26 Oct 2008
باب لا يُستشفع بالله على خلقه
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى خَلْقِهِ
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (جَاءَ
أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ نُهِكَتِ الأَنْفُسُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ،
فَاسْتَسْقِ لَنَا رَبَّكَ، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ،
وَبِكَ عَلَى اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((سُبْحَانَ
اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ!! فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي
وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ
شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ
عَلَى أَحَدٍ..)) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: إِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ قَالَ:((فَإِنَّنَا نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ)).
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:((نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللهِ)).
الرَّابِعَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى تَفْسِيرِ سُبْحَانَ اللهِ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَسْأَلُونَهُ صلى الله عليه وسلم الاِسْتِسْقَاءَ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (6) قال المصنِّفُ رحمَهُ اللهُ تعالَى: (بابُ لا يُسْتَشْفَعُ باللهِ علَى خَلْقِهِ) عنْ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُ قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نُهِكَتِ الأَنْفُسُ، وَجَاعَ العِيَالُ، وهَلَكَتِ الأَمُوالُ، فاسْتَسْقِ لَنَا رَبَّكَ، فإنَّا نَسْتَشْفِعُ باللهِ عَلَيكَ، وبِكَ عَلَى اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:((سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ!!)) فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ في وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَيْحَكَ، أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّهُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى أَحَدٍ..)) وذَكَرَ الحَدِيثَ، رَوَاهُ أَبُو دَاودَ.
وذَكَرَ الحديثَ، وسِياقُ أبي دَاوُدَ في (سُنَنِهِ) أَتَمُّ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمُهُ اللهُ، ولَفْظُهُ: عَنْ جُبَيْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، جُهِدَتِ الأَنْفُسُ، وضَاعَتِ العِيَالُ، ونُهِكَتِ
الأَمْوَالُ، وهَلَكَتِ الأَنْعَامُ، فاسْتَسْقِ اللهَ لَنَا، فَإِنَّا
نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللهِ ونَسْتَشْفِعُ باللهِ عَلَيْكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَيْحَكَ! أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟))وَسَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ في وُجُوهِ أَصْحَابِهِ.
وَسَبَّحَ اللهَ كَثِيرًا
وَعَظَّمَهُ؛ لأنَّ هذا القولَ لا يَليقُ بالخالِقِ سبحانَهُ وبِحَمْدِهِ،
إنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في (مِفتاحِ دارِ السعادةِ) - بعدَ كلامٍ سَبَقَ فيما يُعَرِّفُ العبْدَ بنفسِهِ وبِرَبِّهِ منْ عَجائِبِ مَخلوقاتِهِ - قالَ بعدَ ذلكَ:
والصحابةُ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُم -لا سِيَّمَا أهلُ السوابقِ منهم كالخلفاءِ الراشدينَ- لم يُنْقَلْ
عنْ أَحَدٍ منهم ولا عنْ غِيرِهم أنَّهُم أَنْزَلُوا حاجتَهم بالنبيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ وَفاتِهِ، حتَّى في أوقاتِ
الْجَدْبِ، كما وَقَعَ لعمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا خَرَجَ ليَسْتَسْقِيَ بالناسِ خَرَجَ بالعَبَّاسِ عَمِّ
النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَمَرَهُ أن يَسْتَسْقِيَ؛
لأنَّهُ حيٌّ حاضرٌ يَدْعُو رَبَّهُ، فلوْ جَازَ أن يَسْتَسْقِيَ بأَحَدٍ
بعدَ وَفاتِهِ لاسْتَسْقَى عمرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ والسابقون الأَوَّلُونَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ:((إِنَّهُ
لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللهِ
أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى
سَمَاوَاتِهِ لَهَكَذَا - وَقَالَ بأُصْبُعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ
- وَأَنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ)).
قَالَ ابْنُ يَسَارٍ في حَدِيثِهِ: ((إِنَّ اللهَ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ)).
قالَ الحافظُ الذهبيُّ: (رواهُ أبو دَاوُدَ بإسنادٍ حَسَنٍ عندَهُ في الرَّدِّ علَى الْجَهْمِيَّةِ، منْ حديثِ مُحَمَّدِ بنِ إسحاقَ بنِ يَسارٍ).
وفي هذا الحديثِ:
(والثاني:
أن يَتَجَاوَزَ هذا إلَى النظَرِ بالبصيرةِ الباطِنَةِ؛ فتُفْتَحُ لهُ
أبوابُ السماءِ؛ فيَجولُ في أقطارِها ومَلَكُوتِها وبينَ مَلائكتِها، ثمَّ
يُفْتَحُ لهُ بابٌ بعدَ بابٍ حتَّى يَنْتَهِيَ بهِ سَيْرُ القلبِ إلَى
عَرْشِ الرحمنِ، فيَنْظُرَ سَعَتَهُ وعَظَمَتَهُ وجَلالَهُ ومَجْدَهُ
ورِفْعَتَهُ، يَرَى السماواتِ السبعَ والأرَضينَ السبعَ بالنِّسبةِ إليهِ
كحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ بأرضٍ فَلاةٍ، ويَرَى الملائكةَ حافِّينَ منْ حَولِ
العَرشِ، لهم زَجَلٌ بالتسبيحِ والتحميدِ والتقديسِ والتكبيرِ، والأمْرُ
يَنْزِلُ منْ فوقِهِ بتدبيرِ الْمَمَالِكِ والجنودِ التي لا يَعْلَمُها
إلاَّ رَبُّها ومَليكُها.
فيَنْزِلُ
الأمْرُ بإحياءِ قومٍ وإماتةِ آخَرينَ، وإعزازِ قومٍ وإذلالِ آخرينَ؛
وإنشاءِ مُلْكٍ وسَلْبِ مُلْكٍ، وتحويلِ نِعمةٍ منْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ،
وقَضاءِ الحاجاتِ علَى اختلافِها وتِبْيَانِها وكَثْرَتِها: منْ جَبْرِ
كَسِيرٍ، وإغناءِ فَقيرٍ، وشِفاءِ مَريضٍ، وتَفريجِ كَرْبٍ، ومَغفِرَةِ
ذَنْبٍ، وكَشْفِ ضُرٍّ ونَصْرِ مَظلومٍ، وهِدايَةِ حَيرانَ، وتَعليمِ
جَاهلٍ، ورَدِّ آبِقٍ، وأَمانِ خَائفٍ، وإِجارَةِ مُسْتَجِيرٍ، ومَدَدٍ
لضَعيفٍ وإغاثةٍ لِمَلْهُوفٍ، وإعانةٍ لعاجزٍ، وانتقامٍ منْ ظَالِمٍ،
وكَفٍّ لعُدوانٍ، فهيَ مَراسيمُ دائرةٌ بينَ العَدْلِ والفَضْلِ، والحِكمةِ
والرحمةِ، تَنْفُذُ في أقطارِ العَوَالِمِ، لا يَشْغَلُهُ سَمْعُ شيءٍ
منها عنْ سَمْعِ غيرِهِ، ولا تُغْلِطُهُ كثرةُ الْمَسائِلِ والحوائجِ علَى
اختلافِها وتَبَايُنِهَا واتِّحادِ وَقْتِها، ولا يَتَبَرَّمُ بإلحاحِ
الْمُلِحِّينَ، ولا تَنْقُصُ ذَرَّةٌ منْ خَزَائِنِهِ، لا إلهَ إلاَّ هوَ
العزيزُ الحكيمُ.
فحينئذٍ
يَقومُ القلبُ بينَ يَدَيِ الرحمنِ مُطْرِقًا لِهَيْبَتِهِ، خاشعًا
لعَظَمَتِهِ، عانٍ لعِزَّتِهِ، فيَسجُدُ بينَ يَدَيِ الْمَلِكِ الحقِّ
الْمُبِينِ، سَجدةً لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ منها إلَى يومِ الْمَزِيدِ، فهذا
سَفَرُ القلبِ، وهوَ في وَطَنِهِ ودارِهِ ومَحَلِّ مُلْكِهِ، وهذا منْ
أَعْظَمِ آياتِ اللهِ وعَجائبِ صُنْعِهِ، فيا لهُ منْ سَفَرٍ ما أَبْرَكَهُ
وأَرْوَحَهُ، وأَعْظَمَ ثَمَرَتَهُ ورِبْحَهُ، وأَجَلَّ مَنفعتَهُ وأحسَنَ
عاقبتَهُ، سَفَرٌ هوَ حياةُ الأرواحِ، ومِفتاحُ السعادةِ، وغَنيمةُ
العقولِ والألبابِ، لا كالسَّفَرِ الذي هوَ قِطعةٌ من العذابِ). انتهَى كلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى.
وأَمَّا الاستشفاعُ
بالرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياتِهِ فالمرادُ بهِ
استجلابُ دُعائِهِ، وليسَ خاصًّا بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بلْ
كلُّ حيٍّ صالحٍ يُرْجَى أن يُستجابَ لهُ فلا بأسَ أن يُطْلَبَ منهُ أن
يَدْعُوَ للسائلِ بالْمَطالِبِ الخاصَّةِ أو العامَّةِ، كما قالَ النبيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعُمَرَ لَمَّا أَرادَ أن يَعْتَمِرَ من المدينةِ: ((لاَ تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ صَالِحِ دُعَائِكَ)).
وأمَّا الميِّتُ فإنما يُشرَعُ في حَقِّهِ الدعاءُ لهُ علَى جَنازتِهِ وعلَى قَبْرِهِ، وفي غيرِ ذلكَ.
وبهذا يَظْهَرُ الفَرْقُ بينَ الحيِّ والْمَيِّتِ؛ لأنَّ
المقصودَ من الْحَيِّ دُعاؤُهُ إذا كان حاضرًا، فإنَّهُم في الحقيقةِ إنما
تَوَجَّهُوا إلَى اللهِ بطَلَبِ الادِّعَاءِ مِمَّن يَدْعُوهُ
ويَتَضَرَّعُ إليهِ، وهم كذلكَ يَدْعُون ربَّهُم، فمَنْ تَعَدَّى المشروعَ
إلَى ما لا يُشْرَعُ ضَلَّ وأَضَلَّ، فلوْ كان دُعاءُ الميِّتِ خَيرًا
لكانَ الصحابةُ إليهِ أَسْبَقَ، وعليهِ أَحْرَصَ، وبهم أَلْيَقَ؛
وبِحَقِّهِ أَعْلَمَ وأَقْوَمَ، فمَنْ تَمَسَّكَ بكتابِ اللهِ نَجَا، ومَنْ
تَرَكَهُ واعْتَمَدَ علَى عَقْلِهِ هَلَكَ، وباللهِ التوفيقُ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((3) وأما الاستشفاعُ باللهِ على خلقِه فهو تعالَى أعظمُ شأنًا مِن أنْ يُتَوَسَّلَ به إلى خلقِه؛ لأنَّ رُتْبَةَ المُتَوَسِّلِ به غالبًا دونَ رُتْبَةِ المُتَوَسَّلِ إليه، وذلك مِن سوءِ الأدبِ مع اللهِ، فيتعيَّنُ تَرْكُه؛ فإنَّ الشُّفعاءُ لا يشفعونَ عنده إلا بإذنِه، وكلُّهم يَخافونَه ، فكيف يُعْكَسُ الأمرُ فَيُجْعَلَ هو الشافعَ ، وهو الكبيرُ العظيمُ الذي خَضَعَتْ لَه الرِّقَابُ وذلَّت له الكائناتُ بِأَسْرِهَا؟!
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: (باب لا يُستشفع بالله على خلقه والاستشفاعُ باللهِ على خلقِهِ تنقُّصٌ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه
جعَل مرتبةَ اللهِ أدْنَى من مرتبةِ المشفوعِ إليه؛ إذ لو كانَ أعلى
مرتبةً ما احتاجَ أنْ يَشْفَعَ عندَه، بل يأمرُهُ أمراً، واللهُ - عزَّ
وجلَّ- لا يَشْفَعُ لأحدٍ من خلقِهِ إلى أحدٍ؛ لأنَّه أجلُّ وأعظمُ من أن
يكونَ شافعاً، ولهذا أنكر النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ ذلك على
الأعرابيِّ، وهذا وجهُ وضعِ هذا البابِ في كتابِ التَّوحيدِ. قولُه: (نُهِكَتِ الأَنْفُسُ، وَجَاعَ العِيالُ، وهَلَكتِ الأَمْوالُ) (نُهِكَت) أي: ضعُفَتْ. أَلــَمْ تـرَ أنَّ الـــسَّيـفَ يــَنــْقـُصُ قـدْرُهُ إِذا قِيلَ إِنَّ السَّيفَ أمْضى مِنَ العَصا قولُه: (فما زالَ) إذا دخلتْ (ما) على (زالَ) الَّتي مضارعُهَا يزالُ صار النَّفيُ إثباتاً مفيداً للاستمرارِ، كقولِهِ تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ..} الآيةَ، وكقولِهِ تعالى في المضارعِ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}، وجملةُ (يُسبِّح) خبرُ (زال).
(19) اسْتَشْفَعَ بالشَّيءِأي: جعلَه شافعاً له، والشَّفاعةُ في الأصلِ: جعلُ الفردِ شَفْعاً، وهي التَّوسُّطُ للغيرِ بجلبِ منفعةٍ له، أو دفعِ مضرَّةٍ عنه.
ومناسبةُ البابِ لكتابِ التَّوحيدِ:
(وجاع العيالُ وهلَكَت
الأموالُ) أي: من قلَّةِ المطرِ والخصبِ، فضعفُ الأنفسِ بسببِ ضعفِ
القوَّةِ النَّفسيَّةِ والمعنويَّةِ الَّتي تحصلُ فيما إذا لم يكنْ هناك
خصبٌ، وجاع العيالُ لقلَّةِ العيشِ، وهلَكَت الأموالُ؛ لأنَّها لم تجدْ ما
ترعاه.
قولُه: (فاسْتَسْقِ لَنا
رَبَّكَ) أي: اطْلُبْ من اللهِ أن يَسْقِيَنَا، وهذا لا بأسَ به؛ لأنَّ
طلبَ الدُّعاءِ مِمَّن تُرْجَى إجابتُهُ من وسائلِ إجابةِ الدُّعاءِ.
قولُه: ((نَسْتَشْفِعُ باللهِ عَلَيكَ))
أي: نجعلُهُ واسطةً بينَنا وبينَك لتَدْعُوَ اللهَ لنا، وهذا يَقْتَضِي
أنَّه جعَلَ مرتبةَ اللهِ في مرتبةٍ أدنى من مرتبةِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وسلَّمَ.
قولُه: (ونَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللهِ) أي: نطلبُ منك أن تكونَ شافعاً لنا عندَ اللهِ فتَدْعُوَ اللهَ لنا، وهذا صحيحٌ.
قولُه: (سُبْحانَ اللهِ،
سُبْحانَ اللهِ) قاله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم استعظاماً لهذا القولِ،
وإنكاراً له، وتنزيهاً للهِ -عزَّ وجلَّ- عمَّا لا يليقُ به مِن جعلِهِ
شافعاً بينَ الخلقِ وبينَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
والتَّسبيحُ : تنزيهُ اللهِ عمَّا لا يليقُ به من نقصٍ، أو عيبٍ، أو مماثلةٍ للمخلوقِ، أو ما أشبهَ ذلك.
وإن
شِئْتَ أدخِلْ مماثلةَ المخلوقِ مع النَّقصِ والعيبِ؛ لأنَّ مماثلةَ
النَّاقصِ نقصٌ، بل مقارنةَ الكاملِ بالنَّاقصِ تجعلُهُ ناقصاً، كما قال
الشَّاعرُ:
قولُه:
(حَتَّى عُرِفَ ذلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ) أي: عُرف أَثَرُهُ في
وجوهِ أصحابِهِ، وأنَّهم تأثَّروا بذلك؛ لأنَّهم عرَفُوا أنّه صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وسلَّمَ لا يُسَبِّحُ في مثلِ هذا الموضعِ ولا يكرِّرُهُ إلا
لأمرٍ عظيمٍ، ووجهُ التَّسبيحِ -هنا- أنَّ الرَّجلَ
ذكرَ جملةً فيها شيءٌ من التَّنقُّصِ للهِ تعالى فسبَّح النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ ربَّه تنزيهاً له عمَّا تُوهِمُهُ هذه الكلمةُ، ولهذا
إذا كانَ الرَّسولُ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابُهُ في السَّفرِ
إذا هبَطوا وادياً سبَّحوا تنزيهاً للهِ تعالى عن السُّفولِ الَّذي كانَ من
صفاتِهِم، وإذا علَوْا نَشَزاً كبَّروا تعظيماً للهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ
اللهَ تعالى هو الّذي له الكبرياءُ في السَّماواتِ والأرضِ.
قولُه: (وَيْحَكَ) (ويحَ)
منصوبةٌ بعاملٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: أَلزَمَكَ اللهُ وَيْحَكَ. وتارةً تُضافُ
فيُقالُ: ويْحَك، وتارةً تُقطَعُ عن الإضافةِ فيُقالُ: وَيْحاً لك، وتارةً
تُرفَعُ على أنَّها مبتدأٌ فيُقالُ: ويحُه أو ويحٌ له، وهي و(ويلٌ)،
و(وَيْشُ) كلُّها متقاربةٌ في المعنى.
ولكنَّ بعضَ علماءِ اللُّغةِ قال: إنَّ (ويح) كلمةُ تَرَحُّمٍ، و(ويل) كلمةُ وعيدٍ.
فمعنى ويحك: إنّي أَتَرَحَّمُ لك وأَحِنُّ عليك،
ومنهم مَن قال: كلُّ هذه الكلماتِ تدلُّ على التَّحذيرِ، فعلى معنى أنَّ
ويح بمعنى التَّرحُّمِ يكونُ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ ترحُّماً
لهذا الرَّجلِ الَّذي تكلَّمَ بهذا الكلامِ، كأنَّه لم يَعْرِفْ قَدْرَ
اللهِ.
قولُه: (أتَدْرِي ما
اللهُ؟) المرادُ بالاستفهامِ التَّعظيمُ، أي: شأنُ اللهِ عظيمٌ، ويحتملُ
أنَّ المعنى: لا تَدْرِي ما اللهُ، بل أنت جاهلٌ به، فيكون المرادُ
بالاستفهامِ النَّفيَ.
وقولُه: (ما اللهُ) جملةٌ
استفهاميَّةٌ مُعلِّقةٌ لـ (تدري) عن العملِ؛ لأنَّ دَرَى تَنْصِبُ
مفعولين، لكنَّها تُعَلَّقُ بالاستفهامِ عن العملِ، وتكونُ الجملةُ في
محلِّ نصبٍ سدَّت مَسَدَّ مفعولي تدري.
قولُه: (إنَّ شَأْنَ اللهِ أَعظمُ مِنْ ذلِكَ) أي: إنَّ أمرَ اللهِ وعظمَتَه أعظمُ ممَّا تصوَّرْتَ حيثُ جئتَ بهذا اللفظِ.
قولُه: (إنّهُ لا
يُسْتَشْفَعُ باللهِ عَلَى أحدٍ) أي: لا يُطلبُ منه أن يكونَ شفيعاً إلى
أحدٍ؛ وذلك لكمالِ عظمتِهِ وكبريائِهِ، وهذا الحديثُ فيه ضعفٌ، ولكنَّ
معنَاه صحيحٌ، وأنَّه لا يجوزُ لأحدٍ أن يقولَ: نَسْتَشْفِعُ باللهِ عليك.
فإنْ قيلَ: أليس قد قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((مَنْ سأَلَ باللهِ فأَعْطُوهُ))وهذا دليلٌ على جوازِ السُّؤالِ باللهِ؛ إذْ لو لم يكن السُّؤالُ باللهِ جائزاً لم يكنْ إعطاءُ السَّائلِ واجباً؟
والمعنى الأوَّلُ أصحُّ، وقد ورَدَ مثلُهُ في قولِ الملَكِ: ((أَسْأَلُكَ بالَّذي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ)).
(21) فيه مسائلُ:يا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقاعِ أعْظُمُه فـَطـَابَ مِن طِيبِهنَّ القاعُ والأَكَمُ
نـَفْسِيالفِداءُ لقبْرٍ أنتَ ساكِنُه فـيهِ العَفافُوفيهِ الجُودُ والكرَمُ
ثمَّ
انصرفَ، قالَ العتبيُّ: فغلَبَتْني عينيَّ، فرأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّمَ في النَّومِ فقالَ: يا عتبيُّ، بشِّر الأعرابيَّ أنَّ اللهَ
قد غفَرَ له.
فهذه الرِّوايةُ باطِلةٌ لا صحَّةَ لها؛ لأنَّ صاحِبَها مجهولٌ، وكذلِك مَن رواها عنه مجهولون ولا يمكنُ أنْ تصِحَّ؛ لأنَّ الآيةَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُواْ} ولم يقلْ: إذا ظَلموا، و (إِذْ) لمَا مضَى بخلافِ (إذا) والصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهم لمَّا لحِقَهم الجدبُ في زمنِ عمرَ لم يَسْتَسْقُوا بالرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ، وإنَّما اسْتَسْقَوا بالعبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ بدعائِهِ، وهو حاضرٌ فيهم.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب لا يُستشفع بالله على خلقه
لا يُستشفع، يعني لا يُجعل الله شفيعاً على الخلق؛ لأن شأن الله جل وعلا أعظم، وأجلّ من أن يُستشفع به، ويُجعل واسطة للانتفاع من أحد من الخلق، فالشفاعة المعروفة: تأتي إلى أحد وتطلب أن يكون شفيعاً عند آخر؛ لأن ذلك الآخر هو الذي يملك ما تريد والنفع عنده، وهذا يكون واسطة، ولا يستطيع أن ينفعك هو بنفسه؛ إلا بأن يتوسّط، والله جل جلاله لا يجوز أن يُظن به ذلك الظنّ؛ لأنه ظنّ سَوْءٍ بالله جل جلاله، فالله سبحانه لا يصلح أن يُجعل واسطة لأحدٍ، وإلى أحدٍ من الخلق، أو على أحدٍ من الخلق، بل هو جل وعلا الذي يملك الأمور جميعاً.
فالاستشفاع بالله على الخلق، يعني أن يُجعل الله واسطة يتوسط العبد بربه على أحدٍ من الخلق، هذا منافٍ لكمال التوحيد، وعملٌ وقولٌ من الأقوال المنافية لتعظيم الله جل وعلا التعظيم الواجب.
ولهذا لما ذكر الشيخ رحمه الله حديث: جُبير بن مُطْعِم، كان الشاهد منه: أنه قال الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام:((فاستسقي لنا ربك فإننا نستشفع بالله عليك وبك على الله)) يعني: نستشفع بالله، نجعل الله جل وعلا واسطة يتوسط لنا عندك، حتى تدعو، والله جل وعلا هو الملك، الحي القيوم، الملك الحق المبين، الذي نواصي العباد بيديه، يُصرّفها كيف يشاء؟
شأن الله أعظم منْ أنْ يُستشفع به على أحدٍ من خلقه، بل الرجل، أو المكلف يستشفع بأحدٍ من الخلق عند مخلوقٍ آخر يحتاجه في شيء، والله جل وعلا:
- هو الذي يملك الأشياء جميعاً.
- وهو الذي يُصرِّف القلوب.
- هو الذي بيده الملك والملكوت.
- هو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض.
- وبيده خزائن كل شيء {وإنْ من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلى بقدر معلوم}.
فالعباد هم المحتاجون إلى الله، وشأن الله أعظم من ذلك، إذ المخلوق حقيرٌ، وضيع، بالنسبة إلى الربِّ جل جلاله، وهو هذا المخلوق لا يصلح أن يُجعل واسطة، أن يُجعل الله جل وعلا واسطة عنده حتى يقبل هذه الواسطة، بل شأن الله جل وعلا أعظم من ذلك، ولهذا كان سيد الخلق وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام رادّاً على هذا الأعرابي، حيث قال له الأعرابي: ((إنا نستشفع بالله عليك وبك على الله))
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((سبحان الله، سبحان الله، فما زال يُسبِّح)).
(سبحان الله) يعني تنزيهاً، وتعظيماً لله، تنزيها وإبعاداً لله عن كل وصفِ سوءٍ، أو شائبةِ نقصٍ.
(سبحان الله) يعني: أسبح الله تسبيحاً، أسبح الله، وأنزهه تنزيهاً، وأبعده تبعيداً عن كل شائبةِ نقصٍ، وعن كل ظنِّ سوء به جل وعلا.
(( فما زال يكررها حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابه)) من شدة تسبيحه، وتنزيهه لربه جل وعلا، وهذا من الغضب لله جل جلاله، صلى الله وسلم على نبينا محمد فما كان أعلمه بربِّه، وما كان أعرفه بربه.
ثم قال: ((ويحك أتدري ما الله، إن شأن الله أعظمُ من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد))فالله جل وعلا مَنْ عَلِم أسماءه، وعلم الصفات المستحقة له جل وعلا؛ فإنه لن يدور بخاطره ظنُّ سَوْءٍ به جل وعلا، أو استنقاص له جل وعلا.
إذاً في هذا الباب فيه كما في الأبواب قبله ما يتحرز به الموّحد من الألفاظ التي فيها سوء ظنٍّ بالله جل وعلا، وتنقّص بمقام الربوبية لله جل جلاله.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ لا يُسْتَشْفَعُ باللهِ عَلَى خَلْقِهِ
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: (جـَاءَ
أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ نُهِكَتِ الأَنْفُسُ وجَاعَ العِيَالُ، وهَلَكَتِ
الأَمْوَالُ فاسْتَسْقِ لَنَا رَبَّكَ، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ
عليْكَ وبِكَ عَلَى اللهِ، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (( سـُبـْحـَانَ اللهُ، سُبْحَانَ اللهُ، فمَا زَالَ يُسَبِّحُ حّتَّى عُرِفَ ذلِكَ في وُجُوهِ أصْحَابِهِ …))الحديثَ. أخرجَهُ أبو داودَ، وابنُ أبي عاصمٍ، والطَّبرانيُّ والبغويُّ، وابنُ خزيمةَ، والبيهقيُّ، والدَّارقطنيُّ، والدَّارميُّ، وموفَّقُ الدِّينِ، وأبو الشَّيخِ، وابنُ عبدِ البرِّ والمزّيُّ من طرقٍ عن وهبِ بنِ جريرِ بنِ حازمٍ قالَ: حدَّثَنِي أبي قالَ: سمعْتُ محمَّدَ بنَ إسحاقَ يحدِّثُ عن يعقوبَ بنِ عتبةَ عن جبيرِ بنِ محمَّدِ بنِ جبيرِ بنِ مطعمٍ عن أبيهِ عن جدِّهِ قالِ: ((أَتـَى أعرابيٌّ…))الحديثَ.
قلْتُ: ففي نفسِكَ من حديثِهِ شيءٌ؟
قيلَ: هذه الحكايةُ وأمثالُهَا هي الَّتي أغرَتْ من اتَّهَمَهُ بالكذبِ.
أحدهَا: أنَّ سليمانَ بنَ داودَ - راويها عن يحيى - هو الشَّاذكوني وقد اتُّهِمَ بالكذبِ.
الثَّاني: أنَّ في الحكايةِ ما يدلُّ على أنَّها كذبٌ فإنَّهُ قالَ:(أُدْخِلَتْ فاطمةُ عليَّ وهي بنتُ تسعٍ) وفاطمةُ أكبرُ من هشامٍ بثلاثَ عشرةَ سنةً.
فقالَ: (حديثُهُ عندي صحيحٌ)
قلْتُ: فهشامُ بنُ عروةَ قد تكلَّمَ فيهِ؟
وأمَّا قولُكُم: (إنَّهُ لم يصرِّحْ بسماعِهِ من يعقوبَ بنِ عتبةَ)
فعلى تقديرِ العلمِ بهذا النَّفيِ لا يخرجُ الحديثُ عن كونِهِ حسناً؛
فإنَّهُ قد لقيَ يعقوبَ وسمعَ منهُ، وفي الصَّحيحِ قطعةٌ من الاحتجاجِ
بعَنْعَنَةِ المدلِّسِ كأبي الزُّبيرِ وسفيانَ عن عمرو بنِ دينارٍ، ونظائرُ كثيرةٌ لذلِكَ.
وهذا هو الجوابُ عن تفرُّدِ محمَّدِ بنِ جبيرٍ عنه فإنَّهُ ثقةٌ. واذْكرْ حديثاً لابنِ إسحاقَ الرِّضَى ذاكَ الـصَّدوقُ الـــحـافـظُ الـــرَّبَّاني
رواهُ عن وهبِ بنِ جريرٍ جماعةٌ منهم أحمدُ بنُ سعيدٍ الرّباطيُّ وأحمدُ بنُ الأزهرِ النَّيسابوريُّ وعليُّ بنُ المدينيِّ ويحيى بنُ معينٍ وعبدُ الأعلى بنُ حمَّادِ النَّرسيُّ ومحمَّدُ بنُ بشَّارٍ هَكَذَا.
ورواهُ محمَّدُ بنُ بشَّارٍ وعبدُ الأعلى بنُ حمَّادٍ النَّرسيُّ أيضاً ومحمَّدُ بنُ المثنَّى عن وهبِ بنِ جريرٍ ثنَا أبي قالَ: سمعْتُ محمَّدَ بنَ إسحاقَ يحدِّثُ عن يعقوبَ بنِ عتبةَ وجبيرِ بنِ محمَّدٍ عن أبيهِ عن جدِّهِ… الخ. قالَ أبو داودَ: (والحديثُ بإسنادِ أحمدَ بنِ سعيدٍ هو الصَّحيحُ، وافقَهُ عليه جماعةٌ منهم يحيى بنُ معينٍ وعليُّ بنُ المدينيِّ، ورواهُ جماعةٌ كما قالَ أحمدُ أيضاً).
وكانَ سماعُ عبدِ الأعلى وابنِ المثنَّى وابنِ بشَّارٍ من نسخةٍ واحدةٍ فيما بلغَنِي)) اهـ.
وقالَ الدَّارقطنيُّ: (ومـَنْ قالَ فيهِ عن يعقوبَ بنِ عتبةَ وجبيرِ بنِ محمَّدٍ فقدْ وَهِمَ، والصَّوابُ (عن جبيرِ بنِ محمَّدٍ كما ذكرْنَاهُ ها هنا) اهـ.
وقالَ المزيُّ: (والصـَّحيحُ: عن يعقوبَ بنِ عتبةَ عن جبيرِ بنِ محمَّدٍ كما سُقْنَاهُ في هذه الرِّوايةِ) واللهُ أعلمُ. اهـ.
وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: (والصـَّوابُ: عن جبيرٍ، كذا هو في المعجمِ الكبيرِ وغيرِهِ).
وأخرجَهُ الآجرِّيُّ: حدَّثَنَا أبو بكرِ بنِ أبي داودَ قالَ: سلمةُ بنُ شبيبٍ قالَ: حدَّثَنَا حفصُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ قالَ: سمعْتُ محمَّدَ بنَ إسحاقَ يحدِّثُ عن يعقوبَ بنِ عتبةَ عن جبيرِ بنِ محمَّدِ بنِ جبيرِ بنِ مطعمِ عن أبيهِ عن جدِّهِ… بهِ.
هذا، وقد أُعِلَّ هذا
الحديثُ بهذا الاختلافِ وبتدليسِ محمَّدِ بنِ إسحاقَ وقدْ عَنْعَنَ
وبتفرُّدِ جبيرِ بنِ محمَّدٍ بهِ وهو مجهولٌ.
قلْتُ: الاختلافُ قد أجابَ عنه أبو داودَ والدَّارقطنيُّ والمزّيُّ والحافظُ ابنُ حجرٍ كما رأيْتَ.
وأمَّا تدليسُ ابنِ إسحاقَ فقدْ أجابَ عنه ابنُ القيِّمِ - كما سيأتي - إنْ شاءَ اللهُ تَعالَى-.
وأمَّا جهالةُ جبيرِ بنِ محمَّدٍ فقدْ زالَتْ بروايةِ يعقوبَ بنِ عتبةَ بنِ المغيرةِ الأخنسِ الثَّقفيِّ وحصينِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ السّلميِّ عنه، وهما ثقتانِ.
وأقلُّ ما يرفَعُ الجهالةَ عن الرَّاوي روايةُ اثنينِ مشهورَيْنِ كما نصَّ عليه النَّوويُّ - فيما تقدَّمَ - أضفْ إلى هذا أنَّ ابنَ حبَّانَ ذكرَهُ في الثِّقاتِ،وأنَّ ابنَ خزيمةَ قد
عدَّلَهُ بإخراجِهِ لهُ؛ وذلك أنَّهُ قد شرَطَ في مقدِّمَةِ كتابِهِ هذا
أن لا يستدِلَّ إلا بما صَحَّ وثَبَتَ بالنَّقلِ عن أهلِ العدالةِ. وهذا
نصُّهُ: (… والإِيمانُ بجميعِ صفاتِ الرَّحمنِ
الخالقِ جلَّ وعلا ممَّا وصفَ بهِ نفسَهُ في محكَمِ تنزيلِهِ الَّذِي لا
يأتيهُ الباطلُ من بينِ يديه ولا من خلفِهِ، وبمَا صحَّ وثبَتَ عن نبيِّنَا
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأسانيدِ الثَّابتةِ الصَّحيحةِ بنقلِ
أهلِ العدالةِ موصولاً إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) اهـ.
وعليهِ فالحديثُ صحيحٌ عندَ ابنِ خزيمةَ؛ لأنَّهُ أوردَهُ مُسْتَدِلاًّ بهِ على ثبوتِ صفةِ الاستواءِ.
ثمَّ عن الإِمامِ البغويِّ جعلَهُ في الأحاديثِ الحسانِ.
وقالَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ حسنٍ عندَ شرحِهِ لَهُ: (قالَ الحافظُ الذَّهبيُّ: رواه أبو داودَ بإسنادٍ حسنٍ عندَهُ في الرَّدِّ على الجهميَّةِ من حديثِ محمَّدِ بنِ إسحاقَ بنِ يسارٍ) اهـ.
وقد انتصرَ لهذا الحديثِ الإِمامُ ابنُ القيِّمِ فقوَّاهُ وأجابَ عن عللِهِ، وأرَى من الأفضلِ إيرادَ جوابِهِ هُنَا، قالَ:(قالَ أهلُ الإِثباتِ: ليسَ في هذا شيءٌ مُسْتَرَاحٌ لكُمْ في ردِّ الحديثِ.
أمَّا حَمْلُكُم فيه على ابنِ إسحاقَ فجوابُهُ أنَّ ابنَ إسحاقَ بالموضعِ الَّذِي جعلَهُ اللهُ من العلمِ والأمانةِ).
قالَ عليُّ بنُ المدينيِّ: (حديثُهُ عندي صحيحٌ).
وقالَ شعبةُ: (ابنُ إسحاقَ أميرُ المؤمنينَ في الحديثِ).
وقالَ أيضاً: (هو صدوقٌ).
وقالَ عليُّ بنُ المدينيِّ أيضاً: (لم أجِدْ له سوى حديثينِ مُنْكَرَيْنِ).
وهذا في غايةِ الثَّناءِ والمدحِ إذْ لم يجدْ لَهُ - على كثرةِ ما رَوَى - إلا حديثينِ مُنْكَرَيْنِ.
وقالَ عليٌّ أيضاً: (سمعْتُ ابنَ عُيَيْنَةَ يقولُ: ما سمعْتُ أحداً يتكلَّمُ في ابنِ إسحاقَ في قولِهِ في القدرِ، ولا ريبَ أنَّ أهلَ عصرِهِ أعلمُ بهِ ممَّنْ تكلَّمَ فيه بعدَهُمْ).
وقالَ محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ: سمعْتُ الشَّافعيَّ يقولُ: قالَ الزُّهريُّ: (لا يزالُ بهذهِ الحرَّةِ علمٌ ما دامَ بها ذلك الأحولُ - يريدُ ابنَ إسحاقَ).
وقالَ يعقوبُ بنُ شيبةَ: سألْتُ يحيى بنَ معينٍ: كيفَ ابنُ إسحاقَ؟ قالَ: ليسَ بذاكَ.
قالَ: لا، كانَ صدوقاً.
وقالَ يزيدُ بنُ هارونَ: (سمعْتُ شعبةَ يقولُ: لو كانَ لي سلطانٌ لأمَّرت ابنَ إسحاقَ على المحدِّثينَ).
وقالَ ابنُ عديٍّ: (قد فتَّشْتُ أحاديثَ ابنِ إسحاقَ الكبيرِ
فلم أجدْ في حديثِهِ ما يتهيَّأَ أنْ نقطعَ عليهِ بالضَّعفِ، وربَّمَا
أخطأَ أو وَهِمَ كما يُخْطِئُ غيرُهُ، ولم يتخلَّفْ في الرِّوايةِ عنه
الثِّقاتُ والأئمَّةُ وهو لا بأسَ بهِ).
وقال أحمدُ بنُ عبدِ اللهِ العجليُّ: (ابنُ إسحاقَ ثقةٌ) وقد استشهَدَ مسلمٌ بخمسةِ أحاديثَ ذكرَهَا لابنِ إسحاقَ في صحيحِهِ.
وقد روى التّرمذيُّ في جامعِهِ من حديثِ ابنِ إسحاقَ: حدَّثَنَا سعيدُ بنُ عبيدِ بنِ السّباقِ عن أبيهِ عن سهلِ بن حنيفٍ قالَ: (كنْتُ ألقَى من المذي شدَّةً فأُكْثِرُ الاغتسالَ منْهُ…) الحديثُ.
قالَ التِّرمذيُّ: (هذا حديثٌ صحيحٌ لا نعرفُهُ إلا من حديثِ ابنِ إسحاقَ فهذا حكمٌ قد تفرَّدَ بهِ ابنُ إسحاقَ في الدُّنيَا، وقدْ صحَّحَهُ التّرمذيُّ).
فإن قِيلَ: فقدْ كذَّبَهُ مالكٌ.
فقالَ أبو قلابةَ الرّقاشيُّ: حدَّثَنِي أبو داودَ سليمانُ بنُ داودَ قالَ: قالَ يحيَى بنُ القطَّانِ: (أشهدُ أنَّ محمَّدَ بنَ إسحاقَ كذَّابُ).
قلْتُ: وما يدرِيكَ؟
قالَ: قالَ لي وهبٌ.
قلْتُ لوهبٍ: وما يدرِيكَ؟
قالَ: قالَ لي مالكُ بنُ أنسٍ.
فقلْتُ لمالكٍ: وما يدرِيكَ؟
قالَ: قالَ لي هشامُ بنُ عروةَ.
قالَ: قلْتُ لهشامٍ: وما يدرِيكَ؟
ولمَّا أخذَ عنها ابنُ إسحاقَ كان لها نحوُ بضعٍ وخمسينَ سنةً.
الثَّالثِ: أنَّ هشاماً إنَّما نَفَى رؤيتَهُ لَهَا ولمْ ينفِ سماعَهُ منها، ومعلومٌ أنَّهُ لا يلزَمُ من انتفاءِ الرُّؤيةِ انتفاءُ السَّماعِ. قالَ الإِمامُ أحمدُ:
لعلَّهُ سمعَ منها في المسجدِ أو أُدْخِلَ عليها فحدَّثَتْهُ من وراءِ
حجابٍ، فأيُّ شيءٍ في هذا؟ فقدْ كانَتْ امرأةً كبرَتْ وأسنَّتْ.
وقالَ يعقوبُ بنُ شيبةَ: سألْتُ ابنَ المدينيِّ عن ابنِ إسحاقَ؟
قلْتُ: فكلامُ مالكٍ فيهِ؟
قالَ: الَّذِي قالَ هشامٌ ليسَ بحجَّةٍ، لعلَّهُ دخلَ على امرأتِهِ وهو غلامٌ فسمعَ منهَا؛ فإنَّ حديثَهُ لَيتبيَّنَ فيهِ الصِّدقَ.
يروي مرَّةً يقولُ: حدَّثَنِي أبو الزِّنادِ، ومرَّةً يقولُ ذكرَ أبو الزِّنادِ ويقولُ: حدَّثَنِي الحسنُ بنُ دينارٍ عن أيّوبَ عن عمرو بنِ شعيبٍ ((في سلفٍ وبيعٍ)).
وهو أرْوَى النَّاسِ عن عمرو بنِ شعيبٍ.
وأمَّا قولُكُم: إنَّ ابنَ إسحاقَ اضطربَ فيهِ… الخ.
فقدِ اَّتفقَ ثلاثةٌ من الحفَّاظِ، وهم عبدُ الأعلى وابنُ المثني وابنُ بشَّارٍ على وهبِ بنِ جريرٍ عن أبيهِ عن ابنِ إسحاقَ أنَّهُ حدَّثَ به عن يعقوبَ بنِ عتبةَ وجبيرِ بنِ محمَّدٍ عن أبيهِ.
وخالَفَهُمْ أحمدُ بنُ سعيدٍ الرِّباطيُّ فقالَ: (عن وهبِ بنِ جريرٍ عن أبيهِ سمعْتُ محمَّدَ بنَ إسحاقَ يحدِّثُ عن يعقوبَ بنِ عتبةَ عن جبيرٍ).
فإمَّا أن يكونَ يعقوبُ رواهُ عن جبيرِ بنِ محمَّدٍ فسمعَهُ منه ابنُ إسحاقَ ثمَّ سمعَهُ من جبيرٍ نفسِهِ فحدَّثَ بهِ على الوجهينِ.
وقدْ قِيلَ: إنَّ الواوَ غلطٌ وإنَّ الصَّوابَ (عن يعقوبَ بنِ عتبةَ عن جبيرِ بنِ محمَّدٍ عن أبيهِ) واللهُ أعلمُ اهـ.
وقالَ في (نونِيَّتِهِ):
في قـصَّةِ اسـتـسـقـائِهِمْ يسـتشفـعُو نَ إلـىالـــــرَّســُولِ بــربِّهِ الـــــــمنَّانِ
العناصر
مناسبة باب (لا يستشفع بالله على خلقه) لكتاب التوحيد
شرح ترجمة باب (لا يستشفع بالله على خلقه) وبيان أهميته
- معنى الاستشفاع
- معنى الاستشفاع بالرسول في حياته
- الفرق بين الاستشفاع بالله، والسؤال بالله
- حكم الاستشفاع بالأموات
شرح حديث جبير بن مطعم: (أنه لا يستشفع بالله على أحد ...)
- معنى قوله: (نُهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال)
- تخريج حديث جبير بن مطعم (جاء أعرابي...) الحديث
- من هو الأعرابي؟
- معنى قوله: (فاستسق لنا ربك)
- معنى قوله: (نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله)
- مراد النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (سبحان الله، سبحان الله)
- بيان معنى سبحان
- معنى (ويح)
- معنى قوله: (فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه)
- معنى قوله: (أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك)
- كلام لابن القيم حول ما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته
- معنى قوله: (إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه)
- بعض الفوائد من حديث جبير بن مطعم
شرح مسائل باب (لا يستشفع بالله على أحد من خلقه)