد الله إليه في كلّ أمر
من هذه الأمور؛ فقد وقي شرّا عظيماً.
الاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن
قال الله تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم * إنّه ليس له سلطانٌ على الّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون}
فالشيطان يريد أن
يحول بين المرء وبين الانتفاع بالقرآن بما يستطيع من الكيد، فإن استطاع أن
يردّه عن تلاوته أصلاً ردّه حتى يقع في هجران القرآن؛ فإن عصاه المسلم
فقرأ القرآن اجتهد في صدّه عن الانتفاع بتلاوته بإفساد قصده، أو إشغال
ذهنه، أو التلبيس عليه في قراءته أو غير ذلك من أنواع الكيد، إذ لا شيء
أنكى على الشيطان ولا أغيظ عليه من أن يتّبع المسلم هدى ربّه جلّ وعلا
ويفوز بفضله ورحمته.
وَمَن عصمه الله من
كيد الشيطان عند تلاوته للقرآن كان أقرب إلى إحسان تلاوته، وتدبّر آياته،
والتفكّر في معانيه، وعَقْلِ أمثاله، والاهتداء بهداه، وكان أحرى بالخشية
والخشوع، والسكينة والطمأنينة، والتلذّذ بحلاوة القرآن، ووجدان طعم
الإيمان، والفوز بنصيب عظيم من فضل الله ورحمته وبركاته.
هل الاستعاذة قبل القراءة أو بعدها؟
قال الله تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}
أي: إذا أردت قراءة
القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنّ العرب تطلق الفعل على
مقاربته، كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)).
أي إذا أراد الدخول إلى الخلاء أو قارب الدخول إلى الخلاء.
ومنه ما في
الصحيحين أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها أن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن
حتى يقال له: أصبحت أصبحت، وقد فسَّره جماعة من الشرَّاح كابن عبد البر
وغيره بأن المراد قاربت الصباح.
وهذا أصحّ الأقوال في تفسير هذه الآية، وهو قول جمهور العلماء من المفسّرين واللغويين، ورجّحه ابن جرير واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
ونُسب إلى الإمام مالك وحمزة الزيات القول بأن الاستعاذة بعد القراءة، ولا يصحّ ذلك عنهم.
قال ابن الجزري: (هو قبل القراءة إجماعاً ولا يصح قولٌ بخلافه، عن أحد ممن يعتبر قوله، وإنما آفة العلم التقليد).
ثم قال بعد توجيه معنى الآية على القول الأول: (ثم
إنَّ المعنى الذي شُرعت الاستعاذة له يقتضي أن تكون قبل القراءة؛ لأنها
طهارة الفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطييب له، وتهيؤ لتلاوة كلام
الله تعالى، فهي التجاء إلى الله تعالى، واعتصام بجنابه من خلل يطرأ عليه،
أو خطأ يحصل منه في القراءة وغيرها وإقرار له بالقدرة، واعتراف للعبد
بالضعف والعجز عن هذا العدو الباطن الذي لا يقدر على دفعه ومنعه إلا الله
الذي خلقه).ا.هـ.
صِيَغ الاستعاذة
روي في صيغ الاستعاذة عدد من الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة والتابعين؛ فمن الأحاديث المرفوعة:
1. حديث
سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه
وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضبا قد احمر وجهه، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: (( إني لأعلم كلمة، لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) رواه البخاري ومسلم.
وهذه الصيغة
الواردة في الحديث لم تكن في الصلاة ولا عند القراءة، لكنّها أصحّ ما روي
من صيغ الاستعاذة، وبها يقول الشافعي وكثير من الفقهاء والقراء.
2. وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان، من همزه ونفخه ونفثه». رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داوود.
3. وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك»، ثم يقول: «لا إله إلا الله» ثلاثا، ثم يقول: «الله أكبر كبيرا» ثلاثا، «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» رواه أحمد والدارمي وأبو داوود والترمذي.
4. وحديث نافع بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين دخل في الصّلاة، قال: «اللّه
أكبر كبيرًا، ثلاثًا، الحمد للّه كثيرًا، ثلاثًا، سبحان اللّه بكرةً
وأصيلًا ثلاثًا، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان من همزه ونفخه ونفثه».
قال عمرٌو: «وهمزه: المُوتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشّعر». رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجه.
ومن الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم:
1. أثر الأسود بن يزيد النخعي قال: افتتح عمر الصلاة، ثم كبر، ثم قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك , وتعالى جدك، ولا إله غيرك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الحمد لله رب العالمين» رواه ابن أبي شيبة.
2. وأثر نافع، عن ابن عمر أنه كان يتعوذ يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، أو «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» رواه ابن أبي شيبة.
وفي رواية عند عبد الرزاق وابن المنذر كان يقول: « اللهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان الرّجيم »
ومن الآثار المروية عن بعض التابعين:
1. ما رواه عبد الله بن طاووس بن كيسان عن أبيه وكان من أصحاب ابن عباس أنه كان يقول: «رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم» رواه عبد الرزاق.
2. وما رواه أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أنه كان يتعوذ قبل قراءة فاتحة الكتاب وبعدها، ويقول في تعوذه: «أعوذ بالله السميع العليم من همزات الشياطين، وأعوذ بالله أن يحضرون» رواه ابن أبي شيبة.
3. وما رواه كهمس بن الحسن عن عبد الله بن مسلم بن يسار، قال: سمعني أبي، وأنا أستعيذ بالسميع العليم، فقال: «ما هذا؟» قال: قل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم). رواه ابن أبي شيبة.
وهذه الأحاديث والآثار تدلّ على أنّ الاختيار في صيغة الاستعاذة واسع، وقد اختلفت اختيارات أئمة الفتوى والقراءات في ذلك:
- فمن الأئمة من اختار التعوذ بقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وهو قول أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد، وهو المختار عند القراء.
قال ابن الجزري: (المختار لجميع القراء من حيث الرواية {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم}).
- ومنهم من اختار: {أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم} وهو رواية عن أحمد.
- ورواية ثالثة عنه: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم).
قال النووي: (قال
الشّافعيّ في الأمّ وأصحابنا يحصل التّعوّذ بكلّ ما اشتمل على الاستعاذة
باللّه من الشّيطان لكنّ أفضله أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم).
وقال ابن قدامة: (وهذا كلّه واسع، وكيفما استعاذ فهو حسن).
لكن ينبغي أن يختار
من الصيغ المأثورة، وأن لا يتّخذ صيغة غير مأثورة شعاراً له يكثر منها
عند القراءة؛ لأنّ الأصل في القراءة الاتّباع.
تحقيق الاستعاذة:
وتحقيق الاستعاذة يكون بأمرين:
أحدهما: التجاء
القلب إلى الله تعالى وطلب إعاذته بصدق وإخلاص معتقداً أن النفع والضر
بيده وحده جلّ وعلا، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
والآخر: اتّباع هدى الله فيما أمر به ليعيذه، ومن ذلك بذل الأسباب التي أمر الله بها، والانتهاء عما نهى الله عنه.
فمن جمع هذين الأمرين كانت مستعيذاً بالله حقاً.
حكم الاستعاذة لقراءة القرآن
اختلف العلماء في حكم الاستعاذة لقراءة القرآن على ثلاثة أقوال:
القول الأول: هي سنّة في الصلاة وخارجها، وهو قول جمهور العلماء.
والقول الثاني: لا يستعيذ في صلاة الفريضة، ويستعيذ في النافلة إن شاء، وفي غير الصلاة، وهذا قول الإمام مالك في المشهور عنه.
والقول الثالث: وجوب الاستعاذة لقراءة القرآن، وهذا القول يُنسب إلى عطاء بن أبي رباح وسفيان الثوري، ولم أره مُسنداً عنهما.
والراجح هو القول الأول وهو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
حكم الجهر بالاستعاذة
أما في الصلاة فيسرّ بها على قول الجمهور في استحباب الاستعاذة، قال ابن قدامة: ( يسرّ الاستعاذة ولا يجهر بها ، لا أعلم فيه خلافا).
وأما في القراءة خارج الصلاة؛ فيجهر بها على نحو ما يجهر بقراءته، وهو قول جمهور أهل العلم من القراء والفقهاء.
قال ابن الجزري:
(المختار عند الأئمة القراء هو الجهر بها عن جميع القراء، لا نعلم في ذلك
خلافا عن أحد منهم إلا ما جاء عن حمزة وغيره).
ثم ذكر عن بعض قراء المدينة أنهم كانوا يخفون التعوذ ويجهرون بالقراءة، وذكر عن بعضهم أنهم كانوا يقرأون من غير استعاذة.
والراجح قول الجمهور.
خبر نزول الاستعاذة
روي في نزول
الاستعاذة حديث ضعيف الإسناد منكر المتن، وهو ما أخرجه ابن جرير الطبري من
طريق بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس،
قال: (أوَّل
ما نزل جبريل على محمد، قال: يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من
الشيطان الرجيم. ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}).
قال عبد الله: (وهي أول سورة أنزلها الله على محمد، بلسان جبريل، فأمره أن يتعوَّذ بالله دون خلقه).
بشر بن عمارة
الخثعمي ضعيف الحديث لا يقبل تفرّده، ضعّفه جماعة من أهل الحديث، وقال
البخاري: (تعرف وتنكر)، وهذا الخبر من منكراته، والضحاك لم يسمع من ابن
عباس، وهذا الخبر رواه ابن أبي حاتم من هذا الطريق ولم يذكر فيه الاستعاذة.
معنى "الشيطان"
الشيطان مُشتقّ من "شَطَنَ" على الراجح من قولي أهل اللغة، وهو لفظ جامع للبعد والمشقّة والالتواء والعُسر، يقال: "نوىً شطون": أي بعيدة شاقّة، و"بئر شطون": ملتوية عوجاء بعيدة القعر، و"حرب شطون": عسرة شديدة.
قال الخليل بن أحمد: (الشيطان فَيْعَالٌ من شَطَنَ أي: بَعُدَ).
معنى وصف الشيطان بأنه "رجيم"
الرجم في اللغة الرمي بالشرّ وبما يؤذي ويضرّ، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية.
فمن الأول: الرجم بالحجارة، ورجم الشياطين بالشهب.
ومن الثاني: الرجم بالقول السيء من السبّ والشتم والقذف والتخرّص.
وفي معنى الرجيم قولان:
أحدهما: أنه بمعنى مرجوم، كما يقال: لَعِين بمعنى ملعون، وقتيل بمعنى مقتول.
والقول الآخر: أنه بمعنى راجم، أي يرجم الناس بالوساوس والربائث.
قال ابن كثير: (وقيل: رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر).
والربائث جمع ربيثة هي هنا ما يحبس المرء عن حاجته من العلل ويثبّطه عن القيام بما يصلحه.
وفي سنن أبي داوود
من حديث عطاء الخراساني عن مولى امرأته أم عثمان قال: سمعت علياً رضي الله
عنه على منبر الكوفة يقول إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى
الأسواق فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث ويثبطونهم عن الجمعة).
عطاء الخراساني ليّن الحديث، وشيخه مجهول الحال، والمقصود بيان المعنى اللغوي.
والقولان صحيحا
المعنى فالشيطان حيثما كان فهو رجيم مذموم مقذوف بما يسوءه ويشينه، فهي صفة
ملازمة لة غاية الملازمة، وهذا أقصى ما يكون في التحقير، وأبلغ ما
يُتصوّر من الذلّ والمهانة.
وحيثما كان فهو
راجم لأتباعه بسهام الفتن وتزيين الباطل والتثبيط عن الحقّ، مجتهد في
إغوائهم، وهذا غاية ما يكون من النهمة في الإفساد، واللهث في الغواية.
هل تُجوَّد تلاوة الاستعاذة؟
مما ينبغي التنبّه
له أن قول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ليس بقرآن، وإنما هو ذكرٌ
ودعاء، قال ابن عطية: (أجمع العلماء على أن قول القارئ: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ليس بآية من كتاب الله).
وقد جرى عمل كثير
من القراء ممن اختار الجهر بالاستعاذة على ترتيلها وتجويدها، كما جوَّدوا
التكبير والتهليل المروي عن بعض القرّاء وألحقوه بالتلاوة.
ومن العلماء من اختار عدم ترتيلها لأنها ليست بقرآن.
والأولى الأخذ بما
عليه أئمة القرّاء لما صحّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أنْ تقرءوا كما عُلِّمتم) رواه عبد
الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه والضياء في المختارة.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (اقرأوا كما عُلّمتم). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن أبي شيبة في مصنّفه.
والمشهور عن
القرّاء ترتيلها، وقد تكلّموا في أحكام وصل الاستعاذة بالبسملة وبالآية
بعدها، وفي الوقف عليها كما هو معروف في كتب القراءات والتجويد، وقد صحّ عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بآمين ويمدّ بها صوته، وهي ليست
بقرآن اتفاقاً.