8 Jun 2016
التحذير من المتعالمين:
قضيّة التعالم من القضايا الخطيرة، وقد ورد التحذير من التعالم والمتعالمين في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، واشتهر تحذير السلف الصالح رضي الله عنهم من التعالم والمتعالمين:
أ-فمن الآيات التي يستدل بها على النهي عن التعالم والتحذير منه ومن أهله:
1. قول الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
2. قول الله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}
3. وقول الله تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}
4. وقول الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» متفق عليه.
5. وقول الله تعالى: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} ومن أظهر صفات المتعالمين تزكيتهم لأنفسهم.
ب- ومن الأحاديث المروية في التحذير من التعالم والمتعالمين:
1. حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» متفق عليه.
2. وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان). رواه الإمام أحمد.
والمتعالمون قد وقعوا في جملة من خصال المنافقين وأخلاقهم، وهم بسبب مخالفة ظواهرهم لحقائق بواطنهم متصفون بالنفاق، وإن كانوا على مراتب متفاوتة في النفاق بسبب تفاوت مراتبهم في التعالم ومبلغ ضررهم وخطرهم على المؤمنين.
3. وحديث ثوبان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) رواه الدارمي وأبو داوود.
4. وحديث أبي أميّة الجمحي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر )). رواه ابن المبارك والطبراني وابن منده وغيرهم.
قال ابن المبارك: (الأصاغر: أهل البدع).
وهو بيان بالمثال، ومن المعلوم أن كلّ متعالم فهو صغير في مقام العلم.
5. وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار». رواه ابن ماجه وابن حبان.
وهذه هي عامّة مقاصد المتعالمين.
6. وحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون}). رواه الإمام أحمد والترمذي.
ومن فوائد هذا الحديث بيان علامة من علامات الضالين، وهي الجدل، وهي مما يقع فيه كثير من المتعالمين.
ج- وأما تحذير السلف الصالح من التعالم والمتعالمين، وبيان ما يعتصم به طالب العلم من التعالم؛ فكثير مشتهر ومن أمثلة ذلك:
1. تأديب عمر بن الخطاب لصبيغ بن عسل التميمي، وكان ممن يتتبع المتشابه، وقد رويت قصته من طرق متعددة:
- منها: ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة من طريق يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد أنه قال: أُتى إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن.
فقال: اللهم أمكني منه، قال: فبينا عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاءه وعليه ثياب وعمامة، فغداه، ثم إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين، {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا} ؟
قال عمر: أنت هو؟ فمال إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، ثم قال: احملوه حتى تقدموه بلاده، ثم ليقم خطيبا ثم ليقل: إن صبيغا ابتغى العلم فأخطأ، فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك، وكان سيد قومه.
- ومنها: ما أخرجه الدارمي من طريقيزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة؛ فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه وقد أعدَّ له عراجين النخل، فقال: من أنت؟
قال: أنا عبد الله صبيغ.
فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين، فضربه وقال: (أنا عبد الله عمر) فجعل له ضربا حتى دمي رأسه.
فقال: (يا أمير المؤمنين، حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي).
وقد انتفع صُبيغ بهذا التأديب؛ وعصمه الله به من فتنة الخوارج التي حدثت في عهد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال معمر بن راشد: خرجت الحرورية، فقيل لصبيغ: إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا، قال: هيهات قد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح.
2. خبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أبي يحيى المعرقب، وقد رويت قصته من طرق أنه رآه يقصّ فقال له: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟
قال: لا.
قال: (هلكت وأهلكت).
وفي رواية أنه قال له: من أنت؟
قال: أنا أبو يحيى.
فقال له: (بل أنت أبو اعرفوني).
3. وقال عبد الله بن مسعود: (أيها الناس! من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: لا أعلم، والله أعلم؛ فإن من علم المرء أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، وقد قال الله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}).
4. وقال يحيى البكاء رأى ابن عمر قاصاً يقص في المسجد الحرام، ومعه ابن له، فقال له ابنه: أي شيء يقول هذا؟
قال: (هذا يقول: اعرفوني اعرفوني).
5. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أخبرني نافع أن رجلا سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ ابن عمر رأسه ولم يجبه حتى ظنَّ الناس أنه لم يسمع مسألته.
قال: فقال له: يرحمك الله أما سمعت مسألتي؟
قال: قال: (بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألوننا عنه!! اتركنا يرحمك الله حتى نتفهَّم في مسألتك؛ فإن كان لها جواب عندنا، وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به). رواه ابن سعد.
6. وقال أحمد بن محمد الأزرقي: حدثنا عمرو بن يحيى عن جده قال: سئل ابن عمر عن شيء فقال: لا أدري؛ فلما ولى الرجل أفتى نفسه؛ فقال: (أحسن ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا أعلم). رواه ابن سعد.
7. وسُئل القاسم بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن مسألة فلم يجب؛ فقال له يحيى بن سعيد: والله إني لأعظم أن يكون مثلك، وأنت ابن إمامي الهدى - يعني عمر، وابن عمر - تُسأل عن أمر ليس عندك فيه علم؛ فقال: «أعظم من ذلك والله عند الله، وعند من عقل عن الله، أن أقول بغير علم، أو أخبر عن غير ثقة».
8. وقال القاسم بن محمد: (إن من إكرام المرء لنفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه).
9. وقال سعيد بن جبير: (ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم).
10: وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: (لا يُؤخذ العلم إلا عمّن شُهد له بطلب العلم).
11. وقال أحمد بن حنبل: سمعت الشافعي قال:سمعت مالكا قال: سمعت ابن عجلان قال:(إذا أغفل العالم "لا أدري" أصيبت مقاتله) رواه الآجري والخطيب البغدادي
12. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد قال الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان).
وقال ابن دريد:
جهلت فعاديت العلوم وأهلها ... كذاك يعادي العلم من هو جاهله
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا ... ويكره لا أدري أصيبت مقاتله
تحذير طالب العلم من التعالم:
وفيما مضى من الآيات والأحاديث والآثار ما فيه أبلغ زاجر لطالب العلم عن التعالم، والجراءة على القول بغير علم؛ فإن في ذلك العطب والهلاك، والخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وليعلم طالب العلم أن شرف العلم لا يُنال بمعصية الله، وأن من أعظم معاصي طلاب العلم أن يطلبوه لغير الله، أو يضلوا به عباد الله، وقد اشتدّ الوعيد على علماء السوء، وعلى القائلين على الله بغير علم.
فحريّ بمن نصح لنفسه أن يسعى في نجاتها من سخط الله وعقابه، وأن يصبر نفسه على سلوك الصراط المستقيم، وأن لا يؤثر متاع الدنيا الزائل على نعيم الآخرة الباقي، ومن صدق اللهَ صدقه الله، ومن طلب العلم لله نفعه الله به، ويسّره له، وبارك له فيه.
ومن طلبه ليتصدّر به المجالس ويباهي به العلماء ويماري به السفهاء فبئس ما اختار لنفسه من سوء العاقبة والخزي والعذاب الأليم.
ولن ينفعه ما متّع به من الجاه والمال؛ فإنه متاع زائل، يعقبه عذاب دائم، وإنّ من أوّل من تسعّر بهم النار يوم القيامة من طلب العلم ليقال: "عالم".
قال سفيان بن عيينة: (ما في القرآن آية أشد علي من: {لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}). رواه البخاري.
وسبب شدة هذه الآية على سفيان معرفته بحقيقة العلم وما يتطلّبه من التقوى والعمل وإقامة الدين، وأنّ من لم يُقم ما أمره الله به فليس على شيء، وليس له عند الله عهد ولا أمان من العذاب؛ بل هو هالك لا محالة.
والمتعالمون من أبعد الناس عن مقاصد العلم وحمل أمانته ورعايته.
اللهم اجعلنا ممن يطلب العلم ابتغاء وجهك، وانفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً تنفعنا به.
اللهم إن نعوذ بك من الضلالة بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الرشاد، ومن الحور بعد الكور.
اللهم انفعنا بآياتك وارفعنا بها، ولا تجعلنا ممن أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فكان من الغاوين.
وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* مقصود هذه المحاضرة التحذير من التعالم والمتعالمين، ومن أراد التوسّع في معرفة خطر المتعالمين ونماذج من أعمال بعضهم فليقرأ كتاب "التعالم" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد؛ مع التنبّه لما ذكرته ( هنا ).