26 Oct 2008
باب ما جاء في الإقسام على الله
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَائِلَ رَجُلٌ عَابِدٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ
وَآخِرَتَهُ). الأُولَى: التَّحْذِيرُ مِنَ التَّأَلِّي عَلَى اللهِ.
عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((قَالَ
رَجُلٌ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ
لِفُلاَنٍ؟ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْجَنَّةَ مِثْلُ ذَلِكَ.
الرَّابِعَةُ: فِيهِ شَاهِدٌ لِقَوْلِهِ:((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ.. إِلَى آخِرِهِ)).
الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ أَكْرَهِ الأُمُورِ إِلَيْهِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جَاءَ في الإِقْسامِ عَلَى اللهِ).
عَنْ جُندبِ بنِ عبدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((قَالَ
رَجُلٌ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي يتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟
إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)) رَوَاهُ مُسلمٌ. ***
(4) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فيهِ حَديثَ (جُندُبِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَالَ
رَجُلٌ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ
لِفُلاَنٍ؟ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)) رواهُ مسلِمٌ).
قَالَ: لا تَقولَنَّ لِرجُلٍ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ أَبَدًا، وَلاَ يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ.
وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ القَائِلَ رَجُلٌ عَابِدٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنياهُ وآخِرَتَهُ)
قولُهُ: (يَتَأَلَّى) يَحْلِفُ، والأَليَّةُ بالتشديدِ: الْحَلِفُ، وصَحَّ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ، قالَ البَغَوِيُّ في (شَرْحِ السُّنَّةِ) - وساقَ بالسَّنَدِ إلَى عِكرمةَ بنِ عَمَّارٍ - قالَ: (دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْمَدينةِ فَنادانِي شَيْخٌ فقال: يا يَمامِيُّ، تَعالَ، وَمَا أَعْرِفُهُ.
قُلْتُ: وَمَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟
قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال: فَقُلْتُ: إنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ يَقولُها أَحَدُنَا لأَهْلِهِ إِذَا غَضِبَ.
أَوْ لِزَوجَتِهِ، أوْ لِخادِمِهِ.
قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ
رَجُلَيْنِ كَانَا في بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَحَابَّيْنِ، أَحَدُهُمَا
مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، وَالآخَرُ، كَأنَّهُ يَقُولُ مُذْنِبٌ،
فَجَعَلَ يَقُولُ: أقْصِرْ عَمَّا أنْتَ فيهِ، قَالَ: فَيَقُولُ: خَلِّنِي
وَرَبِّي، حَتَّى قَالَ: وَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ،
فَقَالَ: أقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ
رَقِيبًا، فَقَالَ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ وَلاَ يُدْخِلُكَ
الجنَّةَ أبَدًا، قَالَ: فبَعَثَ اللهُ إِليْهِمَا مَلَكًا فَقَبَضَ
أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعا عِنْدَهُ؛ فَقَالَ لِلْمُذنِبِ: ادْخُلِ
الجنَّةَ بِرَحْمَتي؛ وَقَالَ لِلآخَرِ: أتَسْتَطيعُ أنْ تَحْظُرَ علَى
عَبدِي رَحْمَتي؟ قَالَ: لاَ يَا رَبِّ، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى
النَّارِ)).
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكلِمَةٍ أوْبَقَتْ دُنْياهُ وآخِرَتَهُ) ورواهُ أبو داودَ في سُنَنِهِ؛ وهذا لفْظُهُ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:((كَانَ
رَجُلاَنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا
يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ في العِبَادَةِ، فَكَانَ لاَ يَزَالُ
الْمُجْتَهِد يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أقْصِرْ، فوَجَدَهُ
يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي،
أبُعثِتَ عَلَيَّ رَقيبًا؟
فقَالَ:
وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ - أَوْ: لاَ يُدْخِلُكَ الجَنَّةَ -
فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا؛ فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ العَالَمِينَ، فَقَالَ
لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي
يَدِي قَادِرًا؟
وقَالَ لِلْمُذنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي.
وَقَالَ لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ)) إلَى آخرِه.
(5) قولُهُ: (في حديثِ أبي
هُريرةَ أنَّ القائلَ رجُلٌ عابِدٌ) يُشيرُ إلَى قولِهِ في هذا الحديثِ:
(أَحَدُهما مُجْتَهِدٌ في العِبادَةِ) وفي هذه الأحاديثِ بَيانُ خَطَرِ
اللسانِ وذلكَ يُفيدُ التَّحَرُّزَ من الكلامِ، كما في حديثِ مُعاذٍ: قُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، وإِنَّا لَمُؤاخَذُونَ بِما نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قالَ: ((ثَكِلَتْكَ
أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ علَى
وُجُوهِهِمْ - أوْ قالَ: عَلَى مَناخِرِهم - إِلاَّ حَصائِدُ
أَلْسِنَتِهِمْ؟!)) واللهُ أَعْلَمُ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((2) وهذان الأمرانِ مِن سوءِ الأدبِ في حقِّ اللهِ،وهو منافٍ للتوحيدِ.
أمَّا الإِقسامُ على اللهِ
فهو في الغالِبِ مِن بابِ العُجْبِ بالنَّفْسِ والإِدلالِ على اللهِ،
وسوءِ الأدبِ معه، ولا يَتِمُّ الإِيمانُ حتى يَسْلَمَ مِن ذلك كُلِّه.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: (باب ما جاء في الإقسام على الله
(11) قال ابن قاسم في حاشيته على (كتاب التوحيد) (ص:388) : (أي:
ذكر ما جاء من الأدلة الدالة على تحريم الحلف على الله، إذا كان على جهة
الحجر على الله والقطع بحصول المُقْسَم على حصوله، وهو التألي. فأما إن كان على جهة حسن الظن بالله فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) ) .
والإقسامُ:
والحَلِفُ له عدَّةُ أسماءٍ هي: يَمينٌ، وأَلْيةٌ، وحَلِفٌ، وقَسَمٌ، وكلُّها بمعنىً واحدٍ.
- قالَ تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}.- وقالَ تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}.
- وقال تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أيْ: لا أحْلِفُ.وقيلَ: إنَّ (لا) زائدةٌ والتَّقديرُ أُقسِمُ.
وقيلَ: إنَّ (لا) للتَّنبيهِ.وقيلَ: إنَّها نافيةٌ لشيءٍ مقدَّرٍ، أي: لا صحَّةَ لما تَزْعُمُون من انتفاءِ البعثِ، وهذا كما في قولِهِ تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فيه شيءٌ من التّكلُّفِ، والصَّوابُ أنَّها زائدةٌ للتَّنبيهِ.
والإقسامُ على اللهِ: أن تحلِفَ على اللهِ أن يفعَلَ، أو تحلفَ عليه أن لا يفعلَ، مثلَ: واللهِ ليَفْعَلَنَّ اللهُ كذا، أو واللهِ لا يفعلُ اللهُ كذا.والقسَمُ على اللهِ ينقسمُ إلى أقسامٍ:الأوَّلُ: أن يُقْسِمَ بما أخبرَ اللهُ به ورسولُهُ من نفيٍ أو إثباتٍ،فهذا
لا بأسَ به، وهذا دليلٌ على يقينِهِ بما أخبر اللهُ به ورسولُهُ مثلَ:
واللهِ لَيُشَفِّعَنَّ اللهُ نبيَّهُ في الخلقِ يومَ القيامةِ، ومثلَ:
واللهِ لا يغْفرُ اللهُ لمن أشركَ بِهِ.
الثَّاني: أن يُقْسِمَ على ربِّهِ لقوَّةِ رجائِه وحسنِ الظَّنِّ بربِّهِ،فهذا جائزٌ لإقرارِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم ذلك في قصَّةِ الرُّبَيِّعِ بنتِ النَّضَرِ عمَّةِ أنَسِ بنِ مالكٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهما، حِينَما
كَسَرَتْ ثَنِيَّةً لِجَارِيةٍ مِنَ الأنْصارِ، فاحْتَكموا إِلَى
النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ ، فَأَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وسلَّم بالقِصاصِ، فعَرَضوا عَلَيهم الصُّلْحَ فأبَوْا، فَقامَ أنَسُ بنُ النَّضْرِ.
فقال: أتُكسَرُ ثَنيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟
واللهِ يا رَسُولَ اللهِ لا تُكْسَرُ ثنيَّةُ الرُّبَيِّعِ.
وهو لا يُريدُ بِهِ رَدَّ الْحُكْمِ الشَّرعيِّ.
فقالَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((يا أنَسُ كِتابُ اللهِ القِصاصُ)).
يعني: السِّنَّ بالسِّنِّ، قال: واللهِ لا تُكسَرُ ثنيَّةُ الرُّبَيِّعِ، وغرضُهُ بذلك أنَّه لقوَّةِ ما عندَه من التَّصميمِ على أن لا تُكْسَرَ، ولو بذَلَ كلَّ غالٍ ورخيصٍ، أقسمَ على ذلك.
فلمَّا عرفوا أنَّه مصمِّمٌ ألْقَى اللهُ في قلوبِ الأنصارِ العفوَ ، فعفَوْا، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((إنَّ مِنْ عبادِ اللهِ مَنْ لَوْ أقْسَمَ عَلى اللهِ لأَبَرَّه)) فهو لقوَّةِ رجائِهِ باللهِ وحُسْنِ ظنِّهِ أقسَمَ على اللهِ أنْ لا تُكْسَرَ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ،
فأَلْقَى اللهُ العفوَ في قلوبِ هؤلاء الَّذين صمَّمُوا أمامَ الرَّسولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ على القصاصِ فعفَوا، وأخَذوا الأَرْشَ.
فثناءُ الرَّسولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ عليه شهادةٌ بأنَّ الرَّجُلَ من عبادِ اللهِ، وأنَّ
اللهَ أبرَّ قسمَهُ، وليَّنَ له هذه القلوبَ، وكيف لا وهو الَّذي قال
بأنَّه يَجِدُ ريحَ الجنَّةِ دونَ أُحُدٍ، ولما استُشْهِدَ وُجِدَ به بضعةٌ
وثمانون ما بينَ ضربةٍ بسيفٍ أو رمحٍ.
وقيلَ: إنَّه لم يُعْرِفْهُ إلا أُختُه بِبَنَانِه وهيالرُّبَيِّعُ هذه، رضِيَ اللهُ عن الجميعِ وعنَّا معَهُم.
أنَّ مَنْ تَألَّى علَى اللهِ -عزَّ وجلَّ- فقد أساءَ الأدَبَ معه وتَحَجَّر فضلَهُ، وأساءَ
الظنَّ به، وكلُّ هذا يُنَافي كمالَ التَّوحيدِ، وربَّما ينافي أصلَ
التَّوحيدِ، فَالتَّأَلِّي على مَن هو عظيمٌ يُعْتَبَرُ تَنَقُّصاً في
حقِّهِ.
(12) قولُه: (قَالَ رَجُلٌ- يحتَمِلُ أنْ يكونَ الرَّجُلَ الذي ذُكِرَ في حديثِ أبي هريرةَ الآتي
أو غيرَه -: واللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ) هذا يدلُّ على اليأسِ من
رَوْحِ اللهِ، واحتقارِ عبادِ اللهِ عندَ هذا القائلِ، وإعجابِهِ بنفسِهِ.
والمغفرةُ: سترُ الذنبِ والتجاوزُ عنه، مأخوذةٌ من المِغْفَرِ الَّذي يُغطَّى به الرَّأسُ عندَ الحربِ، وفيه وِقَايةٌ وسَتْرٌ.
قولُه:
(مَنْ ذَا الَّذي يتَأَلَّى عليَّ أنْ لا أغفِرَ لِفُلانٍ؟) (مَنْ) اسمُ
استفهامٍ مبتدأٌ (ذا) ملغاةٌ، (الَّذي) اسمٌ موصولٌ خبرُ مبتدأٍ (يتألَّى)
يحلِفُ، أي: مَن ذا الَّذي يَتَحَجَّرُ فَضْلِي ونِعْمتي أنْ لا أغفِرَ لمن
أساءَ مِن عبادِي، والاستفهامُ للإنكارِ.
والحديثُ ورَد مبسوطاً في حديثِ أبي هريرةَ:أنَّ
هَذا الرَّجُلَ كان عَابِداً وَله صاحِبٌ مُسرِفٌ عَلى نَفسِهِ، وكانَ
يراهُ على الْمَعصيةِ فيقولُ: أَقْصِرْ، فوجَدَه يوماً على ذنْبٍ فقالَ:
أَقْصِرْ، فقال: خَلِّني ورَبِّي أبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟
فقال: واللهِ لا يغْفِرُ اللهُ لك).
وهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ المسرِفَ عِندَهُ حسنُ ظنٍّ باللهِ، ورجاءٌ له.
ولعلَّه كان يفعلُ الذَّنبَ ويتوبُ فيما بينَه وبينَ ربِّهِ؛ لأنَّه قالَ: خلِّني وربِّي.
والإنسانُ إذا فعل
الذَّنبَ ثمَّ تاب توبةً نصوحاً ، ثمَّ غلبتْهُ عليه نفسُهُ مرَّةً أخرى
فإنَّ توبتَهُ الأولى صحيحةٌ، فإذا تابَ ثانيةً فتوبتُهُ صحيحةٌ؛ لأنَّ من
شروطِ التَّوبَةِ أن يَعْزِمَ أنْ لا يعودَ، وليس من شروطِ التَّوبةِ أنْ
لا يعودَ.
وهذا الرَّجلُ الذي قد غَفَرَ اللهُ له، إمَّا
أن يكونَ قد وُجِدت منه أسبابُ المغفرةِ بالتَّوبةِ، أو أنَّ ذنبَهُ هذا
كانَ دونَ الشِّركِ فَتَفَضَّلَ اللهُ عليه فغَفَرَ له، أمَّا لو كانَ
شركاً وماتَ بدونِ توبَةٍ فإنَّه لا يُغْفَرُ له؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
ووجهُ إحباطِ اللهِ عملَهُ
على سبيلِ العمومِ -حسَبَ فهمِنَا والعِلمُ عندَ اللهِ- أنَّ هذا
الرَّجُلَ كان يتعبَّدُ للهِ وفي نفسِه إعجابٌ بعملِهِ، وإدلالٌ بما عمِل
على اللهِ ، كأنَّه يَمُنُّ على اللهِ بعملِه وحينئذٍ يفتقِدُ رُكناً
عظيماً من أركانِ العبادةِ؛ لأنَّ العبادةَ مبنيَّةٌ على الذُّلِّ
والخضوعِ، فلا بدَّ أن تكونَ عبداً للهِ -عزَّ وجلَّ- بِما تَعبَّدَكَ بِهِ
وبما بلَغَكَ مِنْ كلامِهِ، وكثيرٌ من الَّذين يتعبَّدون للهِ بما
تعبَّدَهم به قدْ لا يتعبَّدون بِوحيِهِ؛ لأنه قد يَصْعُبُ عليهم أنْ
يَرْجِعوا عن رأيِهِم إذا تبيَّنَ لهم الخطأُ مِن كتابِ اللهِ وسُنَّةِ
رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم ويحرِّفون النُّصوصَ من أجلِهِ،
والواجبُ أن تكونَ للهِ عبداً فيما بلَغَكَ من وحيِهِ بحيثُ تخضعُ له
خضوعاً كامِلاً حتَّى تُحقِّقَ العبوديَّةَ.
ويَحتمِلُ معنى ((أَحْبَطْتُ عَمَلَك))
أي: عملَكَ الَّذي كنتَ تفتخرُ به على هذا الرَّجلِ، وهذا أهونُ؛ لأنَّ
العملَ إذا حَصَلَتْ فيه إساءةٌ بطَلَ وحدَهُ دونَ غيرِهِ ، لكنَّ ظاهرَ
حديثِ أبي هريرةَ يمنَعُ هذا الاحتمالَ؛ حيثُ جاءَ فيه أنَّ اللهَ تعالَى قالَ: ((اذهَبُوا به إلى النَّارِ)).
ونظيرُ هذا ممَّا يحتملُ العمومَ والخصوصَ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في حديثِ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عن أبيه، عن جدِّه، فيمَن مَنَعَ الزَّكاةَ: ((فَإِنَّا آخِذُوها وَشَطْرِ مَالِه عَزْمةً مِنْ عَزَماتِ رَبِّنا)) فقولُه: ((وشَطْرِ مالِهِ))
هل المرادُ جميعُ مالِهِ، أو مالُهُ الَّذي منعَ زكاتَهُ؟ يحتمِلُ
الأمريْن فمثلاً إذا كان عندَه عشرون من الإبلِ فزكاتُهَا أربعُ شياهٍ ،
فمنعَ الزَّكاةَ فهلْ نأخُذُ عَشَراً من الإبلِ فقط مع الزكاةِ، أو إذا
كانَ عندَه أموالٌ أخرى من بقرٍ وغنمٍ ونقودٍ نأخذُ نصفَ جميعِ ذلك مع
الزكاةِ؟ اختُلف في ذلك:
وقولُه: (قالَ أبو هُرَيْرةَ) يعني: في الحديثِ الَّذي أشارَ إليه المؤلِّفُ، -رحمَهُ اللهُ-.
(14) فيه مسائِلُ:
ولا سيَّما إذا كانَتْ هذه
الزَّلَّةُ ممَّن يُقتَدَى به، كما يحدُثُ من دعاةِ الضَّلالِ والعياذُ
باللهِ فإنَّ عليه وِزْرَهُ وَوِزْرَ مَن تَبِعَه إلى يومِ القيامةِ.
(18) الخامسةُ:
(أنَّ الرَّجُلَ قدْ يُغفَرُ لَهُ بسببٍ هوَ مِنْ أكرَهِ الأمورِ إليهِ)
فإنَّه قد غُفِرَ له بسببِ هذا التَّأنيبِ، وهذه لم تَظْهَرْ لي من
الحديثِ، ولعلَّها تُؤخذُ من قولِه: ((قَدْ غَفَرْتُ لَهُ)).
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب ما جاء في الإقسام على الله
الإقسام على الله يكون على جهتين: فالله سبحانه وتعالى عاقبه فقال: ((من ذا الذي يتألى عليَّ؟)) يعني يتعاظم ويتكبر عليَّ، ويحلف عليَّ، فيقسم عليَّ، لأن يتألّى: من الأليّة وهي الحلف ومنه قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعةِ أشهر، فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} والإيلاء: من الألية وهي الحلف، فيتألّى يعني يحلف على جهة التكبّر والتعاظم،((أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له، وأحبطت عملك)).
فهذا التألي، والاستبعاد نوعُ تحكمٍ في الله جل وعلا، وفي فعله، وهذا لا يصدر من قلبٍ معظم لله جل وعلا.
والحال الثانية: أنْ يُقسم على الله جل جلاله لا على جهة التألي ولكن
على جهة أنَّ ما ظنه صحيح في أمرٍ وقع له، أو في أمر يواجهه؛ فهذا يقسم
على الله أنْ يكون كذا في المستقبل على جهة التذلل، والخضوع لله، لا على
جهة التألي، وهذا هو الذي جاء فيه الحديث ((ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) لأنه أقسم على الله، لا على جهة التعاظم والتكبر، والتألي، ولكن على جهة الحاجة، والافتقار إلى الله، فحين أقسم أقسم محتاجاً إلى الله، وأكَّد ذلك بالله، وبأسمائه، من جهة ظنه الحسن بالله جل وعلا، فهذا جائز.
(( ومن عباد الله مَنْ لو أقسم على الله لأبره)) لأنه قام في قلبه من العبودية لله، والذل والخضوع ما جعل الله جل وعلا يجيبه في سؤاله، ويعطيه طَلبتَه، ورغبته.
وأما الحال الأولى: فهي حال المتكبر،
المترفع الذي يظن أن بلغ مقاماً بحيث يكون فعل الله جل وعلا تبعاً لفعله،
فتكبَّر واحتقر غيره؛ فبهذا التفصيل يتضح ما جاء في هذا الباب من الحديث.
قال (عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قال رجل والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل، من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان ؟))) هذا الذي قال: ((والله لا يغفر الله لفلان)) كان رجلاً صالحاً، والآخر كان رجلاً فاسقاً.
فقال هذا الصالح: ((والله لا يغفر الله لفلان))لأن
فلاناً هذا كان رجلاً فاسقاً، مَريداً كثير العصيان، فتألى هذا العابد
وعظَّم نفسه، وظن أنه بعبادته إلى الله جل وعلا بلغ مقاماً يكون متحكماً
فيه بأفعال الله، وأن لا يردَّ شيءٌ طلبه، أو له أن يتحكم في الخلق، وهذا
ينافي حقيقة العبودية التي هي التذلل لله جل وعلا.
(والله لا يغفر الله لفلان) فكانت هذه الكلمة التي ساءته، وكان فيها إيذاء له، كانت فيها مصلحة عظيمة له، أنْ غُفر له ذنبه، ولهذا نبّه الشيخ في مسائل الباب بمسألة معناها أنَّ: منَ الإبتلاء، والإيذاء، وكلام الناس في المكلف، في الشخص، ما يكون أعظم أسباب الخير له، ولهذا ليست العبرة:
- باحتقار الناس.
- ولا بكلامهم.
- ولا بإيذائهم.
- ولا بتصنيفهم للناس.
- أو بقولهم هذا فلان كذا، وهذا فلان كذا.
العبرة بحقيقة الأمر بما عند الله جل جلاله.
فالواجب على العباد جميعاً:
- أنْ يعظموا الله.
- وأن يخبتوا إليه.
- وأن يظنّوا أنهم أسوأ الخلق حتى يقوم في قلوبهم، أنهم أعظم حاجة لله جل وعلا.
- وأنهم لم يُوَفَّوا الله حقه.
أما التعاظم في النفس،
والتعاظم بالكلام، والمدح، والثناء، ونحو ذلك؛ فليس من صنيع المُجّلين لله
جل وعلا، الخائفين مِنْ تقلّب القلوب، فالله جل وعلا يقلّب القلوب ويصرفها
كيف يشاء، فالقلب المخبت المنيب يحذر، ويخاف دائماً من أن يتقلب قلبه.
- فينتبه للفظه.
- وينتبه للحظه.
- وينتبه لسمعه.
- وينتبه لحركاته لعلّ الله جل وعلا أنْ يميته غير مفتونٍ ولا مخزيٍّ.
العناصر
مناسبة باب (ما جاء في الإقسام على الله) لكتاب التوحيد
شرح ترجمة الباب (ما جاء في الإقسام على الله)
- بيان معنى الإقسام، وأسماء الحلف
- معنى (لا) في نحو قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة)
- بيان أنواع الإقسام على الله تعالى
شرح حديث أبي هريرة وجندب (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان...) الحديث
- تخريج الحديث، وذكره بتمامه
- بيان المراد بقوله: (أحبطت عملك) هل هو عام لجميع الأعمال، أو خاص بذلك العمل
- بيان خطر اللسان
- أهمية تأدب طالب العلم بآداب التوحيد
- معنى الذمة
شرح مسائل باب (ما جاء في الإقسام على الله)