6 Jan 2016
خـطــــر التعــــالـم
والتحــذير من المتعالمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن التعالم داء خطير؛ وبلاء مستطير، ابتليت به الأمّة على تعاقب أجيالها،
وتطاول قرونها، فكم فتن به من طالب علم تعجّل الثمرة قبل نضجها، والتصدّر
قبل حينه، فاشترى الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة؛ إذ حاد عن الصراط
السويّ، والمنهج الرضيّ؛ فزلَّ وأزلّ، وضلّ وأضلّ، فباء بإثمه وإثم الذين
يضلّهم بغير علم.
وكم جلب المتعالمون على الأمّة من بلايا ومحن، وفتحوا من أبواب الفتن، وفي التاريخ من خَبرهم قصص وعبر.
والمتعالمون من أخطر قطّاع الطريق على طلاب العلم؛ فكم أخمدوا في نفوسهم من جذوة حماس، وأوهوا من عزائم كانت متّقدة،
وأماتوا من همم طلاب كانوا متطلّعين لطلب العلم والإمامة فيه؛ ونفع أنفسهم
ونفع المسلمين؛ يتلمّسون سبل العلم، ويتعرفون مناهجه؛ فاستغلّ أولئك
المتعالمون ضعف بداياتهم، ونعومة أظفارهم في العلم؛ فصالوا عليهم بوصاياهم
الخاطئة، وضلالاتهم المردية؛ فاجتالوهم عن جادّة أهل العلم، وغرّوهم بزخرف أقوالهم، وزيّنوا لهم سوء أعمالهم، حتى أوردوهم المهالك، وأعقبوهم الحسرات.
وكم من طالب كان يُرى في حلق العلم حاملاً كتبه، معتنيا بطلبه، تُرى عليه وضاءة العلم، وبهجة أهله، يتردد بين شيوخه؛ يدرس ويتعلم، ويسأل ويتفهّم؛ فبينا هو كذلك إذ تلقّفه منهم متلقّف فوسوس له كما يوسوس الوسواس الخناس ؛ وألقى إليه الشبهات تلو الشبهات، حتى إذا تحيّر وتردد، وأسلم إليه القياد انخنس به من بين زملائه، واقتاده إلى وادٍ من أودية الضلال، وكل ضلالة في النار.
وكثير من أتباع الفرق الضالة إنما كانت بدايات انحرافهم بأيدي أولئك المتعالمين الضالين؛ يمنّونهم ويغرونهم؛ حتى يستحوذوا عليهم.
ولم تزل فتنة المتعالمين على اختلاف أصنافهم تمنى بها الأمة جيلاً بعد جيل، تتنوّع مظاهرهم ووسائلهم، وتتشابه قلوبهم وحقائقهم؛ فكان من أهمّ ما ينبغي أن يُبصّر به طالب العلم في أوّل طلبه للعلم تحذيره من التعالم والمتعالمين، وبيان خطرهم وضررهم.
وعماد هذه الرسالة على مقصدين مهمّين:
أحدهما: التحذير من المتعالمين وبيان خطرهم وضررهم، وأصنافهم وعلاماتهم.
والثاني: تحذير طلاب العلم من التعالم، وسلوك سبيل المتعالمين.
معنى التعالم:
التعالم هو ادّعاء العلم والتظاهر به.
والتعالُمُ «تفاعُلٌ» من العلم، ومن معاني صيغة «تفاعل» في اللغة إظهار خلاف الباطن؛ ومنه قولهم: تماوت، وتمارض، وتغافل، وتجاهل، وتذاكى، وتباكى.
وتأتي هذه الصيغة لمعانٍ أخر.
والمقصود أن التعالم في اللغة هو ادّعاء العلم، والتظاهر به، وحقيقة المرء على خلاف ذلك.
فالمتعالم هو الجاهل الذي يدّعي المعرفة ويتظاهر
بالعلم؛ فيتلبس بلباس أهل العلم، ويتحدث بلسانهم، ويستعمل شيئاً من
أدواتهم وعباراتهم، وهو لم يسلك سبيلهم في تحصيله ورعايته، ولم يتحمل
مشقّته، ولم يحمل أمانته.
فيتكلم في مسائل العلم على غير هدى، ويقول بغير علم، فيفتن نفسه ومن يستمع إليه، ممن يشتبه عليه تضليله وتلبيسه.
والنُّقّاد من أهل العلم يميزون العالم من
المتعالم؛ فلا يلبث المتعالم الجهول حتى يتصدّى له من أهل العلم من يبيّن
جهله وتعالمه، ويحذّر من خطئه وخطره؛ فيناله من الخزي في الدنيا ما يناله،
مع ما توعّد به من العذاب في الآخرة إن لم يتب ويستعتب.
مظاهر التعالم
وللتعالم مظاهر متفشية وأخطار شائعة، ومنها:
1. التوصية بمناهج
تعليمية لم يدرسها ولم يجرّبها، وليس له من التمكن في التخصص ما يؤهّله
لإصدار تلك الوصايا المنهجية في الكتب والشيوخ؛ فيتلقّف الطالب المبتدئ
وصاياه المنهجية ويظنّها مرشدة وهي مضلّة، والوصايا الخاطئة من أخطر أضرار المتعالمين على طلاب العلم المبتدئين؛ لأنهم ليس لديهم من التمييز ما يعرفون به صحة تلك الوصايا من خطئها، ويحسبون هذا المتعالم عالماً ناصحاً، وقد يكون صاحب هوى، أو جاهل متعالم جريء على القول بما لا علم له به.
2. نقد الكتب والرجال، والكلام فيهم بغير علم، وتتبع عثرات العلماء، وترصّد زلاتهم، وهو من أشهر مسالك المتعالمين، وأقرب طرقهم إلى الشهرة.
3. الفتوى بغير علم، والتسرّع إليها، وهي داء دوي لا يكاد يسلم منه متعالم.
4. التصدّر للوعظ
والتذكير عن غير تأهّل، ولو أن الواعظ اقتصر على النقول الصحيحة واستعمل
التثبّت في النقل؛ لكان على خير، لكن من التعالم الذي وقع فيه كثير من
الوعّاظ مجاوزة ذلك إلى الفتوى بغير علم، وإيراد الأحاديث الضعيفة
والباطلة، والحكايات الواهية، والدعاوى العريضة، والأحكام الجائرة؛
كالتشديد فيما فيه سعة، والتهوين في أمور العزائم.
وهذه الأمور التي وقع فيها بعض الوعّاظ فأشاعوا
الموضوعات والأحاديث الضعيفة والمفاهيم الخاطئة كان لها أثر كبير في نشر
الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتفشي بعض الأقوال الخاطئة، وانتشار بعض
البدع.
5. التصدر للتدريس قبل التأهل، وهو من أخطر مظاهر التعالم؛ ولا سيما إذا كان التصدّر نظامياً؛ فيغتر به الطلاب.
6. التصدر للتأليف
وتحقيق الكتب قبل اكتمال الأداة العلمية، فيقع في عظائم وطوام، وتعالم فجّ،
يتأذّى به الصادقون من طلاب العلم، ويغترّ به الجاهلون.
7. استغلال مواضع
الحاجة عند العامة والدخول عليهم من تلك المداخل ثم التصدر بذلك في مسائل
العلم، كالرقية وتعبير الرؤى والاستشارات الاجتماعية والدورات التدريبية.
وهذه الأمور إذا قام بها من يحسن فهو على باب
خير، لكن التحذير إنما هو ممن يدّعي تلك الصنعة أو من يكون علمه مقتصراً
عليها ثمّ يجاوز ذلك إلى ما لا يحسن من الفتوى بغير علم والكلام في مسائل
العلم بما يخالف أصول ذلك العلم وطرق الاستدلال فيه ومنهج أئمته.