26 Oct 2008
باب ما جاء في قول الله تعالى: {وماقدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة }
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّمَواتُ مَطْوِّيَاتٌ بِيَمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزُّمَرُ:67]. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (( يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ )) أَخْرَجَاهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (( مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ )).
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (يَا مُحَمَّدُ،
إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ،
وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ
عَلَى إِصْبَعٍ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى
إِصْبَعٍ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ)، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ
قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (( وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا اللهُ )).
وَلِمُسْلِمٍ عَن ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((
يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذْهُنَّ
بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ
الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ
السَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا
الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ )).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(( مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي
الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ )).
وَقَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(( مَا الْكُرْسِيُّ
فِي الْعَرْشِ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ
فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ )).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
(بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ،
وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ
الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ
الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
أَعْمَالِكُمْ) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زَرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: وَلَهُ طُرُقٌ.
وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
(( هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟ ))، قُلْنَا: اللهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (( بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ
سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ
سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ
كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ،
وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ )).
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.
الأُولَى:تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ وَأَمْثَالَهَا بَاقِيَةٌ عِنْدَ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهَا.فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: بابُ ما جاءَ في قولِ اللهِ تعالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِّيَاتٌ بِيَمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67].
عنِ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنهُ قال: جاءَ حَبْرٌ من الأحبارِ إلَى رسولِ اللهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فقالَ: (يا مُحَمَّدُ، إنَّا نَجِدُ أنَّ اللهَ يجعلُ السَّماواتِ علَى إصْبعٍ، والأرَضينَ علَى إصْبعٍ، والشَّجَرَ علَى إصْبعٍ، والماءَ علَى إصْبعٍ، والثَّرَى علَى إصْبعٍ، وسائرَ الخلْقِ علَى إصْبعٍ فيقول: أَنا الْمَلِكُ؟!)فَضَحِكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حتَّى بَدَتْ نواجِذُهُ تصديقًا لقولِ الْحَبْرِ، ثمَّ قرأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآيَةَ. متَّفقٌ عليهِ.
وفي روايَةٍ لمسلمٍ: (والجِبالَ والشَّجَرَ علَى إصبعٍ، ثُمَّ يهُزُّهنَّ فيقولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا اللهُ).
وفي رِوايَةٍ للبُخاريِّ: (يَجْعَلُ السَّماواتِ عَلَى إصبَعٍ، والماءَ والثَّرَى علَى إصبَعٍ، وسائرَ الْخَلْقِ علَى إصبعٍ) أخرجاهُ.
قولُهُ: (بابُ ما جاءَ في قولِ اللهِ تعالَى: {وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًـا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}) أيْ: من الأحاديثِ والآثارِ في مَعنَى هذه الآيَةِ الكريمةِ.
قالَ العِمادُ ابنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: يقولُ تعالَى: (ما
قَدَرَ الْمُشرِكونَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، حتَّى عَبَدُوا معه غيرَهُ،
وهوَ العظيمُ الذي لا أَعْظَمَ منهُ؛ القادرُ علَى كلِّ شيءٍ، المالِكُ
لكلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ تحتَ قَهْرِهِ وقُدرتِهِ).
قالَ السُّدِّيُّ: (ما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمتِهِ).
وقالَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ: (لوْ قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ ما كَذَّبُوهُ).
وقالَ عليُّ بنُ أبي طَلحةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ: (هم
الكُفَّارُ الذينَ لم يُؤْمِنوا بقُدرَةِ اللهِ عليهم، فمَنْ آمَنَ أنَّ
اللهَ علَى كلِّ شيءٍ قديرٌ، فقدْ قَدَرَ اللهَ حقَّ قَدْرِهِ؛ ومَنْ لم
يُؤْمِنْ بذلكَ فلم يَقْدِرِ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
وقدْ وَرَدَتْ أحاديثُ
كثيرةٌ مُعَلَّقَةٌ بهذه الآيَةِ، الطريقُ فيها وفي أمثالِها منْ مَذْهَبِ
السلَفِ؛ وهوَ إِمرارُها كما جَاءتْ منْ غيرِ تَكييفٍ ولا تَحريفٍ، وذَكَرَ
حديثَ ابنِ مَسعودٍ كما ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في هذا البابِ، قالَ: ورواهُ البخاريُّ في (صحيحِهِ) في غيرِ مَوْضِعٍ.
ومسلمٌ، والإِمامُ أحمدُ، والتِّرمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، كلُّهم منْ حديثِ سُليمانَ بنِ مِهرانَ وهوَ الأَعْمَشُ، عنْ إبراهيمَ، عنْ عَبِيدَةَ، عن ابنِ مَسعودٍ، بنحوِهِ. قالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآيَةَ.
وهكذا رواهُ البخاريُّ، ومسلِمٌ، والنَّسائيُّ، منْ طُرُقٍ عن الأَعْمَشِ بهِ.
وقالَ الإِمامُ أَحمدُ: حَدَّثَنا الْحُسَيْنُ بنُ حَسَنٍ الأَشْقَرُ، حَدَّثَنا أبو كُدَيْنَةَ، عنْ عَطاءٍ، عنْ أبي الضُّحَى، عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (مَرَّ
يَهُودِيٌّ بِرسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
جالِسٌ، فقالَ: كَيْفَ تقولُ يا أبا القاسِمِ يومَ يَجْعَلُ اللهُ
السَّماواتِ علَى ذِهِ - وَأَشارَ بالسَّبَّابةِ - والأرضَ عَلَى ذِهِ،
والجبالَ عَلَى ذِهِ، وسائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ؟ كلُّ ذلكَ يُشيرُ
بِأُصْبُعِهِ) فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وكذا رواهُ التِّرمذيُّ في التفسيرِ بسَنَدِهِ، عنْ أبي الضُّحَى مسلمِ بنِ صُبَيْحٍ بهِ، وقالَ: حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ، لا نَعْرِفُهُ إلاَّ منْ هذا الوَجْهِ.
ثم قالَ البخاريُّ: حَدَّثَنَا سعيدُ بنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنا الليثُ، حَدَّثَني عبدُ الرحمنِ بنُ خالدِ بنِ مُسافِرٍ، عن ابنِ شِهابٍ، عنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، أنَّ أبا هُريرةَ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ، وَيطْوِي السَّماءَ بِيَمينِهِ، فَيقولُ: أَنا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟)) تَفَرَّدَ بهِ مِنْ هذا الوَجْهِ، ورواهُ مُسلِمٌ منْ وَجْهٍ آخَرَ.
وقالَ البُخارِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ: حَدَّثَنا مُقدَّمُ بنُ محمَّدٍ، حَدَّثَنا عَمِّي القاسمُ بنُ يَحْيَى، عنْ عُبَيْدِ اللهِ، عنْ نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، قالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((إِنَّ اللهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرَضِينَ، وتَكُونُ السَّماءُ بِيمينِهِ، ثُمَّ يقولُ: أَنَا الْمَلِكُ))تَفَرَّدَ بهِ أيضًا منْ هذا الوجهِ، ورواهُ مُسلِمٌ منْ وَجْهٍ آخَرَ.
وقدْ رواهُ الإِمامُ أحمدُ منْ طريقٍ آخَرَ بلَفْظٍ أَبْسَطَ منْ هذا السياقِ وأَطولَ، فقالَ: حَدَّثَنا عَفَّانُ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ؛ أنبأنا إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طَلْحَةَ، عنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مِقْسَمٍ، عن ابنِ عُمَرِ: (أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرأَ هَذهِ الآيَةَ ذاتَ يومٍ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ورسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ هَكَذا - بِيَدِهِ يُحَرِّكُها، يُقْبِلُ بِها ويُدْبِرُ - ((يُمَجِّدُ
الرَّبُّ تَعَالَى نَفْسَهُ: أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ،
أَنَا الْمَلِكُ؛ أَنَا الْعَزِيزُ، أَنَا الْكَريِمُ)) فَرَجَفَ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرُ حَتَى قُلْنا: لَيَخِرَّنَّ بِهِ)). انتهَى.
(4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: ولِمُسْلِمٍ، عن ابنِ عمَرَ مرفوعًا: ((يَطْوِي
اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذْهُنَّ بيَدِهِ
الْيُمنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَينَ الْجَبَّارُونَ؟ أينَ
الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبْعَ، ثُمَّ
يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أيْنَ
الْجَبَّارُونَ؟ أيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟))
ورُويَ عنِ ابنِ عباسٍ قال: (ما السَّماواتُ السبْعُ، والأَرْضونَ السَّبْعُ في كَفِّ الرّحمنِ إلاَّ كَخَرْدَلةٍ في يَدِ أحَدِكُم). وقال ابنُ جريرٍ: حدَّثني يونُس، أخبرنا ابنُ وهبٍ قال: قال ابنُ زيدٍ: حدَّثني أبي قالَ: قال رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلم: ((مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ)). وعَنِ ابنِ مسعودٍ قال: (
بَيْنَ السَّماءِ الدُّنيا والَّتي تَليها خَمسُمائةِ عامٍ، وبَيْنَ كلِّ
سماءٍ وسماءٍ خمسُمائةِ عامٍ، وبينَ السماءِ السابعةِ والكرسيِّ خمسُمائةِ
عامٍ، وبينَ الكرسيِّ والماءِ خمسُمائةِ عامٍ، والعرشُ فوْقَ الماءِ،
واللهُ فوْقَ العرشِ، لا يَخْفَى عَليْهِ شيءٌ مِنْ أعمالِكُم ) أخرجهُ ابنُ مهديٍّ، عنْ حمَّادِ بنِ سلَمةَ، عنْ عاصِمٍ، عَنْ زرٍّ، عنْ عبد اللهِ. وعنِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رضي اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:((هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟))
قُلنا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ.
قالَ: ((بيْنَهُمَا
مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، ومِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ
مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ
خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ
بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ،
وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ)) أخرجه أبو داودَ وغيرُهُ. وأَخْرَجَهُ البخاريُّ منْ حديثِ عُبَيْدِ اللهِ، عنْ نافعٍ، عن ابنِ عمرَ قالَ: ((إِنَّ اللهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرَضِينَ وتَكُونُ السَّماءُ بِيمِينِهِ)) وأخرَجَهُ مسلِمٌ منْ حديثِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مِقْسَمٍ.
قلتُ: وهذه الأحاديثُ وما في معناها تَدُلُّ علَى عَظَمَةِ اللهِ، وعَظيمِ قُدْرَتِهِ، وعِظَمِ مَخلوقاتِهِ.
وقدْ تَعَرَّفَ سُبحانَهُ
وتعالَى إلَى عِبادِهِ بصِفاتِهِ، وعَجائبِ مَخلوقاتِهِ، وكُلُّها
تُعَرِّفُ وتَدُلُّ علَى كَمالِهِ، وأنَّهُ هوَ الْمَعبودُ وَحْدَهُ لا
شَريكَ لهُ في رُبوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتِهِ، وتَدُلُّ علَى إثباتِ الصفاتِ
علَى ما يَليقُ بجَلالِ اللهِ وعَظَمَتِهِ، إثباتًا بلا تَمثيلٍ، وتَنزيهًا
بلا تَعطيلٍ؛ وهذا هوَ الذي دَلَّتْ عليهِ نُصوصُ الكتابِ والسنَّةِ،
وعليهِ سَلَفُ الأُمَّةِ وأَئِمَّتُها، ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ، واقْتَفَى
آثَارَهم علَى الإِسلامِ والإِيمانِ.
وتَأَمَّلْ ما في هذه
الأحاديثِ الصحيحةِ منْ تَعظيمِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَبَّهُ بِذِكْرِ صِفاتِ كَمالِهِ علَى ما يَليقُ بعَظَمَتِهِ وجَلالِهِ،
وتَصديقِهِ اليهودَ فيما أَخْبَرُوا بهِ عن اللهِ من الصفاتِ التي تَدُلُّ
علَى عَظَمَتِهِ، وتَأَمَّلْ ما فيها منْ إثباتِ عُلُوِّ اللهِ علَى
عَرْشِهِ، ولم يَقُل النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شيءٍ
منها: إنَّ ظاهرَها غيرُ مُرادٍ، أوْ أنَّها تَدُلُّ علَى تَشبيهِ صِفاتِ
اللهِ بصِفاتِ خَلْقِهِ، فلوْ كان هذا حقًّا بَلَّغَهُ أَمِينُهُ
أُمَّتَهُ، فإنَّ اللهَ أَكْمَلَ بهِ الدِّينَ، وأَتَمَّ بهِ النِّعْمَةَ،
فبَلَّغَ البَلاغَ الْمُبينَ، صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليهِ، وعلَى آلِهِ
وصَحْبِهِ، ومَنْ تَبِعَهُم إلَى يومِ الدِّينِ.
وتَلَقَّى الصحابةُ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُم عنْ نَبِيِّهِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وَصَفَ
بهِ رَبَّهُ منْ صِفاتِ كَمالِهِ، ونُعوتِ جَلالِهِ، فآمَنُوا بهِ،
وآمَنُوا بكتابِ اللهِ ومَا تَضَمَّنَهُ منْ صِفاتِ رَبِّهم جَلَّ وعَلاَ؛
كما قالَ تعالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل
عمران:7] وكذلكَ التابعونَ لهم بإحسانٍ وتابِعُوهُم، والأَئِمَّةُ من
الْمُحَدِّثينَ والفُقَهاءِ، كلُّهم وَصَفَ اللهَ بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ،
ووَصَفَهُ بهِ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يَجْحَدوا
شيئًا من الصفاتِ، ولا قالَ أحدٌ منهم: إنَّ ظاهِرَها غيرُ مُرادٍ،
ولا أنَّهُ يَلْزَمُ منْ إثباتِها التشبيهُ، بلْ أَنْكَرُوا علَى مَنْ
قالَ ذلكَ غايَةَ الإنكارِ، فصَنَّفُوا في ردِّ هذه الشُّبُهاتِ
الْمُصَنَّفَاتِ الكِبارَ المعروفةَ الموجودةَ بأَيْدِي أهلِ السُّنَّةِ
والجماعةِ.
قالَ شيخُ الإِسلامِ أحمدُ ابنُ تَيميَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (وهذا
كِتابُ اللهِ منْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وسُنَّةُ رسولِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلامُ الصحابةِ والتابعينَ، وكلامُ سائرِ
الأَئِمَّةِ، مملوءٌ بما هوَ نصٌّ أوْ ظاهِرٌ أنَّ اللهَ تعالَى فوقَ كلِّ
شيءٍ، وأنَّهُ فوقَ العَرْشِ فوقَ السماواتِ مُسْتَوٍ علَى عَرْشِهِ، مثلُ
قولِهِ تعالَى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10].
- وقولِهِ تعالَى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران:55].
- وقولِهِ تعالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ}[النساء:158]. - وقولِهِ تعالَى: {ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}[المعارج:3،4]. - وقولِهِ تعالَى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}[السجدة:5]. - وقولِهِ تعالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل:50]. - وقولِهِ تعالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}[البقرة:29]. - وقولِهِ تعالَى: {إِنَّ
رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]. - وقولِهِ تعالَى: {إِنَّ
رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ
شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}[يونس:3]. - فذَكَرَ التوحِيدَيْنِ في هذه الآيَةِ، وقولِهِ تعالَى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الرعد:2]. - وقولِهِ تعالَى: {تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:4،5]. - وقولِهِ تعالَى: {وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ الرَّحْمَـنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:58،59]. - وقولِهِ تعالَى: {اللهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِن دُونِهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ
السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[السجدة:4،5]. - وقولِهِ: {هُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الحديد:4]. - فذَكَرَ عُمومَ عِلْمِهِ، وعُمومَ قُدْرَتِهِ، وعُمومَ إحاطتِهِ، وعُمومَ رُؤْيَتِهِ، وقولِهِ:{أَأَمِنْتُمْ
مَن فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
(16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[المُلك: 16 - 17]. - وقولِهِ تعالَى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثيَة: 2]. - وقولِهِ تعالَى: {وَقَالَ
فَرْعَوْنُ يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ
(36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي
لأََظُنُّهُ كَاذِبًا}[غافر: 36 - 37] ) انتهَى كلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ. قلتُ: وقدْ
ذَكَرَ الأئِمَّةُ رَحِمَهم اللهُ تعالَى فيما صَنَّفُوهُ في الردِّ علَى
نُفاةِ الصفاتِ -من الْجَهْمِيَّةِ والمعتزِلةِ والأشاعرةِ ونحوِهم- أقوالَ
الصحابةِ والتابعينَ. قالَ: (الاستواءُ غيرُ مَجهولٍ، والكيْفُ غيرُ مَعقولٍ؛ ومن اللهِ الرسالةُ، وعلَى الرسولِ البَلاغُ؛ وعلينا التصديقُ).
وقالَ ابنُ وَهْبٍ: (كُنَّا عندَ مالِكٍ، فدَخَلَ رجُلٌ فقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيفَ استوَى؟
ولا يُقالُ: كيفَ؟
و(كيفَ) عنه مرفوعٌ، وأنت صاحبُ بِدعةٍ، أَخْرِجُوهُ) رواهُ البيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابنِ وَهْبٍ، ورواهُ عنْ يَحْيَى بنِ يَحْيَى أيضًا، ولَفْظُهُ قالَ: (الاستواءُ غيرُ مَجهولٍ؛ والكيفُ غيرُ مَعقولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ عنه بِدعةٌ).
قالَ الذهبيُّ: (فانْظُرْ
إليهم كيفَ أَثْبَتُوا الاستواءَ للهِ، وأَخْبَرُوا أنَّهُ مَعلومٌ لا
يَحتاجُ لفْظُهُ إلَى تفسيرٍ، ونَفَوْا عنه الكَيْفِيَّةَ).
قالَ البخاريُّ في (صحيحِهِ): (قالَ مُجاهِدٌ: {استوَى} علا علَى العَرْشِ).
وقالَ إسحاقُ بن رَاهُويَهُ: (سَمِعْتُ غيرَ واحدٍ من الْمُفَسِّرِينَ يقولُ: {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: ارْتَفَعَ).
وقالَ مُحَمَّدُ بنُ جَريرٍ الطبريُّ في قولِهِ تعالَى: {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أيْ: علا وارْتَفَعَ.
وشواهدُهُ في أقوالِ الصحابةِ والتابعينَ وأتباعِهم، فمِنْ ذلكَ قولُ عبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: شـَهـِدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌّ وأنَّ الـنــارَ مثْوَى الـكافِرينـَا
وأنَّ العرشَ فوقَ الماءِ طافٍ وفـوقَ الـعرشِربُّ العالَمِينَا وروَى الدارِمِيُّ، والحاكِمُ، والبيهقيُّ، بأَصَحِّ إسنادٍ إلَى عليِّ بنِ الحسَنِ بنِ شَقيقٍ قالَ: سَمِعْتُ ابنَ الْمُبارَكِ يَقولُ:(نَعْرِفُ
رَبَّنَا بأنَّهُ فَوقَ سَبْعِ سَماواتِهِ، علَى العَرْشِ اسْتَوَى، بائنٌ
منْ خَلْقِهِ، لا نَقولُ كما قالَتِ الْجَهْمِيَّةُ). قالَ الدارِمِيُّ: حَدَّثَنَا الحسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ البَزَّارُ، حَدَّثَنَا عليُّ بنُ الْحَسَنِ بنِ شَقيقٍ، عن ابنِ الْمُبَارَكِ: قيلَ لهُ: (كيفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟
قالَ: بأنَّهُ فوقَ السماءِ السابعةِ، علَى العَرْشِ، بائنٌ منْ خَلْقِهِ).
وتــَحـْمـِلـُهُ مــَلائكـةٌ شِدادٌ مــلائِكـةُالإلــهِ مــُسـَوَّمــِينَا
وقدْ تَقَدَّمَ قولُ الأوزاعيِّ: (كُنَّا - والتابعون مُتَوَافِرُونَ - نقولُ: إنَّ اللهَ تعالَى ذِكْرُهُ فوقَ عَرْشِهِ، ونُؤْمِنُ بما وَرَدَتْ بهِ السُّنَّةُ).
وقالَ أبو عُمَرَ الطلمنكيُّ في كتابِ (الأصولِ): (أَجْمَعَ المسلمونَ منْ أهلِ السُّنَّةِ علَى أنَّ اللهَ استوَى علَى عَرْشِهِ بذاتِهِ).
وقالَ في هذا الكتابِ أيضًا: (أَجْمَعَ
أهلُ السُّنَّةِ علَى أنَّ اللهِ تعالَى استوَى علَى عَرْشِهِ علَى
الحقيقةِ لا علَى الْمَجَازِ؛ ثمَّ ساقَ بسَنَدِهِ عنْ مالِكٍ قولَهُ:
اللهُ في السماءِ، وعِلْمُهُ في كلِّ مكانٍ).
ثمَّ قالَ في هذا الكتابِ: (أَجْمَعَ المسلمونَ منْ أَهْلِ السُّنَّةِ أنَّ معنَى قولِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
ونحوَ ذلكَ من القرآنِ: أنَّ ذلكَ عِلْمُهُ، وأنَّ اللهَ فوقَ السماواتِ
بذَاتِهِ مُسْتَوٍ علَى عَرْشِهِ كيفَ شاءَ. وهذا لَفْظُهُ في كتابِهِ).
وهذا كثيرٌ في كلامِ
الصحابةِ والتابعينَ والأَئِمَّةِ، أَثْبَتُوا ما أَثْبَتَهُ اللهُ في
كِتابِهِ وعلَى لِسانِ رسولِهِ، علَى الحقيقةِ علَى ما يَليقُ بجَلالِ
اللهِ وعَظَمَتِهِ، ونَفَوْا عنه مُشابَهَةَ المخلوقينَ، ولم يُمَثِّلُوا
ولم يُكَيِّفُوا؛ علَى ما ذَكَرْنَا ذلكَ عنهم في هذا البابِ.
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ: (وأَوَّلُ وَقْتٍ سُمِعَتْ مَقالَةُ مَنْ أَنْكَرَ أنَّ اللهَ تعالَى فوقَ العَرْشِ: هوَ الْجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ، وكذلكَ أَنْكَرَ جَميعَ الصِّفاتِ، وقَتَلَهُ خالدُ بنُ عبدِ اللهِ الْقَسْرِيُّ، وقِصَّتُهُ مَشهورةٌ؛ وَأَخَذَ عنه هذه الْمَقالَةَ الْجَهْمُ بنُ صَفوانَ
إمامُ الْجَهْمِيَّةِ، فأَظْهَرَها واحتَجَّ لها بالشُّبُهاتِ، وكان ذلكَ
في آخِرِ عصرِ التابعينَ، فأَنْكَرَ مَقالتَهُ أَئِمَّةُ ذلكَ العَصْرِ
مثلُ: الأوزاعيِّ، وأبي حَنيفةَ، ومالِكٍ، والليثِ بنِ سعدٍ، والثوريِّ، وحَمَّادِ بنِ زَيدٍ، وحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، وابنِ الْمُبارَكِ، ومَنْ بعدَهم منْ أَئِمَّةِ الْهُدَى.
فقالَ الأوزاعيُّ إمامُ أهلِ الشامِ علَى رَأْسِ الخمسينَ ومائةٍ عندَ ظُهورِ هذه الْمَقالةِ: ما أَخْبَرَنا عبدُ الواسعِ الأَبْهَرِيُّ بسَنَدِهِ إلَى أبي بكرٍ البيهقيِّ: أنبأنا أبو عبدِ اللهِ الحافظُ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بنُ عليٍّ الجَوْهَرِيُّ ببَغْدَادَ، حَدَّثَنا إبراهيمُ بنُ الهيثمِ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ كثيرٍ الْمِصِّيصِيُّ، سَمِعْتُ الأوزاعيَّ يقولُ:
كُنَّا - والتابعونَ مُتَوَافِرُونَ - نقولُ: إنَّ اللهَ فوقَ عَرْشِهِ،
ونُؤْمِنُ بما وَرَدَتْ بهِ السُّنَّةُ منْ صِفاتِهِ، أَخْرَجَهُ البَيهقيُّ في الصفاتِ، ورُواتُهُ أَئِمَّةٌ ثِقاتٌ.
وقالَ الإِمامُ الشافعيُّ
رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: للهِ أسماءٌ وصِفاتٌ لا يَسَعُ أحدًا رَدُّها،
ومَنْ خَالَفَ بعدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عليهِ كَفَرَ؛ وأَمَّا قَبلَ قِيامِ
الْحُجَّةِ فإنَّهُ يُعْذَرُ بالجهلِ، ونُثْبِتُ هذه الصفاتِ ونَنْفِي عنه
التشبيهَ، كما نَفَى عنْ نفسِهِ فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}) انتهَى منْ (فَتْحِ الباري).
(5) قولُهُ: (وعنِ الْعَبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ) ساقَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مُخْتَصرًا، والذي في (سُنَنِ أبي دَاوُدَ): (عَنِ العبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ قالَ: كُنتُ
في البَطْحاءِ في عِصابَةٍ فيهِم رسولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَمَرَّتْ بِهِمْ سَحَابَةٌ فنَظَر إِليها فقالَ:((ما تُسَمُّونَ هِذِهِ؟)). قالوا: (والْمُزنَ).
قالَ: ((وَالْعَنَانَ؟)).
قالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟)).
ثُمَّ فَوْقَ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسفَلِهِ وَأَعَلاَهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ.
وهذا الحديثُ كأمثالِهِ
يَدُلُّ علَى عَظَمَةِ اللهِ وكَمالِهِ وعِظَمِ مَخلوقاتِهِ، وأنَّهُ
الْمُتَّصِفُ بصِفاتِ الكَمالِ التي وَصَفَ بها نَفْسَهُ في كِتابِهِ،
ووَصَفَهُ بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلَى كَمالِ
قُدْرَتِهِ، وأنَّهُ هوَ الْمَعبودُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لهُ دُونَ كلِّ ما
سِوَاهُ.
قالوا: (السَّحابَ).
قالَ: ((وَالْمُزْنَ؟)).
قالوا: (والعَنانَ).
قالوا: (لا نَدْرِي).
ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ، بَيْنَ أَظْلاَفِهِمْ وَرُكَبِهِمْ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ.
ثُمَّ
عَلَى ظُهُورِهِمُ العَرْشُ بَيْنَ أسفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ
سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ اللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ)) وأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَه، وقالَ التِّرمذيُّ: (حَسَنٌ غَريبٌ).
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ: (رواهُ أبو دَاوُدَ بإسنادٍ حَسَنٍ.
وروَى التِّرْمِذِيُّ نحوَهُ منْ حديثِ أبي هُريرةَ وفيهِ: ((بُعْدُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ))
ولا مُنافَاةَ بينَهما؛ لأنَّ تَقديرَ ذلكَ بِخَمْسِمائةِ عامٍ هوَ علَى
سَيْرِ القافِلَةِ مَثَلاً، ونَيِّفٌ وسبعون سَنَةً علَى سَيْرِ البَريدِ؛
لأنَّهُ يَصِحُّ أن يُقالَ: بينَنا وبينَ مِصْرَ عُشرونَ يومًا باعتبارِ
سَيْرِ العادةِ؛ وثلاثةُ أيَّامٍ باعتبارِ سَيْرِ البريدِ.
وروَى شَريكٌ بعضَ هذا الحديثِ عنْ سِمَاكٍ فوَقَفَهُ) هذا آخِرُ كلامِهِ.
قلتُ: فيهِ
التصريحُ بأنَّ اللهَ فوقَ عَرْشِهِ، كما تَقَدَّمَ في الآياتِ
الْمُحكماتِ، والأحاديثِ الصحيحةِ، وفي كلامِ السلَفِ من الصحابةِ
والتابعينَ وتابِعِيهِم.
وباللهِ التوفيقُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ العليِّ العظيمِ.
وحَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، وصلَّى اللهُ علَى سيِّدِ المُرْسَلِينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجمعينَ.
كَمُلَ مُقَابَلةً
وتَصحيحًا وقِراءةً علَى يَدِ شَيْخِنا العَلاَّمَةِ الْمُحَقِّقِ
الفَهَّامَةِ، بَقِيَّةِ أَهلِ الاستقامةِ؛ الشيخِ عبدِ اللهِ بنِ الشيخِ حسَنٍ آلِ الشيخِ، مَتَّعَ اللهُ بحياتِهِ سَنَةَ (1362).
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((2) {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} خَتَمَ المصنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى كِتابَه بهذه التَّرْجَمَةِ.
وذكرَ النصوصَ الدَّالَّةَ على عظمَةِ الربِّ العظيمِ وكبريائِه، ومجدِه
وجلالِه وخُضوعِ المخلوقاتِ بأسرِها لعزِّه؛ لأنَّ هذه النعوتَ العظيمةَ
والأوصافَ الكامِلَةَ أكبرُ الأدلَّةِ والبراهينِ على أنه المعبودُ
وَحْدَه، المحمودُ وحدَه ، الَّذي يَجِبُ أنْ يُبْذَلَ له غايةُ الذُّلِّ
والتعظيمِ وغايةُ الحبِّ والتألُّهِ، وأنه الحقُّ وما سواه باطِلٌ، وهذه
حقيقةُ التوحيدِ وَلُبُّه ورُوحُه، وَسِرُّ الإِخلاصِ. وهذا آخِرُ التعليقِ المُخْتَصَرِ على كتابِ التوحيدِ وتوضيحِ مقاصدِه. والحمدُ للهِ على تيسيرِه ومِنَّتِهِ، وصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِه وسلَّم تسليمًا.
وقد حَوَى مِن غُررِ مسائلِ التوحيدِ، ومِن
التقاسيمِ والتفصيلاتِ النافعَةِ ما لا يَسْتَغْنِي عنه الراغبون في هذا
الفنِّ الذي هو أصلُ الأصولِ وبه تقومُ العلومُ كلُّهَا.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (8) قولُهُ:
(وَمَا قَدَرُوا) الضَّميرُ يعودُ على المشركينَ، و(قَدَرُوا) عظَّمُوا،
أيْ: ما عظَّمُوا اللهَ حقَّ تعظيمِهِ؛ حيثُ أشْرَكُوا بهِ ما كانَ منْ
مخلوقاتِهِ.
قولُهُ:
(وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يُحْتَمَلُ أن
تكونَ الواوُ للحالِ، أيْ: ما قدَرُوا اللهَ حقَّ قدْرِهِ في هذهِ الحالِ.
ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ للاستئنافِ لبيانِ عظمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذا أقْوَى؛ لأنَّهُ يَعُمُّ هذهِ الحالَ وغيرَها.
والْقَبْضَةُ هيَ ما
يُقْبَضُ باليدِ، وليسَ المرادُ بها الْمِلْكَ كما قيلَ. نَعَمْ لوْ قالَ:
والأرضُ في قَبْضَتِهِ، لكانَ تفسيرُهَا بالْمِلْكِ مُحْتَمَلاً.
قولُهُ: (جَمِيعًا) حالٌ
مِن (الأرضُ) فيشملُ بحارَهَا وأنهارَهَا وأشجارَهَا وكلَّ ما فيها، الأرضُ
كلُّها جميعًا قَبْضَتُهُ يومَ القيامةِ، والسَّماواتُ على عِظَمِهَا
وَسَعَتِها مَطْوِيَّاتٌ بيمينِهِ.
قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ }.
قولُهُ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} هذا تنزيهٌ لهُ عنْ كلِّ نقصٍ وعَيْبٍ، وممَّا يُنَزَّهُ عنهُ هذهِ الأندادُ؛ ولهذا قالَ: {وَتَعَالَى} أيْ: ترفَّعَ، {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أيْ: عنْ كلِّ شركٍ يُشْرِكُونَهُ بهِ، سواءٌ جعلوا الخالِقَ كالمخلوقِ أو العكسَ.
(9) قولُهُ:
(حَبْرٌ) الحَبْرُ: هوَ العالِمُ الكثيرُ العِلْمِ، والحَبرُ يُشَابِهُ
الْبَحْرَ في اشتقاقِ الحُرُوفِ، ولهذا كان العالِمُ أحيانًا يُسمَّى
بالحَبْرِ وأحيانًا بالبَحْرِ. قولُهُ: (إنَّا نَجِدُ) أيْ: في التَّوراةِ.
قولُهُ: (فَضَحِكَ
النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ) ولولا ما بعْدَها لاحْتَمَلَتْ
أنْ تكونَ إنكارًا؛ لأنَّ مَنْ حدَّثَكَ بحديثٍ لا تَطْمَئِنُّ إليهِ
ضَحِكْتَ منهُ، لكنَّهُ قالَ: (تَصْدِيقًا لقَوْلِ الْحَبْرِ) فكانَتْ إقرارًا لا غيرُ، ويدلُّ لذلكَ قولُهُ: ثُمَّ قرأَ: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ }
الآيةَ، فهذا يدلُّ على أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أقرَّهُ
واستشهدَ لقولِهِ بآيةٍ منْ كتابِ اللهِ، فَضَحِكُهُ واستشهادُهُ تقريرٌ
لقولِ الحبْرِ، وسببُ الضَّحكِ هوَ سُرُورُهُ حيثُ جاءَ في القرآنِ ما
يُصَدِّقُ ما وَجَدَهُ هذا الحَبْرُ في
كُتُبِهِ؛ لأنَّهُ لا شكَّ أنَّهُ إذا جاءَ مَا يُصَدِّقُ القرآنَ فإنَّ
الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ سوفَ يُسَرُّ بهِ، وإنْ كانَ
الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ يَعْلَمُ علمَ اليقينِ أنَّ
القرآنَ منْ عِنْدِ اللهِ، لكنْ تَضَافُرُ البيِّناتِ مِمَّا يُقَوِّي
الشَّيءَ.
قولُهُ: (إِصْبُعٍ) واحدةُ
الأصابعِ، وهيَ مُثَلَّثَةُ الأوَّلِ والثَّالثِ، ففيها تِسْعُ لُغَاتٍ،
والعاشرُ أُصْبُوعٌ، وفي هذا يقولُ النَّاظمُ: وهـَمـْزَ أَنـْمــُلـَةٍ ثـَلــِّثْ وَثــَالــِثــَهُ التِّسْعُ في أُصْبُعٍ واخْتِمْ بِأُصْبُوعِ قولُهُ:
(أنا الْمَلِكُ) هذهِ الجملةُ تفيدُ الحصرَ؛ لأنَّها اسميَّةٌ مُعَرَّفةُ
الجزئيْنِ، ففي ذلكَ اليومِ لا مُلْكَ لأحدٍ، قالَ تعالى: { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }
وكلُّ النَّاسِ، الملوكُ منْهُمْ والمملوكونَ على حدٍّ سواءٍ، يُحْشَرُونَ
حُفاةً عراةً غُرْلاً، وبهذا يظهرُ ملكوتُ اللهِ عزَّ وجلَّ في ذلكَ
اليومِ ظهورًا بَيِّنًا؛ لأنَّهُ سبحانَهُ يُنادِي: لِمَن المُلْكُ اليومَ؟
فلا يُجِيبُهُ أحدٌ، فيجيبُ نفسَهُ: { للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }.
وقولُهُ:
(الْمَلِكُ) أيْ: ذُو السُّلطانِ، وليسَ مُجَرَّدَ المتصرِّفِ، بلْ هوَ
المُتَصَرِّفُ فيما يَمْلِكُ على وجهِ السُّلطةِ والعلوِّ، وأمَّا
(المَالِكُ) فَدُونَ ذلكَ؛ ولهذا يَمْتَدِحُ نفسَهُ تعالَى بأنَّهُ
المَلِكُ.
وقولُهُ تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فيها قراءتانِ: (مَلِكِ)، و(مَالِكِ)؛ ليتبيَّنَ بذلكَ أنَّهُ مَلِكٌ مَالِكٌ.
مِلْكُ اللهِ تعالى مُتَضَمِّنٌ لكمالِ السُّلطانِ والتَّدبيرِ والمِلْكِ، بخلافِ غيرِهِ؛ فإنَّ منْ مُلُوكِ الدُّنيا مَنْ يكونُ مَلِكًا لا يَمْلِكُ التَّصرُّفَ، ومنهم المَالِكُ وليسَ بمَلِكٍ.
قولُهُ: (حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) أيْ: ظهرَتْ، ونواجذُ جمعُ ناجذٍ، وهوَ أقصى الأضراسِ.
وهذا الضَّحِكُ من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم تقريرٌ لقولِ الحَبْرِ، ولهذا قالَ ابنُ مسعودٍ: (تَصْديقًا لقولِ الحَبْرِ) ولوْ كان مُنْكِرًا ما ضحِكَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ ولا استشهدَ بالآيةِ، ولقالَ لهُ: كَذَبْتَ؛ كما كذَّبَ الَّذينَ ادَّعَوْا أنَّ الَّذي يَزْنِي لا يُرْجَمُ، ولكنَّهُ ضَحِكَ تصديقًا لقولِ الحبْرِ وسُرُورًا بأنَّ ما ذكرَهُ مُوَافقٌ لما جاءَ بهِ القرآنُ الَّذي أُوْحِيَ إلى محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: (ثمَّ قرأَ: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَـتُهُ }) الآيةَ، هذا معنى الآيةِ الَّتي لا تَحْتَمِلُ غيرَهُ، وأنَّ السَّماواتِ مَطْوِيَّاتٌ كطيِّ السِّجلِّ للكُتُبِ، بيمينِهِ ، أيْ: يدِهِ تباركَ وتعالَى؛ لأنَّ ذلكَ تفسيرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ، وتفسيرُهُ في الدَّرجةِ الثَّانيةِ منْ حيثُ التَّرتيبُ، لكنَّهُ كالقرآنِ في الدرجةِ الأولى منْ حيثُ القبولُ والحُجَّةُ.
وأمَّا تفسيرُ أهلِ التَّحريفِ فيقولُ بعضُهُم: (قَبْضَتُهُ) أيْ: في قبضتِهِ ومِلْكِهِ وتصرُّفِهِ، وهوَ خطأٌ؛ لأنَّ المِلْكَ والتَّصرُّفَ كائنٌ يومَ القيامةِ وقبلَهُ.
وقولُ بعضِهِم: (السَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ) أيْ: تَالِفَةٌ وهالكةٌ، كما تقولُ: انْطَوَى ذِكرُ فُلانٍ، أيْ: زالَ ذِكرُهُ، و(بيمينِهِ)، أيْ: بِقَسَمِهِ؛ لأنَّهُ قالَ تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } فجعلوا المرادَ باليمينِ القسمَ، إلى غيرِ ذلكَ من التحريفاتِ الَّتي يلجأُ إليها أهلُ التَّحريفِ، وهذا لِظَنِّهِم الفاسدِ باللهِ؛ حيثُ زعموا أنَّ إثباتَ مثلِ هذه الصِّفاتِ يستلزمُ التَّمثيلَ، فصاروا ينكرونَ ما أثْبَتَهُ اللهُ لنفسِهِ، وما أثْبَتَهُ رسولُهُ وسلفُ الأمَّةِ بشبهاتٍ يَدَّعونَها حُجَجًا.
فيُقالُ لهمْ: هلْ أنْتُمْ أعلمُ باللهِ من اللهِ؟
إنْ قالُوا: نعمْ، كَفَرُوا.
وإنْ قالوا: لا.
قلنا: هلْ أنتمْ أفصحُ في التَّعبيرِ عن المعاني من اللهِ؟
إنْ قالوا: نعمْ؛ كفَرُوا.
وإنْ قالوا: لا.
خُصِمُوا، وقُلْنَا لهُمْ: إنَّ اللهَ بيَّنَ ذلكَ أبلغَ بيانٍ، بأنَّ الأرضَ جميعًا قبضتُهُ يومَ القيامةِ، والرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أقرَّ الحَبْرَ على ما ذَكَرَ فيما يُطَابِقُ الآيةَ، وهلْ أنتم أنصحُ من الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ لعبادِ اللهِ؟
فسيقولونَ: لا.
فإذا كانَ كلامُهُ تعالى أفصحَ الكلامِ وأصدقَهُ وأَبْيَنَهُ، وأعلمَ بما يقولُ، لَزِمَ علينا أنْ نقولَ مثلَ ما قالَ عنْ نفسِهِ، ولَسْنَا بمُذْنِبِينَ، بل الذَّنبُ على مَنْ صرَفَ كلامَهُ عنْ حقيقتِهِ الَّتي أرادَها اللهُ بِهِ.
ومن فوائدِ الحديثِ:
إثباتُ الأصابعِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لإقرارِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ هذا الحبْرَ على ما قالَ.والإصبعُ إِصْبُعٌ حقيقيٌّ يليقُ باللهِ عزَّ وجلَّ كاليدِ، وليسَ المرادُ بقولِهِ: (عَلَى إِصْبَعٍ)، سهولةَ التَّصَرُّفِ في السَّماواتِ والأرضِ كما يقولُهُ أهلُ التَّحريفِ، بلْ هذا خطأٌ مُخَالِفٌ لظاهرِ اللَّفْظِ والتقسيمِ، ولأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ أثْبَتَ ذلكَ بإقرارِهِ، ولقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ)).
وقوْلُهُ: (بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ) لا يَلْزَمُ من البَيْنِيَّةِ المُمَاسَّةُ، ألا ترى قَوْلَهُ تعالى: { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } والسَّحابُ لا يَمَسُّ الأرضَ ولا السَّماءَ وهوَ بيْنَهُما، وتقولُ: ( عُنَيْزَةُ بَيْنَ الزُّلْفِيِّ وَالرَّسِّ ) ولا يَلْزَمُ أن تكونَ مُتَّصِلَةً بهِمَا.وتقولُ: ( شَعْبَانُ بَيْنَ ذي القَعْدَةِ وجُمَادَى ) ولا يلزمُ أنْ يكونَ مُوَالِيًا لهُ.
فتبيَّنَ أنَّ البَيْنِيَّةَ لا تستلزمُ الاتِّصالَ في الزَّمانِ أو المكانِ.
وكما ثبتَ عنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالَى يكونُ قِبَلَ وجهِ المصلِّي، ولا يَلْزَمُ من المقابلةِ أنْ يكونَ بيْنَهُ وبينَ الجِدَارِ أو السُّترةِ الَّتي يُصَلِّي إليها، فهوَ قِبَلَ وجهِهِ وإنْ كانَ على عَرْشِهِ، ومثالُ ذلكَ: الشَّمسُ حينَ تكونُ في الأُفُقِ عندَ الشروقِ والغروبِ، فإنَّ من المُمْكِنِ أنْ تكونَ قِبَلَ وَجْهِكَ وهيَ في العُلُوِّ.
فتبيَّنَ بهذا أنَّ هؤلاءِ المحرِّفينَ على ضلالٍ، وأنَّ مَنْ قالَ: إنَّ طريقتَهُم أعلمُ وأحكمُ، فقدْ ضلَّ.
(10) قولُهُ: (ثمَّ يَهُزُّهُنَّ) أيْ: هَزًّا حقيقيًّا، لِيُبَيِّنَ للعبادِ في ذلكَ الموقفِ العظيمِ عَظَمَتَهُ وقُدْرَتَهُ، وكانَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ يقرأُ هذهِ الآيةَ ويقبِضُ أصابِعَهُ ويبْسُطُهَا، فصارَ المِنْبَرُ يتحرَّكُ ويهْتَزُّ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ كانَ يتكلَّمُ بهذا الكلامِ وقَلْبُهُ مملوءٌ بتعظيمِ اللهِ تعالى.فإنْ قلتَ: هلْ نَفْعَلُ بأيدِينَا كما فعلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ؟
فالجوابُ: إنَّ هذا يخْتَلِفُ بحسَبِ ما يترتَّبُ عليهِ،فلَيْسَ كلُّ مَنْ شاهَدَ أوْ سَمِعَ يَتَقَبَّلُ ذِهْنُهُ ذلكَ بغيرِ أنْ يَشْعُرَ بالتَّمثيلِ، فينبغي أنْ نَكُفَّ؛ لأنَّ هذا ليسَ بواجبٍ حتَّى نقولَ: يَجِبُ علَيْنا أنْ نُبَلِّغَ كما بلَّغَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بالقولِ والفعلِ، أمَّا إذا كُنَّا نَتَكَلَّمُ معَ طَلَبَةِ عِلْمٍ أوْ مَعَ إنسانٍ مُكَابِرٍ ينفي هذا ويُرِيدُ أنْ يُحَوِّلَ المعنى إلى غيرِ الحقيقةِ، فحينئذٍ نفعلُ كما فعلَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
فلوْ قالَ قائِلٌ: إنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ، لكنْ قالَ: سميعٌ بلا سمْعٍ، وبصيرٌ بلا بصَرٍ، معَ أنَّ الرَّسولَ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حينَ قرأَ قولَهُ تعالَى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }وضعَ إبهامَهُ على أُذُنِهِ والتي تَلِيهَا على عَيْنِهِ، وأبو هريرةَ حينَ حدَّثَ بهِ كذلكَ، فهذا الإنسانُ الَّذي يقولُ: إنَّ اللهَ سميعٌ بلا سَمْعٍ، بصيرٌ بلا بصَرٍ، نقولُ لهُ هكذا.
وكذلكَ الَّذي يُنْكِرُ حقيقةَ اليدِ، ويقولُ: إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ السَّماواتِ بيمينِهِ، وإنَّ معنى (قَبْضَتُهُ) أيْ: في تصرُّفِهِ، فهذا نقولُ لهُ كما فعلَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
فالمقامُ ليسَ بالأمرِ السَّهلِ، بلْ هوَ أمرٌ صعبٌ ودقيقٌ للغايةِ، فإنَّهُ يُخْشَى منْ أنْ يقعَ أحدٌ في محذورٍ كانَ بإمكانِكَ أنْ تُمْسِكَ عنهُ، وهذا هوَ فعلُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ في جميعِ تصرُّفاتِهِ إذا تأمَّلْتَهَا، حتَّى الأمورُ العمليَّةُ قدْ يُؤَجِّلُها إذا خافَ منْ فتنةٍ أوْ مِنْ شيءٍ أشدَّ ضررًا، كما أخَّرَ بناءَ الكعبةِ على قواعدِ إبراهيمَ خوفًا منْ أنْ يكونَ فتنةً لقريشٍ الَّذين أسْلَمُوا حديثًا.
(11) قولُهُ: (والماءَ والثَّرَى على إصبَعٍ) هذا لا ينافي قولَهُ: (الأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ) لأنَّهُ يُقالُ: (والماءَ والثَّرى على إصبَعٍ) أي: الأرضَ كلَّها على إصبَعٍ، ويُرادُ بالأصبعِ الجنسُ، وإلاَّ لَتَنَاقَضَ معَ معنى الحديثِ الَّذي قَبْلَهُ ((الشَّجَرُ عَلى إصْبَعٍ، والماءُ على إِصبَعٍ، والثَّرى على إصْبَعٍ)) إذ النَّكِرةُ إذا كُرِّرَتْ بلفظِ النَّكِرةِ، فالثَّاني غيرُ الأوَّلِ غالبًا، وإذا كُرِّرَتْ بلفظِ المعرفةِ فالثَّاني هوَ الأوَّلُ غالبًا، فيُقالُ: الماءُ والثَّرى كنايةٌ عن الأرضِ كلِّها، أوْ إنَّ الماءَ والثَّرى على إصبعٍ، وسكتَ عن الباقي، إمَّا اختصارًا أو اقتصارًا.
(12) قولُهُ: ( ولِمُسْلِمٍ عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: ((يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ...))) سبقَ معنى هذا الحديثِ، وأنَّ المرادَ بالطَّيِّ الطيُّ الحقيقيُّ.
قولُهُ: (ثُمَّ يقولُ: أَنا المَلِكُ) يقولُ ذلكَ ثناءً على نفسِهِ سبحانَهُ، وتنبيهًا على عظمتِهِ الكاملةِ، وعلى مِلْكِهِ الكاملِ، وهوَ السُّلطانُ فهوَ مالكٌ ذو سلطانٍ، وهذهِ الجملةُ كِلا جُزْئَيْها معرِفَةٌ، وإذا كانَ الخبرُ والمبتدأُ كِلاهُما معرِفَةً فإنَّ ذلكَ منْ طُرُقِ الحَصْرِ، أيْ: أنا الذي لي المِلْكِيَّةُ المُطْلَقَةُ والسلطانُ التامُّ، لا يُنازعُنِي فيهما أحدٌ.
قولُهُ: (أَينَ الجبَّارونَ؟) الاستفهامُ للتَّحدِّي، فيقولُ: أينَ المُلُوكُ الَّذين كانوا في الدُّنيا لهم السُّلطةُ والتَّجبُّرُ والتَّكبُّرُ على عبادِ اللهِ؟
وفي ذلكَ الوقتِ يُحْشَرونَ أمثالَ الذَّرِّ يَطَؤُهُم النَّاسُ بأقدامِهِم.
قولُهُ: (يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبعَ) أشارَ اللهُ في القرآنِ إلى أنَّ الأرَضِينَ سبعٌ، ولم يَرِد العددُ صريحًا في القرآنِ، قالَ تعالَى: { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ }، والمماثلةُ هنا لا تَصِحُّ إلاَّ في العددِ؛ لأنَّ الكيفيَّةَ تَتَعَذَّرُ المماثلةُ فيها، وأمَّا السُّنَّةُ فقدْ صرَّحَتْ بعدَّةِ أحاديثَ بأنَّها سبْعٌ.
قولُهُ: (ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ) كلمةُ (شِمَالٍ) اختَلَفَ فيها الرُّواةُ، فمنْهُم مَنْ أثْبَتَها، ومنْهُم مَنْ أسقَطَهَا، وقدْ حَكَمُوا على مَنْ أثْبَتَها بالشُّذوذِ؛ لأنَّهُ خالَفَ ثِقَتَيْنِ في رِوَايَتِهَا عن ابنِ عُمَرَ.
ومنْهُم مَنْ قالَ: إنَّ نَاقِلَهَا ثِقَةٌ، ولكنَّهُ قَالَها مِنْ تَصَرُّفِهِ.
وأصلُ هذه التَّخْطِئَةِ هوَ ما ثَبَتَ في (صحيحِ مسلمٍ) أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ قالَ: ((الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ)) وهذا يقتضي أنَّهُ ليسَ هناكَ يَدٌ يمينٌ ويدٌ شِمَالٌ.
ولكنْ إذا كانَتْ لفْظَةُ (شمالٍ) محفوظةً، فهيَ عندي لا تُنافي ((كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ)) لأنَّ المعنى أنَّ اليدَ الأخرى ليْسَتْ كَالْيَدِ الشِّمالِ بالنِّسبةِ للمخلوقِ ناقصةً عن اليدِ اليُمنى، فقالَ: ((كِلْتا يَدَيْهِ يَمِينٌ)) أيْ: ليسَ فيها نقصٌ.
وَيُؤَيِّدُ هذا قولُهُ في حديثِ آدمَ: ((اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ)) فلمَّا كانَ الوَهْمُ يَذْهَبُ إلى أنَّ إثباتَ الشِّمالِ يعني النَّقصَ في هذهِ اليدِ دونَ الأخرى، قالَ: ((كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ)).
ويُؤَيِّدُهُ أيضًا قولُهُ: ((الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ)) فإنَّ المقصودَ بَيَانُ فضلِهِم ومَرْتَبَتِهِم وأنَّهم على يمينِ الرَّحمنِ سُبْحَانَهُ.
وعلى كُلٍّ فإنَّ يدَيْهِ سبحانَهُ اثنتانِ بلا شكٍّ، وكلُّ واحدةٍ غيرُ الأخرى، وإذا وصَفْنَا اليدَ الأخرى بالشِّمالِ، فليسَ المرادُ أنَّها أقلُّ قوَّةً من اليدِ اليُمنى، بلْ كِلْتَا يديهِ يمينٌ.
والواجبُ عَلَيْنَا أنْ نقولَ: إنْ ثَبَتَتْ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بها ولا مُنَافاةَ بيْنَها وبينَ قولِهِ: ((كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ)) كما سَبَقَ، وإنْ لمْ تَثْبُتْ فلنْ نقولَ بها.
(13) قولُهُ: (فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ) هكذا ساقَهُ المُؤَلِّفُ، والذي في ابنِ جريرٍ: (فِي يَدِ اللهِ)، ففيما ساقَهُ المؤلِّفُ إثباتُ الكفِّ للهِ تعالى إنْ كانَ السياقُ محفوظًا، وإلاَّ ففيهِ إثباتُ اليدِ، أمَّا الكفُّ فقدْ ثبتَ في أحاديثَ أُخْرَى صحيحةٍ.
قولُهُ: (إلاَّ كَخَرْدَلةٍ) هيَ حبَّةُ نباتٍ صغيرةٌ جِدًّا، يُضرَبُ بها المثلُ في الصِّغَرِ والقِلَّةِ، وهذا يدلُّ على عظمتِهِ سبحانَهُ، وأنَّهُ سبحانَهُ لا يُحِيطُ بهِ شيءٌ، والأمرُ أعظمُ منْ هذا التَّمثيلِ التَّقريبيِّ؛ لأنَّهُ تعالى لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ، ولا تُحِيطُ بهِ الأفهامُ.
(14) قولُهُ: (قالَ ابنُ جريرٍ) هوَ المفسِّرُ المشهورُ رَحِمَهُ اللهُ، ولهُ تفسيرٌ أَثَرِيٌّ يعْتَمِدُ فيهِ على الآثارِ.
قولُهُ: (ما السَّماواتُ السَّبْعُ في الكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ سبعةٍ أُلْقِيَتْ في تُرْسٍ) (الكُرْسِيُّ) موضِعُ قَدَمَي اللهِ تعالَى، هكذا قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما، والدراهِمُ: جمعُ دِرْهَمٍ، وهوَ النَّقدُ مِن الفِضَّةِ، والتُّرْسُ: شيءٌ مِنْ جِلدٍ أوْ خَشَبٍ، ويُحْمَلُ عندَ القتالِ يُتَّقَى بهِ السيفُ والرمحُ ونحوُهُما.
(15) قولُهُ: (مَا الكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ) أيْ: بالنسبةِ إليهِ، والعرشُ هوَ المخلوقُ العظيمُ الذي استوى عليهِ الرَّحْمَنُ، ولا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ، والمرادُ بالحَلْقَةِ حلْقَةُ الدِّرْعِ، وهيَ صغيرةٌ وليسَتْ بشيءٍ بالنسبةِ إلى فَلاةِ الأرضِ.
وهذا الحديثُ يدلُّ على عظمتِهِ عزَّ وجلَّ، فيكونُ مناسبًا لتفسيرِ الآيةِ التي جعلَهَا المؤلِّفُ ترجمةً للبابِ.
(16) قولُهُ: (وعَن ابنِ مسعودٍ...) هذا الحديثُ موقوفٌ على ابنِ مسعودٍ، لكنَّهُ من الأشياءِ الَّتي لا مجالَ للرَّأْيِ فيها، فيكونَ لهُ حُكْمُ الرَّفعِ؛ لأنَّ ابنَ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنهُ لمْ يُعْرَفْ بالأخذِ عن الإسرائيليَّاتِ.
قولُهُ: (بَيْنَ السَّماءِ الدُّنيا والَّتي تَليها خَمْسُمِائَةِ عامٍ) وعلى هذا تكونُ المسافةُ بينَ السَّماءِ الدُّنيا والماءِ أربعةَ آلافِ سنةٍ.
وفي حديثٍ آخَرَ: ((إِنَّ كِثَفَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ)) وعلى هذا يكونُ بينَ السَّماءِ الدُّنيا والماءِ سبعةُ آلافٍ وخمْسُمِائةِ عامٍ، وإنْ صحَّ الحديثُ فمعناهُ أنَّ عُلُوَّ اللهِ عزَّ وجلَّ بعيدٌ جدًّا.
وأمَّا قولُهُ: { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } فَيُمْكِنُ فيها التَّأويلُ أيضًا بأنْ يُقالَ: المرادُ بقولِهِ: { فِيهِنَّ } في جِهِتِهِنَّ، وجِهَةُ السَّماواتِ العُلُوُّ، وحينئذٍ يُمْكِنُ الجمعُ بينَ الآياتِ والواقعِ.
قولُهُ: (وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) هذا نصٌّ صريحٌ بإثباتِ عُلُوِّ اللهِ تعالى عُلُوًّا ذَاتيًّا.
وعُلُوُّ اللهِ ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
الأول: عُلوُّ الصِّفةِ: وهذا لا يُنْكِرُهُ أحدٌ ينتسبُ للإسلامِ، والمرادُ بهِ كمالُ صفاتِ اللهِ، كما قالَ تعالى: { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
الثاني: عُلُوُّ الذَّاتِ: وهذا أنْكَرَهُ بعضُ المنتسبينَ للإسلامِ فيقولونَ: كُلُّ العُلُوِّ الواردِ المضافِ إلى اللهِ المرادُ بهِ عُلُوُّ الصِّفةِ، فيقولونَ في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ)) أيْ: في القُوَّةِ والسَّيطرةِ والسُّلطانِ، وليسَ فوقَهُ بذَاتِهِ، ولا شكَّ أنَّ هذا تحريفٌ في النصوصِ وتعطيلٌ في الصفاتِ.قال الحافظ الذهبي: (وأول وقت سُمعت مقالة من أنكر أن الله تعالى فوق العرش: هو الجعد بن درهم، وكذلك أنكر جميع الصفات، فقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة ).والَّذين أنْكَرُوا عُلُوَّ اللهِ بذاتِهِ انْقَسَمُوا إلى قسمَيْنِ:
الأول: مَنْ قالَ: إنَّ اللهَ بذاتِهِ في كلِّ مكانٍ، وهذا لا شكَّ ضلالٌ مُقْتَضٍ للكفرِ.
الثاني: مَنْ قالَ: إنَّهُ لا فَوْقُ ولا تَحْتُ، ولا يَمِينٌ ولا شِمَالٌ، ولا مُتَّصِلٌ بالخلقِ ولا مُنْفَصِلٌ عن الخلقِ، وهذا إنْكَارٌ محضٌ لوجودِ اللهِ، والعياذُ باللهِ؛ ولهذا قالَ بعضُ العلماءِ: لوْ قيلَ لَنَا: صِفُوا العدمَ، ما وَجَدْنَا أبْلَغَ منْ هذا الوصفِ.فَفَرُّوا منْ شيءٍ دَلَّتْ عليهِ النُّصوصُ والعقولُ والفِطَرُ إلى شيءٍ تُنْكِرُهُ النُّصوصُ والعقولُ والفِطَرُ.
قولُهُ: (لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) يشملُ أعمالَ القلوبِ وأعمالَ الجوارحِ؛ المرئيَّ منها والمسموعَ، وذلكَ لعمومِ علمِهِ وَسَعَتِهِ، وإنَّما أَتَى بذلكَ بعدَ ذِكْرِ عُلُوِّهِ لِيُبَيِّنَ أنَّ عُلُوَّهُ لا يَمْنَعُ عِلْمَهُ بأعمالِنَا، وهوَ إشارةٌ واضحَةٌ إلى عُلُوِّ ذاتِهِ تبارَكَ وتعالَى.
(17) قولُهُ: ( العبَّاسِ) يُقالُ: العبَّاسُ، وعبَّاسٌ، و(أَلْ) هنا لا تُفِيدُ التَّعريفَ؛ لأنَّ عَبَّاسًا مَعْرِفَةٌ لكونِهِ عَلَمًا، لكنَّها لِلَمْحِ الأصلِ، كما يُقَالُ: الفضلُ، لفضلِهِ، والعبَّاسُ لِعُبُوسِهِ على الأعداءِ.
قال ابنُ مَالِكٍ:
وبعضُ الأعلامِ عليهِ دَخَلا لـِلــَمْحِ ما قدْ كانَ عنهُ نُقِلا
قوْلُهُ: (هَلْ تَدْرُونَ) (هل) استفهاميَّةٌ، يُرَادُ بها أمْرَانِ:
أحدهما: التَّشويقُ لما سَيَذْكُرُ.
والآخر: التَّنبيهُ إلى ما سَيُلْقِيهِ عليهم، وهذا كقولِهِ تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ }، هذا تنبيهٌ وتشويقٌ إلى شيءٍ منْ آياتِ اللهِ الكونيَّةِ، وقولِهِ تعالى: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا تنبيهٌ وتشويقٌ إلى شيءٍ منْ آياتِ اللهِ الشّرعيَّةِ، وهو الإيمانُ والعملُ الصَّالِحُ، وقولِهِ: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } تنبيهٌ وتحذيرٌ، وقولِهِ: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ } تنبيهٌ وتحذيرٌ.
واختلافُ هذهِ المعاني بحسَبِ القرائنِ والسياقِ، وإلاَّ فالأصلُ في الاستفهامِ أنَّهُ طلبُ العلمِ بالشيءِ.
قولُهُ: (كَمْ) استفهاميَّةٌ.
قولُهُ: (قُلنا: اللهُ ورسولُهُ أعْلَمُ) جاءَ العطفُ بالواوِ؛ لأنَّ عِلْمَ الرَّسولِ منْ عِلْمِ اللهِ، فهوَ الَّذي يُعَلِّمُهُ بما لا يُدْرِكُهُ البشرُ.
وكذلكَ في المسائلِ الشَّرعيَّةِ يُقَالُ: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أَعْلَمُ الخلقِ بشرعِ اللهِ، وعِلْمُهُ بهِ مِنْ عِلْمِ اللهِ، وما قالَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الشرعِ فهوَ كقولِ اللهِ.
وليسَ هذا كقولِهِ: ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ؛ لأنَّ هذا في بابِ القدَرِ والمشيئةِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُجْعَلَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ مشاركًا للهِ في ذلكَ، بلْ يُقَالُ: ما شاءَ اللهُ، ثمَّ يُعْطَفُ بِـ(ثُمَّ ) والضابِطُ في ذلكَ أنَّ الأمورَ الشرعيَّةَ يصِحُّ فيها العطفُ بالواوِ، وأمَّا الكونيَّةُ فلا.
ومِنْ هنا نعرِفُ خطأَ وجهلَ مَنْ يَكْتُبُ على بعضِ الأعمالِ: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } بعدَ موتِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ وتعذُّرِ رُؤْيَتِهِ؛ فاللهُ يرى، ولكنَّ رسولَهُ لا يرى، فلا تجوزُ كتابَتُهُ؛ لأنَّهُ كَذِبٌ عليهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: (خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ) الميمُ الثَّانيةُ في خمسِمائةٍ مكسورةٌ، والألفُ لا يُنْطَقُ بها.قولُهُ: (وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) وذلكَ خمْسُمِائةِ سنةٍ.
قولُهُ: (واللهُ تعالى فوقَ ذلكَ) هذا دليلٌ على العُلُوِّ العظيمِ للهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّهُ سبحانَهُ فوقَ كلِّ شيءٍ، ولا يُحِيطُ بهِ شيءٌ منْ مخلوقاتِهِ، لا السَّماواتُ ولا غيْرُهَا.
وعليهِ فإنَّهُ سبحانَهُ لا يُوصَفُ بأنَّهُ في جهةٍ تُحِيطُ بهِ؛ لأنَّ ما فوقَ السَّماواتِ والعرشِ عَدَمٌ، ليسَ هناكَ شيءٌ حتَّى يُقالَ: إنَّ اللهَ أحاطَ بِهِ شيءٌ منْ مخلوقاتِهِ.
ولهذا جاءَ في بَعْضِ كُتُبِ أهلِ الكلامِ يقولونَ: لا يجوزُ أنْ يُوصَفَ اللهُ بأنَّهُ في جهةٍ مطلَقًا، ويُنْكِرُونَ العُلُوَّ ظنًّا منهمْ أنَّ إثباتَ الجهةِ يستلزمُ الحصْرَ.
وليسَ كذلِكَ؛ لأنَّنا نَعْلَمُ أنَّ ما فوقَ العرشِ عَدَمٌ لا مخلوقاتِ فيهِ، ما ثَمَّ إلاَّ اللهُ، ولا يُحِيطُ بهِ شيءٌ منْ مخلوقاتِهِ أبدًا.
فالجهةُ إثباتُهَا للهِ فيهِ تفصيلٌ، أمَّا إطلاقُ لفظِهَا نفيًا وإثباتًا فلا نقولُ بهِ؛ لأنَّهُ لم يَرِدْ أنَّ اللهَ في جِهَةٍ، ولا أنَّهُ ليسَ في جهةٍ، ولكنْ نُفَصِّلُ فنقولُ: إنَّ اللهَ في جِهَةِ العُلُوِّ؛ لأنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ قالَ لِلْجَارِيَةِ: ((أَيْنَ اللهُ؟)) و (أينَ) يُسْتَفْهَمُ بها عن المكانِ، فقالَتْ: في السَّماءِ.
فأثبَتَتْ ذلِكَ، فأقرَّها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عليهِ وقالَ: ((أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).
وأهلُ التَّحريفِ يقولونَ: (أينَ) بمعنى (مَنْ)، أيْ: ( مَن اللهُ؟ ) قالَتْ: في السَّماءِ، أيْ: هوَ مَنْ في السَّماءِ، ويُنْكِرُونَ العُلُوَّ.
وقدْ رَدَّ عليْهِم ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في كُتُبِهِ، ومنها (النُّونيَّةُ)، وقالَ لهم: (اللُّغةُ العربيَّةُ لا تَأْتِي فيها (أينَ) بمعنى (مَنْ)، وفَرْقٌ بينَ (أينَ) و(مَنْ).
فالجِهةُ للهِ ليسَتْ جهةَ سُفْلٍ؛ وذلكَ لوُجُوبِ العُلُوِّ لهُ فِطْرَةً وعَقْلاً وسَمْعًا، وليْسَتْ جِهَةَ عُلُوٍّ تُحِيطُ بهِ؛ لأنَّهُ تعالى وَسِعَ كرسيُّهُ السَّماواتِ والأرضَ، وهوَ موضعُ قدَمَيْهِ، فكيفَ يُحِيطُ بهِ تعالَى شيءٌ منْ مخلوقاتِهِ؟!
فهوَ في جهةِ عُلُوٍّ لا تُحِيطُ بهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ شيئًا يُحِيطُ بهِ؛ لأنَّنا نقولُ: إنَّ ما فوقَ العرشِ عَدَمٌ، ليسَ ثَمَّ إلاَّ اللهُ سبحانَهُ؛ ولهذا قالَ: ((وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ)).
قولُهُ: (وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ) وقولُهُ: (أعمالِ) إنْ قُرِنَتْ بالأقوالِ صارَ المرادُ بها أعمالَ الجوارحِ، والأقوالُ باللسانِ، وإنْ أُفرِدَتْ شَمِلَتْ أعمالَ الجوارحِ وأقوالَ اللِّسانِ وأعمالَ القلوبِ، وهيَ هنا مفردَةٌ فتشمَلُ كلَّ ما يَتَعَلَّقُ باللِّسانِ أو القلبِ أو الجوارحِ، بلْ أبلغَ مِنْ ذلكَ أنَّهُ لا يخْفَى عليهِ شيءٌ منْ أعمالِ بني آدمَ في المستقبلِ، فهو يَعْلَمُ ما يكونُ فضلاً عمَّا كانَ، قالَ تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أيْ: ما يَسْتَقْبِلُونَهُ وما مضى علَيْهِمْ، ولمَّا قالَ فرعونُ لموسى: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى } أيْ: ما شأنُهَا؟
قالَ: { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } أيْ: محفوظةٌ، { لاَ يَضِلُّ رَبِّي }لا يَجْهَلُ، { وَلاَ يَنْسَى } لا يَذْهَلُ عمَّا مضى سُبْحانَهُ وتعالى.
والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ صَدَّرَ هذا الأمرَ بِـ(هلْ) الدَّالَّةِ على التَّشويقِ والتَّنبيهِ، منْ أجْلِ أنْ يُثْبِتَ عقيدةً عظيمةً، وهوَ أنَّهُ تعالى فوقَ كلِّ شيءٍ بذاتِهِ، وأنَّهُ مُحِيطٌ بكلِّ شيءٍ في عِلْمِهِ؛ لِقَوْلِهِ: ((وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ)) فإذا عَلِمْنا ذلكَ أَوجَبَ لنا تعْظِيمَهُ، والحذرَ منْ مُخَالفتِهِ؛ لأنَّهُ فَوْقَنا، فهوَ عَالٍ عَلَيْنا وأمرُهُ مُحِيطٌ بِنَا.
وفي الحديثِ صفتانِ للهِ:
الأولى: ثبوتيَّةٌ وهيَ العُلُوُّ المستفادُ منْ قولِهِ: ((وَاللهُ فَوْقَ ذَلِكَ)).
والثانية: سلبيَّةٌ المستفادةُ منْ قولِهِ: ((لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ)) ولا يُوجَدُ في صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ صفةٌ سلبيَّةٌ مَحْضَةٌ، بلْ صفاتُهُ السَّلبيَّةُ الَّتي هيَ النَّفيُ متضمِّنةٌ لثبوتِ ضِدِّها على وجْهِ الكمالِ، فَيُنْفَى عنهُ الخفاءُ لكمالِ علمِهِ، ويُنْفَى عنهُ اللُّغوبُ لكمالِ قُوَّتِهِ، ويُنْفَى عنهُ العجزُ لكمالِ قُدْرَتِهِ، وما أشبهَ ذلكَ.فإذًا إذا نَفَى اللهُ عنْ نفسِهِ شيئًا من الصِّفاتِ فالمرادُ انتفاءُ تلكَ الصِّفةِ عنهُ لكمالِ ضدِّهَا، كما قالَ تعالى: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }السِّنَةُ: النُّعاسُ، والنَّومُ: الإغفاءُ العميقُ، وذلكَ لكمالِ حَيَاتِهِ وقَيُّومِيَّتِهِ؛ إذ لوْ كانَ ناقصَ الحياةِ لاَحْتَاجَ إلى النَّومِ، ولوْ نامَ ما كانَ قَيُّومًا على خلْقِهِ؛ لأنَّهُ حينَ ينامُ لا يكونُ هناكَ مَنْ يقُومُ عليهم؛ ولهذا كانَ أهلُ الجنَّةِ لا ينامونَ لكمالِ حياتِهِم؛ ولأنَّ النَّومَ في الجنَّةِ يُذْهِبُ عليهم وقتً بلا فرَحٍ ولا سُرورٍ ولا لذَّةٍ؛ لأنَّ السُّرورَ فيها دائمٌ، ولأنَّ النَّومَ هوَ الوفاةُ الصُّغرى، والجنَّةُ لا مَوْتَ فيها.
وليسَ في صفاتِ اللهِ نفيٌ مَحْضٌ؛ لأنَّ النفيَ المحضَ عدمٌ لا ثناءَ فيهِ ولا كمالَ، بلْ هوَ لا شيءَ؛ ولأنَّ النَّفيَ أحيانًا يَرِدُ لكونِ المَحَلِّ غيرَ قابلٍ لهُ، مثلَ قولِكَ: الجدارُ لا يَظْلِمُ.
وقدْ يكونُ نفيُ الذَّمِّ ذمًّا، كما في قولِهِ:قــُبــَيِّلــَةٌ لا يــــَغـْدِرُونَ بـــِذِمَّةٍ ولا يظلمونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
فنفيُ الغدرِ عنهم والظلمِ ليسَ مَدْحًا، بلْ هوَ ذمٌّ يُنبِئُ عنْ عجزِهم وضعفِهِم.
وقالَ آخَرُ:
لـكـنَّ قَوْمِي وإنْ كـَانوا ذَوِي عددٍ لَيْسُوا مِن الشَّرِّ في شيءٍ وإنْ هَانَا
يـَجـْزُونَمِنْ ظُلْمِ أهلِ الظُّلمِ مغفرةً ومـِنْ إساءَةِأهْلِ السَّوءِ إحسانـَا
كـأنَّ ربَّكَ لـمْ يـَخـْلــُقْ لـــِخــَشْيـَتِهِ سـِواهـُمْمـِنْ جَمِيعِ الناسِ إنسـانَا
فـَلـَيـْتَلــِي بـِهـِمْ قـَوْمـًا إذا رَكِبـُوا شـَنُّوا الإِغـَارَةَ رُكـْبـَانــًا وفُرْسَانــَا
فَنَفَى أنْ يكونَ لهم يَدٌ في الشرِّ، وبيَّنَ أنَّ ذلكَ لعجزِهِم عن الانتصارِ لأنفسِهِم، وتمنَّى أنْ يكونَ لهُ قَوْمٌ خَيْرٌ منْهُم وأقْوَى.
فيهِ مسائلُ:
(18) الأولى: (تفسيرُ قولِهِ تعالى: { وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }) وقدْ تقدَّمَ منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ حيثُ أقرَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ الحَبْرَ على ذلكَ، أنَّ اللهَ يجعلُ السَّمَاوَاتِ على إصبعٍ... إلخ.
(19) الثَّانيةُ:
(أنَّ هذهِ العلومَ وأَمثالَها باقِيَةٌ عندَ اليهودِ الَّذينَ في
زَمَنِهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ لَمْ يُنْكِرُوها ولَمْ يَتأَوَّلُوها)
كأنَّهُ يقولُ: إنَّ اليهودَ خَيْرٌ منْ أولئكَ المحرِّفينَ لها؛ لأنَّهم
لم يُكَذِّبُوها، ولمْ يتأوَّلُوها، وجاءَ قومٌ منْ هذهِ الأمَّةِ فقالوا:
ليسَ للهِ أصابعُ، وإنَّ المرادَ بها القُدْرَةُ، فكأنَّهُ يقولُ: اليهودُ
خيرٌ منْهُمْ وأعرفُ باللهِ.
(20) الثالثةُ:
(أنَّ الحَبْرَ لمَّا ذَكَرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
صَدَّقَهُ، ونَزَلَ القرآنُ بتقريرِ ذلِكَ) ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ بقولِهِ:
(وَنَزَلَ القرآنُ) أنَّهُ بعدَ كلامِ الحَبْرِ، وليسَ كذلكَ؛ لأنَّهُ في
حديثِ ابنِ مسعودٍ قالَ: ثمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وهذا يدلُّ على أنَّ الآيةَ نزلَتْ مِنْ قَبْلُ، لكنَّ مرادَ المؤلِّفِ أنَّ القرآنَ قدْ نَزَلَ بتقريرِ ذلكَ.
(21) الرَّابعةُ:
(وُقُوعُ الضَّحِكِ من الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ
الحَبْرُ هذا العِلْمَ العظيمَ) ففيهِ دليلٌ على جوازِ الضَّحِكِ في تقريرِ
الأشياءِ؛ لأنَّ الضَّحِكَ يدُلُّ على الرِّضا وعدمِ الكراهيَةِ.
(22) الخامسةُ:
(التَّصريحُ بذِكْرِ اليدَيْنِ، وأنَّ السماواتِ في اليَدِ اليُمنى،
والأرَضِينَ في الأخرى) وقدْ ثبَتَت اليدانِ للهِ تعالى بالكتابِ والسنَّةِ
وإجماعِ السَّلَفِ.
وقولُهُ: (في الأُخرى) لا يعني أنَّهُ ينْفِي ذِكرَ الشِّمالِ لِمَا ذكَرَهُ في المسألةِ التاليَةِ، وهيَ:
(23) السَّادِسةُ: (التَّصريحُ بتسمِيَتِها الشِّمالَ) وقدْ سبقَ الكلامُ على ذلكَ.
(24) السَّابِعةُ: (ذِكْرُ الجبَّارينَ والْمُتكَبِّرينَ عنْدَ ذلِكَ) وَوَجْهُ ذكرِهِم أنَّهُ إذا كانَ لهم تجبُّرٌ وتكبُّرٌ الآنَ فليَقُومُوا بذلكَ.واللهُ أعلمُ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وأسألُ اللهَ أنْ يَخْتِمَ لنا ولَكُمْ بالتَّوحيدِ، آمينَ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (هذا (باب ما جاء في قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يُشركون}) هذا الباب ختم به إمام هذه الدعوة شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتاب التوحيد، وختمه
هذا الكتاب بهذا الباب ختمٌ عظيم؛ لأنَّ منْ عَلِمَ حقيقةَ ما اشتمل عليه
هذا الباب من وصف الله جل وعلا، وعظمةِ الله جل وعلا؛ فإنه لا يملك إلاّ أن
يَذُلَّ ذلاً حقيقياً، ويخضع خضوعاً عظيماً للربِّ جل جلاله. - حجمها. - بهذه الأرض. - ولو
تأملوا صفة الرب جل وعلا، وما يجب له من الجلال، وما هو عليه سبحانه
وتعالى من صفات الذات، ومن صفات الفعل، وما هو في ذلك على الكمال الأعظم؛
فإنهم سيحتقرون أنفسهم، وسيعلمون أنه ما ثَمَّ ينجيهم ويُشرِّفهم؛ إلا أن
يكونوا عبيداً له وحده دون ما سواه، فهل يعبد المخلوقُ المخلوقَ؟
والصحيح والواقع من حال الخلق أنهم لم يوقّروا الله جل وعلا، وما قدروا الله جل وعلا:
- لا من جهة ذاته وقدرته وصفاته.
- ولا من جهة حكمته وبعثه لرسله، قال جل وعلا: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} فهذا في الإنزال في إنزال الكتاب وفي إرسال الرسول.
- وقال جل وعلا - في بيان صفة ذاته -: قال: {وما قدروا الله حَقَّ قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة}، {ما قدروا الله حق قدره} يعني ما عظّموه حق تعظيمه، ولو عظموه حق تعظيمه:
- لما عبدوا غيره.
- ولما أطاعوا غيره.
- ولعبدوه حقَّ العبادة.
- ولذّلوا له ذُلاً وخضوعاً دائماً وأنابوا إليه بخشوع وخشية.
ولكنهم ما قدروه حق قدره، يعني ما عظَّموه حق تعظيمه الذي يجب لقدره جل وعلا، وعظم ذاته سبحانه وتعالى، وصفاته.
ثم بَيَّن جل وعلا شيئاً من صفة ذاته العظيمة الجليلة فقال سبحانه: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} فإنَّ عَقْل الإنسان لا يمكن أن يتحمل صفة الله جل وعلا على ما هو عليه، والله جل وعلا بيّن لك بعض صفاته فقال سبحانه: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} فإذا نظرت إلى هذه الأرض على عظمها، وعلى غرور أهلها فيها، ونظرت إلى:
- وإلى ما فيها فهي قبضة الرحمن جل وعلا.
يعني في داخل قبضة الرحمن جل وعلا يوم القيامة، كما وصف ذلك بقوله: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة}.
فنفهم من ذلك:
- أنَّ كفّ الرحمن جل وعلا وأنَّ يد الرحمن جل وعلا أعظم من هذا.
- وكذلك السماوات مطويات كطيِّ السجل في كف الرحمن جل وعلا، كما قال سبحانه هنا: {والسماوات مطويات بيمينه}.
- وقال في آية سورة الأنبياء:{يوم نطوي السماء كطيِّ السجل للكتب كما بدأنا أول خلقٍ نعيده}
فهذه صفات الله جل جلاله، هذه صفاته، فإن الأرض التي يتعاظمها أهلها،
والسماوات التي يتعاظمها من نظر فيها هي صغيرةٌ، وآيلةٌ في الصِّغَر إلى
أنْ تكون في كفّ الرحمن جل وعلا، والله سبحانه وتعالى أعظمُ من ذلك وأجلّ،
بل هو سبحانه وتعالى الواسع الحميد الذي له الحمد كله، وله الثناء كله،
ويبيّن لك ذلك.
- يبين لك عظمةَ الربِّ جل وعلا في ذاته.
- وعظمة الرب جل وعلا في صفاته.
إذا تأملت هذه الأحاديث، فإنك إذا نظرت إلى هذه الأرض، ونظرت سعة هذه الأرض، وغرور أهل الأرض بها.
غرور أهل الأرض في الأرض:
- وبقواهم فيها.
نظرت إلى أنَّ الأرض
بالنسبة إلى السماء أنها صغيرة، وأن بين الأرض وبين السماء الأولى مسيرة
خمسمائة سنة، في مسير الراكب السريع، وكذلك بين السماء الأولى، والسماء
الثانية مسيرة خمسمائة سنة، وهكذا حتى تنتهي السبع السماوات، والأرض
بالنسبة للسماوات صغيرة.
ولهذا مَثَّل السماوات السبع النبي عليه الصلاة والسلام في الكرسي الذي هو فوق ذلك، وهو أكبر بكثير من السماوات، بقوله:((إن السماوات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس))
يعني: هذه السماوات صغيرة جدّاً بالنسبة إلى الكرسي، بل كدراهم سبعة،
أُلقيت في ترس، والترس مكتنفها مُتقوِّس عليها، فهي صغيرة فيه وهو واسعها،
كما قال جل وعلا عن الكرسي: {وسع كرسيّه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما}.
فالأرض
التي أنت فيها، وأنت فيها في نقطة صغيرة، صغيرة هي بالنسبة إلى السماء،
هذا وصفها، والأرض والسماوات بالنسبة للكرسي هذا وصفه، والكرسي أيضاً فوقه
ماء، وفوق ذلك العرش، عرش الرحمن جل وعلا، والكرسي بالنسبة إلى العرش
كحَلْقةٍ ألقيت في فلاة من الأرض؛ فهو متناهي الصغر بالنسبة إلى عرش
الرحمن، الذي ـ الرحمن جل وعلا ـ مستوٍ عليه، وهو فوقَه سبحانه وتعالى.
- ونازع الله جل وعلا في إلهيته.
ولهذا يحق أن يكون من أهل النار المخلدين فيها عذاباً دائماً؛ لأنه توجه إلى هذا المخلوق الضعيف، وترك الرب العلي القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.- يُفيض رحمته.
-ويفيض نعيمه على من شاء.- فيأمرك بعبادته وهي شرف لك لو شعرت.
- ويأمرك بتقواه وهو شرف لك لو شعرت.هذا، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم، بما سمعنا، وأن يغفر لنا زللنا وخطئنا، وأن يعفوا عنا ما أخطأنا فيه، وأن يجعلنا من المعفوّ عنهم.
ونسأل الله التسامح، وأن يجعلنا مِنَ المحققين لتوحيده، وأنه لا حول لنا ولا قوة إلا به.
اللهم فكن لنا يا كريم.
اللهم فكن لنا يا كريم.
اللهم فكن لنا يا كريم.
هذا واستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابٌ في قولِ اللهِ تَعالَى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة}
ولِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مرفُوعاً: ((يـَطـْوي
اللهُ السَّمَواتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ
اليُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟
ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبْعَ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ.
وكيفَ يصحُّ ذلِكَ؟
وقالَ المصنِّفُ -رحمَهُ اللهُ- في مسائلِ هذا البابِ: (الخامسةُ:
التَّصريحُ بذكرِ اليدينِ وأنَّ السَّماواتِ في اليدِ اليمنى والأرضينَ في
الأخرَى، السَّادسةُ: التَّصريحُ بتسميتِهَا الشِّمالَ) اهـ
وعبدُ الرَّحمنِ ضعيفٌ.
قالَ ابنُ كثيرٍ: (قالَ أبو بكر بنُ مردويهِ: أخبرَنَا سليمانُ بنُ أحمدَ أخبرَنَا عبدُ اللهِ بنُ وهبٍ المقرئُ أخبرَنَا محمَّدُ بنُ أبي اليسرى العسقلانيُّ أخبرَنَا محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ التَّميميُّ عن القاسمِ بنِ محمَّدِ الثَّقفيِّ عن أبي إدريسَ الخولانيِّ عن أبي ذرٍّ الغفاريِّ أنَّهُ سألَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكرسيِّ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((والـَّذِي
نفسِي بيدِهِ ما السَّماواتُ السَّبعُ والأرضونُ السَّبعُ عندَ الكرسيِّ
إلا كحلقةٍ مُلْقَاةٍ بأرضِ فلاةٍ، وإنَّ فضلَ العرشِ على الكرسِيِّ كفضلِ
الفلاةِ على تلكَ الحلقةِ)).
ثُمَّ يَقُولُ: أنَا المَلِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟)) أخرجَهُ مسلمٌ، وابنُ جريرٍ، والبيهقيُّ، والبغويُّ، وعثمانُ بنُ أبي شيبةَ قالَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ، من طريقِ عمرَ بنِ حمزةَ عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ أخبرَنِي عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بهِ.
وقد اعترضَ عليه البيهقيُّ فقالَ: (تفرَّدَ به عمرُ بنُ حمزةَ عن سالمٍ، وقد رَوَى هذا الحديثَ نافعُ وعبيدُ اللهِ بنُ مقسمٍ عن ابنِ عمرَ لم يذكرَا ((الشـِّمالَ)).
ورواهُ أبو هريرةَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- وغيرُهُ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يذكُرْ فيه أحدٌ منهم ((الشمالَ)).
وصحيحٌ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ سمَّى كلتَا يديْهِ يميناً.
وكأنَّ من قالَ ذلِكَ أرْسَلَهُ من لفظِهِ على ما وقعَ له أو على عادةِ العربِ في ذكرِ الشّمالِ في مقابلةِ اليمينِ، اهـ.
ونقلَ كلامَ البيهقيِّ هذا بتمامِهِ القرطبيُّ، والحافظُ ابنُ حجرٍ، مقرِّرِينَ له وقالَ ابنُ خزيمةَ: (تبيــَّنَ
وتوضَّحَ أنَّ لخالقِنَا -جلَّ وعلا - يَدَيْنِ كلتاهُمَا يمينانِ لا
يسارَ لخالِقِنَا- عزَّ وجلَّ - إذ اليسارُ من صفةِ المخلوقِينَ. جلَّ
ربُّنَا عن أنْ يكونَ له يسارٌ) اهـ.
قلْتُ: الحديثُ صحَّحَهُ مسلمٌ وناهِيكَ بهِ.
وأوردَهُ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّةَ عالمُ المعقولِ والمنقولِ مُسْتَدِلاًّ بهِ ولم يتعقَّبْهُ.
وكذلِكَ لم يتعقَّبْهُ الإِمامُ النَّوويُّ في شرحِهِ لهُ.
وقالَ البغويُّ: (هذا حديثٌ صحيحٌ أخرجَهُ مسلمٌ عن أبي بكرِ بنِ أبي شيبةَ) اهـ وصحَّحَهُ الألبانيُّ.
وإثباتُ الشِّمالِ للهِ هو مذهبُ السَّلفِ قالَ ابنُ جريرٍ: (وقالَ آخرونَ: بلِ السَّماواتُ في يمينِهِ والأرَضُونَ في شمالِهِ) ثمَّ استدلَّ بأحاديثَ ومنها حديثُ ابنِ عمرَ هذا.
وقالَ محمَّدُ خليل هراس - رحمَهُ اللهُ - في معرِضِ الرَّدِّ على المُؤَوِّلَةِ: (وكيفَ
يتأتَّى حملُ اليدِ على القدرةِ أو النِّعمةِ مع ما وردَ من إثباتِ الكفِّ
والأصابعِ واليمينِ والشِّمالِ والقبضِ والبسطِ وغيرِ ذلك ممَّا لا يكونُ
إلا لليدِ الحقيقيَّةِ) اهـ.
قالَ المصنِّفُ: (ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: ما السَّماواتُ السَّبعُ في كفِّ الرَّحمنِ إلا كخردلةٍ في يدِ أحدِكُمْ)، أخرجَهُ ابنُ جريرٍ، حدَّثَنَا ابنُ بشَّارٍ قالَ: ثنَا معاذُ بنُ هشامٍ قالَ: ثَنِي أبي عن عمرو بنِ مالكٍ عن أبي الجوزاءِ عن ابنِ عبَّاسٍ بهِ.
قلْتُ: عمرو بنُ مالكٍ هو النّكري، قالَ ابنُ عديٍّ: ((منكـَرُ الحديثِ عن الثِّقاتِ ويسرقُ الحديثَ)).
وذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثِّقاتِ)، وقالَ: (يُغربُ ويخطِئُ).
وقالَ الذَّهبيُّ: (وُثِّق).
وقالَ في موضعٍ آخرَ: (فأمَّا عمرو بنُ مالكٍ النّكري عن أبي الجوزاءِ، وعمرو بنُ مالكٍ الجنبيُّ عن الصَّحابةِ فثقتانِ).
وقالَ الحافظُ في التَّقريبِ: (صدوقٌ له أوهامٌ).
وبقيَّةُ رجالِهِ ثقاتٌ.
وقد احتجَّ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّةَ بحديثِ عطيَّةَ العوفيِّ في قولِهِ تعالى: {لا تدركـُهُ الأبصارُ}… الخ. وقالَ: (وهذا له شواهدُ مثلُ ما في الصِّحاحِ في تفسيرِ قولِهِ تَعالَى: {وَالأَرَض جَمِيعاً قَبضَتُهُ يَومَ القَيَمَةِ وَالسَّماوَاَتُ مَطوِيَّتُ بِيَمِيِنهِ}.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (ما السَّماواتُ السَّبعُ والأرَضُونَ السَّبعُ، ومن فيهنَّ في يدِ الرَّحمنِ إلا كخردلةٍ في يدِ أحدِكُمْ).
وقالَ حمدُ بنُ عتيقٍ: (قالَ الشَّارحُ: وهذا الإِسنادُ في نقدي صحيحٌ) يعني به شارحَ كتابِ التَّوحيدِ سليمانَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ.
قلْتُ: وأقلُّ حالِهِ أن يكونَ سندُهُ حسناً.
وقالَ المصنِّفُ: وقالَ ابنُ جريرٍ: حدَّثَنِي يونسُ أنبأنَا ابنُ وهبٍ قالَ: قالَ ابنُ زيدٍ: (حدَّثَنِي أبي قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( ما السَّماواتُ السَّبعُ في الكرسِي إلا كدراهمَ سبعةٍ أُلقِيَتْ في ترسٍ)).
أخرجـَهُ ابنُ جريرٍ بهذا السَّندِ، وساقَهُ الحافظُ ابنُ كثيرٍ بهِ وسكَتَ عنهُ.
وأخرجَهُ أبو الشَّيخِ من طريقِ أصبغ ابنِ الفرجِ قالَ: سمعْتُ عبدَ الرَّحمنِ بنَ زيدِ بنِ أسلمَ يقولُ عن أبيهِ… الخ.
وأمَّا حديثُ أبي ذرٍّ فوصلَهُ ابنُ مردويهِ.
وعبدُ اللهِ بنُ وهبٍ المقرئُ هو أبو العبَّاسِ الجذاميُّ الغزّيُّ ذكرَهُ المزيُّ في تلاميذِ محمَّدِ بنِ أبي اليسرى ولم أقفْ على حالِهِ.
وشيخُهُ محمَّدُ بنُ أبي اليسرى صوابُهُ السّريّ العسقلانيُّ، قالَ الحافظُ في (التَّقريبِ): (صدوقٌ له أوهامٌ).
ومحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ التَّميميُّ لم أقفْ على حالِهِ أيضاً.
والقاسمُ بنُ محمَّدٍ الثَّقفيُّ ذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في الثِّقاتِ.
وأبو إدريسَ الخولانيُّ قالَ الحافظُ في (التَّقريبِ): (وُلِدَ في حياةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعَ الصَّحابةَ واسمُهُ عائذُ بنُ عبدِ اللهِ).
طريقٌ أخرَى: قالَ البيهقيُّ: أخبرَنَا محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ الحافظُ أنَا أبو الحسنِ عليُّ بنُ الفضلِ السَّامريُّ ببغدادَ، حدَّثَنَا الحسنُ بنُ عرفةَ العبديُّ ثنَا يحيى بنُ سعيدٍ السَّعديُّ البصريُّ، ثنَا عبدُ الملكِ بنُ جريجٍ عن عطاءٍ عن عبيدِ بنِ عميرٍ الليثيِّ عن أبي ذرٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ… الحديثَ. ويحيى هذا قالَ فيه ابنُ حبَّانَ: (شيخٌ يروي عن ابنِ جريجٍ المقلوباتِ، وعن غيرِهِ من الثِّقاتِ الملزَقَاتِ، لا يحلُّ الاحتجاجُ بهِ إذا انفرَدَ) اهـ. ومن طريقِ إبراهيمَ بنِ هشامٍ هذا أخرجَهُ أبو الشَّيخُ مثلَهُ.
وقالَ: تفرَّدَ به يحيى بنُ سعيدٍ السَّعديُّ.
ثمَّ ساقَهُ بسندِهِ من طريقِ إبراهيمَ بنِ هشامِ بنِ يحيى بنِ يحيى الغسَّانيِّ ثنا أبي عن جدِّي عن أبي إدريسَ الخولانيِّ عن أبي ذرٍّ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - قالَ: قلْتُ: يا رسولَ اللهِ أيُّ مَا أُنْزِلَ عليكَ أعظمُ؟ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((آيةُ الكرسيِّ. ثمَّ
قالَ: يا أبا ذرٍّ، ما السَّماواتُ السَّبعُ مع الكرسيِّ إلا كحلقةٍ
مُلْقَاةٍ بأرضِ فلاةٍ، وفضلُ العرشِ على الكرسي كفضلِ الفلاةِ على الحلقةِ)).
وبهِ أخرجَهُ ابنُ حبَّانَ، وأبو نعيمٍ في حديثٍ طويلٍ، وفيهِ: قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، فأيُّ ما أنزلَ اللهُ عليكَ أعظمُ؟
قالَ: ((آيةُ الكرسيِّ))
ثمَّ قالَ: ((يا أبا ذرٍّ، ما السَّماواتُ السَّبعُ…)) الخ الحديثَ.
ورواهُ عليُّ بنُ يزيدَ عن القاسمِ عن أبي أمامةَ عن أبي ذرٍّ.
ورواهُ عبيدُ بنُ الحسحاسِ عن أبي ذرٍّ.
وقالَ القرطبيُّ: (أخرجـَهُ الآجري وأبو حاتمٍ البستيُّ في (صحيحِ مسندِهِ)والبيهقيُّ وذكرَ أنَّهُ صحيحٌ) اهـ.
وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: (وفي حديثِ أبي ذرٍّ الطَّويلِ الَّذِي صحَّحَهُ ابنُ حبَّانَ ((أنَّ
رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: يا أبَا ذرٍّ، ما
السَّماواتُ السَّبعُ مع الكرسيِّ إلا كحلقةٍ مُلْقَاةٍ بأرضِ فلاةٍ، وفضلُ
العرشِ على الكرسيِّ كفضلِ الفلاةِ على الحلقةِ)) وله شاهدٌ عن مجاهدٍ.
أخرجَهُ سعيدُ بنُ منصورٍ في (التَّفسيرِ) بسندٍ صحيحٍ عنْهُ.
قلْتُ: أثرُ مجاهدٍ هذا أخرجَهُ البيهقيُّ أيضاً بقولِهِ: أخبرَنَا أبو نصرِ بنِ قتادةَ أنَا أبو منصورٍ النّضروريُّ أنَا أحمدُ بنُ نجدةَ ثنَا سعيدُ بنُ منصورٍ ثنَا أبو معاويةَ عن الأعمشِ عن مجاهدٍ قالَ:((ما السَّماواتُ والأرضُ في الكرسيِّ إلا بمنزلةِ حلقةٍ ملقاةٍ في أرضِ فلاةٍ)) رجالُهُ ثقاتٌ رجالُ الصَّحيحِ.
وأخرجَهُ عبدُ اللهِ بنُ الإِمامِ أحمدَ وأبو الشَّيخِ من طريقِ ليثِ بنِ أبي سليمٍ عن مجاهدٍ بهِ.
قالَ المصنِّفُ: (وعن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هل تدرُونَ كمْ بينَ السَّماءِ والأرضِ؟ قلْنَا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ. قالَ: بينَهُمَا مسيرةُ خمسمائةِ سنةٍ…)).
أخرجَهُ أحمدُ،
وأبو داودَ، والتّرمذيُّ، وابنُ ماجه، وابنُ خزيمةَ، وابنُ أبي عاصمٍ،
والآجريُّ، والحاكمُ، والدَّارميُّ، وأبو الشَّيخِ، والبيهقيُّ، وموفَّقُ
الدِّينِ المقدسيُّ، والعقيليُّ، وابنُ عبدِ البرِّ، والمزّيُّ.
قالَ البخاريُّ: (لا يُعْرَفُ له سماعٌ من الأحنفِ بنِ قيسٍ) اهـ.
قلْتُ: إلا أنَّ أهلَ العلمِ صحَّحُوا هذا الحديثَ واحتجُّوا بهِ على الجهميَّةِ ونحوِهِمْ.
قالَ التّرمذيُّ: (هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ).
وقالَ الحاكمُ: (صحيحُ الإِسنادِ).
وقالَ في موضعٍ آخرٍ: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ. وأقرَّهُ الذَّهبيُّ.
وقالَ ابنُ العربيِّ: (ذكر حديث العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ في حملِ العرشِ ثمانيةُ أوعالٍ، حسنٌ صحيحٌ) اهـ إلا أنَّهُ لم يصحِّحْ تقديرَ ما بين السماءينِ بخمسمائةِ سنةٍ وصحَّحَ التَّقديرَ بالسَّبعينَ.
واحتجَّ به إمامُ الأئمَّةِ ابنُ خزيمةَ على مخالفةِ الجهميَّةِ في صفةِ الاستواءِ.
وقدْ قدَّم في أوَّل
الكتابِ أنَّهُ لا يحتجُّ إلا بما صحَّ وثبتَ عن نبيِّنَا صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأسانيدِ الثَّابتةِ الصَّحيحةِ بنقلِ أهلِ العدالةِ
موصولاً إليهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،. اهـ.
وقدْ ترجَمَ أبو داودَ بقولِهِ (بابٌ في الجَهْمِيَّةِ) ثمَّ أوردَهُ تحتهَا محتجّاً بهِ، وكذلك ترجَمَ ابنُ ماجه بقولِهِ: (بابٌ فيمَا أنكرَتِ الجَهْمِيَّةُ) ثمَّ ساقَهُ محتجّاً بهِ ومثلُهُمَا الدَّارميُّ ذكرَهُ في كتابِهِ (الردُّ على الجَهْمِيَّةِ).
ونقلَ محقِّقُ كتابِ (العظمةِ) أنَّ الجوزقانيَّ صرَّحَ في (الأباطيلِ) (1/79 بصحة الحديث.
فقالَ: أليسَ مدارُهُ على ابنِ عميرةَ، وقدْ قالَ البخاريُّ: (لا يُعرَفُ له سماعٌ من الأحنفِ).
فقلْتُ: قد رواهُ إمامُ الأئمَّةِ ابنُ خزيمةَ في كتابِ التَّوحيدِ الَّذِي
اشترطَ فيه أنَّهُ لا يحتجُّ فيه إلا بما نقلَهُ العدلُ عن العدلِ موصولاً
إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلتُ:
فيَا
سبحانَ اللهِ أَيُقالُ مثلَ هذا في جوابِ شيخِ الإِسلامِ -وهو عالمُ
المعقولِ والمنقولِ، والعالمُ بطرقِ إعلالِ الحديثِ والجرحِ والتَّعديلِ؟
وهو الَّذِي قالَ فيه تلميذُهُ الحافظُ الذَّهبيُّ: (يصدقُ عليهِ أنْ يُقالَ: كلُّ
حديثٍ لا يعرفُهُ ابن تيميَّةَ فليسَ بحديثٍ، ولكنَّ الإحاطةَ للهِ، غيرَ
أنَّهُ يغترفُ من بحرٍ، وغيرُهُ من الأئمَّةِ يغترفُونَ من السَّواقِي) اهـ.
وقالَ في موضعٍ آخرٍ: (عنيَ
بالحديثِ ونسخَ الأجزاءَ ودارَ على الشُّيوخِ وخرجَ وانتقَى وبرعَ في
الرِّجالِ وعِلَلِ الحديثِ وفِقْهِهِ وفي علومِ الإِسلامِ وعلمِ الكلامِ
وغيرِ ذلك) اهـ.
واحتجَّ به الإِمامُ ابنُ القيِّمِ بقولِهِ:
ولــقــدْ أتــى خــبـرٌ رواهُ عـمُّهُ ال عـبَّاسُ صنوُ أبـيهِ ذو الإِحسـانِ
أنَّ السَّماواتِ العلى من فوقِهَا ال كـرسـي عـلـيـه الـعـرشُ لـلـرَّحمنِ
والـلــهُ فـوقَ الــعرشِ ينظرُ خلــقَهُ فـانـظـرْهُإنْ سمحَتْ لكَ العينـانِ
وقالَ الشَّارحُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ حسنٍ: (وقالَ الحافظُ الذَّهبيُّ: رواهُ أبو داودَ بإسنادٍ حسنٍ) اهـ.
وقالَ في (قرَّةِ العيونِ): (قلـُتُ: وهذا الحديثُ له شواهدُ في (الصَّحيحينِ) وغيرِهِمَا مع ما يدلُّ عليهِ صريحُ القرآنِ فلا عبرةَ بقولِ من ضعَّفَهُ) اهـ
تمَّ تخريجُ أحاديثِ (كتابِ التَّوحيدِ)الَّذِي هو حقُّ اللهِ على العبيدِ - الَّتي حكمَ عليهَا بعضُ الأخوةِ بالضَّعفِ.
والحمدُ للهِ الَّذِي بنعمتِهِ وتوفيقِهِ تتمُّ الصَّالحاتُ، وذلك في يومِ الاثنينِ الموافقِ 5/3/1414هـ.
وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنَا محمَّدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
قالَهُ كاتبُهُ المعترفُ بالعجزِ والقصورِ الرَّاجِي عفوَ ربِّهِ عن الزَّلاَّتِ والعثورِ.
العناصر
وجه ختم المصنف كتابه بباب قول الله تعالى (وما قدروا الله حق قدره...)
أهمية باب ما جاء في قول الله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره...)
بيان عظم هذا الباب وأهمية ختم كتاب التوحيد به
تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره...) الآية
شرح حديث ابن مسعود (جاء حبر من الأحبار...)
- تخريج حديث ابن مسعود: (جاء حبر من الأحبار...)
- بيان معنى (الحبر)
- ذكر اللغات في (أصبع)
- إثبات الإصبع لله تعالى على ما يليق به، وذكر تأويل المبتدعة له، والرد عليه
- بيان أن قوله: (والماء والثرى على إصبع) لا يناقض قوله: (الأرضين على إصبع)
- معنى قوله: (أنا الملك)
- بيان أن الضحك من الشيء قد يكون تصديقا له، وذكر نظائر لذلك
- معنى قوله: (حتى بدت نواجذه)
- بيان أن الهز في قوله: (ثم يهزهن) هز حقيقي يليق بالله تعالى
- هل نهز أيدينا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟
شرح حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم
- معنى الاستفهام في قوله: (أين الجبارون)
- الجمع بين قوله: (ثم يأخذهن بشماله) وحديث (كلتا يديه يمين)
- إثبات الكف لله تعالى
- معنى (الخردلة)
شرح حديث زيد رضي الله عنه: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ...)
- ترجمة ابن جرير رحمه الله، والكلام على تفسيره
- معنى حديث (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم...) الحديث
شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة ...)
- معنى قوله: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد...) الحديث
- الأدلة على إثبات استواء الله على عرشه، وأقوال السلف في ذلك
شرح أثر ابن مسعود: (بين السماء الدنيا والتي تليها ...)
- بيان أن قول ابن مسعود: (بين السماء الدنيا، والتي تليها...) له حكم الرفع
- المسافة بين السماء الدنيا والماء
- معنى قوله: (ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم)
- أقسام علو الله تعالى، وأقسام المنكرين له
- إثبات العلو لله تعالى، والرد على المنكرين، وبيان أن إثبات الجهة لا يستلزم الحصر
شرح حديث العباس رضي الله عنه: (هل تدرون كم بين السماء والأرض ...)
- تخريج حديث العباس، وبيان درجته، وما يستفاد منه
- نوع (أل) في (العباس)
- معنى الاستفهام في قوله: (هل تدرون؟)
- معنى قوله: (وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)
- بيان أنه ليس في صفات الله تعالى صفة سلب محض
- عظم المخلوقات يدل على عظمة الخالق جل وعلا
- تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى
- بيان ما يجب أن يكون عليه العبد تجاه خالقه ومعبوده جل وعلا
- بيان أسباب رسوخ الإيمان في القلب
شرح مسائل باب قوله تعالى (وما قدروا الله حق قدره...) الآية
وصية عظيمة بالاهتمام بكتاب التوحيد